جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 3 ص : 258
يكون من صفة البجاد و ليس كذلك الأرجل فإنها تجوز أن تكون ممسوحة كالرءوس و أيضا فإن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا في كلام العرب و قالوا في جحر ضب خرب أنهم أرادوا خرب جحره فحذف المضاف الذي هو جحر و أقيم المضاف إليه و هو الضمير المجرور مقامه و إذا ارتفع الضمير استكن في خرب و كذلك القول في كبير أناس في بجاد مزمل فتقديره مزمل كبيرة فبطل الإعراب بالمجاورة جملة و هذا واضح لمن تدبره و أما من جعله مثل قول الشاعر :
علفتها تبنا و ماء باردا ) كأنه قدر في الآية و اغسلوا أرجلكم فقوله أبعد من الجميع لأن مثل ذلك لو جاز في كتاب الله تعالى على ضعفه و بعده في سائر الكلام فإنما يجوز إذا استحال حمله على ظاهره و أما إذا كان الكلام مستقيما و معناه ظاهرا فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذ البعيد و أما ما قاله أبو علي في القراءة بالنصب على أنه معطوف على الأيدي فقد أجاب عنه المرتضى ( ره ) بأن قال جعل التأثير في الكلام للقريب أولى من جعله للبعيد فنصب الأرجل عطفا على الموضع أولى من عطفها على الأيدي و الوجوه على أن الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت و بطل حكمها باستئناف الجملة الثانية و لا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن تعطف على ما فيها فإن ذلك يجري مجرى قولهم ضربت زيدا و عمرا و أكرمت خالدا و بكرا فإن رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه و لا يجوز رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه و لو جاز ذلك أيضا لترجح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين و لا يتنافيان فأما ما روي في الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ويل للعراقيب من النار و غير ذلك من الأخبار التي رووها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه توضأ و غسل رجليه فالكلام في ذلك أنه لا يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار الذي لا يوجب علما و إنما يقتضي الظن على أن هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم و وجدت في كتبهم و نقلت عن شيوخهم مثل ما روي عن أوس بن أوس أنه قال رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) توضأ و مسح على نعليه ثم قام فصلى و عن حذيفة قال أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سباطة قوم فبال عليها ثم دعا بماء فتوضأ و مسح على قدميه و ذكره أبو عبيدة في غريب الحديث إلى غير ذلك مما يطول ذكره و قوله ( ويل للعراقيب من النار ) فقد روي فيه أن قوما من أجلاف الأعراب كانوا يبولون و هم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم و أرجلهم فلا يغسلونها و يدخلون المسجد للصلاة
مجمع البيان ج : 3 ص : 259
و كان ذلك سببا لهذا الوعيد و أما الكعبان فقد اختلف في معناهما فعند الإمامية هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند معقد الشراك و وافقهم في ذلك محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة و إن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع و قال جمهور المفسرين و الفقهاء الكعبان هما عظما الساقين قالوا و لو كان كما قالوه لقال سبحانه و أرجلكم إلى الكعاب و لم يقل « إلى الكعبين » لأن على ذلك القول يكون في كل رجل كعبان « و إن كنتم جنبا فاطهروا » معناه إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصلاة فتطهروا بالاغتسال و هو أن تغسلوا جميع البدن و الجنابة إنما تكون بإنزال الماء الدافق على كل حال أو بالتقاء الختانين و حده غيبوبة الحشفة في الفرج سواء كان معه إنزال أو لم يكن « و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه » قد مر تفسيره في سورة النساء فلا معنى لإعادته « ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج » معناه ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة و الغسل من الجنابة و التيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق و لا ليعنتكم فيه عن مجاهد و جميع المفسرين « و لكن يريد ليطهركم » بما فرض عليكم من الوضوء و الغسل من الأحداث و الجنابة أي ينظف أجسادكم بذلك من الذنوب و اللام دخلت فيه لتبيين الإرادة أي يريد ذلك لتطهيركم كما قال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل و يؤيد ما قلناه ما روي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أن الوضوء يكفر ما قبله « و ليتم نعمته عليكم » أي و يريد الله تعالى مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء و الغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء أو التيمم عند عدمه أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم و تصييره لكم الصعيد الطيب طهورا رخصة لكم منه من سوابغ نعمه التي أنعم بها عليكم « لعلكم تشكرون » أي لتشكروا الله على نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به و نهاكم عنه و قد تضمنت هذه الآية أحكام الوضوء و صفته ، و أحكام الغسل و التيمم و مسائلها المتفرعة منها كثيرة موضعها الكتب المؤلفة في الفقه .

مجمع البيان ج : 3 ص : 260
وَ اذْكرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثَقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمِعْنَا وَ أَطعْنَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ(7)

اللغة

إنما قال « ذات الصدور » على لفظ التأنيث لأن المراد بذلك المعاني التي تحل القلوب و لم يقل ذوات لينبىء عن التفصيل في كل ذات .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر بيان الشرائع عقبه بتذكير نعمه فقال « و اذكروا نعمة الله عليكم » و لم يقل نعم الله للإشعار بعظم النعمة لا من جهة التضعيف إذ كل نعمة لله فإنه يستحق عليها أعظم الشكر لكونها أصل النعم إذ هي مثل الخلق و الحياة و العقل و الحواس و القدرة و الآلات و قيل بل لأنه ذهب مذهب الجنس في ذلك و جملة النعم تسمى نعمة كما إن قطاعا من الأرض تسمى أرضا « و ميثاقه الذي واثقكم به » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه ما أخذ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عند إسلامهم و بيعتهم بأن يطيعوا الله في كل ما يفرضه عليهم مما ساءهم أو سرهم عن ابن عباس و السدي ( و ثانيها ) إن المراد بالميثاق ما بين لهم في حجة الوداع من تحريم المحرمات و كيفية الطهارة و فرض الولاية و غير ذلك عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) و هذا داخل في القول الأول إذ هو بعض ما فرض الله تعالى ( و ثالثها ) إن المراد به متابعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم بيعة العقبة و بيعة الرضوان عن أبي علي الجبائي ( و رابعها ) إن معناه ما أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى عن مجاهد و هذا أضعف الأقوال « إذ قلتم سمعنا و أطعنا » يعني سمعنا ما تقول و أطعناك فيما سمعنا « و اتقوا الله » مضى بيانه « إن الله عليم بذات الصدور » أي بما تضمرونه في صدوركم من المعاني و المراد بالصدور هاهنا القلوب و إنما جاز ذلك لأن موضع القلب الصدر .

مجمع البيان ج : 3 ص : 261
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّمِينَ للَّهِ شهَدَاءَ بِالْقِسطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكمْ شنَئَانُ قَوْم عَلى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب لِلتَّقْوَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُم مَّغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ(9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب الجَْحِيمِ(10)

اللغة

جرمت و أجرمت بمعنى و قيل معنى « لا يجرمنكم » لا يدخلنكم في الجرم كما يقال أثمته أي أدخلته في الإثم و تقول وعدت الرجل تريد الخير و أوعدت الرجل تريد الشر فإذا ذكرت الموعود قلت فيهما جميعا وعدته و أوعدته فقوله سبحانه « وعد الله الذين آمنوا » يدل على الخير ثم بين ذلك الخير فقال لهم مغفرة .

الإعراب

قوامين نصب بأنه خبر كان شهداء نصب على الحال و قوله « لهم مغفرة » جملة وقعت موضع المفرد كقول الشاعر :
وجدنا الصالحين لهم جزاء
و جنات و عينا سلسبيلا و تكون الجملة التي هي « لهم مغفرة » في موضع نصب و لذلك عطف في البيت و عينا نصب على الموضع و يحتمل أن يكون موضع « لهم مغفرة » رفعا و يكون الموعود به محذوفا .

المعنى

لما ذكر سبحانه الوفاء بالعهود بين سبحانه أن ما يلزم الوفاء به ما ذكر في الآية فقال تعالى « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين » أي قائمين « لله » أي ليكن من عادتكم القيام لله بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح و في غيركم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و يعني بقوله « لله » افعلوا ذلك ابتغاء مرضاته الله « شهداء بالقسط » أي بالعدل و قيل معناه كونوا دعاة لله مبينين عن دين الله بالعدل و الحق و الحجج لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه و قيل معناه كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله تعالى بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة « و لا يجرمنكم شن آن قوم » قد ذكرنا معناه في أول السورة قال الزجاج من حرك النون من « شن آن » أراد بغض قوم و من سكن أراد بغيض قوم ذهب إلى أن الشن آن مصدر و الشن آن بالسكون صفة « على ألا تعدلوا » أي لا يحملنكم بغضهم أي بغضكم إياهم و على القول الآخر فتقديره لا يحملنكم بغيض قوم و عدو قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم و سيرتكم بينهم فتجوروا عليهم « اعدلوا » أي اعملوا بالعدل أيها المؤمنون في أوليائكم و أعدائكم « هو أقرب للتقوى » أي العدل أقرب إلى التقوى « و اتقوا الله » أي خافوا عقابه بفعل الطاعات و اجتناب السيئات « إن الله خبير » أي عالم « بما تعملون »
مجمع البيان ج : 3 ص : 262
أي بأعمالكم يجازيكم عليها « وعد الله الذين آمنوا » أي صدقوا بوحدانية الله تعالى و أقروا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و عملوا الصالحات » أي الحسنات من الواجبات و المندوبات « لهم مغفرة » أي مغفرة لذنوبهم و تكفير لسيئاتهم و المراد به التغطية و الستر « و أجر عظيم » يريد ثوابا عظيما و الفرق بين الثواب و الأجر أن الثواب يكون جزاء على الطاعات و الأجر قد يكون على سبيل المعاوضة بمعنى الأجرة و الوعد هو الخبر الذي يتضمن النفع من المخبر و الوعيد هو الخبر الذي يتضمن الضرر من المخبر « و الذين كفروا » أي جحدوا توحيد الله و صفاته و أنكروا نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و كذبوا ب آيات الله » أي بدلائله و براهينه « أولئك أصحاب الجحيم » معناه أنهم يخلدون في النار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَت اللَّهِ عَلَيْكمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَف أَيْدِيَهُمْ عَنكمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)

اللغة

الذكر هو حضور المعنى للنفس و قد يستعمل الذكر بمعنى القول لأن من شأنه أن يذكر به المعنى و التذكر طلب المعنى لا طلب القول و الهم بالأمر هو حديث النفس بفعله يقال هم بالأمر يهم هما و منه الهم و هو الفكر الذي يغم و جمعه هموم و أهمه الأمر إذا عنى به فحدث نفسه به و الفرق بين الهم بالشيء و القصد إليه أنه قد يهم بالشيء قبل أن يريده و يقصده بأن يحدث نفسه به و هو مع ذلك مقبل على فعله .

المعنى

ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين و ذكرهم نعمته عليهم بما دفع عنهم كيد الأعداء فقال « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم » أي قصدوا « أن يبسطوا إليكم أيديهم » و اختلف فيمن بسط إليهم الأيدي على أقوال ( أحدها ) أنهم اليهود هموا بأن يفتكوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هم بنو النضير دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع جماعة من أصحابه عليهم و كانوا قد عاهدوه على ترك القتال و على أن يعينوه في الديات فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا نعم اجلس حتى نطعمك و نعطيك الذي تسألنا و هموا بالفتك بهم فإذن فأذن به رسوله فأطلع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصحابه
مجمع البيان ج : 3 ص : 263
على ذلك و انصرفوا و كان ذلك إحدى معجزاته عن مجاهد و قتادة و أكثر المفسرين ( و ثانيها ) أن قريشا بعثوا رجلا ليقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فدخل عليه و في يده سيف مسلول فقال له أرنيه فأعطاه فلما حصل في يده قال ما الذي يمنعني من قتلك قال الله يمنعك فرمى السيف و أسلم و اسم الرجل عمرو بن وهب الجمحي بعثه صفوان بن أمية ليغتاله بعد بدر و كان ذلك سبب إسلام عمرو بن وهب عن الحسن ( و ثالثها ) أن المعني بذلك ما لطف الله للمسلمين من كف أعدائهم عنهم حين هموا باستئصالهم بأشياء شغلهم بها من الأمراض و القحط و موت الأكابر و هلاك المواشي و غير ذلك من الأسباب التي انصرفوا عندها عن قتل المؤمنين عن أبي علي الجبائي ( و رابعها ) ما قاله الواقدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) غزا جمعا من بني ذبيان و محارب بذي أمر فتحصنوا برءوس الجبال و نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بحيث يراهم فذهب لحاجته فأصابه مطر قبل ثوبه فنشره على شجرة و اضطجع تحته و الأعراب ينظرون إليه فجاء سيدهم دعثور بن الحرث حتى وقف على رأسه بالسيف مشهورا فقال يا محمد من يمنعك مني اليوم فقال الله و دفع جبرائيل في صدره و وقع السيف من يده و أخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قام على رأسه و قال من يمنعك اليوم مني قال لا أحد و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فنزلت الآية و على هذا فيكون تخليص النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما هموا به نعمة على المؤمنين من حيث أن مقامه بينهم نعمة عليهم فلذلك اعتد به عليهم و قوله « فكف أيديهم عنكم » أي منعهم عن الفتك بكم « و اتقوا الله » ظاهر المعنى « و على الله فليتوكل » أي فليتق « المؤمنون » بنصر الله و ليتوكلوا عليه فإن الله تعالى كافيهم و ناصرهم .
* وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ بَنى إِسرءِيلَ وَ بَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنىْ عَشرَ نَقِيباً وَ قَالَ اللَّهُ إِنى مَعَكمْ لَئنْ أَقَمْتُمُ الصلَوةَ وَ ءَاتَيْتُمُ الزَّكوةَ وَ ءَامَنتُم بِرُسلى وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسناً لأُكفِّرَنَّ عَنكُمْ سيِّئَاتِكُمْ وَ لأُدْخِلَنَّكمْ جَنَّت تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ فَمَن كفَرَ بَعْدَ ذَلِك مِنكمْ فَقَدْ ضلَّ سوَاءَ السبِيلِ(12)

مجمع البيان ج : 3 ص : 264

اللغة

الميثاق اليمين المؤكدة لأنها يستوثق بها من الأمر و أصل النقيب في اللغة من النقب و هو الثقب الواسع و نقيب القوم كالكفيل و الضمين ينقب عن الأسرار و مكنون الإضمار و منه نقاب المرأة و منه المناقب الفضائل لأنها تظهر بالتنقيب عليها و النقب الطريق في الجبل و يقال نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا و صناعته النقابة و لقد نقب و كذلك عرف عليهم إذا صار عريفا و نكب عليهم ينكب نكابة إذا صار منكبا و هو عون العريف و النقاب الرجل العالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور و النقبة أول الجرب و جمعها النقب و النقب قال :
متبذلا تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب و أصل الباب كله معناه التأثير الذي له عمق و دخول فمن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره و من ذلك النقبة في الجرب لأنه داء شديد الدخول و النقبة السراويل التي لا رجلين لها قد بولغ في فتحها و إنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمور القوم و يعرف مناقبهم و هو الطريق إلى معرفة أمورهم قال أبو عبيدة التعزير التوقير و أنشد :
و كم من ماجد لهم كريم
و من ليث يعزر في الندي أي يعظم و العزر الرد و المنع في قول الفراء تقول عزرت فلانا إذا أدبته و فعلت به ما يردعه عن القبيح و منه التعزير في النصرة و التعظيم لأن ذلك يمنع صاحبه ممن أراده بسوء و الضلال الركوب على غير هدى و سواء كل شيء وسطه .

الإعراب

إنما قال « قرضا » و لم يقل إقراضا لأنه رده إلى قرض قرضا فإن في أقرضتم معنى القرض و هذا كقوله « و الله أنبتكم من الأرض نباتا » و لم يقل إنباتا و قال امرؤ القيس :
و رضت فذلت صعبة أي إذلال ) لأن في رضت معنى أذللت .

المعنى

لما بين سبحانه خيانة اليهود و همهم بقتله و أنه دفع عنه شرهم عقبه بذكر أحوال اليهود و خبث سرائرهم و قبح عادتهم في خيانة الرسل تسلية لنبيه فيما هموا به فقال
مجمع البيان ج : 3 ص : 265
« و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل » أي عهدهم المؤكد باليمين بإخلاص العبادة له و الإيمان برسله و ما يأتون به من الشرائع « و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا » أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر اثني عشر رجلا كالطلائع يتجسسون و يأتون بني إسرائيل بأخبار أرض الشام و أهلها الجبارين فاختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا أي أمينا كفيلا فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة بأسهم و عظم خلقهم إلا رجلين منهم كالب بن يوفنا و يوشع بن نون عن مجاهد و السدي و قيل معناه أخذنا من كل سبط منهم ضمينا بما عقدنا عليهم من الميثاق في أمر دينهم عن الحسن و الجبائي و قيل معناه اثني عشر رئيسا و قيل شهيدا على قومه عن قتادة و قال البلخي يجوز أن يكونوا رسلا و يجوز أن يكونوا قادة و قال أبو مسلم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين و يعلموا الأسباط التوراة و يأمروهم بما فرض الله عليهم و أمرهم به « و قال الله إني معكم » قيل أنه خطاب للنقباء عن الربيع و قيل خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ منهم الميثاق و يجوز أن يدخل فيهم النقباء عن أكثر المفسرين أي قال الله لهم فحذف لدلالة الكلام عليه إني معكم بالنصر و الحفظ أنصركم على عدوي و عدوكم الذين أمرتكم بقتلهم أن قاتلتموهم و وفيتم بعهدي و ميثاقي الذي أخذته عليكم ثم ابتدأ سبحانه فقال « لئن أقمتم الصلاة » يا معشر بني إسرائيل « و آتيتم الزكاة » أي أعطيتموها « و آمنتم برسلي » أي صدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني و قيل أنه خطاب للنقباء « و عزرتموهم » أي نصرتموهم عن الحسن و مجاهد و الزجاج و قيل عظمتموهم و وقرتموهم و أطعتموهم عن ابن زيد و أبي عبيدة « و أقرضتم الله قرضا حسنا » أي أنفقتم في سبيل الله و أعمال البر نفقة حسنة يجازيكم بها فكأنه قرض من هذا الوجه و قيل معنى قوله « حسنا » عفوا عن طيبة نفس و إن لا يتبعه من و لا أذى و قيل يعني حلالا « لأكفرن عنكم سيئاتكم » أي لأعطين على ما مضى من إجرامكم بعفوي و إسقاطي عنكم وبال ذلك « و لأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار » ظاهر المعنى « فمن كفر بعد ذلك منكم » أي بعد بعث النقباء و أخذ الميثاق « فقد ضل سواء السبيل » أي أخطأ قصد الطريق الواضح و زال عن منهاج الحق و في هذا دلالة و إشارة إلى أن الحق بين الغلو و التفريط كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) اليمين و الشمال مضلة و الطريق الوسطى هي الجادة إلى آخر كلامه .

مجمع البيان ج : 3 ص : 266
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعَنَّهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَةً يحَرِّفُونَ الْكلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَ نَسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزَالُ تَطلِعُ عَلى خَائنَة مِّنهُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنهُمْ فَاعْف عَنهُمْ وَ اصفَحْ إِنَّ اللَّهَ يحِب الْمُحْسِنِينَ(13)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي قسية بغير ألف و قرأ الباقون « قاسية » بالألف .

الحجة

حجة من قرأ قسية أن فعيلا قد يجيء بمعنى فاعل مثل شاهد و شهيد و عالم و عليم و عارف و عريف و من قرأ « قاسية » فلأنه الأعرف و الأكثر في مجرى العادة .

اللغة

القسوة خلاف اللين و الرقة و أنشد أبو عبيدة :
و قد قسوت و قسا لداتي ) أي فارقني لين الشباب و لدونته فالقاسي الشديد الصلابة قال أبو العباس الدرهم إنما يسمى قسيا إذا كان فاسدا زائفا لشدة صوته بالقسو الذي فيه قال أبو زبيد يصف وقع المساحي في الحجارة :
لها صواهل في ضم السلام كما
صاح القسيات في أيدي الصياريف قال أبو علي أحسب قسيا في الدراهم معربا و إذا كان معربا لم يكن من القسي العربي في شيء أ لا ترى قابوس و إبليس و جالوت و طالوت و نحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها عربي لا يكون مشتقة من باب القبس و الإبلاس يدلك على ذلك منعهم الصرف فيها و الخائنة الخيانة و فاعلة في أسماء المصادر كثير نحو عافاه الله عافية و أهلكوا بالطاغية و ليس لوقعتها كاذبة و يقال سمعت ثاغية الغنم و راغية الإبل و قد يقال رجل خائنة على المبالغة قال الشاعر :
حدثت نفسك بالوفاء و لم تكن
للغدر خائنة مغل الإصبع قوله مغل الإصبع بدل من خائنة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 267

الإعراب

ما في قولهم « فبما نقضهم » زائدة مؤكدة أي فبنقضهم ميثاقهم و مثله قول الشاعر :
لشيء ما يسود من يسود ) « يحرفون » في موضع نصب على الحال من قوله « فبما نقضهم ميثاقهم » أي محرفين الكلم و يجوز أن يكون كلاما مستأنفا و يكون التمام عند قوله « قاسية » و « قليلا منهم » نصب على الاستثناء من الهاء و الميم في قوله « على خائنة منهم » .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم » فيه تسلية للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يقول لا تعجبن يا محمد من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك و إلى أصحابك و ينكثوا العهد الذي بينك و بينهم و يغدروا بك فإن ذلك دأبهم و عادة أسلافهم الذين أخذت ميثاقهم على طاعتي في زمن موسى و بعثت منهم اثني عشر نقيبا فنقضوا ميثاقي و عهدي فلعنتهم بنقضهم ذلك العهد و الميثاق و في الكلام محذوف أكتفي بدلالة الظاهر عليه و تقديره فنقضوا ميثاقهم فلعناهم بنقضهم ذلك الميثاق و العهد المؤكد أي طردناهم و أبعدناهم من رحمتنا على وجه العقوبة عن عطاء و جماعة و قيل معناه مسخناهم قردة و خنازير عن الحسن و مقاتل و قيل عذبناهم بالجزية عن ابن عباس و كان نقضهم الميثاق من وجوه فمنها أنهم كذبوا الرسل و قتلوا الأنبياء و نبذوا الكتاب و ضيعوا حدوده و فرائضه عن قتادة و منها أنهم كتموا صفة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن ابن عباس « و جعلنا قلوبهم قاسية » أي يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق و لا تلين عن ابن عباس و معناه سلبناهم التوفيق و اللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون و هذا كما يقول الإنسان لغيره أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء و جعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها و قيل معناه بينا عن حال قلوبهم و ما هي عليها من القساوة و حكمنا بأنهم لا يؤمنون و لا تنجع فيهم موعظة عن الجبائي و قيل معنى قاسية رديئة فاسدة مثل الدراهم القسية إذا كانت زائفة و هذا راجع إلى معنى اليبس أيضا لأنها تكون يابسة الصوت لما فيها من الغش و الفساد و يقال للرحيم لين القلب و لغير الرحيم يابس القلب « يحرفون الكلم عن مواضعه » أي يفسرونه على غير ما أنزل و يغيرون صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيكون التحريف بأمرين ( أحدهما ) سوء التأويل ( و الآخر ) التغيير و التبديل كقوله تعالى « و يقولون هو من عند الله و ما هو من عند الله » « و نسوا حظا مما ذكروا به » و تركوا نصيبا مما وعظوا به و مما أمروا به في كتابهم من اتباع النبي فصار كالمنسي عندهم و لو آمنوا به و اتبعوه لكان ذلك لهم حظا و قيل معناه ضيعوا ما ذكرهم الله به في كتابه مما فيه رشدهم و تركوا تلاوته فنسوه على مر الأيام « و لا تزال تطلع على خائنة
مجمع البيان ج : 3 ص : 268
منهم » يعني على خيانة أي معصية عن ابن عباس و قيل كذب و زور و نقض عهد و مظاهرة للمشركين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و غير ذلك مما كان يظهر من اليهود من أنواع الخيانات و قيل أن معناه تطلع على فرقة خائنة أي جماعة خائنة منهم إذا قالوا قولا خالفوه و إذا عاهدوا عهدا نقضوه « إلا قليلا منهم » لم يخونوا « فاعف عنهم و اصفح » ما داموا على عهدك و لم يخونوك عنى بهم القليل الذي استثناهم عن أبي مسلم و قيل معناه فاعف عنهم إذا تابوا و بذلوا الجزية عن الحسن و جعفر بن مبشر و اختاره الطبري و قيل أنه منسوخ بقوله « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله » الآية عن قتادة و قيل منسوخ بقوله « و أما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » عن الجبائي « إن الله يحب المحسنين » ظاهر المعنى .
وَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصرَى أَخَذْنَا مِيثَقَهُمْ فَنَسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَ سوْف يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كانُوا يَصنَعُونَ(14)

اللغة

معنى الإغراء تسليط بعضهم على بعض و قيل معناه التحريش و أصله اللصوق و يقال غريت بالرجل غرى إذا لصقت به عن الأصمعي و قال غيره غريت به غراء ممدود و أغريت زيدا بكذا حتى غري به و منه الغراء الذي تلصق به الأشياء .

المعنى

ثم بين سبحانه حال النصارى في نقضهم ميثاق عيسى (عليه السلام) كما بين حال اليهود في نقضهم ميثاق موسى (عليه السلام) فقال « و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم » أي و من الذين ذكروا أنهم نصارى أخذنا الميثاق بالتوحيد و الإقرار بنبوة المسيح و جميع أنبياء الله و أنهم كانوا عبيد الله فنقضوا هذا الميثاق و أعرضوا عنه و هذا إشارة إلى أنهم ابتدعوا النصرانية التي هم عليها اليوم و تسموا بها و لهذا لم يقل من النصارى إلا أنه سبحانه أطلق هذا الاسم في مواضع عليهم لأنه صار سمة لهم و علامة عن الحسن « فنسوا حظا مما ذكروا به » مر بيانه « فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء » اختلف فيه فقيل المراد بين اليهود و النصارى عن الحسن و جماعة من المفسرين و قيل المراد بين أصناف النصارى خاصة من اليعقوبية و الملكائية و النسطورية من الخلاف و العداوة عن الربيع و اختاره الزجاج و الطبري و إنما أغرى بينهم العداوة بالأهواء المختلفة في الدين و ذلك أن النسطورية قالت أن عيسى
مجمع البيان ج : 3 ص : 269
ابن الله و اليعقوبية قالت أن الله هو المسيح ابن مريم و الملكائية و هم الروم قالوا أن الله ثالث ثلاثة الله و عيسى و مريم و قيل يأمر بعضهم أن يعادي بعضا عن الجبائي فكأنه يذهب إلى الأمر بمعاداة الكفار و إن هؤلاء يكفر بعضهم بعضا و قوله « إلى يوم القيامة » عنى به أن المعاداة تبقى بينهم إلى يوم القيامة أما بين اليهود و النصارى و أما بين فرق النصارى و قيل الوجه في قوله تعالى « فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء » أنه أخبر أنهم اختلفوا فيما بينهم و كلهم على خطإ و ضلال و قد جعل الله سبحانه على كل مقالة من مقالاتهم التي أخطأوا فيها دلائل عرف بها بعضهم خطأ بعض فتعادوا على ذلك و تباغضوا و لم تعرف كل فرقة منهم خطأ أنفسهم فلما لم يصل كل منهم إلى المعرفة بخطإ صاحبه إلا من جهة كتاب الله و دلائله و التعادي بينهم كان من أجل ذلك جاز أن يقول « فأغرينا بينهم » على هذا الوجه عن جعفر بن حرث و قيل الوجه في ذلك أنا أخطرنا على بال كل منهم ما يوجب الوحشة و النفرة عن صاحبه و ما يهيج العصبية و العداوة عقوبة لهم على تركهم الميثاق « و سوف ينبئهم الله » عند المحاسبة « بما كانوا يصنعون » في الدنيا من نقض الميثاق و يعاقبهم على ذلك بحسب استحقاقهم فكأنه لما قال سبحانه « فاعف عنهم و اصفح » بين بعد ذلك أنه من وراء الانتقام منهم و أنه سيجازيهم على صنيعهم و قبيح فعلهم .
يَأَهْلَ الْكتَبِ قَدْ جَاءَكمْ رَسولُنَا يُبَينُ لَكُمْ كثِيراً مِّمَّا كنتُمْ تخْفُونَ مِنَ الْكتَبِ وَ يَعْفُوا عَن كثِير قَدْ جَاءَكم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كتَبٌ مُّبِينٌ(15) يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوَنَهُ سبُلَ السلَمِ وَ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلُمَتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صرَط مُّستَقِيم(16)

اللغة

الرضوان و الرضا من الله ضد السخط و هو إرادة الثواب بمستحقه و قال قوم هو المدح على الطاعة و الثناء و قال علي بن عيسى هو جنس من الفعل يقتضي وقوع الطاعة الخالصة مما يبطلها و يضاد الغضب قال لأن الرضا بما مضى يصح و إرادة ما مضى لا يصح إذ قد يصح أن يرضى بما كان و لا يصح أن يريد ما كان و هذا الذي ذكره غير صحيح لأن الرضا عبارة عن إرادة
مجمع البيان ج : 3 ص : 270
حدوث الشيء من الغير غير أنها لا تسمى بذلك إلا إذا وقع مرادها و لم يتخللها كراهية فتقف تسميتها بالرضا على وقوع المراد إلا أن بعد وقوع المراد بفعل إرادة يسمى رضاء بما كان فسقط ما قاله .

المعنى

لما ذكر سبحانه أن اليهود و النصارى نقضوا العهد و تركوا ما أمروا به عقب ذلك بدعائهم إلى الإيمان بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و ذكرهم ما أتاهم به من أسرار كتبهم حجة عليهم فقال « يا أهل الكتاب » يخاطب اليهود و النصارى « قد جاءكم رسولنا » محمد « يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب » يعني ما بينه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من رجم الزانين و أشياء كانوا يحرفونها من كتابهم بسوء التأويل و إنما لم يقل يا أهل الكتابين لأن الكتاب اسم جنس و فيه معنى العهد فسلك طريقة الإيجاز في اللفظ من حيث كانوا كأنهم أهل كتاب واحد « و يعفوا عن كثير » معناه يترك كثيرا لا يذكره و لا يؤاخذكم به لأنه لم يأمر به عن أبي علي الجبائي و قيل معناه يصفح عن كثير منهم بالتوبة عن الحسن و الوجه في تبيين بعضه و ترك بعضه أنه يبين ما فيه دلالة على نبوته من صفاته و نعته و البشارة به و ما يحتاج إلى علمه من غير ذلك مما يتفق له الأسباب التي يحتاج معها إلى استعلامه كما اتفق ذلك في الرجم و ما عدا هذين مما ليس في تفصيله فائدة كفى ذكره في الجملة « قد جاءكم من الله نور » يعني بالنور محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه يهتدي به الخلق كما يهتدون بالنور عن قتادة و اختاره الزجاج و قيل عنى به القرآن لأنه يبين الحق من الباطل عن أبي علي الجبائي و الأول أولى لقوله « و كتاب مبين » فيكون اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين « يهدي به الله » أي الكتاب المبين و هو القرآن و قيل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « من اتبع رضوانه » أي من اتبع رضاء الله في قبول القرآن و الإيمان و تصديق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و اتباع الشرائع « سبل السلام » قيل السلام هو الله تعالى عن الحسن و السدي و معناه سبل الله و هو شرائعه التي شرعها لعباده و هو الإسلام و قيل إنه السلامة من كل مخافة و مضرة إلا ما لا يعتد به لأنه يؤول إلى النفع في العاقبة عن الزجاج أي يهدي إلى طرق السلامة من اتبع ما فيه رضاء الله فالسلام و السلامة كالضلال و الضلالة و المراد بقوله « يهدي » أنه يفعل اللطف المؤدي إلى سلوك طريق الحق « و يخرجهم من الظلمات إلى النور » لأن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام و يهتدي بالإيمان إلى النجاة كما يهتدي بالنور « بإذنه » أي
مجمع البيان ج : 3 ص : 271
بلطفه « و يهديهم إلى صراط مستقيم » أي و يرشدهم إلى طريق الحق و هو دين الإسلام عن الحسن و قيل إلى طريق الجنة عن أبي علي الجبائي .
لَّقَدْ كفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِك مِنَ اللَّهِ شيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِك الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَن فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ للَّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(17) وَ قَالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصرَى نحْنُ أَبْنَؤُا اللَّهِ وَ أَحِبَّؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ للَّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)

اللغة

الأحباء جمع الحبيب و الحب المحبة و قد يكون بمعنى الإرادة و قد يكون بمعنى الشهوة و قد يستعمل في كل واحد منهما يقال أحب استقامة أمورك و أحب جاريتي .

الإعراب

اللام في قوله « لقد كفر » جواب القسم و تقديره أقسم لقد كفر الذين قالوا و إنما قال « و ما بينهما » و لم يقل و ما بينهن مع أنه ذكر السماوات على الجمع لأنه أراد به النوعين أو الصنفين كما قال الشاعر :
طرقا فتلك هماهمي أقريهما
قلصا لواقح كالقسي و حولا فقال و طرقا ثم قال فتلك هماهمي .

مجمع البيان ج : 3 ص : 272

المعنى

ثم حكى سبحانه عن النصارى ما قالوا في المسيح « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم » كفرهم الله سبحانه بهذا القول لأنهم قالوه على وجه التدين به و الاعتقاد لا على وجه الإنكار و إنما كفروا بذلك لوجهين ( أحدهما ) أنهم كفروا بالنعمة من حيث أضافوها إلى غير الله ممن ادعوا إلهيته ( و الآخر ) أنهم كفروا بأنهم وصفوا المسيح و هو محدث بصفات الله سبحانه فقالوا هو إله و كل جاهل بالله كافر لأنه لما ضيع نعمة الله تعالى كان بمنزلة من أضافها إلى غيره « قل » يا محمد « فمن يملك من الله شيئا » أي من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا من قولهم ملكت على فلان أمره إذا اقتدرت عليه حتى لا يمكنه إنفاذ شيء من أمره إلا بك و تقديره من يملك من أمر الله شيئا « إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم و أمه و من في الأرض جميعا » عنى بذلك أنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد هلاكه و إهلاك غيره و ليس بقادر عليه لاستحالة القدرة على مغالبة القديم أي فكيف يجوز اعتقاد الربوبية فيه مع أنه مسخر مربوب مقهور و قيل معناه أن من قدر على هذا لم يجز أن يكون معه إله و لا أن يشبهه شيء « و لله ملك السماوات و الأرض و ما بينهما » و من كان بهذه الصفة فلا ثاني له و ذلك يدلك على أن المسيح ملك له و إذا كان ملكا له لم يكن إلها و لا ابنا له لأن المملوك لا يجوز أن يكون مالكا فكيف يكون إلها و قوله « يخلق ما يشاء » أي يخلق ما يشاء أن يخلقه فإن شاء خلق من ذكر و أنثى و إن شاء خلق من أنثى غير ذكر فدل بها على أنه ليس في كون المسيح من أنثى بغير ذكر دلالة على كونه إلها و قوله « و الله على كل شيء قدير » أي يقدر على كل شيء يريد أن يخلقه و في هذه الآية رد على النصارى القائلين بأن الله جل جلاله اتحد بالمسيح فصار الناسوت لاهوتا يجب أن يعبد و يتخذ إلها فاحتج عليهم بأن من جاز عليه الهلاك لا يجوز أن يكون إلها و كذلك من كان مولودا مربوبا لا يكون ربا ثم حكى عن الفريقين من أهل الكتاب فقال « و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه » قيل إن اليهود قالوا نحن في القرب من الله بمنزلة الابن من أبيه و النصارى لما قالوا للمسيح ابن الله جعلوا نفوسهم أبناء الله و أحباؤه لأنهم تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح أذهب إلى أبي و أبيكم عن الحسن و قيل إن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و زيد بن التابوه و غيرهم قالوا لنبي الله حين حذرهم بنقمات الله و عقوباته لا تخوفنا فإنا أبناء الله و أحباؤه فإن غضب علينا فإنما يغضب كغضب الرجل على ولده يعني أنه يزول عن
مجمع البيان ج : 3 ص : 273
قريب عن ابن عباس و قيل إنه لما قال قوم إن المسيح ابن الله أجري ذلك على جميعهم كما تقول العرب هذيل شعراء أي فيهم شعراء ، و كما قالوا في رهط مسيلمة قالوا نحن أنبياء أي قال قائلهم و كما قال جرير :
ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا ) فقال ندسنا و إنما كان النادس رجل من قوم جرير ثم قال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قل » لهؤلاء المفترين على ربهم « فلم يعذبكم بذنوبكم » أي فلأي شيء يعذبكم بذنوبكم إن كان الأمر على ما زعمتم فإن الأب يشفق على ولده و الحبيب على حبيبه فلا يعذبه و هم يقرون بأنهم يعذبون لو لم يقولوا به كذبوا بكتابهم و قد أقرت اليهود بأنهم يعذبون أربعين يوما عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل و قيل إن معناه الماضي و إن كان لفظه المستقبل أي فلم عذبكم الله و قد أقررتم بأنه عذبكم عند عبادتكم العجل و عذبكم بأن جعل منكم القردة و الخنازير و خلى بينكم و بين بخت نصر حتى فعل بكم ما فعل و الحبيب لا يعذب حبيبه فلو كنتم أحباءه لما عذبكم « بل أنتم بشر ممن خلق » أي ليس الأمر على ما قلتم إنكم أبناء الله و أحباؤه بل أنتم خلق من بني آدم إن أحسنتم جوزيتم على إحسانكم و إن أسأتم جوزيتم على إساءتكم كما يجازى غيركم و ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه « يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء » و إنما علق العذاب بالمشيئة مع أنه سبحانه لا يشاء العقوبة إلا لمن كان عاصيا لما في ذلك من البلاغة و الإيجاز برد الأمور إلى العالم الحكيم الذي يجريها على وجه الحكمة « و لله ملك السماوات و الأرض » يملك ذلك وحده لا شريك له يعارضه « و ما بينهما » أي ما بين الصنفين و دل بذلك على أنه لا ولد له لأن الولد يكون من جنس الوالد فلا يكون مملوكا له « و إليه المصير » معناه و يؤول إليه أمر العباد فلا يملك ضرهم و نفعهم غيره لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم كما يقال صار أمرنا إلى القاضي و إنما يراد بذلك أنه المتصرف فينا و الأمر لنا لا على معنى قرب المكان .
يَأَهْلَ الْكِتَبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسولُنَا يُبَينُ لَكُمْ عَلى فَتْرَة مِّنَ الرُّسلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِير وَ لا نَذِير فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(19)

مجمع البيان ج : 3 ص : 274

اللغة

الفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن فيه و فترته عنه و الفترة انقطاع ما بين النبيين عند جميع المفسرين و الأصل فيها الانقطاع عما كان الأمر عليه من الجد في العمل و فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة و امرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر .

الإعراب

موضع « أن تقولوا » نصب عند البصريين و تقديره كراهة أن تقولوا فحذف المضاف الذي هو مفعول له و أقيم المضاف إليه مقامه و قال الكسائي و الفراء تقديره لئلا تقولوا و من في قوله « من بشير » مزيدة و فائدتها نفي الجنس و موضع الجار و المجرور رفع تقديره ما جاءنا بشير و لا نذير .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلى خطاب أهل الكتاب و حجاجهم و استعطافهم و إلزامهم الحجة برسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « يبين لكم » أي يوضح لكم أعلام الدين و فيه دلالة على أنه سبحانه اختصه من العلم بما ليس مع غيره « على فترة من الرسل » أي على انقطاع من الرسل و دروس من الدين و الكتب و فيه دلالة على أن زمان الفترة لم يكن فيه نبي و كان الفترة بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كانت النبوة متصلة قبل ذلك في بني إسرائيل و روي عن ابن عباس أنه لم يكن بينهما إلا أربعة من الرسل و اختلفوا في مدة الفترة بينهما فقيل ستمائة سنة عن الحسن و قتادة و قيل خمسمائة سنة و ستون عن قتادة في رواية أخرى و قيل أربعمائة و بضع و ستون سنة عن الضحاك و قيل خمسمائة و شيء عن ابن عباس و قيل كان بين ميلاد عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) خمسمائة و تسع و ستون سنة و كان بعد عيسى أربعة من الرسل و هو قوله تعالى « إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث » و لا أدري من الرابع فكان من تلك المدة مائة و أربع و ثلاثون سنة نبوة و سائرها فترة عن الكلبي « أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير » معناه قد جاءكم رسولنا كراهة أن تقولوا أو لأن لا تقولوا محتجين يوم القيامة ما جاءنا بشير بالثواب على الطاعة و لا نذير بالعقاب على المعصية ثم بين سبحانه أنه قد قطع عنهم عذرهم و أزاح عليهم بإرسال رسوله فقال « فقد جاءكم بشير و نذير » و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) يبشر كل مطيع بالثواب و يخوف كل عاص بالعقاب « و الله على كل شيء قدير » ظاهر المعنى و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأن الحجة بمنع القدرة أوكد من الحجة بمنع اللطف و تكون الحجة في ذلك لمن يعلم الله تعالى أن بعثة الأنبياء مصلحة لهم فإذا لم تبعث تكون لهم الحجة فأما من لا يعلم ذلك منهم
مجمع البيان ج : 3 ص : 275
فلا حجة لهم و إن تبعث إليهم الرسل .
وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَ جَعَلَكُم مُّلُوكاً وَ ءَاتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَلَمِينَ(20) يَقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْض الْمُقَدَّسةَ الَّتى كَتَب اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبَارِكمْ فَتَنقَلِبُوا خَسِرِينَ(21)

اللغة

أصل التقديس التطهير و منه قيل للسطل الذي يتطهر به القدس و منه تسبيح الله و تقديسه و هو تنزيهه عما لا يجوز عليه من الصاحبة و الولد و فعل الظلم و الكذب .

الإعراب

« أنبياء » لا ينصرف معرفة و لا نكرة لعلامة التأنيث و لزومها بخلاف علامة التأنيث في حمزة و قائمة فإنها لا تلزم فلذلك انصرف في النكرة و قوله « خاسرين » منصوب على الحال من الواو في « فتنقلبوا » .

المعنى

ثم ذكر سبحانه صنع اليهود في المخالفة لنبيهم تسلية لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و مخالفتهم إياه فقال « و إذ قال موسى لقومه » أي و اذكر يا محمد إذ قال موسى لهم « يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم » و أياديه لديكم و آلاءه فيكم « إذ جعل فيكم أنبياء » يخبرونكم بانباء الغيب و تنصرون بهم على الأعداء و يبينون لكم الشرائع و قيل هم الأنبياء الذين كانوا بعد موسى مقيمين فيهم إلى زمن عيسى يبينون لهم أمر دينهم « و جعلكم ملوكا » بأن سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم عن قتادة و قيل إنما خاطبهم موسى بذلك لأنهم كانوا يملكون الدور و الخدم و لهم نساء و أزواج و كل من ملك ذلك و لا يدخل عليه إلا بأمره فهو ملك كائنا من كان عن عبد الله بن عمر و ابن العاص و زيد بن أسلم و الحسن و يؤيد ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه و عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا
مجمع البيان ج : 3 ص : 276
بحذافيرها و قيل الملك هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال و تحمل المشاق و التسكع في المعاش عن أبي علي الجبائي و قيل إنهم جعلوا ملوكا بالمن و السلوى و الحجر و الغمام عن ابن عباس و مجاهد و قيل لا يمتنع أن يكون الله سبحانه جعل لهم الملك و السلطان و وسع عليهم التوسعة التي يكون بها الإنسان ملكا عن أبي القاسم البلخي « و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » أي أعطاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم عن الحسن و البلخي و قيل معناه أعطاكم من اجتماع هذه الأمور و كثرة الأنبياء (عليهم السلام) و الآيات التي جاءتهم و إنزال المن و السلوى عليهم عن الزجاج و الجبائي و اختلفوا في المخاطب بقوله « و آتاكم » فقيل هم قوم موسى (عليه السلام) عن ابن عباس و مجاهد و غيره و هو الأظهر و قيل هم أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن سعيد بن جبير و أبي مالك ثم كلفهم سبحانه دخول الأرض المقدسة بعد ذكر النعم فقال « يا قوم » حكاية عن خطاب موسى (عليه السلام) لقومه « ادخلوا الأرض المقدسة » و هي بيت المقدس عن ابن عباس و السدي و ابن زيد و قيل هي دمشق و فلسطين و بعض الأردن عن الزجاج و الفراء و قيل هي الشام عن قتادة و قيل هي أرض الطور و ما حوله عن مجاهد و المقدسة المطهرة طهرت من الشرك و جعلت مكانا و قرارا للأنبياء و المؤمنين « التي كتب الله لكم » أي كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم و قيل معناه وهب الله لكم عن ابن عباس و قيل معناه أمركم الله بدخولها عن قتادة و السدي فإن اعترض معترض فقال كيف كتب الله لهم مع قوله فإنها محرمة عليهم فجوابه أنها كانت هبة من الله لهم ثم حرمها عليهم عن ابن إسحاق و قيل إن المراد به الخصوص و إن كان الكلام على العموم فصار كأنه مكتوب لبعضهم و حرام على البعض و الذين كتب الله لهم دخولها هم الذين كانوا مع يوشع بن نون بعد موت موسى (عليه السلام) بشهرين « و لا ترتدوا على أدباركم » أي لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها عن أكثر المفسرين و قيل لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته عن الجبائي « فتنقلبوا خاسرين » الثواب في الآخرة و إنما قال ذلك لأنهم كانوا أمروا بدخولها كما أمروا بالصلاة و غيرها عن قتادة و السدي و قيل إنهم لم يؤمروا بذلك فيكون المراد فتنقلبوا خاسرين حظكم في دخولها كما يقال خسر في البيع فلان .

القصة

قال المفسرون لما عبر موسى و بنو إسرائيل البحر و هلك فرعون أمرهم الله سبحانه بدخول الأرض المقدسة فلما نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول فبعث موسى من كل سبط رجلا و هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله « و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا » فعاينوا من عظم شأنهم و قوتهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى (عليه السلام) )
مجمع البيان ج : 3 ص : 277
بذلك فأمرهم أن يكتموا ذلك فوفى اثنان منهم يوشع بن نون من سبط بن يامين و قيل أنه كان من سبط يوسف و كالب بن يوفنا من سبط يهوذا و عصى العشرة و أخبروا بذلك و قيل كتم الخمسة منهم و أظهر الباقون و فشا الخبر في الناس فقالوا إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا و أهالينا غنيمة لهم و هموا بالانصراف إلى مصر و هموا بيوشع و كالب و أرادوا أن يرجموهما بالحجارة فاغتاظ لذلك موسى و قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فأوحى الله إليه أنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة و إنما يخرج منهم من لم يعص الله في ذلك فبقوا في التيه أربعين سنة في ستة عشر فرسخا و قيل تسعة فراسخ و قيل ستة و هم ستمائة ألف مقاتل لا تتخرق ثيابهم و تثبت معهم و ينزل عليهم المن و السلوى و مات النقباء غير يوشع بن نون و كالب و مات أكثرهم و نشأ ذراريهم فخرجوا إلى حرب أريحا و فتحوها و اختلفوا فيمن فتحها فقيل فتحها موسى و يوشع على مقدمته و قيل فتحها يوشع بعد موت موسى (عليه السلام) و كان قد توفي موسى و بعثه الله نبيا و روي أنهم كانوا في المحاربة إذ غابت الشمس فدعا يوشع فرد الله تعالى عليهم الشمس حتى فتحوا أريحا و قيل كانت وفاة موسى و هارون (عليهماالسلام) في التيه و توفي هارون قبل موسى بسنة و كان عمر موسى (عليه السلام) مائة و عشرين سنة في ملك أفريدون و منوجهر و كان عمر يوشع مائة و ستة و عشرين سنة و بقي بعد وفاته مدبرا لأمر بني إسرائيل سبعا و عشرين سنة .
قَالُوا يَمُوسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتى يخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يخْرُجُوا مِنهَا فَإِنَّا دَخِلُونَ(22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيهِمُ الْبَاب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَلِبُونَ وَ عَلى اللَّهِ فَتَوَكلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(23) قَالُوا يَمُوسى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَب أَنت وَ رَبُّك فَقَتِلا إِنَّا هَهُنَا قَعِدُونَ(24)
بصري ثلاث عند الباقين عد بصري « غالبون » و قوله « جبارين » مما يشكل و لا يعده الجميع .

مجمع البيان ج : 3 ص : 278

اللغة

الجبار هو الذي لا ينال بالقهر و أصله في النخل و هو ما فأت اليد طولا و الجبار من الناس هو الذي يجبرهم على ما يريد و الجبر جبر العظم و هو كالإكراه على الصلاح و قال العجاج :
قد جبر الدين الإله فجبر
و عور الرحمن من ولى العور و الجبار في صفة الله تعالى صفة تعظيم لأنه يفيد الاقتدار و هو سبحانه لم يزل جبارا بمعنى أن ذاته تدعو العارف بها إلى تعظيمها و الفرق بين الجبار و القهار أن القهار هو الغالب لمن ناواه أو كان في حكم المناوي بمعصيته إياه و لا يوصف سبحانه فيما لم يزل بأنه قهار و الجبار في صفة المخلوقين صفة ذم لأنه يتعظم بما ليس له فإن العظمة لله سبحانه .

الإعراب

« فاذهب أنت و ربك » إنما أتى بالضمير المرفوع المنفصل تأكيدا للضمير المستكن في اذهب ليصح العطف عليه فإنه يقبح العطف بالاسم الظاهر على الضمير المستكن و المتصل من غير أن يؤكد لأنه يصير كأنه معطوف على الفعل إذا عطف علي ما هو متصل بالفعل غير مفارق له و لا يجوز أن يقال أنه أبرز الضمير فإن الضمير إذا أبرز يصير الفعل خاليا منه و قوله « اذهب » غير فارغ من الضمير و إنما حسن العطف على الضمير المتصل في قوله « فاجمعوا أمركم و شركاءكم » لأن ذكر المفعول صار عوضا من الضمير المنفصل كما كان لا في قوله لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا عوضا منه .

المعنى

ثم ذكر جواب القوم فقال سبحانه « قالوا » يعني بني إسرائيل « يا موسى إن فيها » أي في الأرض المقدسة « قوما » أي جماعة « جبارين » شديدي البطش و البأس و الخلق قال ابن عباس بلغ من جبرية هؤلاء القوم أنه لما بعث موسى (عليه السلام) من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم رآهم رجل من الجبارين يقال له عوج فأخذهم في كمه مع فاكهة كان يحملها من بستانه و أتى بهم الملك فنثرهم بين يديه و قال للملك تعجبا منهم هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا قال مجاهد و كان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال بالخشب و يدخل في قشر نصف رمانة خمسة رجال
مجمع البيان ج : 3 ص : 279
و أن موسى (عليه السلام) كان طوله عشرة أذرع و له عصا طولها عشرة أذرع و نزا من الأرض مثل ذلك فبلغ كعب عوج بن عنق فقتله و قيل كان طول سريره ثمانمائة ذراع « و إنا لن ندخلها » يعني لقتالهم « حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا » يعني الجبارين « منها فإنا داخلون » « قال رجلان » من جملة النقباء الذين بعثهم موسى ليعرف خبر القوم و قيل هما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قتادة و الربيع و قيل رجلان كانا من مدينة الجبارين و كانا على دين موسى لما بلغهما خبر موسى جاءاه فاتبعاه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس « من الذين يخافون » الله تعالى « أنعم الله عليهما » بالإسلام عن قتادة و الحسن و قيل يخافون الجبارين أي لم يمنعهم الخوف من الجبارين أن قالوا الحق أنعم الله عليهما بالتوفيق للطاعة عن الجبائي و كان سعيد بن جبير يقرأ يخافون بضم الياء و روي تأويل ذلك عن ابن عباس أنهما كانا من الجبارين أنعم الله عليهما بالإسلام « ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون » أخبر عن الرجلين أنهما قالا ادخلوا يا بني إسرائيل على الجبارين باب مدينتهم و إنما علما أنهم يظفرون بهم و يغلبونهم إذا دخلوا باب مدينتهم لما أخبر به موسى (عليه السلام) من وعد الله تعالى بالنصرة و قيل لما رأوه من إلقاء الله الرعب في قلوب الجبارين فعلما أنهم إن دخلوا الباب غلبوا « و على الله فتوكلوا » في نصرة الله على الجبارين « إن كنتم مؤمنين » بالله و بما آتاكم به رسوله من عنده ثم أخبر عن قوم موسى بأنهم « قالوا يا موسى إنا لن ندخلها » أي هذه المدينة « أبدا ما داموا » أي ما دام الجبارون « فيها » و إنما قالوا ذلك لأنهم جبنوا و خافوا من قتالهم لعظم أجسامهم و شدة بطشهم و لم يثقوا بوعد الله سبحانه بالنصرة لهم عليهم « فاذهب » يا موسى « أنت و ربك فقاتلا » الجبارين « إنا هاهنا قاعدون » إلى أن تظفر بهم و ترجع إلينا فحينئذ ندخل و إنما لم ينكر موسى عليهم قولهم « اذهب أنت و ربك » لأمرين ( أحدهما ) أن الكلام كله يدل على الإنكار عليهم و التعجب من جهلهم في تلقيهم أمر ربهم بالرد له و المخالفة عليه ( و الآخر ) أنهم إنما قالوا ذلك مجازا بمعنى و ربك معين لك على ما قاله أبو القاسم البلخي و الأول أليق بجهل أولئك القوم قال الحسن هذا القول منهم يدل على أنهم كانوا مشبهة و لذلك عبدوا العجل و لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما عبدوا العجل و قال الجبائي إن كانوا قالوا ذلك على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فإنه كفر و إن قالوا على وجه الخلاف فإنه فسق و أما قوله سبحانه قاتلهم الله أنى يؤفكون
مجمع البيان ج : 3 ص : 280
فإنه مجاز و المعنى أنه يعاديهم عداوة المقاتل و يحل بهم ما يحله المقاتل المستعلي بالاقتدار و عظم السلطان بمن يقاتله .
قَالَ رَب إِنى لا أَمْلِك إِلا نَفْسى وَ أَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَ بَينَ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ(25) قَالَ فَإِنَّهَا محَرَّمَةٌ عَلَيهِمْ أَرْبَعِينَ سنَةً يَتِيهُونَ فى الأَرْضِ فَلا تَأْس عَلى الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ(26)

اللغة

أصل التيه التحير الذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق إلى الغرض المقصود يقال تاه يتيه تيها و تيوها إذا تحير و تيهته و توهته و الياء أكثر و التيهاء من الأرض و هي التي لا يهتدى فيها و أرض تيهاء و الأسى الحزن يقال أسي يأسى أسا إذا حزن قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى و تجمل .

الإعراب

أخي يجوز أن يكون في موضع رفع و يجوز أن يكون في موضع نصب و رفعه من وجهين ( أحدهما ) أن يكون عطفا على موضع إني و مثله أن الله بريء من المشركين و رسوله ( و الآخر ) أن يكون معطوفا على ما في أملك أي لا أملك أنا و أخي إلا أنفسنا و نصبه أيضا من وجهين ( أحدهما ) أن يكون عطفا على الياء في إني أي إني و أخي لا نملك إلا أنفسنا ( و الآخر ) أن يكون عطفا على نفسي أي لا أملك إلا نفسي و لا أملك إلا أخي و أربعين نصب على الظرف و العامل فيه قوله « يتيهون » و قيل هو منصوب بقوله « محرمة » قال الزجاج هذا خطأ لأنه جاء في التفسير أنها محرمة عليهم أبدا .

المعنى

ثم ذكر سبحانه دعاء موسى على قومه عند مخالفتهم إياه فقال تعالى « قال » أي قال موسى (عليه السلام) إذ غضب على قومه « رب إني لا أملك إلا نفسي » أي لا أملك إلا تصريف نفسي في طاعتك لأنها التي تجيبني إذا دعوت « و أخي » أي و أخي كذلك لا يملك إلا نفسه أو يكون معناه و لا أملك أيضا إلا أخي لأنه يجيبني إذا دعوت « فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين » أي فافصل بيننا و بينهم بحكمك و سماهم فساقا و إن كانوا قد كفروا بالرد على نبيهم لخروجهم من الإيمان إلى الكفر و الفسق و الخروج من الطاعة إلى المعصية و الكفر من أعظم المعاصي قال الله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه و قيل
مجمع البيان ج : 3 ص : 281
في سؤال موسى الفرق بينه و بينهم قولان ( أحدهما ) أنه سأل تعالى أن يحكم و يقضي بما يدل على بعدهم عن الحق و الصواب فيما ارتكبوا من العصيان و لذلك ألقوا في التيه عن ابن عباس و الضحاك ( و الآخر ) أنه سأله أن يفرق بينه و بينهم في الآخرة بأن يكون هؤلاء في النار و يكون هو في الجنة و لو دعا عليهم بالهلاك لأهلكوا عن الجبائي « قال » أي قال الله سبحانه لموسى (عليه السلام) « فإنها محرمة عليهم » أي إن الأرض المقدسة حرمت عليهم و في كيفية التحريم قولان ( أحدهما ) أنه تحريم منع كقول امرىء القيس :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
إني امرؤ صرعي عليك حرام يعني دابته التي هو راكبها و يريد بذلك أني فارس لا تملكين أن تصرعيني و قيل يجوز أن يكون تحريم تعبد عن أبي علي الجبائي و الأول أظهر و قال البلخي يجوز أن يكونوا أمروا بأن يطوفوا فيه « أربعين سنة يتيهون في الأرض » يعني يتحيرون في المسافة التي بينهم و بينها لا يهتدون إلى الخروج منها و كان مقداره ستة فراسخ عن الربيع كانوا يصبحون حيث أمسوا و يمسون حيث أصبحوا عن الحسن و مجاهد و قال أكثر المفسرين إن موسى و هارون كانا معهم في التيه و قيل أيضا إنهما لم يكونا في التيه لأن التيه عذاب و عذبوا عن كل يوم عبدوا فيه العجل سنة و الأنبياء لا يعذبون قال الزجاج إن كانا في التيه فجائز أن يكون الله تعالى سهل عليهما ذلك كما سهل على إبراهيم النار فجعلها عليه بردا و سلاما و شأنها الإحراق و مات موسى (عليه السلام) في التيه و فتح المدينة يوشع وصي موسى بعده و كان يوشع ابن أخت موسى و وصيه و النبي في قومه بعده عن ابن عباس و قيل لم يمت في التيه عن الحسن و مجاهد قالا و فتح المدينة موسى و متى سئل فقيل كيف يجوز على عقلاء كثيرين أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن يكون ذلك بأن تحول الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردوا إلى المكان الذي ابتدأوا منه عن أبي علي ( و الآخر ) أن يكون ذلك بالأسباب المانعة من الخروج عنها إما بأن تمحى العلامات التي يستدل بها أو بأن يلقى شبه بعضها على بعض و يكون ذلك معجزا خارقا للعادة و قال قتادة لم يدخل بلد الجبارين أحد من القوم إلا يوشع بن نون و كالب بن يوفنا بعد موت موسى بشهرين و إنما دخلها أولادهم معهما « فلا تأس على القوم الفاسقين » خطاب لموسى (عليه السلام) أمره الله تعالى أن لا يحزن على إهلاكهم لفسقهم و قال الزجاج هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) .

مجمع البيان ج : 3 ص : 282
* وَ اتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنىْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّك قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)

اللغة

القربان ما يقصد به القرب من رحمة الله من أعمال البر و هو على وزن فعلان من القرب كالفرقان من الفرق و الشكران و الكفران من الشكر و الكفر و قرابين الملك و جلساؤه لقربهم إليه .

الإعراب

« إذ قربا » متعلق بقوله « نبأ » و التقدير خبر ابني آدم و ما جرى منهما حين قربا قربانا أي قرب كل واحد منهما قربانا فجمعهما في الفعل و أفرد الاسم لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد منهما قربانا و قيل إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد و المتعدد على أنه مصدر من قرب الرجل قربانا .

المعنى

« و اتل » أي و اقرأ « عليهم » يا محمد « نبأ ابني آدم » أي خبرهما « بالحق » أي بالصدق و أجمعوا على أنهما كانا ابني آدم لصلبه إلا الحسن فإنه قال كانا رجلين من بني إسرائيل « إذ قربا قربانا » أي فعلا فعلا يتقرب به إلى الله تعالى « فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر » تقبل الطاعة إيجاب الثواب عليها قالوا و كانت علامة القبول في ذلك الزمان نارا تأتي فتأكل المتقبل و لا تأكل المردود و قيل كانت النار تأكل المردود عن مجاهد و الأول أظهر « قال لأقتلنك » في الكلام حذف التقدير قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه لأقتلنك فقال له لم تقتلني « قال » أنه تقبل قربانك و لم يتقبل قرباني قال له و ما ذنبي « إنما يتقبل الله من المتقين » للمعاصي فأطلق للعلم بأن المراد أنها أحق ما يجب أن يخاف منه قال ابن عباس أراد إنما يتقبل الله ممن كان زاكي القلب و رد عليك لأنك لست بزاكي القلب و استدل بهذا على أن طاعة الفاسق غير مقبولة لكنها تسقط عقاب تركها و هذا لا يصح لأن المعنى أن الثواب إنما يستحقه من يوقع الطاعة لكونها طاعة فأما إذا فعلها لغير ذلك فلا يستحق عليها ثوابا و لا يمتنع على هذا أن يقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه الذي يستحق عليه الثواب فيستحقه .

النظم

و وجه اتصال هذه الآية بما قبلها إن الله تعالى أراد أن يبين أن حال اليهود في
مجمع البيان ج : 3 ص : 283
نقض العهد و ارتكاب الفواحش كارتكاب ابن آدم في قتله أخاه و ما عاد عليه من الوبال بتعديه فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يتلو عليهم أخبارهما تسلية لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما ناله من جهلهم و تكذيبهم و تبكيتا لليهود .

[القصة]


قالوا إن حواء امرأة آدم كانت تلد في كل بطن غلاما و جارية فولدت أول بطن قابيل بن آدم و قيل قابين و توأمته إقليما بنت آدم و البطن الثاني هابيل و توأمته لبوذا فلما أدركوا جميعا أمر الله تعالى أن ينكح آدم قابيل أخت هابيل و هابيل أخت قابيل فرضي هابيل و أبى قابيل لأن أخته كانت أحسنهما و قال ما أمر الله سبحانه بهذا و لكن هذا من رأيك فأمرهما آدم أن يقربا قربانا فرضيا بذلك فغدا هابيل و كان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه زبدا و لبنا و كان قابيل صاحب زرع فأخذ من شر زرعه ثم صعدا فوضعا القربانين على الجبل فأتت النار فأكلت قربان هابيل و تجنبت قربان قابيل و كان آدم غائبا عنهما بمكة خرج إليها ليزور البيت بأمر ربه فقال قابيل لا عشت يا هابيل في الدنيا و قد تقبل قربانك و لم يتقبل قرباني و تريد أن تأخذ أختي الحسناء و آخذ أختك القبيحة فقال له هابيل ما حكاه الله تعالى فشدخه بحجر فقتله روي ذلك عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و غيره من المفسرين و كان سبب قبول قربان أحدهما دون الآخر أن قابيل لم يكن زاكي القلب و قرب بشر ماله و أخسه و قرب هابيل بخير ماله و أشرفه و أضمر الرضا بحكم الله تعالى و قيل إن سبب أكل النار للقربان أنه لم يكن هناك فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت تنزل نار من السماء فتأكله و عن إسماعيل بن رافع أن قربان هابيل كان يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم .
لَئن بَسطت إِلىَّ يَدَك لِتَقْتُلَنى مَا أَنَا بِبَاسِط يَدِى إِلَيْك لأَقْتُلَك إِنى أَخَاف اللَّهَ رَب الْعَلَمِينَ(28) إِنى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَ إِثمِك فَتَكُونَ مِنْ أَصحَبِ النَّارِ وَ ذَلِك جَزؤُا الظلِمِينَ(29) فَطوَّعَت لَهُ نَفْسهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصبَحَ مِنَ الخَْسِرِينَ(30)

اللغة

البسط المد و هو ضد القبض تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة و هي المنزل و باءوا بغضب من الله أي رجعوا و البوء الرجوع بالقود و هم في هذا الأمر بواء أي سواء
 

<<        الفهرس        >>