جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 3 ص : 231
( 5 ) سورة المائدة مدنية و آياتها عشرون و مائة ( 120 )
هي مدنية في قول ابن عباس و مجاهد و قال جعفر بن مبشر و الشعبي هي مدنية كلها إلا قوله اليوم أكملت لكم دينكم فإنه نزل و النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واقف على راحلته في حجة الوداع
عدد آيها
هي مائة و عشرون آية كوفي ثلاث و عشرون آية بصري و اثنتان و عشرون في الباقين
اختلافها
ثلث بالعقود و يعفوا عن كثير غير الكوفي فإنكم غالبون بصري .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي و نصراني يتنفس في دار الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات و روى العياشي بإسناده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال كان القرآن ينسخ بعضه بعضا و إنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأخذه و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء و لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليه الوحي حتى وقفت و تدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض و أغمي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى وضع يده على رأس شيبة بن وهب الجمحي ثم رفع ذلك عن رسول الله فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و عملنا و بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهماالسلام) قال من قرأ سورة المائدة في كل يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم و لا يشرك أبدا و بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول نزلت المائدة كملا و نزل معها سبعون ألف ملك .

تفسيرها

لما ختم الله سورة النساء بذكر أحكام الشريعة افتتح سورة المائدة أيضا
مجمع البيان ج : 3 ص : 232
ببيان الأحكام و أجمل ذلك لقوله أوفوا بالعقود ثم أتبعه بذكر التفصيل فقال : .
سورة المائدة
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّت لَكُم بهِيمَةُ الأَنْعَمِ إِلا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيرَ محِلى الصيْدِ وَ أَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)

القراءة

المشهور في القراءة « حرم » بضمتين و في الشواذ عن الحسن و يحيى بن وثاب حرم ساكنة الراء .

الحجة

و هذا كما يقال في رسل و كتب رسل و كتب قال ابن جني في إسكان « حرم » مزية و ذلك أن الراء فيه تكرير فكادت الراء الساكنة لما فيها من التكرير تكون في حكم المتحرك كزيادة الصوت بالتكرير نحوا من زيادته بالحركة .

اللغة

يقال وفى بعهده وفاء و أوفى إيفاء بمعنى و أوفى لغة أهل الحجاز و هي لغة القرآن و العقود جمع عقد بمعنى معقود و هو أوكد العهود و الفرق بين العقد و العهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق و الشد و لا يكون إلا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد فكل عهد عقد و لا يكون كل عقد عهدا و أصله عقد الشيء بغيره و هو وصله به كما يعقد الحبل و يقال أعقدت العسل فهو معقد و عقيد قال عنترة :
و كان ربا أو كحيلا معقدا
حش الوقود به جوانب قمقم و البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر و البحر و قال الزجاج كل حي لا يميز فهو
مجمع البيان ج : 3 ص : 233
بهيمة و إنما سميت بهيمة لأنها أبهمت عن أن يميز و الحرم جمع حرام يقال رجل حرام و قوم حرم قال الشاعر :
فقلت لها فيئي إليك فإنني
حرام و إني بعد ذاك لبيب أي ملب .

الإعراب

موضع « ما يتلى عليكم » نصب بالاستثناء و « غير محلي الصيد » اختلف فيه فقيل إنه منصوب على الحال مما في قوله « أوفوا بالعقود » من ضمير « الذين آمنوا » عن الأخفش ، و قيل إنه حال من الكاف و الميم في قوله « أحلت لكم بهيمة الأنعام » عن الكسائي ، و قيل إنه حال من الكاف و الميم في قوله « إلا ما يتلى عليكم » عن الربيع ، « و أنتم حرم » جملة في موضع الحال من « محلي الصيد » ، و الصيد مجرور في اللفظ منصوب في المعنى و قال الفراء يجوز أن يكون « ما يتلى عليكم » في موضع رفع كما يقال جاء إخوتك إلا زيد و قال الزجاج و هذا عند البصريين باطل لأن المعنى على هذا التأويل جاء إخوتك و زيد كأنه يعطف بإلا كما يعطف بلا و يجوز عند البصريين جاء الرجل إلا زيد على معنى جاء الرجل غير زيد فيكون إلا زيد صفة للنكرة أو ما قارب النكرة من الأجناس .

المعنى

خاطب الله سبحانه المؤمنين فقال « يا أيها الذين آمنوا » و تقديره يا أيها المؤمنون و هو اسم تكريم و تعظيم « أوفوا بالعقود » أي بالعهود عن ابن عباس و جماعة من المفسرين ثم اختلف في هذه العهود على أقوال ( أحدها ) أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة و المؤازرة و المظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءا و ذلك هو معنى الحلف عن ابن عباس و مجاهد و الربيع بن أنس و الضحاك و قتادة و السدي ( و ثانيها ) أنها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم عن ابن عباس أيضا و في رواية أخرى قال هو ما أحل و حرم و ما فرض و ما حد في القرآن كله أي فلا تتعدوا فيه و لا تنكثوا و يؤيده قوله و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى قوله سوء الدار ( و ثالثها ) أن المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الإيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع و عقد الحلف عن ابن زيد و زيد بن أسلم ( و رابعها ) أن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة و الإنجيل في تصديق نبينا و ما جاء به من عند الله عن ابن جريج و أبي صالح و أقوى هذه الأقوال قول ابن عباس إن المراد بها عقود الله التي أوجبها الله على العباد
مجمع البيان ج : 3 ص : 234
في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر فيجب الوفاء بجميع ذلك إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح فإن ذلك محظور بلا خلاف ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال « أحلت لكم بهيمة الأنعام » و اختلف في تأويله على أقوال ( أحدها ) أن المراد به الأنعام و إنما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال نفس الإنسان فمعناه أحلت لكم الأنعام الإبل و البقر و الغنم عن الحسن و قتادة و السدي و الربيع و الضحاك ( و ثانيها ) أن المراد بذلك أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا شعرت و قد ذكيت الأمهات و هي ميتة فذكاتها ذكاة أمهاتها عن ابن عباس و ابن عمر و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ( و ثالثها ) أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء و بقر الوحش و حمر الوحش عن الكلبي و الفراء و الأولى حمل الآية على الجميع « إلا ما يتلى عليكم » معناه إلا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن و هو قوله حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير الآية عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدي « غير محلي الصيد و أنتم حرم » من قال أنه حال من « أوفوا » فمعناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد و أنتم محرمون أي في حال الإحرام و من قال أنه حال من « أحلت لكم » فمعناه « أحلت لكم بهيمة الأنعام » أي الوحشية من الظباء و البقر و الحمر غير مستحلين اصطيادها في حال الإحرام و من قال أنه حال من « يتلى عليكم » فمعناه أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة غير مستحلين اصطيادها في حال إحرامكم « إن الله يحكم ما يريد » معناه إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد و تحريم ما يريد تحريمه و إيجاب ما يريد إيجابه و غير ذلك من أحكامه و قضاياه فافعلوا ما أمركم به و انتهوا عما نهاكم عنه في قوله « أحلت لكم بهيمة الأنعام » دلالة على تحليل أكلها و ذبحها و الانتفاع بها .

مجمع البيان ج : 3 ص : 235
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تحِلُّوا شعَئرَ اللَّهِ وَ لا الشهْرَ الحَْرَامَ وَ لا الهَْدْى وَ لا الْقَلَئدَ وَ لا ءَامِّينَ الْبَيْت الحَْرَامَ يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّن رَّبهِمْ وَ رِضوَناً وَ إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصطادُوا وَ لا يجْرِمَنَّكُمْ شنَئَانُ قَوْم أَن صدُّوكمْ عَنِ الْمَسجِدِ الحَْرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلى الْبرِّ وَ التَّقْوَى وَ لا تَعَاوَنُوا عَلى الاثْمِ وَ الْعُدْوَنِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ(2)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم و إسماعيل عن نافع شنان بسكون النون الأولى في موضعين و الباقون « شنان » بفتحها و قرأ ابن كثير و أبو عمرو إن صدوكم بكسر الهمزة و الباقون بفتحها .

الحجة

من قرأ « شنان » بالفتح فحجته أنه مصدر و المصدر يكثر على فعلان نحو الضربان و الغليان و من قرأ شنان فحجته أن المصدر يجيء على فعلان أيضا نحو الليان كقول الشاعر :
و ما العيش إلا ما تلذ و تشتهي
و إن لام فيه ذو الشن آن و فندا يدل على أن الشن آن بالسكون أيضا فخفف الهمزة و ألقى حركتها على الساكن قبلها على القياس فيكون المعنى في القراءتين واحدا و قوله « إن أن » و إن كان ماضيا فإن الماضي قد يقع في الجزاء و ليس المراد على أن الجزاء يكون بالماضي و لكن المراد أن ما كان مثل هذا الفعل فيكون اللفظ على الماضي و المعنى على مثله كأنه يقول إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا و على هذا حمل الخليل و سيبويه قول الفرزدق :
أ تغضب أن أذنا قتيبة حزتا
جهارا و لم تغضب لقتل ابن حازم و على ذلك قول الشاعر :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
و لم تجدي من أن تقري به بدا فانتفاء الولادة أمر ماض و قد جعله جزاء و الجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى أن تنتسب لا تجدني مولود لئيمة و جواب أن قد أغنى عنه ما تقدم من قوله « و لا يجرمنكم » ، المعنى أن صدوكم عن المسجد الحرام فلا تكتسبوا عدوانا و من فتح « أن صدوكم » فقوله بين لأنه مفعول له و التقدير و لا يجرمنكم شنان قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فإن الثانية في موضع نصب بأنه المفعول الثاني و أن الأولى منصوبة لأنه مفعول له .

مجمع البيان ج : 3 ص : 236

اللغة

الشعائر جمع شعيرة و هي أعلام الحج و أعماله و اشتقاقها من قولهم شعر فلان بهذا الأمر إذا علم به و المشاعر المعالم من ذلك الإشعار الإعلام من جهة الحس و قيل الشعيرة و العلامة و الآية واحدة و الحلال و الحل المباح و هو ما لا مزية لفعله على تركه و الحرام و الحرم ضده و حريم البئر ما حولها لأنها تحرم على غير حافرها و الحرم الإحرام و أحرم الرجل صار محرما و أحرم دخل في الشهر الحرام و رجل حرمي منسوب إلى الحرم و الهدي ما يهدي إلى الحرم من النعم و قلائد جمع قلادة و هي ما يقلد به الهدي و التقليد في البدن أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي و القلد السوار لأنها كالقلادة لليد ، و الأم القصد يقال أممت كذا إذا قصدته و يممت بمعناه قال الشاعر :
إني كذاك إذا ما ساءني بلد
يممت صدر بعيري غيره بلدا و منه الإمام الذي يقتدى به و الأمة الدين لأنه يقصدوا الإمة بالكسر النعمة لأنها تقصد و يقال حللت من الإحرام تحل و الرجل حلال و قالوا أحرم الرجل فهو حرام و قيس و تميم يقولون أحل من إحرامه فهو محل و أحرم فهو محرم و الجرم القطع و الكسب « و لا يجرمنكم » أي لا يكسبنكم و هو فعل يتعدى إلى مفعولين و قيل معناه لا يحملنكم عن الكسائي قال بعضهم يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني عليه و استشهدوا بقول الشاعر :
و لقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي حملت و قيل معناه أحقت الطعنة لفزارة الغضب و قيل معناه كسبت فزارة الغضب و شنئت الرجل أشناه شنا و شنا و شنانا و مشنا أبغضته و ذهب سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان بالفتح لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء نحو شنئته شنانا قال سيبويه و قالوا لويته حقه ليانا على فعلان فعلى هذا يجوز أن يكون الشن آن مصدرا مثله و قال أبو زيد رجل شنان و امرأة شنانة مصروفان و يقال أيضا رجل شنان غير منصرف و امرأة شناء فقد جاء الشن آن مصدرا و وصفا و هما جميعا قليلان .

النزول

قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم و قال السدي أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحده و خلف خيله خارج المدينة فقال إلى ما تدعو و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما أجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أنظرني لعلي أسلم و لي من أشاوره
مجمع البيان ج : 3 ص : 237
فخرج من عنده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقد دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر فمر بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل و لا غنم
و لا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما و ابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين ممسوح القدم ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هدبا فأراد رسول الله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية « و لا آمين البيت الحرام » و هو قول عكرمة و ابن جريج و قال ابن زيد نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل الله تعالى الآية .

المعنى

ثم ابتدأ سبحانه بتفصيل الأحكام فقال « يا أيها الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله فيما أوجب عليهم « لا تحلوا شعائر الله » اختلف في معنى شعائر الله على أقوال ( أحدها ) أن معناه لا تحلوا حرمات الله و لا تتعدوا حدود الله و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حدود الله و أمره و نهيه و فرائضه عن عطاء و غيره ( و ثانيها ) أن معناه لا تحلوا حرم الله و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حرم الله من البلاد عن السدي ( و ثالثها ) أن معنى شعائر الله مناسك الحج أي لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها عن ابن جريج و ابن عباس ( و رابعها ) ما روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت و يهدون الهدايا و يعظمون حرمة المشاعر و ينحرون في حجهم فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك ( و خامسها ) أن شعائر الله هي الصفا و المروة و الهدي من البدن و غيرها عن مجاهد و قال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا و المروة من شعائر الله و لا يطوفون بينهما فنهاهم الله عن ذلك و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ( و سادسها ) أن المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم عن ابن عباس في رواية أخرى ( و سابعها ) أن الشعائر هي العلامات المنصوبة للفرق بين الحل و الحرم نهاهم الله سبحانه أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام عن
مجمع البيان ج : 3 ص : 238
أبي علي الجبائي ( و ثامنها ) أن المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة أي المعلمة لتهدى إلى بيت الله الحرام عن الزجاج و الحسين بن علي المغربي و اختاره البلخي و أقوى الأقوال هو القول الأول لأنه يدخل فيه جميع الأقوال من مناسك الحج و غيرها و حمل الآية على ما هو الأعم أولى « و لا الشهر الحرام » معناه و لا تستحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما قال تعالى « يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير » عن ابن عباس و قتادة و اختلف في معنى الشهر الحرام هنا فقيل هو رجب و كانت مضر تحرم فيه القتال و قيل هو ذو القعدة عن عكرمة و قيل هي الأشهر الحرم كلها نهاهم الله عن القتال فيها عن الجبائي و البلخي و هذا أليق بالعموم و قيل أراد به النسيء كقوله إنما النسيء زيادة في الكفر عن القتيبي « و لا الهدي » أي و لا تستحلوا الهدي و هو ما يهديه الإنسان من بعير أو بقرة أو شاة إلى بيت الله تقربا إليه و طلبا لثوابه فيكون المعنى و لا تستحلوا ذلك فتغصبوه أهله و لا تحولوا بينهم و بين أن تبلغوه محله من الحرم و لكن خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله الله له و قوله « و لا القلائد » معناه و لا تحلوا القلائد و فيه أقوال ( أحدها ) أنه عنى بالقلائد الهدي المقلد و إنما كرر لأنه أراد المنع من جل الهدي الذي لم يقلد و الهدي الذي قلد عن ابن عباس و اختاره الجبائي ( و ثانيها ) أن المراد بذلك القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة من لحاء السمر فإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر عن قتادة قال كان في الجاهلية إذا خرج الرجل من أهله يريد الحج يقلد من السمر فلا يتعرض له أحد و إذا رجع يقلد قلادة شعر فلا يتعرض له أحد و قال عطا أنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا من الحرم و قال الفراء أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر و أهل غير الحرم كانوا يتقلدون بالصوف و الشعر و غيرهما ( و ثالثها ) أنه عنى به المؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يتقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم عن عطا في رواية أخرى و الربيع بن أنس ( و رابعها ) أن القلائد ما يقلد به الهدي نهاهم عن حلها لأنه كان يجب أن يتصدق بها عن أبي علي الجبائي قال هو صوف يفتل و يعلق به على عنق الهدي و قال الحسن هو نعل يقلد بها الإبل و البقر و يجب التصدق بها إن كانت لها قيمة و الأولى أن يكون نهيا عن استحلال القلائد فيدخل الإنسان و البهيمة أو يكون نهيا عن استحلال حرمة المقلد هديا كان ذلك أو إنسانا « و لا آمين البيت » أي و لا
مجمع البيان ج : 3 ص : 239
تحلوا قاصدين البيت « الحرام » أي لا تقاتلوهم لأنه من قاتل في الأشهر الحرم فقد أحل فقال لا تحلوا قتال الآمين البيت الحرام أي القاصدين و البيت الحرام بيت الله بمكة و هو الكعبة سمي حراما لحرمته و قيل لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره و اختلف في المعنى بذلك فمنهم من حمله على الكفار و استدل بقوله فيما بعد « و لا يجرمنكم شنان قوم » الآية و منهم من حمله على من أسلم فكأنه نهى أن يؤخذ بعد الإسلام بذحل الجاهلية لأن الإسلام يجب ما قبله « يبتغون » أي يطلبون يعني الذين يأمون البيت « فضلا من ربهم و رضوانا » أي أرباحا في تجاراتهم من الله و إن يرضى عنهم بنسكهم على زعمهم فلا يرضى الله عنهم و هم مشركون و قيل يلتمسون رضوان الله عنهم بأن لا يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم من العقوبة في عاجل دنياهم عن قتادة و مجاهد و قيل فضلا من الله في الآخرة و رضوانا منه فيها و قيل فضلا في الدنيا و رضوانا في الآخرة و قال ابن عباس إن ذلك في كل من توجه حاجا و به قال الضحاك و الربيع و اختلف في هذا فقيل هو منسوخ بقوله « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » عن أكثر المفسرين و قيل لم ينسخ في هذه السورة شيء و لا من هذه الآية لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا عن ابن جريج و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و روي نحوه عن الحسن و ذكر أبو مسلم أن المراد به الكفار الذين كانوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر و دخلوا في حكم قوله تعالى « فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا » و قيل لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية « لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدي و لا القلائد » عن الشعبي و مجاهد و قتادة و الضحاك و ابن زيد و قيل إنما نسخ منها قوله « و لا الشهر الحرام » إلى « آمين البيت الحرام » ذكر ذلك ابن أبي عروبة عن قتادة قال نسخها قوله « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » و قوله « ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله » و قوله « إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا » في السنة التي نادى فيها علي بالأذان و هو قول ابن عباس و قيل لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد « و إذا حللتم فاصطادوا » معناه إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا فيها الصيد الذي نهيتم أن تحلوا فاصطادوه إن شئتم حينئذ لأن السبب المحرم قد زال عند جميع المفسرين « و لا يجرمنكم » أي و لا يحملنكم و قيل لا يكسبنكم « شنان قوم » أي بغضاء قوم « أن صدوكم » أي لأن صدوكم أي لأجل أنهم صدوكم « عن المسجد
مجمع البيان ج : 3 ص : 240
الحرام » يعني النبي و أصحابه لما صدوهم عام الحديبية « أن تعتدوا » و معناه لا يكسبنكم بغضكم قوما الاعتداء عليهم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام قال أبو علي الفارسي معناه لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا و لا تقترفوه هذا فيمن فتح أن و يوقع النهي في اللفظ على الشن آن و المعني بالنهي المخاطبون كما قالوا لا أرينك هاهنا و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و من جعل « شنان » صفة فقد أقام الصفة مقام الموصوف و يكون تقديره و لا يحملنكم بغض قوم و المعنى على الأول و من قرأ إن صدوكم بكسر الألف فقد مر ذكر معناه و « أن تعتدوا » معناه أن تتجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه نهى الله المسلمين عن الطلب بذحول الجاهلية عن مجاهد و قال هذا غير منسوخ و هو الأولى و قال ابن زيد و هو منسوخ « و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان » و هو استئناف كلام و ليس بعطف على تعتدوا فيكون في موضع نصب أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البر و التقوى و هو العمل بما أمرهم الله تعالى به و اتقاء ما نهاهم عنه و نهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الإثم و هو ترك ما أمرهم به و ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان و هو مجاوزة ما حد الله لعباده في دينهم و فرض لهم في أنفسهم عن ابن عباس و أبي العالية و غيرهما من المفسرين « و اتقوا الله إن الله شديد العقاب » هذا أمر منه تعالى بالتقوى و وعيد و تهديد لمن تعدى حدوده و تجاوز أمره يقول احذروا معصية الله فيما أمركم به و نهاكم عنه فتستوجبوا عقابه و تستحقوا عذابه ثم وصف تعالى عقابه بالشدة لأنه نار لا يطفأ حرها و لا يخمد جمرها نعوذ بالله منها .

مجمع البيان ج : 3 ص : 241
حُرِّمَت عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لحَْمُ الخِْنزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُترَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مَا أَكلَ السبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَ مَا ذُبِحَ عَلى النُّصبِ وَ أَن تَستَقْسِمُوا بِالأَزْلَمِ ذَلِكُمْ فِسقٌ الْيَوْمَ يَئس الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تخْشوْهُمْ وَ اخْشوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتى وَ رَضِيت لَكُمُ الاسلَمَ دِيناً فَمَنِ اضطرَّ فى مخْمَصة غَيرَ مُتَجَانِف لاثْم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)

القراءة

روي في الشواذ قراءة ابن عباس و أكيل السبع و عن الحسن و ما أكل السبع بسكون الباء و قراءة يحيى بن وثاب و إبراهيم غير متجنف لإثم .

الحجة

قال ابن جني الأكيلة اسم للمأكول كالنطيحة و الأكيل للجنس و العموم يصلح للمذكر و المؤنث تقول مررت بشاة أكيل أي قد أكلها الأسد و نحوه و تقول و ما لنا طعام إلا الأكيلة أي الشاة أو الجزور المعدة للأكل و إن كانت قد أكلت فهي بلا هاء فأكيل السبع ما أكل بعضه السبع و السبع تخفيف للسبع قال حسان في عتبة بن أبي لهب :
من يرجع العام إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع و قوله « متجانف » و متجنف بمعنى و تفعل أبلغ من تفاعل فمتجنف بمعنى متميل و متأود و متجانف مثل متمايل و متأود .

اللغة

أصل الإهلال رفع الصوت بالشيء و منه استهلال الصبي و هو صياحه إذا سقط من بطن أمه و منه إهلال المحرم بالحج أو العمرة إذا لبى به قال ابن أحمر :
يهل بالفرقد ركباننا
كما يهل الراكب المعتمر و سمي الهلال هلالا لأنه يرفع الصوت عنده و يقال خنقه خنقا إذا ضغطه و منه المخنقة للقلادة و الوقذ شدة الضرب يقال وقذتها أقذها وقذا و أوقذتها إيقاذا إذا أثخنتها ضربا قال الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها
فطارة لقوادم الأبكار الردى الهلاك و التردي التهور و النطيحة المنطوحة نقل عن مفعول إلى فعيل و إنما يثبت فيها الهاء و إن كان فعيل بمعنى المفعول لا تثبت فيه الهاء مثل لحية دهين و عين كحيل و كف خضيب لأنها دخلت في حيز الأسماء و قال بعض الكوفيين إنما تحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا كانت صفة الاسم قد تقدمها مثل كف خضيب و عين كحيل فأما إذا حذفت الكف و العين و ما يكون فعيلة نعتا له و اجتزوا بفعيل أثبتوا فيه هاء التأنيث ليعلم ثبوتها فيه أنها صفة
مجمع البيان ج : 3 ص : 242
لمؤنث فيقال رأينا كحيلة و خضيبة و التذكية فري الأوداج و الحلقوم لما كانت فيه حياة و لا يكون بحكم الميت و أصل الذكاء في اللغة تمام الشيء فمن ذلك الذكاء في السن و الفم قال الخليل الذكاء أن يأتي في السن على القروحة و هي في ذات الحافر و هي البزولة في ذات الخف و هي الصلوغة في ذات الظلف و ذلك تمام استكمال القوة قال زهير :
يفضله إذا اجتهدا عليها
تمام السن منه و الذكاء و في المثل جري المذكيات غلاب أي جري المسان التي قد أسنت مغالبة يريد أن المسان يحتمل أن تؤخذ بالغلبة لفضل قوتها و الصغار لا تحمل على ذلك و تدارى و يروى غلاء و هي جميع غلوة أي هي تمتد امتدادا كما تريد و ليست كالجذع الذي لا علم له فيخرج في أول شوط أقصى ما عنده من الحضر ثم هو مسبوق و معنى تمام السن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء و الذكاء في الفهم أن يكون تاما سريع القبول و ذكيت النار من هذا أي أتممت إشعالها و النصب الحجارة التي كانوا يعبدونها واحدها نصاب و جائز أن يكون واحدا و جمعه أنصاب و الأزلام جمع زلم و زلم و هو القدح و الاستقسام طلب القسمة و القسم المصدر و القسم بالكسر النصيب و المخمصة شدة ضمور البطن و هو مفعلة مثل المجبنة و المبخلة من خمص البطن و هو طيه و اضطماره من الجوع و شدة السغب دون أن يكون مخلوقا كذلك قال النابغة :
و البطن ذو عكن خميص لين
و النحر تنفجه بثدي مقعد لم يصفها بالجوع و إنما وصفها بلطافة طي البطن و أما قول الأعشى :
تبيتون في المشتى ملأ بطونكم
و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا فمن الاضطمار من الجوع و المتجانف المتمايل للإثم المنحرف إليه من جنف القوم إذا مالوا و كل أعوج فهو أجنف .

المعنى

ثم بين سبحانه ما استثناه في الآية المتقدمة بقوله إلا ما يتلى
مجمع البيان ج : 3 ص : 243
عليكم فقال مخاطبا للمكلفين « حرمت عليكم الميتة » أي حرم عليكم أكل الميتة و الانتفاع بها و هو كل ما له نفس سائلة من دواب البر و طيره مما أباح الله أكله أهليهما و وحشيهما فارقه روحه من غير تذكية و قيل الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر و طيره بغير تذكية فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سمي الجراد و السمك ميتا فقال ميتتان مباحتان الجراد و السمك « و الدم » أي و حرم عليكم الدم و كانوا يجعلونه في المباعر و يشوونه و يأكلونه فأعلم الله سبحانه أن الدم المسفوح أي المصبوب حرام فأما المتلطخ باللحم فإنه كاللحم و ما كان كاللحم مثل الكبد فهو مباح و أما الطحال فقد رووا الكراهية فيه عن علي (عليه السلام) و ابن مسعود و أصحابهما و أجمعت الإمامية على أنه حرام و ذهب سائر الفقهاء إلى أنه مباح « و لحم الخنزير » و إنما ذكر لحم الخنزير ليبين أنه حرام بعينه لا لكونه ميتة حتى أنه لا يحل تناوله و إن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره و فائدة تخصيصه بالتحريم مع مشاركة الكلب إياه في التحريم حالة وجود الحياة و عدمها و كذلك السباع و المسوخ و ما لا يحل أكله من الحيوانات أن كثيرا من الكفار اعتادوا أكله و ألفوه أكثر مما اعتادوا في غيره « و ما أهل لغير الله به » موضع ما رفع و تقديره و حرم عليكم ما أهل لغير الله به و قد ذكرنا معناه في سورة البقرة و فيه دلالة على أن ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكله لأنهم يذكرون عليه اسم غير الله لأنهم يعنون به من أبد شرع موسى أو اتحد بعيسى أو اتخذه ابنا و ذلك غير الله فأما من أظهر الإسلام و دان بالتجسيم و التشبيه و الجبر و خالف الحق فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته و فيه خلاف بين الفقهاء « و المنخنقة » و هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتنخنق و تموت عن السدي و قيل هي التي تخنق بحبل الصائد فتموت عن الضحاك و قتادة و قال ابن عباس كان أهل الجاهلية يخنقونها فيأكلونها « و الموقوذة » و هي التي تضرب حتى تموت عن ابن عباس و قتادة و السدي « و المتردية » و هي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر فتموت عن ابن عباس و قتادة و السدي و متى وقع في بئر و لا يقدر على تذكيته جاز أن يطعن و يضرب بالسكين في غير المذبح حتى يبرد ثم يؤكل « و النطيحة » و هي التي ينطحها غيرها فتموت « و ما أكل السبع » أي و حرم عليكم ما أكله السبع بمعنى قتله السبع و هي فريسة السبع عن ابن عباس و قتادة و الضحاك إلا ما ذكيتم » يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء و موضع ما نصب بالاستثناء و روي عن السيدين الباقر و الصادق (عليهماالسلام) أن
مجمع البيان ج : 3 ص : 244
أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه و به قال الحسن و قتادة و إبراهيم و طاووس و الضحاك و ابن زيد و اختلف في الاستثناء إلى ما ذا يرجع فقيل إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الدم عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و قيل هو استثناء من التحريم لا من المحرمات لأن الميتة لا ذكاة لها و لا الخنزير فمعناه حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية فإنه حلال لكم عن مالك و جماعة من أهل المدينة و اختاره الجبائي و متى قيل ما وجه التكرار في قوله « و المنخنقة و الموقوذة » إلى آخر ما عدد تحريمه مع أنه افتتح الآية « حرمت عليكم الميتة » و الميتة تعم جميع ذلك و إن اختلفت أسباب الموت من خنق أو ترد أو نطح أو إهلال لغير الله به أو أكل سبع فالجواب أن الفائدة في ذلك أنهم كانوا لا يعدون الميتة إلا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب فأعلمهم الله سبحانه أن حكم الجميع واحد و أن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط قال السدي إن ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدونه ميتا إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع « و ما ذبح على النصب » يعني الحجارة التي كانوا يعبدونها و هي الأوثان عن مجاهد و قتادة و ابن جريج يعني و حرم عليكم ما ذبح على النصب أي على اسم الأوثان و قيل معناه و ما ذبح للأوثان تقربا إليها و اللام و على متعاقبان أ لا ترى إلى قوله تعالى فسلام لك من أصحاب اليمين بمعنى عليك و كانوا يقربون و يلطخون أوثانهم بدمائها قال ابن جريج ليست النصب أصناما إنما الأصنام ما تصور و تنقش بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة و كانت ثلاثمائة و ستين حجرا و قيل كانت ثلاثمائة منها لخزاعة فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت و شرحوا اللحم و جعلوه على الحجارة فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق بتعظيمه فأنزل الله سبحانه لن ينال الله لحومها و لا دماؤها الآية « و أن تستقسموا بالأزلام » موضعه رفع أي و حرم عليكم الاستقسام بالأزلام و معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم و ابتداء أمورهم و هي سهام كانت للجاهلية مكتوب على بعضها أمرني ربي و على بعضها نهاني ربي و بعضها غفل لم يكتب عليه شيء فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتمون به ضربوا على تلك القداح فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى الرجل في حاجته و إن خرج الذي عليه نهاني ربي لم يمض و إن خرج الذي ليس عليه شيء أعادها فيبين الله تعالى أن العمل بذلك حرام عن الحسن و جماعة من المفسرين و روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين (عليهماالسلام) أن الأزلام عشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها فالتي لها أنصباء
مجمع البيان ج : 3 ص : 245
الفذ و التوأم و المسبل و النافس و الحلس و الرقيب و المعلى فالفذ له سهم و التوأم سهمان و المسبل له ثلاثة أسهم و النافس له أربعة أسهم و الحلس له خمسة أسهم و الرقيب له ستة أسهم و المعلى له سبعة أسهم و التي لا أنصباء لها السفيح و المنيح و الوغد و كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزءونه أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام و يدفعونها إلى رجل و ثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها و هو القمار فحرمه الله تعالى و قيل هي كعاب فارس و الروم التي كانوا يتقامرون بها عن مجاهد و قيل هو الشطرنج عن أبي سفيان بن وكيع « ذلكم فسق » معناه أن جميع ما سبق ذكره فسق أي ذنب عظيم و خروج من طاعة الله إلى معصيته عن ابن عباس و قيل إن ذلكم إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أي إن ذلك الاستقسام فسق و هو الأظهر « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ليس يريد يوما بعينه بل معناه الآن يئس الكافرون من دينكم كما يقول القائل اليوم قد كبرت يريد أن الله تعالى حول الخوف الذي كان يلحقهم من الكافرين اليوم إليهم و يئسوا من بطلان الإسلام و جاءكم ما كنتم توعدون به في قوله « ليظهره على الدين كله » و الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه و أمرهم بالقيام به و معنى يئسوا انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه و ترجعوا منه إلى الشرك عن ابن عباس و السدي و عطا و قيل إن المراد باليوم يوم عرفة من حجة الوداع بعد دخول العرب كلها في الإسلام عن مجاهد و ابن جريج و ابن زيد و كان يوم جمعة و نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلم ير إلا مسلما موحدا و لم ير مشركا « فلا تخشوهم » خطاب للمؤمنين نهاهم الله أن يخشوا و يخافوا من الكفار أن يظهروا على دين الإسلام و يقهروا المسلمين و يردوهم عن دينهم « و اخشون » أي و لكن اخشوني أي خافوني أن خالفتم أمري و ارتكبتم معصيتي أن أحل بكم عقابي عن ابن جريج و غيره « اليوم أكملت لكم دينكم » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه أكملت لكم فرائضي و حدودي و حلالي و حرامي بتنزيلي ما أنزلت و بياني ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك و لا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم و كان ذلك يوم عرفة عام حجة الوداع عن ابن عباس و السدي و اختاره الجبائي و البلخي قالوا و لم ينزل بعد هذا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) شيء من الفرائض في تحليل و لا تحريم و أنه مضى بعد ذلك بإحدى و ثمانين ليلة فإن اعترض معترض فقال أ كان دين الله ناقصا وقتا من الأوقات حتى أتمه في ذلك اليوم فجوابه أن دين الله لم يكن إلا في كمال كاملا في كل حال و لكن لما كان معرضا للنسخ و الزيادة فيه و نزول الوحي بتحليل شيء أو تحريمه لم يمتنع أن يوصف بالكمال إذا أمن من جميع ذلك فيه كما توصف العشرة بأنها كاملة و لا يلزم أن توصف بالنقصان لما كانت المائة أكثر منها و أكمل ( و ثانيها ) أن معناه
مجمع البيان ج : 3 ص : 246
اليوم أكملت لكم حجكم و أفردتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين و لا يخالطكم مشرك عن سعيد بن جبير و قتادة و اختاره الطبري قال لأن الله سبحانه أنزل بعده « يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة » قال الفراء و هي آخر آية نزلت و هذا الذي ذكره لو صح لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف ( و ثالثها ) أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء و أظهرتكم عليهم كما تقول الآن كمل لنا الملك و كمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه عن الزجاج و المروي عن الإمامين أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عليا (عليه السلام) للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع قالا و هو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة و قد حدثنا السيد العالم أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني قال حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال حدثنا أبو أحمد البصري قال حدثنا أحمد بن عمار بن خالد قال حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما نزلت هذه الآية قال الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الرب برسالتي و ولاية علي بن أبي طالب من بعدي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و قال علي بن إبراهيم في تفسيره حدثني أبي عن صفوان عن العلاء و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال كان نزولها بكراع الغميم فأقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالجحفة و قال الربيع بن أنس نزلت في المسير في حجة الوداع « و أتممت عليكم نعمتي » خاطب سبحانه المؤمنين بأنه أتم النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين و نفيهم عن بلادهم عن ابن عباس و قتادة و قيل معناه أتممت عليكم نعمتي بأن أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يعط قبلكم نبي و لا أمة و قيل إن تمام النعمة دخول الجنة « و رضيت لكم الإسلام دينا » أي رضيت لكم الإسلام لأمري و الانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده و فرائضه و معالمه دينا أي طاعة منكم لي و الفائدة في هذا أن الله سبحانه لم يزل يصرف نبيه محمدا و أصحابه في درجات الإسلام و مراتبه درجة بعد درجة و منزلة بعد منزلة حتى أكمل لهم شرائعه و بلغ بهم أقصى درجاته و مراتبه ثم قال رضيت لكم الحال التي أنتم عليها اليوم فالزموها و لا تفارقوها ثم عاد الكلام إلى القضية المتقدمة في التحريم و التحليل و إنما ذكر قوله « اليوم يئس الذين كفروا » إلى قوله « و رضيت لكم الإسلام دينا » اعتراضا
مجمع البيان ج : 3 ص : 247
« فمن اضطر في مخمصة » معناه فمن دعته الضرورة في مجاعة حتى لا يمكنه الامتناع من أكله عن ابن عباس و قتادة و السدي « غير متجانف لإثم » أي غير مائل إلى إثم و هو نصب على الحال يعني فمن اضطر إلى أكل الميتة و ما عدد الله تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمد لذلك و لا مختار له و لا مستحل له فإن الله سبحانه أباح تناول ذلك له قدر ما يمسك به رمقه بلا زيادة عليه عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و به قال أهل العراق و قال أهل المدينة يجوز أن يشبع منه عند الضرورة و قيل إن معنى قوله « غير متجانف لإثم » غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا أو خارجا في معصية عن قتادة « فإن الله غفور رحيم » في الكلام محذوف دل عليه ما ذكر و المعنى فمن اضطر إلى ما حرمت عليه غير متجانف لإثم فأكله فإن الله غفور لذنوبه ساترا عليه أكله لا يؤاخذه به و ليس يريد أنه يغفر له عقاب ذلك الأكل لأنه أباحه له و لا يستحق العقاب على فعل المباح و هو رحيم أي رفيق بعباده و من رحمته أباح لهم ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس .
يَسئَلُونَك مَا ذَا أُحِلَّ لهَُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيِّبَت وَ مَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَْوَارِح مُكلِّبِينَ تُعَلِّمُونهُنَّ ممَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكلُوا ممَّا أَمْسكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سرِيعُ الحِْسابِ(4)

القراءة

المشهور في القراءة « مكلبين » بالتشديد و روي عن ابن مسعود و الحسن مكلبين بالتخفيف .

الحجة

إكلاب الكلب هو إغراؤه بالصيد و إيساده يقال كلب و أكلبته كما يقال أسد و أسدته و يحتمل أن يكون من أكلب الرجل إذا كثرت كلابه كما يقال أمشى إذا كثرت ماشيته و المكلب بالتشديد صاحب الكلاب يقال رجل مكلب و كلاب إذا كان صاحب صيد بالكلاب و قيل هو الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد .

اللغة

الطيب هو الحلال و قيل هو المستلذ و الجوارح الكواسب من الطير و السباع و الواحدة جارحة و سميت جوارح لأنها تكسب أربابها الطعام بصيدها يقال جرح فلان أهله
مجمع البيان ج : 3 ص : 248
خير إذا كسبهم خيرا و فلان جارحة أهله أي كاسبهم و لا جارحة لفلانة أي لا كاسبة لها قال أعشى بني ثعلبة :
ذات خد منصح مبسمها
تذكر الجارح ما كان اجترح أي اكتسب .

الإعراب

« ما ذا أحل لهم » يحتمل أن يكون ما وحدها اسما و خبرها قوله ذا و أحل من صلة ذا و تقديره أي الذي أحل لهم و يحتمل أن تكون ما ذا اسما واحدا مرفوعا بالابتداء و أحل خبره و تقديره أي شيء أحل لهم و « مكلبين » نصب على الحال أي و ما علمتم من الجوارح في حال مصيركم أصحاب كلاب تعلمونهن في موضع نصب أيضا بأنه حال من مكلبين و قوله « مما أمسكن عليكم » قيل إن من هنا زائدة لأن جميع ما يمسكه مباح كقوله « و ينزل من السماء من جبال فيها من برد » و تقديره و ينزل من السماء جبالا فيها برد و ذكر في هذه الآية غير ذا من الوجوه سنذكرها إذا انتهينا إلى موضعها من الكتاب إن شاء الله تعالى و قيل إن من للتبعيض لأنه لا يجوز أن يؤكل جميع ما يمسكه الكلب فإن في جملته ما هو حرام من الدم و الفرث و الغدد و غير ذلك مما لا يجوز أكله فمعناه فكلوا ما أباح الله لكم أكله مما أمسكن عليكم .

النزول

عن أبي رافع قال جاء جبرائيل إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يستأذن عليه فأذن له و قال قد أذنا لك يا رسول الله قال أجل و لكنا لا ندخل بيتا فيه كلب قال أبو رافع فأمرني رسول الله أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها و جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرته فأمرني فرجعت و قتلت الكلب فجاءوا فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتل كلبها فسكت رسول الله فأنزل الآية فأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها و نهى عن إمساك ما لا نفع فيها و أمر بقتل العقور و ما يضر و يؤذي و عن أبي حمزة الثمالي و الحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل و عدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقالا إن فينا رجلين لهما ستة أكلب تأخذ بقرة الوحش و الظباء فمنها ما يدرك ذكاته و منها ما يموت و قد حرم الله الميتة فما ذا يحل لنا من هذا فأنزل الله « فكلوا مما أمسكن عليكم » و سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) زيد الخير .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر المحرمات عقبه بذكر ما أحل فقال
مجمع البيان ج : 3 ص : 249
« يسئلونك » يا محمد « ما ذا أحل لهم » معناه أي شيء أحل لهم أي يستخبرك المؤمنون ما الذي أحل لهم من المطاعم و المأكل و قيل من الصيد و الذبائح « قل » يا محمد « أحل لكم الطيبات » منها و هي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من المأكولات و الذبائح و الصيد عن أبي علي الجبائي و أبي مسلم و قيل مما لم يرد بتحريمه كتاب و لا سنة و هذا أولى لما ورد أن الأشياء كلها على الإطلاق و الإباحة حتى يرد الشرع بالتحريم و قال البلخي الطيبات ما يستلذ « و ما علمتم من الجوارح » أي و أحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح أي الكواسب من سباع الطير و البهائم فحذف المضاف لدلالة قوله « مما أمسكن عليكم » عليه و لأنه جواب عن سؤال السائل عن الصيد و قيل الجوارح هي الكلاب فقط عن ابن عمر و الضحاك و السدي و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) فإنهم قالوا هي الكلاب المعلمة خاصة أحله الله إذا أدركه صاحبه و قد قتله لقوله « فكلوا مما أمسكن عليكم » و روى علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب فقال لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب فقلت فإن قتله قال كل فإن الله يقول « و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم و اذكروا اسم الله عليه » ثم قال (عليه السلام) كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها و قال إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته و هو أن تقول بسم الله و الله أكبر و يؤيد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله « مكلبين » أي أصحاب الصيد بالكلاب و قيل أصحاب التعليم للكلاب « تعلمونهن مما علمكم الله » أي لأن تؤدبونهن حتى يصرن معلمة مما ألهمكم الله بعقولكم حتى ميزتم بين المعلم و غير المعلم و في هذا دلالة أيضا على أن صيد الكلب غير المعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته و قيل معناه تعلمونهن كما علمكم الله عن السدي و هذا بعيد لأن من بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة و لا تقارب بينهما لأن الكاف للتشبيه و من للتبعيض و اختلف في صفة الكلب المعلم فقيل هو أن يستشلي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه و يمسك عليه إذا أخذه و يستجيب له إذا دعاه و لا يفر منه فإذا توالى منه ذلك كان معلما عن سعد بن أبي وقاص و سلمان و ابن عمر و قيل هو ما ذكرناه كله و أن لا يأكل منه عن ابن عباس و عدي بن حاتم و عطا و الشعبي و طاووس و السدي فروى عدي بن حاتم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا أكل
مجمع البيان ج : 3 ص : 250
الكلب من الصيد فلا تأكل منه فإنما أمسك على نفسه و قيل حد التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرات عن أبي يوسف و محمد و قيل لا حد لتعليم الكلاب و إذا فعل ما قلناه فهو معلم و يدل على ذلك ما رواه أصحابنا أنه إذا أخذ كلب المجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله و قد تقدم أن عند أهل البيت لا يحل أكل صيد غير الكلب إلا ما أدرك ذكاته و من أجاز ذلك قال إن تعلم البازي هو أن يرجع إلى صاحبه و تعلم كل جارحة من البهائم و الطير هو أن يشلى على الصيد فيستشلي و يأخذ الصيد و يدعوه صاحبه فيجيب فإذا كان كذلك كان معلما أكل منه أو لم يأكل روي ذلك عن سلمان و سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و قال آخرون ما أكل منه فلا يؤكل رووه عن علي (عليه السلام) و الشعبي و عكرمة و قوله « فكلوا مما أمسكن عليكم » أي مما أمسك الجوارح عليكم و هذا يقوي قول من قال ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله لأنه أمسك على نفسه و من شرط في استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه قد سمي عند إرساله فإذا لم يسم لم يجز له أكله إلا إذا أدرك ذكاته و أدنى ما يدرك به ذكاته أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه فتذكيته حينئذ بفري الحلقوم و الأوداج « و اذكروا اسم الله عليه » أي قبل الإرسال عن ابن عباس و الحسن و السدي و قيل معناه اذكروا اسم الله على ذبح ما تذبحونه و هذا صريح في وجوب التسمية و القول الأول أصح « و اتقوا الله » أي اجتنبوا ما نهاكم الله عنه فلا تقربوه و احذروا معاصيه التي منها أكل صيد الكلب غير المعلم أو ما لم يمسكه عليكم أو ما لم يذكر اسم الله عليه من الصيد و الذبائح « إن الله سريع الحساب » قد مر تفسيره .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطيِّبَت وَ طعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب حِلُّ لَّكمْ وَ طعَامُكُمْ حِلُّ لهَُّمْ وَ المُْحْصنَت مِنَ المُْؤْمِنَتِ وَ المُْحْصنَت مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ محْصِنِينَ غَيرَ مُسفِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِى أَخْدَان وَ مَن يَكْفُرْ بِالايمَنِ فَقَدْ حَبِط عَمَلُهُ وَ هُوَ فى الاَخِرَةِ مِنَ الخَْسِرِينَ(5)

المعنى

ثم بين سبحانه في هذه الآية ما يحل من الأطعمة و الأنكحة إتماما لما تقدم
مجمع البيان ج : 3 ص : 251
فقال « اليوم أحل لكم الطيبات » و قد مر معناه و هذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة ألا ما قام الدليل على تحريمه « و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » اختلف في الطعام المذكور في الآية فقيل المراد به ذبائح أهل الكتاب عن أكثر المفسرين و أكثر الفقهاء و به قال جماعة من أصحابنا ثم اختلفوا فمنهم من قال أراد به ذباحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة و الإنجيل و من دخل في ملتهم و دان بدينهم عن ابن عباس و الحسن و عكرمة و سعيد بن المسيب و الشعبي و عطا و قتادة و أجازوا ذبائح نصارى بني تغلب و منهم من قال عنى به من أنزلت التوراة و الإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم و دان بدينهم فلا تحل ذبائحهم حكى ذلك الربيع عن الشافعي و حرم ذبائح بني تغلب من النصارى و رووا ذلك عن علي (عليه السلام) و سعيد بن جبير و قيل المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم و غيرها من الأطعمة عن أبي الدرداء و عن ابن عباس و إبراهيم و قتادة و السدي و الضحاك و مجاهد و به قال الطبري و الجبائي و البلخي و غيرهم و قيل أنه مختص بالحبوب و ما لا يحتاج فيه إلى التذكية و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و به قال جماعة من الزيدية فأما ذبائحهم فلا تحل « و طعامكم حل لهم » معناه و طعامكم يحل لكم أن تطعموهم « و المحصنات من المؤمنات » معناه و أحل لكم العقد على المحصنات أي العفائف من المؤمنات عن الحسن و الشعبي و إبراهيم و قيل أراد الحرائر عن مجاهد و اختاره أبو علي فعلى هذا القول لا تدخل الإماء في الإباحة مع القدرة على طول الحرة « و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » و هم اليهود و النصارى و اختلف في معناه فقيل هن العفائف حرائر كن أو إماء حربيات كن أو ذميات عن مجاهد و الحسن و الشعبي و غيرهم و قيل هن الحرائر ذميات كن أو حربيات و قال أصحابنا لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابية لقوله تعالى « و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » و لقوله « و لا تمسكوا بعصم الكوافر » و أولوا هذه الآية بأن المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن و المراد بالمحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات بأن ولدن على الإسلام و ذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين سبحانه أنه لا حرج في ذلك فلهذا أفردهن بالذكر حكى ذلك أبو القاسم البلخي قالوا و يجوز أن يكون مخصوصا أيضا بنكاح المتعة و ملك اليمين فإن عندنا يجوز وطؤهن بكلا الوجهين على أنه قد روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه منسوخ بقوله « و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » و بقوله « و لا تمسكوا بعصم الكوافر » و قوله « إذا آتيتموهن أجورهن » أي مهورهن و هو عوض الاستمتاع بهن عن ابن عباس و غيره « محصنين غير
مجمع البيان ج : 3 ص : 252
مسافحين » يعني أعفاء غير زانين بكل فاجرة و هو منصوب على الحال « و لا متخذي أخدان » أي و لا متفردين ببغية واحدة خادنها و خادنته اتخذها لنفسه صديقة يفجر بها و قد مر معنى الإحصان و السفاح و الأخدان في سورة النساء « و من يكفر بالإيمان » أي و من يجحد ما أمر الله بالإقرار به و التصديق له من توحيد الله و عدله و نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فقد حبط عمله » الذي عمله و اعتقده قربة إلى الله تعالى و إنما تحبط الأعمال بأن لا يستحق عليها ثواب « و هو في الآخرة من الخاسرين » أي الهالكين و قيل المعنى بقوله « و من يكفر بالإيمان » أهل الكتاب و يكون معناه و من يمتنع عن الإيمان و لم يؤمن و في قوله « فقد حبط عمله » هنا دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب و إنما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحق الثواب عليه فعبر سبحانه عن هذا العمل بأنه حبط فهو حقيقة معناه .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَ امْسحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَ أَرْجُلَكمْ إِلى الْكَعْبَينِ وَ إِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطهَّرُوا وَ إِن كُنتُم مَّرْضى أَوْ عَلى سفَر أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائطِ أَوْ لَمَستُمُ النِّساءَ فَلَمْ تجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صعِيداً طيِّباً فَامْسحُوا بِوُجُوهِكمْ وَ أَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِّنْ حَرَج وَ لَكِن يُرِيدُ لِيُطهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكمْ تَشكُرُونَ(6)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و الكسائي و حفص و الأعشى عن أبي بكر عن عاصم « و أرجلكم » بالنصب و الباقون و أرجلكم بالجر و قد ذكرنا اختلافهم في لامستم في سورة النساء و سنذكر ما قيل في أرجلكم على القراءتين في المعنى لأن الكلام فيه يتعلق بما اختلفت فيه الأمة من القول بوجوب غسل الرجلين أو مسحهما أو التخيير بين الغسل و المسح أو وجوب الأمرين كليهما على ما سنبينه إن شاء تعالى .

مجمع البيان ج : 3 ص : 253

اللغة

الجنب يقع على الوحدة و الجمع و المذكر و المؤنث كما يقال رجل عدل و قوم عدل زور و قوم زور يقال رجل جنب و قوم جنب و رجلان جنب و امرأة جنب و إنما هو على تأويل ذو جنب لأنه مصدر و المصدر يقوم مقام ما أضيف إليه و من العرب من يثني و يجمع و يجعل المصدر بمنزلة اسم الفاعل و أجنب الرجل و جنب و اجتنب و أصل الجنابة البعد قال علقمة :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة
فإني امرؤ وسط القباب غريب فاطهروا معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغم في الطاء فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الواصل فقيل اطهروا .

المعنى

لما تقدم الأمر بالوفاء بالعقود و من جملتها إقامة الصلاة و من شرائطها الطهارة بين سبحانه ذلك بقوله « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة و أنتم على غير طهر و حذف الإرادة لأن في الكلام دلالة على ذلك و مثله قوله « فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله » « و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة » و المعنى إذا أردت قراءة القرآن و إذا كنت فيهم فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة و هو قول ابن عباس و أكثر المفسرين و قيل معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة فعليكم الوضوء عن عكرمة و إليه ذهب داود قال و كان علي (عليه السلام) يتوضأ لكل صلاة و يقرأ هذه الآية و كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة و القول الأول هو الصحيح و إليه ذهب الفقهاء كلهم و ما رووه من تجديد الوضوء فمحمول على الندب و الاستحباب و قيل إن الفرض كان في بدء الإسلام التوضؤ عند كل صلاة ثم نسخ بالتخفيف و به قال ابن عمر قال حدثتني أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك و رفع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن فرضه على ما كان عليه فكان يتوضأ و روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلاة كلها بوضوء واحد فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه قال أ عمدا فعلته يا عمر ؟ و قيل إن هذا إعلام بأن الوضوء لا يجب إلا للصلاة لأنه روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى أنه لا يرد جواب السلام حتى يتطهر للصلاة ثم يجيب حتى نزلت هذه الآية « فاغسلوا وجوهكم » هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه و الغسل هو إمرار الماء على المحل حتى يسيل و المسح أن
مجمع البيان ج : 3 ص : 254
يبل المحل بالماء من غير أن يسيل و اختلف في حد الوجه فالمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا و ما دخل بين الإبهام و الوسطى عرضا و قيل حده ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا و ما بين الأذنين عرضا دون ما غطاه الشعر من الذقن و غيره أو كان داخل الفم و الأنف و العين فإن الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر و يواجهه دون غيره كما قلناه و هو المروي عن ابن عباس و ابن عمر و الحسن و قتادة و الزهري و الشعبي و غيرهم و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه و قيل الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا و من الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر من منابت شعر اللحية و العارض و ما بطن و ما كان منه داخل الفم و الأنف و ما أقبل من الأذنين على الوجه عن أنس بن مالك و أم سلمة و عمار و مجاهد و سعيد بن جبير و جماعة و إليه ذهب الشافعي « و أيديكم إلى المرافق » أي و اغسلوا ذلك أيضا و المرافق جمع مرفق و هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد قال الواحدي كثير من النحويين يجعلون إلى هنا بمعنى مع و يوجبون غسل المرفق و هو مذهب أكثر الفقهاء و قال الزجاج لو كان معناه مع المرافق لم يكن في المرافق فائدة و كانت اليد كلها يجب أن تغسل لكنه لما قيل « إلى المرافق » اقتطعت في الغسل من حد المرفق فالمرافق حد ما ينتهي إليه في الغسل منها و الظاهر على ما ذكره لكن الأمة أجمعت على أن من بدأ من المرفقين في غسل اليدين صح وضوؤه و اختلفوا في صحة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرفق و أجمعت الأمة أيضا على أن من غسل المرفقين صح وضوؤه و اختلفوا في من لم يغسلهما هل يصح وضوؤه و قال الشافعي لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها و مما جاء في القرآن إلى بمعنى مع قوله تعالى من أنصاري إلى الله أي مع الله و قوله « و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم » أي مع أموالكم و نحوه قول امرىء القيس :
له كفل كالدعص بلله الندى
إلى حارك مثل الرتاج المضبب و في أمثال ذلك كثرة « و امسحوا برءوسكم » و هذا أمر بمسح الرأس و المسح أن تمسح شيئا بيديك كمسح العرق عن جبينك و الظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس لأن من مسح البعض يسمى ماسحا و إلى هذا ذهب أصحابنا قالوا يجب أن يمسح منه ما يقع عليه
مجمع البيان ج : 3 ص : 255
اسم المسح و به قال ابن عمر و إبراهيم و الشعبي و هو مذهب الشافعي و قيل يجب مسح جميع الرأس و هو مذهب مالك و قيل يجب مسح ربع الرأس فإن رسول الله كان يمسح على ناصيته و هي قريب من ربع الرأس عن أبي حنيفة و رويت عنه روايات في ذلك لا نطول بذكرها « و أرجلكم إلى الكعبين » اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء إن فرضهما الغسل و قالت الإمامية فرضهما المسح دون غيره و به قال عكرمة و قد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة و التابعين كابن عباس و أنس و أبي العالية و الشعبي و قال الحسن البصري بالتخيير بين المسح و الغسل و إليه ذهب الطبري و الجبائي إلا أنهما قالا يجب مسح جميع القدمين و لا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم قال ناصر الحق من جملة أئمة الزيدية يجب الجمع بين المسح و الغسل و روي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فمسح على رجليه و روي عنه أنه قال إن في كتاب الله المسح و يأبى الناس إلا الغسل و قال الوضوء غسلتان و مسحتان و قال قتادة فرض الله غسلتين و مسحتين و روى ابن علية عن حميد عن موسى بن أنس أنه قال لأنس و نحن عنده إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال اغسلوا وجوهكم و أيديكم و امسحوا برءوسكم و أنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما و عواقيبهما فقال أنس صدق الله و كذب الحجاج قال الله تعالى « و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين » قال فكان أنس إذا مسح قدميه بلهما و قال الشعبي نزل جبرائيل (عليه السلام) بالمسح ثم قال إن في التيمم يمسح ما كان غسلا و يلقى ما كان مسحا و قال يونس حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما و أما ما روي عن سادة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك فأكثر من أن يحصى فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المسح على الرجلين فقال هو الذي نزل به جبرائيل و عنه عن أحمد بن محمد قال سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن المسح على القدمين كيف هو فوضع بكفه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين قال لا إلا بكفه كلها و أما وجه القراءتين في « أرجلكم » فمن قال بالغسل حمل الجر فيه على أنه عطف « برءوسكم » و قال المراد بالمسح هو الغسل و روي عن أبي زيد أنه قال المسح خفيف الغسل فقد قالوا تمسحت للصلاة و قوي ذلك بأن التحديد و التوقيت إنما جاء في المغسول و لم يجيء في الممسوح فلما وقع التحديد في المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد و هذا قول أبي علي الفارسي و قال بعضهم
مجمع البيان ج : 3 ص : 256
هو خفض على الجوار كما قالوا جحر ضب خرب و خرب من صفات الجحر لا الضب و كما قال امرؤ القيس :
كان ثبيرا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل و قال الزجاج إذا قرأ بالجر يكون عطفا على الرؤوس فيقتضي كونه ممسوحا و ذكره عن بعض السلف أنه قال نزل جبرائيل بالمسح و السنة الغسل قال و الخفض على الجوار لا يجوز في كتاب الله تعالى و لكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل و قال الأخفش هو معطوف على الرؤوس في اللفظ مقطوع عنه في المعنى كقول الشاعر :
علفتها تبنا و ماء باردا ) المعنى و سقيتها ماء باردا و أما القراءة بالنصب فقالوا فيه أنه معطوف على أيديكم لأنا رأينا فقهاء الأمصار عملوا على الغسل دون المسح و لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى قوما توضأوا و أعقابهم تلوح فقال ويل للعراقيب من النار ذكره أبو علي الفارسي و أما من قال بوجوب مسح الرجلين حمل الجر و النصب في و أرجلكم على ظاهره من غير تعسف فالجر للعطف على الرؤوس و النصب للعطف على موضع الجار و المجرور و أمثال ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى قالوا ليس فلان بقائم و لا ذاهبا و أنشد :
معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال و لا الحديد و قال تابط شرا :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا
أو عبد رب أخا عون بن مخراق فعطف عبد على موضع دينار فإنه منصوب على المعنى و أبعد من ذلك قول الشاعر :
جئني بمثل بني بدر لقومهم
أو مثل إخوة منظور بن سيار فإنه لما كان معنى جئتني هات أو أحضر لي مثلهم عطف بالنصب على المعنى و أجابوا الأولين عما ذكروه في وجه الجر و النصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز قالوا ما ذكروه أولا من أن المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه ( أحدها ) أن فائدة اللفظين في اللغة و الشرع
مجمع البيان ج : 3 ص : 257
مختلفة في المعنى .
و قد فرق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة و بين الأعضاء الممسوحة فكيف يكون معنى المسح و الغسل واحدا ( و ثانيها ) أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس و كان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك لأن حقيقة العطف تقتضي ذلك ( و ثالثها ) أن المسح لو كان بمعنى الغسل لسقط استدلالهم بما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه توضأ و غسل رجليه لأن على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما فسموا المسح غسلا و في هذا ما فيه فأما استشهاد أبي زيد بقولهم تمسحت للصلاة فالمعنى فيه أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز و لم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة لأن ذلك تشبيه بالغسل قالوا بدلا من ذلك تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا فتجوزوا لذلك تعويلا على أن المراد مفهوم و هذا لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل و أما ما قالوه في تحديد طهارة الرجلين فقد ذكر المرتضى ( ره ) في الجواب عنه أن ذلك لا يدل على الغسل و ذلك لأن المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل و لو صرح سبحانه فقال ( و امسحوا أرجلكم و انتهوا بالمسح إلى الكعبين ) لم يكن منكرا فإن قالوا إن تحديد اليدين لما اقتضى الغسل فكذلك تحديد الرجلين يقتضي الغسل قلنا أنا لم نوجب الغسل في اليدين للتحديد بل للتصريح بغسلهما و ليس كذلك في الرجلين و إن قالوا عطف المحدود على المحدود أولى و أشبه بترتيب الكلام قلنا هذا لا يصح لأن الأيدي محدودة و هي معطوفة على الوجوه التي ليست في الآية محدودة فإذا جاز عطف الأرجل و هي محدودة على الرؤوس التي ليست محدودة و هذا أشبه مما ذكرتموه لأن الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود و هو الوجه و عطف عضو محدود مغسول عليه ثم استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود فيجب أن يكون الأرجل ممسوحة و هي محدودة معطوفة على الرؤوس دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود و عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود و أما من قال أنه عطف على الجواز فقد ذكرنا عن الزجاج أنه لم يجوز ذلك في القرآن و من أجاز ذلك في الكلام فإنما يجوز مع فقد حرف العطف و كل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا و ذاك و أيضا فإن المجاورة إنما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس و الأمن من الاشتباه فإن أحدا لا يشتبه عليه أن خربا لا يكون من صفة الضب و لفظة مزمل
 

<<        الفهرس        >>