جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


بعدی 

مجمع البيان ج : 3 ص : 284
طوعت فعلت من الطوع و العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة و طاع لفلان كذا أي أتاه طوعا و لا يقال أطاعته نفسه لأن أطاع يدل على قصد موافقة معنى الأمر و ليس كذلك طوع لأنه بمنزلة انطاع له أصول الشجرة و في الفعل ما يتعدى إلى نفس الفاعل نحو حرك نفسه و قتل نفسه و فيه ما لا يتعدى إلى ذلك نحو أمر و نهى لأن الأمر و النهي لا يكونان إلا بمن هو أعلى إلى من هو دونه .

الإعراب

« لئن بسطت » اللام للقسم و جوابه « ما أنا بباسط » و لا يقع ما جوابا للشرط لأن ما يكون لها صدر الكلام بالقسم لا يخرجها عن ذلك كما جاز أن يكون جواب القسم بإن و لام الابتداء و لم يجز بالفاء لأن المقسم عليه ليس يجب بوجوب القسم و إنما القسم يؤكده و جواب الشرط يجب بوجوب الشرط فإذا اجتمع جواب القسم و الجزاء كان جواب القسم أولى من الجزاء لأنه لما تقدم القسم و صار الجزاء في حشو الكلام غلبة على الجواب فصار له و اكتفي به عن جواب الشرط لدلالته عليه .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن هابيل أنه قال لأخيه حين هدده بالقتل لما تقبل قربانه و لم يتقبل قربان أخيه « لئن بسطت إلي يدك » و معناه لئن مددت إلي يدك « لتقتلني » أي لأن تقتلني « ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك » أي لأن أقتلك قال أهل التفسير أن القتل على سبيل المدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت و كان الصبر عليه هو المأمور به ليكون الله تعالى هو المتولي للانتصاف عن الحسن و مجاهد و اختاره الجبائي و قيل إن معنى الآية « لئن بسطت إلى يدك » على سبيل الظلم و الابتداء « لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك » على وجه الظلم و الابتداء عن ابن عباس و جماعة قالوا إنه قتله غيلة بأن ألقى عليه و هو نائم صخرة شدخه بها قال المرتضى و الظاهر بغير الوجهين أشبه لأنه تعالى أخبر عنه أنه و إن بسط إليه أخوه يده ليقتله أي و هو مريد لقتله لأن اللام بمعنى كي و هي منبئة عن الإرادة و الغرض و لا شبهة في قبح ذلك لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله فكأنه قال لئن ظلمتني لم أظلمك « إني أخاف الله رب العالمين » في مدي إليك يدي لقتلك « إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك » معناه إني لا أبدؤك بالقتل و لأني أريد أن ترجع بإثم قتلي إن قتلتني و إثمك الذي كان منك قبل قتلي عن ابن عباس و الحسن و ابن مسعود و قتادة
مجمع البيان ج : 3 ص : 285
و مجاهد و الضحاك و قال الجبائي و الزجاج و إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك و قيل معناه بإثم قتلي و إثمك الذي هو قتل جميع الناس حيث سننت القتل و معنى تبوء بإثمي تبوء بعقاب إثمي لأنه لا يجوز لأحد أن يريد معصية الله من غيره و لكن يجوز أن يريد عقابه المستحق عليه بالمعصية و متى قيل كيف يحسن إرادة عقاب لم يقع سببه فإن القتل على هذا لم يكن واقعا فجوابه أن ذلك بشرط وقوع ما يستحق به العقاب فهابيل لما رأى من أخيه العزم على قتله و غلب على ظنه ذلك جاز أن يريد عقابه بشرط أن يفعل ما عزم عليه « فتكون من أصحاب النار » أي فتصير بذلك من الملازمين النار « و ذلك جزاء الظالمين » أي عقاب العاصين و يحتمل أن يكون هذا إخبار عن قول هابيل و يحتمل أن يكون ابتداء حكم من الله تعالى « فطوعت له نفسه » فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه شجعته نفسه على « قتل أخيه » أي على أن يقتل أخاه عن مجاهد ( و ثانيها ) أن المراد زينت له نفسه قتل أخيه ( و ثالثها ) أن المراد ساعدته نفسه و طاوعته نفسه على قتله أخاه فلما حذف حرف الجر نصب قتل أخيه و من قال إن معناه زينت له فيكون قتل أخيه مفعولا به « فقتله » قال مجاهد لم يدر قابيل كيف يقتله حتى ظهر له إبليس في صورة طير فأخذ طيرا آخر و ترك رأسه بين حجرين فشدخه ففعل قابيل مثله و قيل هو أول قتيل كان في الناس « فأصبح من الخاسرين » أي صار ممن خسر الدنيا و الآخرة و ذهب عنه خيرهما و استدل بعضهم بقوله « فأصبح » على أنه قتله ليلا و هذا ليس بشيء لأن من عادة العرب أن يقولوا أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا كانت ثمرته الخسران يعنون حصوله كذلك لا أنه تعلق بوقت دون وقت .
فَبَعَث اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَث فى الأَرْضِ لِيرِيَهُ كَيْف يُوَرِى سوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتى أَ عَجَزْت أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِى سوْءَةَ أَخِى فَأَصبَحَ مِنَ النَّدِمِينَ(31)

اللغة

أصل البحث طلب الشيء في التراب ثم يقال بحثت عن الأمر بحثا و أصل السوأة التكره يقال ساءه يسوءه سوءا إذا أتاه بتكرهة قال سيبويه الويل كلمة تقال عند الهلكة و عجزت عن الأمر أعجز عجزا و معجزة و معجزة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 286

الإعراب

قال الزجاج « يا ويلتي » الوقف عليها في غير القرآن يا ويلتاه و النداء لغير الآدميين نحو يا حسرتاه و يا ويلتاه إنما وقع في كلام العرب على تنبيه المخاطبين و أن الوقت الذي تدعى له هذه الأشياء هو وقتها فالمعنى يا ويلتي تعالي فإنه من أوانك أي قد لزمني الويل و كذلك يا عجباه المعنى يا أيها العجب هذا وقتك هذا على كلام العرب و قرأ الحسن يا ويلتي مضافا و ذكر الأزهري أنهما بمعنى .

المعنى

« فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه » قالوا كان هابيل أول ميت من الناس فلذلك لم يدر قابيل كيف يواريه و كيف يدفنه حتى بعث الله غرابين أحدهما حي و الآخر ميت و قيل كانا حيين فقتل أحدهما صاحبه ثم بحث الأرض و دفنه فيها ففعل قابيل به مثل ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود و جماعة و في ذلك دلالة على فساد قول الحسن و الجبائي و أبي مسلم أن ابني آدم كانا من بني إسرائيل و قيل معناه بعث الله غرابا يبحث التراب على القتيل فلما رأى قابيل ما أكرم الله به هابيل و أنه بعث طيرا ليواريه و تقبل قربانه « قال يا ويلتي » عن الأصم و قيل كان ملكا في صورة الغراب و في هذا دلالة على أن الفعل من الغراب و إن كان المعني بذلك الطير كان مقصودا و لذلك أضاف سبحانه بعثه إلى نفسه و لم يقع اتفاقا كما قاله أبو مسلم و لكنه تعالى ألهمه و قال الجبائي كان ذلك معجزا مثل حديث الهدهد و حمله الكتاب و رده الجواب إلى سليمان و يجوز أن يزيد الله في فهم الغراب حتى يعرف هذا القدر كما نأمر صبياننا فيفهمون عنا « ليريه » أي ليري الغراب قابيل « كيف يواري » أي كيف يغطي و يستر « سوأة أخيه » أي عورة أخيه و قال الجبائي يريد جيفة أخيه لأنه كان تركه حتى أنتن فقيل لجيفته سوأة « قال يا ويلتي أ عجزت » هاهنا حذف فإن التقدير ليريه كيف يواري سوأة أخيه فواراه فقال القاتل أخاه يا ويلتى أ عجزت « أن أكون » في هذا العلم « مثل هذا الغراب فأواري » أي استر « سوأة أخي » و السوأة عبارة عما يكره و عما ينكر « فأصبح من النادمين » على قتله و لكن لم يندم على الوجه الذي يكون توبة كمن يندم على الشرب لأنه يصدعه فلذلك لم يقبل ندمه عن الجبائي و قيل من النادمين على حمله لا على قتله من النادمين على موت أخيه لا على ارتكاب الذنب .

[القصة]


روت العامة عن جعفر الصادق (عليه السلام) قال قتل قابيل هابيل و تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فقصده السباع فحمله في جراب على ظهره حتى أروح و عكفت عليه
مجمع البيان ج : 3 ص : 287
الطير و السباع تنتظر متى يرمي به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره و برجله ثم ألقاه في الحفيرة و واراه و قابيل ينظر إليه فدفن أخاه و عن ابن عباس قال لما قتل قابيل هابيل أشاك الشجر و تغيرت الأطعمة و حمضت الفواكه و أمر الماء و اغبرت الأرض فقال آدم قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول :
تغيرت البلاد و من عليها
فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون و طعم
و قل بشاشة الوجه الصبيح و قال سالم بن أبي الجعد لما قتل هابيل مكث آدم سنة حزينا لا يضحك ثم أتى آت فقيل له حياك الله و بياك أي أضحكك قالوا و لما مضى من عمر آدم مائة و ثلاثون سنة و ذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا و تفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل و كان وصي آدم و ولي عهده و أما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مذعورا لا يأمن من يراه و ذهب إلى عدن من اليمن فأتاه إبليس فقال إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبدها فانصب أنت أيضا نارا تكون لك و لعقبك فبنى بيت نار و هو أول من نصب النار و عبدها و اتخذ أولاده آلات اللهو من اليراع و الطبول و المزامير و العيدان و انهمكوا في اللهو و شرب الخمر و عبادة النار و الزنا و الفواحش حتى غرقهم الله أيام نوح بالطوفان و بقي نسل شيث .
مِنْ أَجْلِ ذَلِك كتَبْنَا عَلى بَنى إِسرءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيرِ نَفْس أَوْ فَساد فى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعاً وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسلُنَا بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِك فى الأَرْضِ لَمُسرِفُونَ(32)

القراءة

قرأ أبو جعفر يزيد وحده من أجل ذلك مكسورة النون موصولة و الباقون « من أجل » مقطوعة الهمزة مفتوحة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 288

الحجة

قال ابن جني يقال فعلت ذلك من أجلك و من أجلك و من جللك و من جلالك و من جراك فيجب أن يكون على هذا قراءة أبي جعفر على تخفيف همزة أجل بحذفها و إلقاء حركتها على نون من كقولك في تخفيف كم إبلك كم بلك .

اللغة

الأجل في اللغة الجناية يقال أجل عليهم شرا يأجله أجلا إذا جنى عليهم جناية قال خوات بن جبير :
و أهل خباء صالح ذات بينهم
قد احتربوا في عاجل أنا آجله أي أنا جانيه و في هذا المعنى يقال جر عليهم جريرة ثم يقال فعلت ذلك من جراك و من أجلك أي من جريرتك كأنه يقول أنت جررتني إلى ذلك و أنت جنيت علي هذا و منه الأجل الوقت لأنه يجر إليه العقد الأول و أجل بمعنى نعم لأنه انقياد إلى ما جر إليه و الأجل القطيع من بقر الوحش واحد الآجال لأن بعضها ينجر إلى بعض قال عدي بن زيد :
أجل أن الله قد فضلكم
فوق من أحكأ صلبا بإزار أراد من أجل فحذف الجار فوصل الفعل فنصبه و الإسراف الخروج من التقتير و الاقتصاد هو التعديل بلا إسراف و لا إقتار .

الإعراب

اختلف في قوله « من أجل ذلك » فقيل أنه من صلة النادمين أي من أجل أنه حين قتل أخاه لم يواره ندم و روي عن نافع أنه كان يقف على قوله « من أجل ذلك » و يجعله من تمام الكلام الأول و عامة المفسرين على أن قوله « من أجل ذلك » ابتداء كلام و ليس بمتصل بما قبله و احتج ابن الأنباري لهذا بأنه رأس آية و رأس الآية فصل قال و لأن من جعله من صلة الندم أسقط العلة للكتابة و من جعله من صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم إذ قد يقدم ما كشف عنه فكان هذا أولى .

المعنى

ثم بين سبحانه التكليف في باب القتل فقال « من أجل ذلك » قال الزجاج معناه من جناية ذلك و ذلك إشارة إلى قتل أحد ابني آدم أخاه ظلما
مجمع البيان ج : 3 ص : 289
« كتبنا على بني إسرائيل » أي حكمنا عليهم و فرضنا « أنه من قتل نفسا » أي من قتل منهم نفسا ظلما « بغير نفس » أي بغير قود عن ابن عباس « أو فساد في الأرض » أو من قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض فاستحقت بذلك قتلها و فسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله و لرسوله و إخافة السبيل على ما ذكره الله في قوله إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله الآية « فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا » قيل في تأويله أقوال ( أحدها ) إن معناه هو أن الناس كلهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان و قد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعا فأوصل إليهم من المكر و ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول فكأنه قتلهم كلهم و من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة أو استنقذها من ضلال فكأنما أحيا الناس جميعا أي أجره على الله أجر من أحياهم جميعا لأنه في إسدائه المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم عن مجاهد و الزجاج و اختاره ابن الأنباري و هذا المعنى مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثم قال و أفضل من ذلك أن يخرجها من ضلال إلى هدى ( و ثانيها ) إن معناه من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا أي يعذب عليه كما لو قتل الناس كلهم و من شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا في استحقاق الثواب عن ابن عباس ( و ثالثها ) إن معناه من قتل نفسا بغير حق فعليه مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل و سهله لغيره فكان بمنزلة المشارك فيه و من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يقتدى به فيه بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله فلم يقدم على قتلها لذلك فقد أحيا الناس بسلامتهم منه فذلك إحياؤه إياها عن أبي علي الجبائي و هو اختيار الطبري و يؤيده قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سن سنة سيئة فله وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة ( و رابعها ) إن المراد فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ عن ابن مسعود و غيره من الصحابة ( و خامسها ) إن معناه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا و من عفا عن دمها و قد وجب القود عليها كان كما لو عفا عن الناس جميعا عن الحسن و ابن زيد و الله سبحانه هو المحيي للخلق لا يقدر على خلق الحياة غيره و إنما قال أحياها على سبيل المجاز كما حكى عن نمرود أنه قال أنا أحيي و أميت فاستبقى واحدا و قتل الآخر
مجمع البيان ج : 3 ص : 290
و قوله « و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات » معناه و لقد أتت بني إسرائيل الذي ذكرنا قصصهم و أخبارهم رسلنا بالبينات الواضحة و المعجزات الدالة على صدقهم و صحة نبوتهم « ثم أن كثيرا منهم » يعني من بني إسرائيل « بعد ذلك في الأرض لمسرفون » أي مجاوزون حد الحق بالشرك عن الكلبي و بالقتل عن غيره و الأولى أن يكون عاما في كل مجاوز عن حق و يؤيده ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) المسرفون هم الذين يستحلون المحارم و يسفكون الدماء .
إِنَّمَا جَزؤُا الَّذِينَ يحَارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسولَهُ وَ يَسعَوْنَ فى الأَرْضِ فَساداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصلَّبُوا أَوْ تُقَطعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِك لَهُمْ خِزْىٌ فى الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(34)

اللغة

أصل النفي الإهلاك بالإعدام و منه النفاية لرديء المتاع و منه النفي و هو ما تطاير من الماء عن الدلو قال الراجز :
كان متنيه من النفي
مواقع الطير على الصفي و النفي الطرد قال أوس بن حجر :
ينفون من طرق الكرام كما
ينفي المطارق ما يلي القرد و الخزي الفضيحة يقال خزي يخزى خزيا إذا افتضح و خزي يخزى خزاية فهو خزيان إذا استحيى و خزوته أخزوه إذا سسته و منه قول لبيد :
و أخزها بالبر لله الأجل ) .

مجمع البيان ج : 3 ص : 291

الإعراب

« فسادا » مصدر وضع موضع الحال أي يسعون في الأرض مفسدين و « أن يقتلوا » في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الذي هو جزاء « الذين تابوا » و يحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء و خبره « فاعلموا أن الله غفور رحيم » و يجوز أن يكون في موضع نصب بالاستثناء من قوله « أن يقتلوا » إلى ما بعده من الحد .

النزول

اختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في قوم كان بينهم و بين النبي موادعة فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض عن ابن عباس و الضحاك و قيل نزلت في أهل الشرك عن الحسن و عكرمة و قيل نزلت في العرينيين لما نزلوا المدينة للإسلام و استوخموها و اصفرت ألوانهم فأمرهم النبي أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها و أبوالها ففعلوا ذلك فصحوا ثم مالوا إلى الرعاة فقتلوهم و استاقوا الإبل و ارتدوا عن الإسلام فأخذهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم عن قتادة و سعيد بن جبير و السدي و قيل نزلت في قطاع الطريق عن أكثر المفسرين و عليه جل الفقهاء .

المعنى

لما قدم تعالى ذكر القتل و حكمه عقبه بذكر قطاع الطريق و الحكم فيهم فقال « إنما جزاء الذين يحاربون الله » أي أولياء الله كقوله تعالى « إن الذين يؤذون الله » « و رسوله » أي يحاربون رسوله « و يسعون في الأرض فسادا » المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أن المحارب هو كل من شهر السلاح و أخاف الطريق سواء كان في المصر أو خارج المصر فإن اللص المحارب في المصر و خارج المصر سواء و هو مذهب الشافعي و الأوزاعي و مالك و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أن المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر و هو المروي عن عطا الخراساني و المعنى في قوله إنما جزاؤهم إلا هذا عن الزجاج قال لأن القائل إذا قال جزاؤك دينار فجائز أن يكون معه غيره و إذا قال إنما جزاؤك دينار كان المعنى ما جزاؤك إلا دينار « أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم » قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام) إنما جزاء المحارب على قدر استحقاقه فإن قتل فجزاؤه أن يقتل و إن قتل و أخذ المال فجزاؤه أن يقتل و يصلب و إن أخذ المال و لم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده و رجله من خلاف و إن أخاف السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير و به قال ابن عباس
مجمع البيان ج : 3 ص : 292
و سعيد بن جبير و قتادة و السدي و الربيع و على هذا فإن أو ليست للإباحة هنا و إنما هي مرتبة الحكم باختلاف الجناية و قال الشافعي إن أخذ المال جهرا كان للإمام صلبه حيا و لم يقتل قال و يحد كل واحد بقدر فعله فمن وجب عليه القتل و الصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه و يصلب ثلاثا ثم ينزل قال أبو عبيد سألت محمد بن الحسن عن قوله « أو يصلبوا » فقال هو أن يصلب حيا ثم يطعن بالرماح حتى يقتل و هو رأي أبي حنيفة فقيل له هذا مثلة قال المثلة يراد به و قيل معنى أو هاهنا للإباحة و التخيير أي إن شاء الإمام قتل و إن شاء صلب و إن شاء نفى عن الحسن و سعيد بن المسيب و مجاهد و قد روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قوله « من خلاف » معناه اليد اليمني و الرجل اليسرى « أو ينفوا من الأرض » قيل فيه أقوال و الذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية أن ينفي من بلد إلى بلد حتى يتوب و يرجع و به قال ابن عباس و الحسن و السدي و سعيد بن جبير و غيرهم و إليه ذهب الشافعي قال أصحابنا و لا يمكن من الدخول إلى بلاد الشرك و يقاتل المشركون على تمكينهم من الدخول إلى بلادهم حتى يتوبوا و قيل هو أن ينفى من بلده إلى بلد غيره عن عمر بن عبد العزيز و عن سعيد بن جبير في رواية أخرى و قال أبو حنيفة و أصحابه أن النفي هو الحبس و السجن و احتجوا بأن المسجون يكون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعا من التصرف محولا بينه و بين أهله مع مقاساته الشدائد في الحبس و أنشد قول بعض المسجونين :
خرجنا من الدنيا و نحن من أهلها
فلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا و قلنا جاء هذا من الدنيا « ذلك » أي فعل ما ذكرناه « لهم خزي » أي فضيحة و هوان « في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم » زيادة على ذلك و في هذا دلالة على بطلان قول من ذهب إلى أن إقامة الحدود تكفير للمعاصي لأنه سبحانه بين أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع أنه أقيمت عليهم الحدود و المعنى أنهم يستحقون العذاب العظيم و ليس في الآية أنه يفعل ذلك بهم لا محالة لأنه يجوز أن يعفو الله عنهم و يتفضل عليهم بإسقاط ما يستحقونه من العذاب الأكبر « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » لما بين سبحانه حكم المحارب استثنى من جملتهم من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ و يقدر عليه لأن توبته بعد قيام البينة عليه و وقوعه في يد الإمام لا تنفعه بل يجب إقامة الحد عليه « فاعلموا أن الله غفور رحيم » يقبل توبته و يدخله الجنة و في هذا الآية حجة على من قال لا تصح التوبة من معصية مع الإقامة على
مجمع البيان ج : 3 ص : 293
معصية أخرى يعلم صاحبها أنها معصية لأنه تعالى علق بالتوبة حكما لا تخل به الإقامة على معصية هي السكر أو غيره .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جَهِدُوا فى سبِيلِهِ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ(35)

اللغة

أصل الاتقاء في اللغة الحجز بين الشيئين يقال اتقى السيف بالترس و يقال اتقوا الغريم بحقه و الوسيلة فعيلة من قولهم توسلت إليه أي تقربت قال عنترة بن شداد :
إن الرجال لهم إليك وسيلة
إن يأخذوك تلجلجي و تحصني و يقال وسل إليه أي تقرب قال لبيد :
بلى كل ذي رأي إلى الله واسل ) فمعنى الوسيلة الوصلة و القربة .

المعنى

لما تقدم ذكر القتل و المحاربين عقب ذلك بالموعظة و الأمر بالتقوى فقال « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله » أي اتقوا معاصيه و اجتنبوها « و ابتغوا إليه الوسيلة » أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات عن الحسن و مجاهد و عطا و السدي و غيرهم فكأنه قال تقربوا إليه بما يرضيه من الطاعات و قيل الوسيلة أفضل درجات الجنة عن عطا أيضا و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء و الأخرى صفراء في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة أبوابها و أكوابها من عرق واحدة فالبيضاء الوسيلة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أهل بيته و الصفراء لإبراهيم و أهل بيته « و جاهدوا في سبيله » أي في طريق دينه مع أعدائه ، أمر سبحانه بالجهاد في دين الله لأنه وصلة إلى ثوابه و الدليل على الشيء طريق إلى العلم به و التعرض للشيء طريق إلى الوقوع فيه و اللطف طريق إلى طاعة الله و الجهاد في سبيل الله قد يكون باليد و اللسان و القلب و بالسيف و القول و الكتاب « لعلكم تفلحون » أي لكي تظفروا بنعيم الأبد و المعنى اعملوا على رجاء الفلاح و الفوز و قيل لعل و عسى من الله واجب فكأنه قال اعملوا لتفلحوا .

مجمع البيان ج : 3 ص : 294
إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36) يُرِيدُونَ أَن يخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُم بخَرِجِينَ مِنهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(37)

الإعراب

خبر إن في لو و جوابها و قوله « و لهم عذاب أليم » يحتمل أن يكون في موضع الحال و أن يكون عطفا على خبر إن و لا يجوز أن يكون الخبر « يريدون أن يخرجوا من النار و ما هم بخارجين منها » و لو في موضع الحال كما تقول مررت بزيد لو رآه عدوه لرحمه لأنه في موضع معتمد الفائدة مع أن الثاني في استئناف آية و إنما أجيبت لو بما و لم يجز أن يجاب إن بما لأن ما لها صدر الكلام و جواب لو لا يخرجها من هذا المعنى كما لا يخرجها جواب القسم لأنه غير عامل و إن عاملة فلذلك صلح أن يجاب إن بلا و لم يصلح أن يجاب بما تقول أن تأتني لا يلحقك سوء و لا يجوز ما لأن لا تنفي عما بعدها ما وجب لما قبلها في أصل موضوعها كقولك قام زيد لا عمرو و ما تنفي عما بعدها ما لم يجب لغيرها فلذلك كان لها صدر الكلام .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن وعيد الكفار فقال « إن الذين كفروا لو أن لهم » أي لكل واحد منهم « ما في الأرض جميعا » من المال و الولاية و الملك « و مثله » أي مثل ذلك « معه ليفتدوا به » أي ليجعلوا ذلك فداهم و بدلهم « من عذاب يوم القيامة » الذي يستحقونه على كفرهم فافتدوا بذلك « ما تقبل منهم » ذلك الفداء « و لهم عذاب أليم » أي وجيع « يريدون أن يخرجوا من النار » أي يتمنون أن يخرجوا من النار عن أبي علي الجبائي قال لأن الإرادة هنا بمعنى التمني و قيل معناه الإرادة على الحقيقة أي كلما دفعتهم النار بلهبها رجوا أن يخرجوا و هو كقوله « كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها » عن الحسن و قيل معناه يكادون يخرجون منها إذا دفعتهم النار بلهبها كما قال سبحانه جدارا يريد أن ينقض فأقامه أي يكاد و يقارب فإن قال قائل كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بأنهم لا يخرجون منها فالجواب أن العلم بأن الشيء لا يكون لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بأنه يكون لا يصرف عن إرادته و إنما الداعي إلى الإرادة حسنها و الحاجة إليها
مجمع البيان ج : 3 ص : 295
« و ما هم بخارجين منها » يعني جهنم « و لهم عذاب مقيم » أي دائم ثابت لا يزول و لا يحول كما قال الشاعر :
فإن لكم بيوم الشعب مني
عذابا دائما لكم مقيما .
وَ السارِقُ وَ السارِقَةُ فَاقْطعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسبَا نَكَلاً مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38) فَمَن تَاب مِن بَعْدِ ظلْمِهِ وَ أَصلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوب عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(40)

الإعراب

قال سيبويه و كثير من النحويين ارتفع السارق و السارقة على معنى و فيما فرض عليكم السارق و السارقة أي حكم السارق و السارقة و مثله قوله تعالى « الزانية و الزاني فاجلدوا » و اللذان يأتيانها منكم ف آذوهما قال سيبويه و الاختيار في هذا النصب في العربية كما تقول زيدا أضربه و أبت العامة القراءة إلا بالرفع يعني بالعامة الجماعة و قرأ عيسى بن عمرو السارق و السارقة و كذلك الزانية و الزاني و قال أبو العباس المبرد الاختيار فيه الرفع بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيدا فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده و من زنى فاجلده قال الزجاج و هذا القول هو المختار و إنما دخلت الفاء في الخبر للشرط المنوي و ذكر في قراءة ابن مسعود و السارقون و السارقات فاقطعوا أيمانهم و إنما قال « أيديهما » و لم يقل يديهما لأنه أراد يمينا من هذا و يمينا من هذه فجمع إذ ليس في الجسد إلا يمين واحدة قال الفراء و كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع فقيل قد هشمت رءوسهما و ملأت ظهورهما و بطونهما ضربا و مثله قوله « أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما » قال و إنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح اثنان اثنان في الإنسان كاليدين و الرجلين و اثنان من اثنين جمع لذلك يقال قطعت أرجلهما و فقات عيونهما فلما جرى الأكثر على هذا ذهب بالواحد إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين قال و يجوز التثنية كقول الهذلي :
مجمع البيان ج : 3 ص : 296

فتخالسا نفسيهما بنوافذ
كنوافذ العبط التي لا ترقع لأنه الأصل و يجوز هذا أيضا فيما ليس من خلق الإنسان كقولك للاثنين خليتما نساءكما و أنت تريد امرأتين قال و يجوز التوحيد أيضا لو قلت في الكلام السارق و السارقة فاقطعوا يمينهما جاز لأن المعنى اليمين من كل واحد منهما قال الشاعر :
كلوا في بعض بطنكم تعيشوا ) و يجوز في الكلام أن تقول ائتني برأس شاتين و برأسي شاة فمن قال برأس شاتين أراد الرأس من كل شاة منهما و من قال برأسي شاة أراد رأسي هذا الجنس قال الزجاج إنما جمع ما كان في الشيء منه واحد عند الإضافة إلى الاثنين لأن الإضافة تبين أن المراد بذلك الجمع التثنية لا الجمع و ذلك أنك إذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط و أصل التثنية الجمع لأنك إذا ثنيت الواحد فقد جمعت واحدا إلى واحد و ربما كان لفظ الجمع أخف من لفظ الاثنين فيختار لفظ الجمع و لا يشتبه ذلك بالتثنية عند الإضافة إلى اثنين لأنك إذا قلت قلوبهما فالتثنية في هما قد أغنتك عن تثنية القلب قال و إن ثني ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند جميع النحويين و أنشد :
ظهراهما مثل ظهور الترسين ) فجاء باللغتين و هذا كما حكينا عن الفراء في قول الهذلي فتخالسا نفسيهما البيت و قوله « جزاء بما كسبا » قال الزجاج انتصب جزاء بأنه مفعول له و كذلك « نكالا من الله » و إن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا لأن معنى فاقطعوا جازوهم و نكلوا بهم قال الأزهري تقديره لينكل غيره نكالا عن مثل فعله من نكل ينكل إذا جبن .

المعنى

لما ذكر تعالى الحكم فيمن أخذ المال جهارا عقبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال إسرارا فقال « و السارق و السارقة » و الألف و اللام للجنس فالمعنى كل من سرق رجلا كان أو امرأة و بدأ بالسارق هنا لأن الغالب وجود السرقة في الرجال و بدأ في آية الزنا بالنساء فقال الزانية و الزاني لأن الغالب وجود ذلك في النساء « فاقطعوا أيديهما » أي أيمانهما عن ابن عباس و الحسن و السدي و عامة التابعين قال أبو علي في تخطي المسلمين إلى قطع الرجل اليسرى بعد قطع اليمني و تركهم قطع اليد اليسرى دلالة على أن اليد اليسرى لم ترد بقوله « فاقطعوا أيديهما » أ لا ترى أنها لو أريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نص القرآن إلى غيره و هذا يدل على أن جمع اليد في هذه الآية على حد جمع القلب في قوله فقد
مجمع البيان ج : 3 ص : 297
صغت قلوبكما و دلت قراءة عبد الله بن مسعود على أن المراد بالأيدي الأيمان قال العلماء أن هذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق و بيان ذلك مأخوذ من السنة و اختلف في القدر الذي يقطع به يد السارق فقال أصحابنا يقطع في ربع دينار فصاعدا و هو مذهب الشافعي و الأوزاعي و أبي ثور و رووا عن عائشة عن النبي أنه قال لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا و ذهب أبو حنيفة و أصحابه أنه يقطع في عشرة دراهم فصاعدا و احتجوا بما روي عن عطا عن ابن عباس أن أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن قال و كان ثمن المجن على عهد رسول الله عشرة دراهم و ذهب مالك أنه يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا و روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قطع سارقا في ثمنه مجن ثلاثة دراهم و قال بعضهم لا تقطع الخمس إلا في خمسة دراهم و اختاره أبو علي الجبائي و قال لأنه بمنزلة من منع خمسة دراهم من الزكاة في أنه فاسق و قال بعضهم تقطع يد السارق في القليل و الكثير و إليه ذهب الخوارج و احتجوا بعموم الآية و بما روي عن النبي أنه قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده و يسرق الحبل فتقطع يده و هذا الخبر قد طعن أصحاب الحديث في سنده و ذكر أيضا في تأويله أن المراد بالبيضة بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب و بالحبل حبل السفينة و اختلف أيضا في كيفية القطع فقال أكثر الفقهاء أنه إنما يقطع من الرسغ و هو المفصل بين الكف و الساعد ثم أن عند الشافعي تقطع يده اليمني في المرة الأولى و رجله اليسرى في المرة الثانية و يده اليسرى في المرة الثالثة و رجله اليمني في المرة الرابعة و يحبس في المرة الخامسة و عند أبي حنيفة لا تقطع في الثالثة و قال أصحابنا أنه تقطع من أصول الأصابع و تترك له الإبهام و الكف و في المرة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق و يترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة فإن سرق بعد ذلك خلد في السجن و هو المشهور عن علي و أجمعت الطائفة عليه و قد استدل على ذلك أيضا بقوله « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم » و لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع و لا خلاف أن السارق إنما يجب عليه القطع إذا سرق من حرز إلا ما روي عن داود أنه قال يقطع السارق و إن سرق من غير حرز و الحرز في كل شيء إنما يعتبر فيه حرز مثله في العادة و حده عندنا كل موضع لم يكن لغير مالكه الدخول إليه و التصرف فيه إلا بإذنه « جزاء بما كسبا » أي افعلوا ذلك بها مجازاة بكسبهما و فعلهما « نكالا من الله » أي عقوبة على ما فعلاه قال زهير :
مجمع البيان ج : 3 ص : 298

و لو لا أن ينال أبا طريف
عذاب من خزيمة أو نكال أي عقوبة « فمن تاب من بعد ظلمه » أي أقلع و ندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة « و أصلح » أي و فعل الفعل الصالح الجميل « فإن الله يتوب عليه » أي يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها و وصف الله بأنه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة و هي أن في ذلك ترغيبا للعاصي في فعل التوبة و لذلك وصف نفسه تعالى بالتواب الرحيم و وصف العبد بأنه تواب و معناه أواب و هو من صفات المدح « إن الله غفور رحيم » فيه دلالة على أن قبول التوبة تفضل من الله « أ لم تعلم » قيل هو خطاب للنبي و المراد به أمته كقوله « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء و قيل هو خطاب للمكلفين و تقديره أ لم تعلم يا إنسان و إنما يتصل هذا الخطاب بما قبله اتصال الحجاج و البيان عن صحة ما تقدم من الوعد و الوعيد و الأحكام و معناه أ لم تعلم يا إنسان « أن الله له ملك السماوات و الأرض » أي له التصرف فيهما بلا دافع و لا منازع « يعذب من يشاء » إذا كان مستحقا للعقاب « و يغفر لمن يشاء » إذا عصاه و لم يتب لأنه إذا تاب فقد وعده تعالى بأنه لا يؤاخذه بذلك بعد التوبة و عند أهل الوعيد يقبح منه أن يؤاخذه بعد التوبة فعلى الوجهين مما لا تعلق لذلك بالمشيئة « و الله على كل شيء قدير » مر معناه .
* يَأَيُّهَا الرَّسولُ لا يحْزُنك الَّذِينَ يُسرِعُونَ فى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سمَّعُونَ لِلْكذِبِ سمَّعُونَ لِقَوْم ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يحَرِّفُونَ الْكلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِك لَهُ مِنَ اللَّهِ شيْئاً أُولَئك الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطهِّرَ قُلُوبَهُمْ لهَُمْ فى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)

مجمع البيان ج : 3 ص : 299

اللغة

« سماعون للكذب » أي قابلون له يقال لا تستمع من فلان قوله أي لا تقبل و منه سمع الله لمن حمده أي تقبل الله منه حمده و فيه وجه آخر و هو أن معناه أنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك و السماع الجاسوس و الفتنة الاختبار و أصله التخليص من قولهم فتنت الذهب في النار أي خلصته من الغش .

الإعراب

ارتفع سماعون لأنه خبر مبتدإ محذوف أي هم سماعون و يجوز أن يرتفع على معنى « و من الذين هادوا سماعون » فيكون مبتدءا على قول سيبويه و معمولا لمنهم على قول الأخفش تقديره و منهم فريق سماعون للكذب و قوله « لم يأتوك » في موضع جر لأنه صفة لقوم و قوله « يحرفون الكلم » صفة لقوله « سماعون » فيكون موضعه رفعا و يجوز أن يكون موضعه نصبا على أنه حال من الضمير في اسم الفاعل أي محرفين الكلم بمعنى مقدرين تحريفه أي يسمعون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يقدرون في أنفسهم تحريف ما يسمعون كقولهم معه صقر صائدا به غدا و قوله « من بعد مواضعه » من باب حذف المضاف و التقدير من بعد وضعه كلامه مواضعه و لو قال في معناه عن مواضعه لجاز لأن معناهما متقارب كما يقال أتيتك بعد فراغي من الشغل و عن فراغي منه و لا يجوز أن يقول رميت بعد القوس بدلا من قولك رميت عن القوس لأن المعنى يختلف و ذلك أن عن لما عدا الشيء الذي هو كالسبب له و بعد إنما هو لما تأخر عن كون الشيء فما صح فيه معنى السبب و معنى التأخر جاز فيه الأمران و ما لم يصح فيه إلا أحد الأمرين لم يجز إلا أحد الحرفين .

النزول

قال الباقر (عليه السلام) و جماعة من المفسرين أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و شعبة بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا ما حدهما فقال و هل ترضون بقضائي في ذلك قالوا نعم فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له فقال النبي هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم قالوا أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى قال فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا فقال له النبي إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق
مجمع البيان ج : 3 ص : 300
آل فرعون و ظلل عليكم الغمام و أنزل عليكم المن و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم و الذي ذكرتني به لو لا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له النبي فما ذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله قال كنا إذا زنى الشريف تركناه و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا يعنون ابن عمه فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع فوضعنا الجلد و التحميم و هو أن يجلد أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به و ما كنت لما أتينا عليك بأهل و لكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال أنه أنشدني بالتوراة و لو لا ذلك لما أخبرته به فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده و قال أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل الله فيه « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفوا عن كثير » فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال هذا مقام العائذ بالله و بك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبي عن ذلك ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال تنام عيناي و لا ينام قلبي فقال صدقت و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شيء فقال أيهما علا و سبق ماء صاحبه كان الشبه له قال قد صدقت فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه قال فأغمي على رسول الله طويلا ثم خلي عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال اللحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة و العظم و العصب و العروق للرجل قال له صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال يا محمد من يأتيك من الملائكة قال جبرائيل قال صفه لي فوصفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال أشهد أنه في التوراة كما قلت و إنك رسول الله حقا فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد و ديننا واحد و نبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يقد و أعطونا ديته سبعين وسقا من تمر و إذا قتلنا منهم
مجمع البيان ج : 3 ص : 301
قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا و بالرجل منهم رجلين منا و بالعبد الحر منا و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم فاقض بيننا و بينهم فأنزل الله في الرجم و القصاص الآيات .

المعنى

لما تقدم ذكر اليهود و النصارى عقبه سبحانه بتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أمانه من كيدهم فقال « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون » أي لا يغمك و قرىء لا يحزنك و معناهما واحد « الذين يسارعون » أي مسارعة الذين يسارعون « في الكفر » أي يبادرون فيه بالإصرار عليه و التمسك به « من » المنافقين « الذين قالوا آمنا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم و من الذين هادوا » أي و من اليهود « سماعون للكذب » قيل هو كناية عن اليهود و المنافقين و قيل عن اليهود خاصة و المعنى سماعون قولك ليكذبوا عليك « سماعون » كلامك « لقوم آخرين لم يأتوك » ليكذبوا عليك إذا رجعوا أي هم عيون عليك لأنهم كانوا رسل خيبر و أهل خيبر لم يحضروا عن الحسن و الزجاج و اختاره أبو علي و قيل معنى سماعون أي قائلون للكذب سماعون لقوم آخرين أرسلوهم في قصة زان محصن فقالوا لهم إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه و إن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه لأنهم كانوا حرفوا حكم الرجم الذي في التوراة عن ابن عباس و جابر و سعيد بن المسيب و السدي و قيل إنما كان ذلك في قتيل منهم قالوا إن أفتاكم بالدية فاقبلوه و إن أفتاكم بالقود فاحذروه عن قتادة و قال أبو جعفر كان ذلك في أمر بني النضير و بني قريظة « يحرفون الكلم » أي كلام الله « من بعد مواضعه » أي من بعد أن وضعه الله مواضعه أي فرض فروضه و أحل حلاله و حرم حرامه يعني بذلك ما غيروه من حكم الله في الزنا و نقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة عن جماعة من المفسرين و قيل نقلوا حكم القتل من القود إلى الدية حتى كثر القتل فيهم عن قتادة و قيل أراد به تحريفهم التوراة بتحليلهم الحرام و تحريمهم الحلال فيها و قيل معناه يحرفون كلام النبي بعد سماعه و يكذبون عليه عن الحسن و أبي علي الجبائي و كانوا يكتبون بذلك إلى خيبر و كان أهل خيبر حربا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هذه تسلية للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يقول أن اليهود كيف يؤمنون بك مع أنهم يحرفون كلام الله في التوراة و يحرفون كلامك « يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه و إن لم تؤتوه فاحذروا » أي يقول يهود خيبر ليهود المدينة إن أعطيتم هذا أي أن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه و إن لم تعطوه يعني الجلد أي إن أفتاكم محمد بالرجم فاحذروه عن الحسن معناه أن أوتيتم الدية فاقبلوه و إن
مجمع البيان ج : 3 ص : 302
أوتيتم القود فلا تقبلوه « و من يرد الله فتنته » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن الفتنة العذاب أي من يرد الله عذابه كقوله تعالى « على النار يفتنون » أي يعذبون و قوله « ذوقوا فتنتكم » أي عذابكم عن الحسن و قتادة و اختاره الجبائي و أبو مسلم ( و ثانيها ) أن معناه من يرد الله هلاكه عن السدي و الضحاك ( و ثالثها ) أن المراد من يرد الله خزيه و فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه عن الزجاج ( و رابعها ) أن المراد من يرد الله اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدع ذلك و يحرفه و الأصح الأول « فلن تملك له من الله شيئا » أي فلن تستطيع أن تدفع لأجله من أمر الله الذي هو العذاب أو الفضيحة أو الهلاك شيئا « أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم » معناه أولئك اليهود لم يرد الله أن يطهر من عقوبات الكفر التي هي الختم و الطبع و الضيق قلوبهم كما طهر قلوب المؤمنين منها بأن كتب في قلوبهم الإيمان و شرح صدورهم للإسلام عن الجبائي و الحسن و قيل معناه لم يرد الله أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها أنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان عن البلخي قال القاضي و هذا لا يدل على أنه سبحانه لم يرد منهم الإيمان لأن ذلك لا يعقل من تطهير القلب إلا على جهة التوسع و لأن قوله « لم يرد الله أن يطهر قلوبهم » يقتضي نفي كونه مريدا و ليس فيه بيان الوجه الذي لم يرد ذلك عليه و المراد بذلك أنه لم يرد تطهير قلوبهم مما يلحقها من الغموم بالذم و الاستخفاف و العقاب و لذلك قال عقيبه « لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم » و لو كان أراد ما قاله المجبرة لم تجعل ذلك ذما لهم و لا عقبه بالذم و لا جعله في حكم الجزاء على ما لأجله عاقبهم و أراد ذلك منهم و الخزي الذي لهم في الدنيا هو ما لحقهم من الذل و الصغار و الفضيحة بإلزام الجزية و إظهار كذبهم في كتمان الرجم و إجلاء بني النضير من ديارهم و خزي المنافقين باطلاع النبي على كفرهم .

مجمع البيان ج : 3 ص : 303
سمَّعُونَ لِلْكَذِبِ أَكلُونَ لِلسحْتِ فَإِن جَاءُوك فَاحْكُم بَيْنهُمْ أَوْ أَعْرِض عَنهُمْ وَ إِن تُعْرِض عَنْهُمْ فَلَن يَضرُّوك شيْئاً وَ إِنْ حَكَمْت فَاحْكُم بَيْنهُم بِالْقِسطِ إِنَّ اللَّهَ يحِب الْمُقْسِطِينَ(42) وَ كَيْف يحَكِّمُونَك وَ عِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِك وَ مَا أُولَئك بِالْمُؤْمِنِينَ(43)

القراءة

السحت بضم السين و الحاء مكي بصري و الكسائي و أبو جعفر و قرأ الباقون « السحت » بإسكان الحاء .

الحجة

قال أبو علي السحت و السحت لغتان و يستمر التخفيف و التثقيل في هذا النحو و هما اسم الشيء المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم هذا الدرهم ضرب الأمير و الصيد على المصيد في قوله « و لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم » .

اللغة

أصل السحت الاستئصال يقال سحته و أسحته أي استأصله و من أسحت قول الفرزدق :
و عض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف و يقال للحالق أسحت أي استأصل و فلان مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يشبع و أسحت ماله أفسده و أذهبه و الحكم هو فصل الأمر على وجه الحكمة فيما يفصل به و قد يفصل به لبيان أنه الحق و قد يفصل بإلزام الحق و الأخذ به كما يفصل الحاكم بين الخصوم بما يقطع الخصومة و يثبت القضية ، و التولي الانصراف عن الشيء و التولي عن الحق الترك له و هو خلاف التولي إليه لأنه الإقبال عليه و التولي له هو صرف النصرة و المعونة إليه .

المعنى

ثم وصفهم تعالى فقال « سماعون للكذب » قد مر تفسيره أعاد الله تعالى ذمهم على استماع الكذب أو قبوله تأكيدا و تشديدا و مبالغة في الزجر عنه « أكالون للسحت » أي يكثرون الأكل للسحت و هو الحرام و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن السحت هو الرشوة في الحكم و هو المروي عن ابن مسعود و الحسن و قيل السحت هو الرشوة في الحكم و مهر البغي و كسب الحجام و عسيب الفحل و ثمن الكلب و ثمن الخمر و ثمن الميتة و حلوان الكاهن و الاستجعال في المعصية عن علي (عليه السلام) و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن السحت أنواع كثيرة فأما الرشى في الحكم فهو الكفر بالله و قيل في اشتقاق السحت أقوال
مجمع البيان ج : 3 ص : 304
( أحدها ) أن الحرام إنما سمي سحتا لأنه يعقب عذاب الاستئصال و البوار عن الزجاج ( و ثانيها ) أنه إنما سمي سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال عن الجبائي ( و ثالثها ) أنه إنما سمي سحتا لأنه القبيح الذي فيه العار نحو ثمن الكلب و الخمر فعلى هذا يسحت مروءة الإنسان عن الخليل « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » أراد به اليهود الذين تحاكموا إلى النبي في حد الزنا عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قيل أراد بني قريظة و بني النضير لما تحكموا إليه فخيره الله تعالى بين أن يحكم بينهم و بين أن يعرض عنهم عن ابن عباس في رواية أخرى و قتادة و ابن زيد و الظاهر في روايات أصحابنا أن هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة و الحكام و هو قول قتادة و عطاء و الشعبي و إبراهيم و قيل أنه منسوخ بقوله و أن احكم بينهم بما أنزل الله عن الحسن و مجاهد و عكرمة « و إن تعرض عنهم » أي عن الحكم بينهم « فلن يضروك شيئا » أي لا يقدرون لك على ضرر في دين أو دنيا فدع النظر بينهم أن شئت « و إن حكمت » أي و إن اخترت أن تحكم « فاحكم بينهم بالقسط » أي العدل و قيل بما في القرآن و شريعة الإسلام « إن الله يحب المقسطين » أي العادلين « و كيف يحكمونك » أي كيف يحكمك يا محمد هؤلاء اليهود فيهم فيرضون بك حكما « و عندهم التوراة » التي أنزلناها على موسى و هي التي يقرون بها أنها كتابي الذي أنزلته و أنه حق و إن ما فيه من حكمي يعلمونه و لا يتناكرونه « فيها حكم الله » أي أحكامه التي لم تنسخ عن أبي علي و قيل عنى به الحكم بالرجم عن الحسن و قيل معناه فيها حكم الله بالقود عن قتادة « ثم يتولون من بعد ذلك » أي يتركون الحكم به جرأة علي و في هذا تعجيب للنبي و تقريع لليهود الذين نزلت الآية فيهم فكأنه قال كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد مع إنكاركم نبوته و تكذيبكم إياه و أنتم تتركون حكمي الذي تقرون بوجوبه و تعترفون بأنه جاءكم من عندي و قوله « من بعد ذلك » إشارة إلى حكم الله في التوراة عن عبد الله بن كثير و قيل « من بعد ذلك » أي من بعد تحكيمك أو حكمك بالرجم لأنهم ليسوا منه على ثقة و إنما طلبوا به الرخصة « و ما أولئك بالمؤمنين » أي و ما هم بمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك و قيل أن هذا إخبار من الله سبحانه عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بحكمه .

مجمع البيان ج : 3 ص : 305
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَ نُورٌ يحْكُمُ بهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ الرَّبَّنِيُّونَ وَ الأَحْبَارُ بِمَا استُحْفِظوا مِن كِتَبِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شهَدَاءَ فَلا تَخْشوُا النَّاس وَ اخْشوْنِ وَ لا تَشترُوا بِئَايَتى ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَن لَّمْ يحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئك هُمُ الْكَفِرُونَ(44)

القراءة

قرأ أهل البصرة و أبو جعفر و إسماعيل عن نافع و اخشوني بياء في الوصل و يعقوب يقف بالياء أيضا و الباقون « و اخشون » بغير ياء في الوقف و الوصل .

الحجة

قال أبو علي الإثبات حسن لأن الفواصل في أنها أواخر الآي مثل القوافي في أنها أواخر الأبيات فمما حذف منه الياء في القوافي قول الأعشى :
فهل يمنعني ارتيادي البلاد
من حذر الموت أن يأتين
و من شانىء كاسف وجهه
إذا ما انتسبت له أنكرن .

اللغة

الربانيون فسرناه فيما مضى و هم العلماء البصراء بسياسة الأمور و تدبير الناس و الأحبار جمع حبر و هو العالم مشتق من التحبير و هو التحسين فالعالم يحسن الحسن و يقبح القبيح قال الفراء أكثر ما سمعت فيه حبر بالكسر .

الإعراب

الباء في قوله « بما استحفظوا » يتعلق بالأحبار فكأنه قال العلماء بما استحفظوا و قال الزجاج تقديره يحكمون للتائبين من الكفر بما استحفظوا .

المعنى

لما بين الله تعالى أن اليهود تولوا عن أحكام التوراة وصف التوراة و ما أنزل فيها فقال « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى » أي بيان للحق و دلالة على الأحكام « و نور » أي ضياء لكل ما تشابه عليهم و جلاء لما أظلم عليهم عن ابن عباس و قيل معناه « فيها هدى » بيان للحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و نور » بيان أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حق عن الزجاج « يحكم بها النبيون الذين أسلموا » معناه يحكم بالتوراة النبيون الذين أذعنوا بحكم الله و أقروا به و نبينا داخل فيهم عن الحسن و قتادة و عكرمة و السدي و الزهري و قال أكثرهم هو
مجمع البيان ج : 3 ص : 306
المعني بذلك لما حكم في رجم المحصن و هذا لا يدل على أنه كان متعبدا بشرع موسى لأن الله هو الذي أوجب ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له و إن وافق ما في التوراة و نبه بذلك اليهود على صحة نبوته من حيث أخبر عما في التوراة من غامض العلم الذي قد التبس على كثير منهم و قد عرفوا جميعا أنه لم يقرأ كتابهم و لم يرجع في ذلك إلى علمائهم فكان من دلائل صدقه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل يريد بالنبيين الأنبياء الذين كانوا بعد موسى و ذلك أنه كان في بني إسرائيل ألوف من الأنبياء بعثهم الله لإقامة التوراة يحدون حدودها و يحلون حلالها و يحرمون حرامها عن ابن عباس فمعناه يقضي بها النبيون الذين أسلموا من وقت موسى إلى وقت عيسى وصفهم بالإسلام لأن الإسلام دين الله فكل نبي مسلم و ليس كل مسلم نبيا و قوله « للذين هادوا » أي تابوا عن الكفر عن ابن عباس و قيل لليهود و اللام فيه يتعلق بيحكم أي يحكمون بالتوراة لهم و فيما بينهم قال الزجاج و جائز أن يكون المعنى على التقديم و التأخير و تقديره إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا « و الربانيون » الذين علت درجاتهم في العلم و قيل الذين يعملون بما يعلمون « و الأحبار » العلماء الخيار عن الزجاج « بما استحفظوا » به أي بما استودعوا « من كتاب الله » عن ابن عباس و قيل بما أمروا بحفظ ذلك و القيام به و ترك تضييعه عن الجبائي « و كانوا عليه شهداء » أي و كانوا على حكم النبي في الرجم أنه ثابت في التوراة شهداء عن ابن عباس و قيل كانوا شهداء على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له عن عطاء « فلا تخشوا الناس و اخشون » أي لا تخشوا يا علماء اليهود الناس في إظهار صفة النبي محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أمر الرجم و اخشوني في كتمان ذلك عن السدي و الكلبي و قيل الخطاب للنبي و أمته أي لا تخشوهم في إقامة الحدود و إمضائها على أهلها كائنا من كان و اخشوني في ترك أمري فإن النفع و الضر بيدي عن الحسن « و لا تشتروا ب آياتي ثمنا قليلا » أي لا تأخذوا بترك الحكم الذي أنزلته على موسى أيها الأحبار عوضا خسيسا و هو الثمن القليل نهاهم الله تعالى بهذا عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله و تغييرهم حكمه « و من لم يحكم بما أنزل الله » معناه من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه و أخفاه و حكم بغيره من رجم المحصن و القود « فأولئك هم الكافرون » اختلف في ذلك فمنهم من أجرى ظاهره على العموم عن ابن مسعود و الحسن و إبراهيم و منهم من خصه بالجاحد لحكم الله عن ابن عباس و منهم من قال هم اليهود خاصة عن الجبائي فإنه قال لا حجة للخوارج فيها من حيث هي خاصة في اليهود و اختار علي بن عيسى القول الأول و لذلك
مجمع البيان ج : 3 ص : 307
يقول من حكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك فهو كافر و روى البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن قوله « و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » و بعده « فأولئك هم الظالمون » و بعده « فأولئك هم الفاسقون » كل ذلك في الكفار خاصة أورده مسلم في الصحيح و به قال ابن مسعود و أبو صالح و الضحاك و عكرمة و قتادة .
وَ كَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ وَ الْعَينَ بِالْعَينِ وَ الأَنف بِالأَنفِ وَ الأُذُنَ بِالأُذُنِ وَ السنَّ بِالسنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَن تَصدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفَّارَةٌ لَّهُ وَ مَن لَّمْ يحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ(45)

القراءة

قرأ الكسائي العين و ما بعده كله بالرفع و قرأ أبو جعفر و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمر كلها بالنصب إلا قوله و الجروح قصاص فإنهم قرءوا بالرفع و الباقون ينصبون جميع ذلك و كلهم ثقل الأذن إلا نافعا فإنه خففها في كل القرآن .

الحجة

قال أبو علي حجة من نصب « العين » و ما بعده أنه عطف ذلك كله على أن يجعل الواو للاشتراك في نصب أن و لم يقطع الكلام عما قبله كما فعل ذلك من رفع و أما من رفع بعد النصب فقال أن النفس بالنفس و العين بالعين فإنه يحتمل ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن تكون الواو عاطفة جملة على جملة كما يعطف المفرد على المفرد ( و الثاني ) أنه حمل الكلام على المعنى لأنه إذا قال « و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » فمعناه قلنا لهم النفس بالنفس فحمل العين بالعين على هذا كما أنه لما كان المعنى في قوله « يطاف عليهم بكأس من معين » يمنحون كأسا من معين حمل حورا عينا على ذلك كأنه يمنحون كأسا و يمنحون حورا عينا و من ذلك قوله :
بادت و غير آيهن مع البلى
إلا رواكد جمرهن هباء
و مشجج أما سواء قذاله
فبدا و غيب سارة المعزاء
مجمع البيان ج : 3 ص : 308
لما كان المعنى في :
بادت و غير آيهن إلا رواكد ) بها رواكد حمل مشججا عليه فكأنه قال هناك رواكد و مشجج و مثل هذا في الحمل على المعنى كثير و أقول إن من هذا القبيل بيت الفرزدق الذي آخره إلا مسحتا أو مجلف و قد ذكرناه قبل لأنه لما كان المعنى لم يبق من المال إلا مسحت حمل مجلفا عليه و الوجه الثالث أن يكون عطف قوله « و العين بالعين » على الذكر المرفوع في الظرف الذي هو الخبر و إن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في نحو قوله أنه يراكم هو و قبيله أ لا ترى أنه قد جاء لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا فلم يؤكد بالمنفصل كما أكد في الآية الأخرى قال فإن قلت فإن لا في قوله و لا آباؤنا عوض من التأكيد لأن الكلام قد طال كما في حضر القاضي اليوم امرأة قيل هذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فأما إذا وقع بعد حرف العطف فإنه لم يسد ذلك المسد و أما قوله « و الجروح قصاص » فمن رفعه فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها و يجوز أن يستأنف الجروح قصاص استئناف إيجاب و ابتداء شريعة لا على أنه مكتوب عليهم في التوراة و يقوي أنه من المكتوب عليهم في التوراة نصب من نصب فقال « و الجروح قصاص » و أما التخفيف في الأذن فلعله مثل السحت و السحت و قد تقدم القول في ذلك .

المعنى

ثم بين سبحانه حكم التوراة في القصاص فقال « و كتبنا » أي فرضنا « عليهم » أي على اليهود الذين تقدم ذكرهم « فيها » أي في التوراة « أن النفس بالنفس » معناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى عمدا فإنه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا و كان المقتول مكافئا للقاتل أما بأن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين فأما إذا كان القاتل حرا مسلما و المقتول كافرا أو مملوكا ففي وجوب القصاص هناك خلاف بين الفقهاء و عندنا لا يجب القصاص و به قال الشافعي و قال الضحاك لم يجعل في التوراة دية في نفس و لا جرح إنما كان العفو أو القصاص « و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن » قال العلماء كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين و الأنف و الأذن و السن و جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة من الشلل و إذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف « و الجروح قصاص » هذا عام في كل ما يمكن أن يقتص فيه مثل الشفتين و الذكر و الأنثيين و اليدين و الرجلين و غيرهما و يقتص الجراحات بمثلها
مجمع البيان ج : 3 ص : 309
الموضحة بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقلة بالمنقلة إلا المأمومة و الجائفة فإنه لا قصاص فيهما و هي التي تبلغ أم الرأس و التي تبلغ الجوف في البدن لأن في القصاص فيهما تغرير بالنفس و أما ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم أو فكة عظم أو جراحة يخاف منها التلف ففيه أروش مقدرة و القصاص هنا مصدر يراد به المفعول أي و الجروح متقاصة بعضها ببعض و أحكام الجراحات و تفاصيل الأروش في الجنايات كثيرة و فروعها جمة موضعها كتب الفقه « فمن تصدق به » أي بالقصاص الذي وجب له تصدق به على صاحبه بالعفو و أسقطه عنه « فهو » أي التصدق « كفارة له » أي للمتصدق الذي هو المجروح أو ولي الدم هذا قول أكثر المفسرين و قيل إن معناه فمن عفا فهو مغفرة له عند الله و ثواب عظيم عن ابن عمر و ابن عباس في رواية عطاء و الحسن و الشعبي و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره و روى عبادة بن الصامت أن النبي قال من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه و قيل إن الضمير في له يعود إلى المتصدق عليه أي كفارة للمتصدق عليه لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه عن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير و مجاهد و إبراهيم و زيد بن أسلم و على هذا فإن الجاني إذا عفا عنه المجني عليه كان العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة و القول الأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور و هو من و في القول الثاني يعود إلى مدلول عليه و هو المتصدق عليه يدل عليه قوله « فمن تصدق به » « و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون » قيل هم اليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله و قيل هو عام في كل من حكم بخلاف ما أنزل الله فيكون ظالما لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب و هذا الوجه يوجب أن يكون ما تقدم ذكره من الأحكام يجب العمل به في شريعتنا و إن كان مكتوبا في التوراة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 310
وَ قَفَّيْنَا عَلى ءَاثَرِهِم بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ ءَاتَيْنَهُ الانجِيلَ فِيهِ هُدًى وَ نُورٌ وَ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظةً لِّلْمُتَّقِينَ(46) وَ لْيَحْكمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَن لَّمْ يحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ(47)

القراءة

قرأ حمزة وحده و ليحكم بكسر اللام و نصب الميم و الباقون « و ليحكم » بالجزم و سكون اللام على الأمر .

الحجة

حجة حمزة أنه جعل اللام متعلقا بقوله « و آتيناه الإنجيل » فإن معناه و أنزلنا عليه الإنجيل فصار بمنزلة أنزلنا عليك الكتاب ليحكم و حجة من قرأ بالجزم أنه بمنزلة قوله و أن احكم بينهم بما أنزل الله فكما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فكذلك أمروا به بالإنجيل .

اللغة

القفو اتباع الأثر يقال قفاه يقفوه و التقفية الاتباع يقال قفيته بكذا أي اتبعته و إنما سميت قافية الشعر قافية لأنها تتبع الوزن و الآثار جمع الأثر و هو العلم الذي يظهر للحس و آثار القوم ما أبقوا من أعمالهم و المأثرة المكرمة التي يأثرها الخلف عن السلف لأنها علم يظهر فضله للنفس و الأثير الكريم على القوم لأنهم يؤثرونه بالبر و منه الإيثار للاختيار فإنه إظهار فضل أحد العملين على الآخر و قد مر تفسير الإنجيل في أول آل عمران و الوعظ و الموعظة هي الزجر عما يكرهه الله إلى ما يحبه و التنبيه عليه .

الإعراب

قوله « بعيسى بن مريم مصدقا » نصب مصدقا على الحال و هدى رفع بالابتداء و فيه خبره قدم عليه و نور عطف على هدى و « مصدقا لما بين يديه من التوراة » نصب على الحال و ليس بتكرير لأن الأول حال لعيسى و بيان أنه يدعو إلى التصديق بالتوراة و الثاني حال من الإنجيل و بيان أن فيه ذكر التصديق بالتوراة و هما مختلفان و هو عطف على موضع قوله « فيه هدى » لأنه نصب على الحال و تقديره آتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى و نور مصدقا و هدى في موضع نصب بالعطف على مصدقا و موعظة عطف على هدى و التقدير و هاديا و واعظا .

المعنى

لما قدم تعالى ذكر اليهود أتبعه بذكر النصارى فقال « و قفينا على آثارهم » أي و أتبعنا على آثارهم النبيين الذين أسلموا عن أكثر المفسرين و اختاره علي بن عيسى و البلخي و قيل معناه على آثار الذين فرضنا عليهم الحكم الذي مضى ذكره عن الجبائي و الأول أجود في العربية و أوضح في المعنى « بعيسى بن مريم » أي بعثناه رسولا من بعدهم
مجمع البيان ج : 3 ص : 311
« مصدقا لما بين يديه » أي لما مضى « من التوراة » التي أنزلت على موسى صدق بها و آمن بها و إنما قال لما مضى قبله لما بين يديه لأنه إذا كان يأتي بعده خلفه فالذي مضى قبله يكون قدامه و بين يديه « و آتيناه » أي و أعطينا عيسى الكتاب المسمى الإنجيل و المعنى و أنزلنا عليه « الإنجيل فيه » يعني في الإنجيل « هدى » أي بيان و حجة و دلائل له على الأحكام « و نور » سماه نورا لأنه يهتدي به كما يهتدي بالنور « و مصدقا لما بين يديه من التوراة » يعني الإنجيل يصدق بالتوراة لأن فيه أن التوراة حق و قيل معناه أنه تضمن وجوب العمل بالتوراة و أنه لم تنسخ و قيل معناه أنه أتى على النحو الذي وصف في التوراة « و هدى » أي و دلالة و إرشادا و معناه و هاديا و راشدا « و موعظة » أي واعظا « للمتقين » يزجرهم عن المعاصي و يدعوهم إلى الطاعة و إنما خص المتقين بالذكر لأنهم اختصوا بالانتفاع به و إلا فإنه هدى لجميع الخلق « و ليحكم أهل الإنجيل » هذا أمر لهم و قيل في معناه قولان ( أحدهما ) أن تقديره و قلنا ليحكم أهل الإنجيل فيكون على حكاية ما فرض عليهم و حذف القول لدلالة ما قبله عليه من قوله « و قفينا » كما قال تعالى « و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم » أي يقولون سلام عليكم ( و الثاني ) أنه تعالى استأنف أمر أهل الإنجيل على غير الحكاية لأن أحكامه كانت حينئذ موافقة لأحكام القرآن لم تنسخ بعد عن أبي علي الجبائي و القول الأول أقوى و هو اختيار علي بن عيسى « بما أنزل الله فيه » أي في الإنجيل « و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون » قيل إن من هاهنا بمعنى الذي و هو خبر عن قوم معروفين و هم اليهود الذين تقدم ذكرهم عن الجبائي و قيل إن من للجزاء أي من لم يحكم من المكلفين بما أنزل الله فهو فاسق لأن هذا الإطلاق يدل على أن المراد من ذهب إلى أن الحكمة في خلاف ما أمر الله به فلهذا قال فيما قبل « فأولئك هم الكافرون » فيكون معنى الفاسقين الخارجين عن الدين و جعلوا الكفر و الظلم و الفسق صفة لموصوف واحد و قيل أن الأول في الجاحد و الثاني و الثالث في المقر التارك .
 

<<        الفهرس        >>