جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 3 ص : 81
عن التعرض للسكر في حالة وجوب أداء الصلاة عليهم و أجاب أبو علي الجبائي بجواب ثالث و هو أن النهي إنما دل على إعادة الصلاة واجبة عليهم أن أدوها في حال السكر و قد سئل أيضا فقيل إذا كان السكران مكلفا فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكرة مع أن عمل المسلمين على خلافه و أجيب عن ذلك بجوابين ( أحدهما ) أنه منسوخ ( و الآخر ) أنهم لم يؤمروا بتركها لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم و نهوا عن الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في جماعته تعظيما له و توقيرا ( القول الثاني ) أن المراد بقوله « و أنتم سكارى » سكر النوم خاصة عن الضحاك و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) و يعضد ذلك ما روته عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا نعس أحدكم و هو يصلي فلينصرف لعله يدعو على نفسه و هو لا يدري « حتى تعلموا ما تقولون » أي حتى تميزوا ما تقولون من الكلام و قيل معناه حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن و قوله « و لا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا » في معناه قولان ( أحدهما ) أن المراد به لا تقربوا الصلاة و أنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم و إن كان لا يرفع حكم الجنابة فإن التيمم و إن كان يبيح الصلاة فإنه لا يرفع الحدث عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد ( و الآخر ) أن معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلا مجتازين عن جابر و الحسن و عطاء و الزهري و إبراهيم و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و « عابري سبيل » أي مارين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة و هذا القول الأخير أقوى لأنه سبحانه بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا و إنما أراد سبحانه أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية و يبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية « و إن كنتم مرضى » قيل نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا و لم يستطع أن يقوم فيتوضأ فالمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح و الكسر و القروح إذا خاف أصحابها من مس الماء عن ابن عباس و ابن مسعود و السدي و الضحاك و مجاهد و قتادة و قيل هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء و لا يكون هناك من يناوله عن الحسن و ابن زيد و كان الحسن لا يرخص للجريح التيمم و المروي عن السيدين الباقر و الصادق (عليهماالسلام) جواز التيمم في جميع ذلك « أو على سفر » معناه أو كنتم مسافرين « أو جاء أحد منكم من الغائط » و هو كناية عن قضاء الحاجة قيل إن أو هاهنا بمعنى الواو كقوله سبحانه و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون بمعنى و جاء أحد منكم من الغائط و ذلك لأن المجيء من الغائط ليس من جنس المرض و السفر حتى يصح عطفه عليهما فإنهما سبب لإباحة التيمم و الرخصة و المجيء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة « أو لامستم النساء » المراد به الجماع عن علي
مجمع البيان ج : 3 ص : 82
(عليه السلام) و ابن عباس و مجاهد و السدي و قتادة و اختاره أبو حنيفة و الجبائي و قيل المراد به اللمس باليد و غيرها عن عمر بن الخطاب و ابن مسعود و الشعبي و عطا و اختاره الشافعي و الصحيح الأول لأن الله سبحانه بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله « و لا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا » ثم بين عند عدم الماء حكم المحدث بقوله « أو جاء أحد منكم من الغائط » فلا يجوز أن يدع بيان الحكم الجنب عند عدم الماء مع أنه جرى له ذكر في الآية و يبين فيه حكم المحدث و لم يجر له ذكر فعلمنا أن المراد بقوله « أو لامستم » الجماع ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء و اللمس و الملامسة معناهما واحد لأنه لا يلمسها إلا و هي تلمسه و يروى أن العرب و الموالي اختلفوا فيه فقالت الموالي المراد به الجماع و قال العرب المراد به مس المرأة فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال غلب الموالي المراد به الجماع و سمي الجماع لمسا لأن به يتوصل إلى الجماع كما يمسي المطر سماء و قوله « فلم تجدوا ماء » راجع إلى المرضى و المسافرين جميعا أي مسافر لا يجد الماء و مريض لا يجد من يوضؤه أو يخاف الضرر من استعمال الماء لأن الأصل أن حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء و حال السفر يغلب فيها عدم الماء « فتيمموا » ) أي تعمدوا و تحروا و اقصدوا « صعيدا » قال الزجاج لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض و هذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن « طيبا » أي طاهرا و قيل حلالا عن سفيان و قيل منبتا عن السبخة التي لا تنبت كقوله و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه « فامسحوا بوجوهكم و أيديكم » هذا هو التيمم الصعيد الطيب و اختلف في كيفية التيمم على أقوال ( أحدها ) أنه ضربة لليدين إلى المرفقين و هو قول أكثر الفقهاء و أبي حنيفة و الشافعي و غيرهما و به قال قوم من أصحابنا ( و ثانيها ) أنه ضربة للوجه و ضربة لليدين من الزندين و إليه ذهب عمار بن ياسر و مكحول و اختاره الطبري و هو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلا من الجنابة فإذا كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه و يديه من زنديه إلى أطراف أصابعهما و هو المروي عن سعيد بن المسيب ( و ثالثها ) أنه إلى الإبطين عن الزهري « أن الله كان عفوا » يقبل منكم العفو لأن في قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل الأمر علينا و قيل عفوا كثير الصفح و التجاوز « غفورا » كثير الستر لذنوب عباده و في الآية دلالة على أن السكران لا تصح صلاته و قد حصل الإجماع على أنه يلزمه القضاء و لا يصح من السكران شيء من العقود كالنكاح و البيع و الشراء و غير ذلك و لا رفعها كالطلاق و العتاق و في الطلاق خلاف بين الفريقين فعند أبي حنيفة يقع طلاقه و عند الشافعي لا يقع في
مجمع البيان ج : 3 ص : 83
أحد القولين فأما ما يلزم به الحدود و القصاص فعندنا أنه يلزمه جميع ذلك فيقطع بالسرقة و يحد بالقذف و الزنا لعموم الآيات المتناولة لذلك و لإجماع الطائفة عليه .
أ لَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَبِ يَشترُونَ الضلَلَةَ وَ يُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السبِيلَ(44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائكُمْ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً(45)
في الكوفي عدوا « أن تضلوا السبيل » آية و آية واحدة في غيرهم .

اللغة

العداوة الإبعاد من حال النصرة و ضدها الولاية و هي التقريب من حال النصرة و أما البغض فهو إرادة الاستخفاف و الإهانة و ضدها المحبة و هي إرادة الإعظام و الكرامة و الكفاية بلوغ الغاية في مقدار الحاجة كفى يكفي كفاية فهو كاف و الاكتفاء الاجتزاء بالشيء دون الشيء و مثله الاستغناء و النصرة الزيادة في القوة للغلبة و مثلها المعونة و ضدها الخذلان و لا يكون ذلك إلا عقوبة لأن منع المعونة من يحتاج إليها عقوبة .

الإعراب

في دخول الباء في قوله « بالله » قولان ( أحدهما ) أنه لتأكيد الاتصال ( و الثاني ) أنه دخله معنى اكتفوا بالله ذكره الزجاج و موضعه رفع بالاتفاق .

النزول

نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب و مالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لويا لسانهما و عاباه عن ابن عباس .

المعنى

لما ذكر سبحانه الأحكام التي أوجب العمل بها وصلها بالتحذير مما دعا إلى خلافها فقال « أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب » أي أ لم ينته علمك إلى الذين أعطوا حظا من علم الكتاب يعني التوراة و هم اليهود عن ابن عباس « يشترون الضلالة » أي يستبدلون الضلالة بالهدى و يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بدلا من التصديق و قيل كانت اليهود تعطي أحبارها كثيرا من أموالهم على ما كانوا يضعونه لهم فجعل ذلك اشتراء منهم عن أبي علي الجبائي و قيل كانوا يأخذون الرشى عن الزجاج « و يريدون أن تضلوا السبيل » أي يريد هؤلاء اليهود أن تزلوا أيها المؤمنون عن طريق الحق و هو الدين و الإسلام فتكذبوا بمحمد فتكونوا ضلالا و في ذلك تحذير للمؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الدين في شيء من أمورهم الدينية و الدنيوية ثم أخبر سبحانه بأنه أعلم بعداوة اليهود فقال « و الله أعلم
مجمع البيان ج : 3 ص : 84
بأعدائكم » أيها المؤمنون فانتهوا إلى إطاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم فإني أعلم بباطنهم منكم و ما هو عليه من الغش و الحسد و العداوة لكم « و كفى بالله وليا و كفى بالله نصيرا » معناه إن ولاية الله لكم و نصرته إياكم تغنيكم عن نصرة هؤلاء اليهود و من جرى مجراهم ممن تطمعون في نصرته .
مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يحَرِّفُونَ الْكلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سمِعْنَا وَ عَصيْنَا وَ اسمَعْ غَيرَ مُسمَع وَ رَعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتهِمْ وَ طعْناً فى الدِّينِ وَ لَوْ أَنهُمْ قَالُوا سمِعْنَا وَ أَطعْنَا وَ اسمَعْ وَ انظرْنَا لَكانَ خَيراً لهَُّمْ وَ أَقْوَمَ وَ لَكِن لَّعَنهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(46)

اللغة

أصل اللي الفتل يقال لويت العود ألويه ليا و لويت الغريم إذا مطلته و اللوية ما تتحف به المرأة ضيفها لتلوي بقلبه إليها و ألوى بهم الدهر إذا أفناهم و لوى البقل إذا اصفر و لم يستحكم يبسه و الألسنة جمع اللسان و هو آلة الكلام و اللسان اللغة و منه قوله « و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه » و تقول لسنته ألسنه إذا أخذته بلسانك قال طرفة :
و إذا تلسنني ألسنها
إنني لست بموهون فقر و أصل الطعن بالرمح و نحوه الطعن باللسان .

الإعراب

قيل في من هاهنا و اتصاله وجهان ( أحدهما ) أنه تبيين ل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فيكون العامل فيه أوتوا و هو في صلة الذين و يجوز أن لا يكون في الصلة كما تقول أنظر إلى النفر من قومك ما صنعوا ( الثاني ) أن يكون على الاستئناف و التقدير من الذين هادوا فريق يحرفون الكلم فألقي الموصوف لدلالة الصفة عليه كما قال ذو الرمة :
فظلوا و منهم دمعة سابق له
و آخر يثني دمعة العين بالمهل
مجمع البيان ج : 3 ص : 85
و أنشد سيبويه :
و ما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت و أخرى أبتغي العيش أكدح و قال الفراء المحذوف من الموصولة و التقدير من الذين هادوا من يحرفون الكلم كما يقولون منا يقول ذلك و منا لا يقوله قال و العرب تضمر من في مبتدإ الكلام بمن لأن من بعض لما هي منه كما قال تعالى « و ما منا إلا له مقام معلوم و إن منكم إلا واردها » و أنكر المبرد و الزجاج هذا القول قالا لأن من يحتاج إلى صلة أو صفة تقوم مقام الصلة فلا يحسن حذف الموصول مع بقاء الصلة كما لا يحسن حذف بعض الكلمة و « غير مسمع » نصب على الحال و « راعنا » من نونها جعلها كلمة الأمر كقولك رويدا و هنيئا و من لم ينون جعلها من المراعاة كما تقول قاضنا .
« ليا » مصدر وضع موضع الحال و كذلك قوله « و طعنا » و تقديره يلوون ألسنتهم ليا و يطعنون في الدين طعنا إلا قليلا تقديره يؤمنون و هم قليل فيكون « قليلا » منتصبا على الحال و يجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره إيمانا قليلا كما قال الشاعر :
فالفيتة غير مستعتب
و لا ذاكر الله إلا قليلا يريد إلا ذكرا قليلا و سقط التنوين من ذاكر لاجتماع الساكنين .

المعنى

ثم بين صفة من تقدم ذكرهم فقال « من الذين هادوا » أي أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود فيكون قوله « يحرفون الكلم » في موضع الحال و إن جعلته كلاما مستأنفا فمعناه من اليهود فريق « يحرفون الكلم عن مواضعه » أي يبدلون كلمات الله و أحكامه عن مواضعها و قال مجاهد يعني بالكلم التوراة و ذلك أنهم كتموا ما في التوراة من صفة النبي « و يقولون سمعنا و عصينا » معناه يقولون مكانه بألسنتهم سمعنا و في قلوبهم عصينا و قيل معناه سمعنا قولك و عصينا أمرك « و اسمع غير مسمع » أي و يقول هؤلاء اليهود للنبي اسمع منا غير مسمع كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح اسمع لا أسمعك الله عن ابن عباس و ابن زيد و قيل بل تأويله اسمع غير مجاب لك و لا مقبول منك عن الحسن و مجاهد و هذا كله إخبار من الله عن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة في عصر النبي لأنهم كانوا يسبونه و يؤذونه بالسيء من القول « و راعنا » قد ذكرنا معناه في سورة البقرة و قيل أنه كان سبأ للنبي تواضعوا عليه و يقال كانوا يقولون استهزاء و سخرية و يقال أنهم
مجمع البيان ج : 3 ص : 86
كانوا يقولونه على وجه التجبر كما يقول القائل لغيره أنصت لكلامنا و تفهم عنا و إنما يكون هو من المراعاة التي هي المراقبة « ليا بألسنتهم » أي تحريكا منهم لألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه « و طعنا في الدين » أي وقيعة فيه « و لو أنهم قالوا سمعنا » قولك « و أطعنا » أمرك و قبلنا ما جئتنا به « و اسمع » منا « و انظرنا » أي انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا « لكان خيرا لهم » يعني أنفع لهم عاجلا و آجلا « و أقوم » أي أعدل و أصوب في الكلام من الطعن و الكفر في الدين « و لكن لعنهم الله بكفرهم » أي طردهم عن ثوابه و رحمته لسبب كفرهم ثم أخبر الله عنهم فقال « فلا يؤمنون » في المستقبل « إلا قليلا » منهم فخرج مخبره على وفق خبره فلم يؤمن منهم إلا عبد الله بن سلام و أصحابه و هم نفر قليل و يقال معناه لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا لا إخلاص فيه و لكنهم عصموا دماءهم و أموالهم به و يجوز أن يكون المعنى فلا يؤمنون إلا بقليل مما يجب الإيمان به .
يَأَيهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب ءَامِنُوا بمَا نَزَّلْنَا مُصدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطمِس وُجُوهاً فَنرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصحَب السبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً(47)

اللغة

الطمس هو عفو الأثر و الطامس و الداثر و الدارس بمعنى و الأدبار جمع دبر و أصله من الدبر يقال دبره يدبره دبرا فهو دابر إذا صار خلفه و الدابر التابع و قوله « و الليل إذ أدبر » معناه تبع النهار و التدبير إحكام أدبار الأمور و هي عواقبها .

المعنى

ثم خاطب الله أهل الكتاب بالتخويف و التحذير فقال « يا أيها الذين أوتوا الكتاب » أي أعطوا علم الكتاب « آمنوا » أي صدقوا « بما نزلنا » يعني بما نزلناه على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن و غيره من أحكام الدين « مصدقا لما معكم » من التوراة و الإنجيل اللذين تضمنتا صفة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و صحة ما جاء به « من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها » و اختلف في معناه على أقوال ( أحدها ) أن معناه من قبل أن نمحو آثار وجوهكم حتى تصير كالأقفية و نجعل عيونها في أقفيتها فتمشي القهقرى عن ابن عباس و عطية العوفي ( و ثانيها ) إن المعنى أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها ذما لها بأنها لا تفلح أبدا عن الحسن و مجاهد و الضحاك و السدي و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) )
مجمع البيان ج : 3 ص : 87
( و ثالثها ) أن معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجوه القرود عن الفراء و أبي القاسم البلخي و الحسين بن علي المغربي ( و رابعها ) إن المراد حتى نمحو آثارهم من وجوههم أي نواحيهم التي هم بها و هي الحجاز الذي هو مسكنهم و نردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا و هو الشام و حمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا و أذرعات من الشام عن ابن زيد و هذا أضعف الوجوه لأنه ترك للظاهر .
فإن قيل على القول الأول كيف أوعد سبحانه و لم يفعل فجوابه على وجوه أحدها أن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن واحد منهم فلما آمن جماعة منهم كعبد الله بن سلام و ثعلبة بن شعبة و أسد بن ربيعة و أسعد بن عبيدة و مخريق و غيرهم و أسلم كعب في أيام عمر رفع العذاب عن الباقين و يفعل بهم ذلك في الآخرة على أنه سبحانه قال « أو نلعنهم كما لعنا » و المعنى أنه يفعل أحدهما و قد لعنهم الله بذلك و ثانيها أن الوعيد يقع بهم في الآخرة لأنه لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا تعجيلا للعقوبة ذكره البلخي و الجبائي و ثالثها أن هذا الوعيد باق منتظر لهم و لا بد من أن يطمس الله وجوه اليهود قبل قيام الساعة بأن يمسخها عن المبرد « أو نلعنهم » أي نخزيهم و نعذبهم عاجلا عن أبي مسلم و قيل معناه نمسخهم قردة « كما لعنا أصحاب السبت » يعني الذين اعتدوا في السبت عن السدي و قتادة و الحسن و إنما قال سبحانه « نلعنهم » بلفظ الغيبة و قد تقدم خطابهم لأحد أمرين إما للتصرف في الكلام كقوله « حتى إذا كنتم في الفلك » فخاطب ثم قال و جرين بهم بريح طيبة فكنى عنهم و أما لأن الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه لأنهم في حكم المذكورين « و كان أمر الله مفعولا » فيه قولان - ( أحدهما ) - إن كل أمر من أمور الله سبحانه من وعد أو وعيد أو خبر فإنه يكون على ما أخبر به عن الجبائي - ( و الآخر ) - إن معناه أن الذي يأمر به بقوله كن كائن لا محالة و في قوله سبحانه « من قبل أن نطمس وجوها » دلالة على أن لفظة قبل تستعمل في الشيء أنه قبل غيره و لم يوجد ذلك لغيره و لا خلاف في أن استعماله يصح و لذلك يقال كان الله سبحانه قبل خلقه .
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشرَك بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك لِمَن يَشاءُ وَ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افْترَى إِثْماً عَظِيماً(48)

اللغة

افترى اختلق و كذب و أصله من خلق الأديم يقال فريت الأديم أفريه فريا إذا قطعته على وجه الإصلاح و أفريته إذا قطعته على وجه الإفساد .

مجمع البيان ج : 3 ص : 88

الإعراب

« إثما عظيما » منصوب على المصدر لأن « افترى » بمعنى إثم و هذا كما تقول حمدته شكرا .

النزول

قال الكلبي نزلت في المشركين وحشي و أصحابه و ذلك أنه لما قتل حمزة و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنا قد ندمنا على الذي صنعناه و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول و أنت بمكة و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون الآيتان و قد دعونا مع الله إلها آخر و قتلنا النفس التي حرم الله و زنينا فلو لا هذه لاتبعناك فنزلت الآية « إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا » الآيتين فبعث بهما رسول الله إلى وحشي و أصحابه فلما قرأهما كتبوا إليه أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت « إن الله لا يغفر » الآية فبعث بها إليهم فقرءوها فبعثوا إليه أنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئة فنزلت « يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا » فبعث بها إليهم فلما قرءوها دخل هو و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقبل منهم ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة فلما أخبره قال ويحك غيب شخصك عني فلحق وحشي بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات و قال أبو مجلز عن ابن عمر قال نزلت في المؤمنين و ذلك أنه لما نزلت « قل يا عبادي الذين أسرفوا » الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال و الشرك بالله فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت « إن الله لا يغفر أن يشرك به » الآية أثبت هذه في الزمر و هذه في النساء و روى مطرف بن الشخير عن عمر بن الخطاب قال كنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا بأنه من أهل النار حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات .

المعنى

ثم أنه تعالى آيس الكفار من رحمته فقال « إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » معناه إن الله لا يغفر أن يشرك به أحد و لا يغفر ذنب الشرك لأحد و يغفر ما دونه من الذنوب لمن يريد قال المحققون هذه الآية أرجى آية في القرآن لأن فيها إدخال ما دون الشرك من جميع المعاصي في مشيئة الغفران وقف الله المؤمنين الموحدين بهذه الآية بين الخوف و الرجاء و بين العدل و الفضل و ذلك صفة المؤمن و لذلك قال الصادق (عليه السلام) لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا و يؤيده قوله سبحانه « و من يقنط من
مجمع البيان ج : 3 ص : 89
رحمة ربه إلا الضالون و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون » و روي عن ابن عباس أنه قال ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس و غربت قوله سبحانه « يريد الله ليبين لكم ، و يريد الله أن يخفف عنكم ، أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه يجز به ، « إن الله لا يغفر أن يشرك به » في الموضعين ، ما يفعل الله بعذابكم و بيان وجه الاستدلال بهذه الآية على أن الله تعالى يغفر الذنوب من غير توبة أنه نفى غفران الشرك و لم ينف غفرانه على كل حال بل نفي أن يغفر من غير توبة لأن الأمة أجمعت على أن الله يغفر بالتوبة و إن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة على وجه الوجوب و عندنا على وجه التفضل فعلى هذا يجب أن يكون المراد بقوله « و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » أنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين و إنما قلنا ذلك لأن موضوع الكلام الذي يدخله النفي و الإثبات و ينضم إليه الأعلى و الأدون أن يخالف الثاني الأول أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول الرجل أنا لا أدخل على الأمير إلا إذا دعاني و أدخل على من دونه إذا دعاني و إنما يكون الكلام مفيدا إذا قال و أدخل على من دونه و إن لم يدعني و لا معنى لقول من يقول من المعتزلة إن في حمل الآية على ظاهرها و إدخال ما دون الشرك في المشيئة إغراء على المعصية لأن الإغراء إنما يحصل بالقطع على الغفران فأما إذا كان الغفران متعلقا بالمشيئة فلا إغراء فيه بل يكون العبد به واقفا بين الخوف و الرجاء على الصفة التي وصف الله بها عباده المرتضين في قوله تعالى « يدعون ربهم خوفا و طمعا و يحذر الآخرة و يرجوا رحمة ربه » و بهذا وردت الأخبار الكثيرة من طريق الخاص و العام و انعقد عليه إجماع سلف أهل الإسلام و من قال إن في غفران ذنوب البعض دون البعض ميلا و محاباة و لا يجوز الميل و المحاباة على الله و جوابه أن الله متفضل بالغفران و للمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم و إنسان دون إنسان و هو عادل في تعذيب من يعذبه و ليس يمنع العقل و لا الشرع من الفضل و العدل و من قال منهم أن لفظة « ما دون ذلك » و إن كانت عامة في الذنوب التي هي دون الشرك فإنما نخصها و نحملها على الصغائر أو ما يقع منه التوبة لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد فجوابه أنا نعكس عليكم ذلك فنقول بل قد خصصوا ظاهر تلك الآيات لعموم ظاهر هذه الآية و هذا أولى لما روي عن بعض السلف أنه قال إن هذه الآية استثناء على جميع القرآن يريد به و الله أعلم جميع آيات الوعيد و أيضا فإن الصغائر تقع عندكم محبطة و لا تجوز المؤاخذة بها و ما هذا حكمه فكيف يعلق بالمشيئة فإن أحدا لا يقول إني أفعل الواجب إن شئت و أرد
مجمع البيان ج : 3 ص : 90
الوديعة إن شئت و قوله « و من يشرك بالله فقد افترى » أي فقد كذب بقوله إن العبادة يستحقها غير الله و إثم « إثما عظيما » أي غير مغفور و جاءت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية .
أَ لَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكى مَن يَشاءُ وَ لا يُظلَمُونَ فَتِيلاً(49) انظرْ كَيْف يَفْترُونَ عَلى اللَّهِ الْكَذِب وَ كَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً(50)

اللغة

التزكية التطهير و التنزيه و قد يكون الوصف بالتطهير تزكية و أصله من الزكاء و هو النمو يقال زكا الزرع يزكو زكاء و زكا الشيء إذا نما في إصلاح و أصل الفتيل ما يفتل و هو لي الشيء و الفتيلة معروفة و ناقة فتلاء إذا كان في ذراعها فتل عن الجنب و الفتيل بمعنى المفتول و هو عبارة عن الشيء الحقير قال النابغة :
يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو
ثم لا يرزأ العدو فتيلا و النظر هو الإقبال على الشيء بالبصر و منه النظر بالقلب لأنه إقبال على الشيء بالقلب و كذلك النظر بالرحمة و النظر إلى الشيء التأمل له و الانتظار الإقبال على الشيء بالتوقع و المناظرة إقبال كل واحد على الآخر بالمحاجة و النظير مثل الشيء لإقباله على نظيره بالمماثلة و الفرق بين النظر و الرؤية أن الرؤية هي إدراك المرئي و النظر الإقبال بالبصر نحو المرئي و لذلك قد ينظر و لا يراه و لذلك يجوز أن يقال لله تعالى أنه راء و لا يجوز أن يقال أنه ناظر .

الإعراب

فتيلا منصوب على أنه مفعول ثان كقولك ظلمته حقه قال علي بن عيسى و يحتمل أن يكون نصبا على التمييز كقولك تصببت عرقا .

النزول

قيل نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فقالوا هل على هؤلاء من ذنب فقال لا فقالوا و الله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل و ما
مجمع البيان ج : 3 ص : 91
عملناه بالليل كفر عنا بالنهار فكذبهم الله عن الكلبي و قيل نزلت في اليهود و النصارى حين قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى عن الضحاك و الحسن و قتادة و السدي و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) .

المعنى

ثم ذكر تعالى تزكية هؤلاء أنفسهم مع كفرهم و تحريفهم الكتاب فقال « أ لم تر » معناه أ لم تعلم و قيل أ لم تخبر و هو سؤال على وجه الإعلام و تأويله أعلم قصتهم أ لم ينته علمك « إلى » هؤلاء « الذين يزكون أنفسهم » أي يمدحونها و يصفونها بالزكاة و الطهارة بأن يقولوا نحن أزكياء و قيل هو تزكية بعضهم بعضا عن ابن مسعود و إنما قال « أنفسهم » لأنهم على دين واحد و هم كنفس واحدة « بل الله يزكي من يشاء » رد الله ذلك عليهم و بين أن التزكية إليه يزكي من يشاء أي يطهر من الذنب من يشاء و قيل معناه يقبل عمله فيصير زكيا و لا يزكي اليهود بل يعذبهم « و لا يظلمون فتيلا » معناه لا يظلمون في تعذيبهم و ترك تزكيتهم فتيلا أي مقدار فتيل و ذكر الفتيل مثلا و اختلف في معناه فقيل هو ما يكون في شق النواة عن ابن عباس و مجاهد و عطا و قتادة و قيل الفتيل ما في بطن النواة و النقير ما على ظهرها و القطمير قشرها عن الحسن و قيل الفتيل ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ عن ابن عباس و أبي مالك و السدي و في هذه الآية دلالة على تنزيه الله عن الظلم و إنما ذكر الفتيل ليعلم أنه لا يظلم قليلا و لا كثيرا « أنظر » يا محمد « كيف يفترون على الله الكذب » في تحريفهم كتابه و قيل في تزكيتهم أنفسهم و قولهم نحن أبناء الله و أحباؤه و لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى عن ابن جريج « و كفى به » أي كفى هو « إثما مبينا » أي وزرا بينا و إنما قال « كفى به » في العظم على جهة المدح أو الذم يقال كفى بحال المؤمن نيلا و كفى بحال الكافر خزيا فكأنه قال ليس يحتاج إلى حال أعظم منه و يحتمل أن يكون معناه كفى هذا إثما أي ليس يقصر عن منزلة الإثم .
أَ لَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكتَبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سبِيلاً(51) أُولَئك الَّذِينَ لَعَنهُمُ اللَّهُ وَ مَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تجِدَ لَهُ نَصِيراً(52)

مجمع البيان ج : 3 ص : 92

اللغة

الجبت لا تصريف له في اللغة العربية و روي عن سعيد بن جبير أنه قال هو السحر بلغة أهل الحبشة و هذا يحمل على موافقة اللغتين أو على أن العرب أدخلوها في لغتهم فصارت لغة لهم و اللعنة الإبعاد من رحمة الله عقابا على معصيته فلذلك لا يجوز لعن البهائم و لا من ليس بعاقل من المجانين و الأطفال لأنه سؤال العقوبة لمن يستحقها فمن لعن بهيمة أو حشرة أو نحو ذلك فقد أخطأ لأنه سأل الله تعالى ما لا يجوز في حكمته فإن قصد بذلك الإبعاد على وجه العقوبة جاز .

الإعراب

سبيلا منصوب على التمييز كما تقول هذا أحسن منك وجها أولئك لفظة جمع واحدة ذا في المعنى كما يقال نسوة في جمع امرأة و غلب على أولاء هاء للتنبيه و ليس ذلك في أولئك لأن في حرف الخطاب تنبيها للمخاطب و صار الكاف معاقبا للهاء التي للتنبيه في أكثر الاستعمال .

النزول

قيل كان أبو برزة كاهنا في الجاهلية فتنافس إليه ناس ممن أسلم فنزلت الآية عن عكرمة و قيل و هو قول أكثر المفسرين أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ينقضوا العهد الذي كان بينهم و بين رسول الله فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه و نزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة إنكم أهل كتاب و محمد صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل فذلك قوله « يؤمنون بالجبت و الطاغوت » ثم قال كعب يا أهل مكة ليجىء منكم ثلاثون و منا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب أنك امرؤ تقرأ الكتاب و تعلم و نحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا و أقرب إلى الحق نحن أم محمد قال كعب أعرضوا علي دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء و نسقيهم الماء و نقري الضيف و نفك العاني و نصل الرحم و نعمر بيت ربنا و نطوف به و نحن أهل الحرم و محمد فارق دين آبائه و قطع الرحم و فارق الحرم و ديننا القديم و دين محمد الحديث فقال أنتم و الله أهدى سبيلا مما عليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله « أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب » .

مجمع البيان ج : 3 ص : 93

المعنى

فالمعني بذلك كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود الذين كانوا معه بين الله أفعالهم القبيحة و ضمها إلى ما عدده فيما تقدم فقال « يؤمنون بالجبت و الطاغوت » يعني بهما الصنمين اللذين كانا لقريش و سجد لهما كعب بن الأشرف « و يقولون للذين كفروا » أبي سفيان و أصحابه « هؤلاء أهدى من الذين آمنوا » محمد و أصحابه « سبيلا » أي دينا عن عكرمة و جماعة من المفسرين و قيل إن المعني بالآية حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و سلام بن أبي الحقيق و أبو رافع في جماعة من علماء اليهود و الجبت الأصنام و الطاغوت تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكليب عنها عن ابن عباس و قيل الجبت الساحر و الطاغوت الشيطان عن ابن زيد و قيل الجبت السحر عن مجاهد و الشعبي و قيل الجبت الساحر و الطاغوت الكاهن عن أبي العالية و سعيد بن جبير و قيل الجبت إبليس و الطاغوت أولياؤه و قيل هما كلما عبد من دون الله من حجر أو صورة أو شيطان عن أبي عبيدة و قيل الجبت هنا حيي بن أخطب و الطاغوت كعب بن الأشرف عن الضحاك و بعض الروايات عن ابن عباس و المراد بالسبيل في الآية الدين و إنما سمي سبيلا لأنه كالطريق في الاستمرار عليه ليؤدي إلى المقصود « أولئك » إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم « الذين لعنهم الله » أي أبعدهم من رحمته و أخزاهم و خذلهم و أقصاهم « و من يلعن الله » أي و من يلعنه الله « فلن تجد له نصيرا » أي معينا يدفع عنه عقاب الله تعالى الذي أعده له و قيل فلن تجد له نصيرا في الدنيا و الآخرة لأنه لا يعتد بنصرة من ينصره مع خذلان الله إياه .
أَمْ لهَُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاس نَقِيراً(53) أَمْ يحْسدُونَ النَّاس عَلى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَهِيمَ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ ءَاتَيْنَهُم مُّلْكاً عَظِيماً(54) فَمِنهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَ مِنهُم مَّن صدَّ عَنْهُ وَ كَفَى بجَهَنَّمَ سعِيراً(55)

اللغة

النقير من النقر و هو النكت و منه المنقار لأنه ينقر به و الناقور الصور لأنه ينقر فيه بالنفخ المصوت و النقير خشبة ينقر و ينبذ فيها و انتقر اختص كما تختص بالنقر واحدا واحدا قال طرفة :
مجمع البيان ج : 3 ص : 94

نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الأدب فيها ينتقر و الحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها و هو خلاف الغبطة لأن الغبطة تمني مثل تلك النعمة لأجل السرور بها لصاحبها و لهذا صار الحسد مذموما و الغبطة غير مذمومة و قيل إن الحسد من إفراط البخل لأن البخل منع النعمة لمشقة بذلها و الحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها فالعمل فيهما على المشقة بنيل النعمة و أصل السعير من السعر و هو إيقاد النار و استعرت النار أو الحرب أو الشر و سعرتها أو أسعرتها و السعر سعر المتاع و سعره تسعيرا و ذلك لاستعار السوق بحماها في البيع و الساعور كالتنور .

الإعراب

أم هذه هي المنقطعة و ليست المعادلة لهمزة الاستفهام التي تسمى المتصلة و تقديره بل أ لهم نصيب من الملك و قال بعضهم إن همزة الاستفهام محذوفة من الكلام لأن أم لا تجيء مبتدأة بها و تقديره أ هم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك فيلزم الناس طاعتهم و هذا ضعيف لأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر و لا ضرورة في القرآن و إذن لم يعمل في يؤتون لأنها إذا وقعت بين الفاء و الفعل أو بين الواو و الفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما يلغى ظننت و أخواتها إذا توسطت أو تأخرت لأن النية به التأخير فالتقدير فلا يؤتون الناس نقيرا إذن لا يلبثون خلافك إلا قليلا إذن ، و يجوز أن تقدر مستأنفة فتعمل مع حرف العطف و لو قرأ « فإذا لا يؤتون الناس » لجاز لكن القراءة سنة متبعة و إذا لا تعمل في الفعل النصب إلا بشروط أربعة أن تكون جوابا لكلام و أن تكون مبتدأة في اللفظ و أن لا يكون ما بعدها متعلقا بما قبلها و يكون الفعل بعدها مستقبلا .

المعنى

لما بين حكم اليهود بأن المشركين أهدى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أصحابه بين الله سبحانه إن الحكم ليس إليهم إذ الملك ليس لهم فقال « أم لهم نصيب من الملك » و هذا استفهام معناه الإنكار أي ليس لهم ذلك و قيل المراد بالملك هاهنا النبوة عن الجبائي أي أ لهم نصيب من النبوة فيلزم الناس اتباعهم و طاعتهم و قيل المراد بالملك ما كانت اليهود تدعيه من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان و أنه يخرج منهم من يجدد ملتهم و يدعو إلى
مجمع البيان ج : 3 ص : 95
دينهم فكذبهم الله تعالى « فإذا لا يؤتون الناس نقيرا » أي لو أعطوا الدنيا و ملكها لما أعطوا الناس من الحقوق قليلا و لا كثيرا و في تفسير ابن عباس لو كان لهم نصيب من الملك لما أعطوا محمدا و أصحابه شيئا و قيل أنهم كانوا أصحاب بساتين و أموال و كانوا لا يعطون الفقراء شيئا « أم يحسدون الناس » معناه بل يحسدون الناس و اختلف في معنى الناس هنا على أقوال فقيل أراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حسدوه « على ما آتاهم الله من فضله » من النبوة و إباحة تسع نسوة و ميله إليهن و قالوا لو كان نبيا لشغلته النبوة عن ذلك فبين الله سبحانه إن النبوة ليست ببدع في آل إبراهيم ( ع ) « فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة » يعني النبوة و قد آتينا داود و سليمان المملكة و كان لداود تسع و تسعون امرأة و لسليمان مائة امرأة و قال بعضهم كان لسليمان ألف امرأة سبعمائة سرية و ثلاثمائة امرأة و كان لداود مائة امرأة فلا معنى لحسدهم محمدا على هذا و هو من أولاد إبراهيم (عليه السلام) و هم أكثر تزويجا و أوسع مملكة منه عن ابن عباس و الضحاك و السدي و قيل لما كان قوام الدين به صار حسدهم له كحسدهم لجميع الناس ( و ثانيها ) إن المراد بالناس النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و آله عن أبي جعفر (عليه السلام) و المراد بالفضل فيه النبوة و في آله الإمامة و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا أبا الصباح نحن قوم فرض الله طاعتنا لنا الأنفال و لنا صفو المال و نحن الراسخون في العلم و نحن المحسودون الذين قال الله في كتابه « أم يحسدون الناس » الآية قال و المراد بالكتاب النبوة و بالحكمة الفهم و القضاء و بالملك العظيم افتراض الطاعة ( و ثالثها ) إن المراد بالناس محمد و أصحابه لأنه قد جرى ذكرهم في قوله « هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا » و من فضله من نعمته عن أبي علي الجبائي ( و رابعها ) إن المراد بالناس العرب أي يحسدون العرب لما صارت النبوة فيهم عن الحسن و قتادة و ابن جريج و قيل المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل و الزبور و بالحكمة ما أوتوا من العلم و قوله « و آتيناهم ملكا عظيما » المراد بالملك العظيم النبوة عن مجاهد و الحسن و قيل المراد بالملك العظيم ملك سليمان عن ابن عباس و قيل ما أحل لداود و سليمان من النساء عن السدي و قيل الجمع بين سياسة الدنيا و شرع الدين « فمنهم من آمن به » فيه قولان ( أحدهما ) إن المراد فمن أهل الكتاب من آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و منهم من صد عنه » أي أعرض عنه و لم يؤمن به عن مجاهد و الزجاج و الجبائي و وجه اتصال هذا المعنى بالآية أنهم مع هذا الحسد و غيره من أفعالهم القبيحة فقد آمن بعضهم به ( و الآخر ) إن المراد به فمن أمة إبراهيم من آمن بإبراهيم و منهم من أعرض عنه كما أنكم في أمر محمد كذلك و ليس ذلك بموهن أمره كما لم يكن
مجمع البيان ج : 3 ص : 96
إعراضهم عن إبراهيم موهنا أمر إبراهيم « و كفى بجهنم سعيرا » أي كفى هؤلاء المعرضين عنه في العذاب النازل بهم عذاب جهنم نارا موقدة إيقادا شديدا يريد بذلك أنه إن صرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد أعد لهم عذاب جهنم في العقبي .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِنَا سوْف نُصلِيهِمْ نَاراً كلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56) وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ سنُدْخِلُهُمْ جَنَّت تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لهَُّمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مُّطهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظلِيلاً(57)

اللغة

يقال أصليته النار إذا ألقيته فيها و صليته صليا إذا شويته و شاة مصلية مشوية و الصلاء الشواء و صلي فلان بشر فلان و التبديل التغيير يقال أبدلت الشيء بالشيء إذا أزلت عينا بعين كما قال الشاعر :
عزل الأمير بالأمير المبدل و بدلت بالتشديد إذا غيرت هيئته و العين واحدة يقولون بدلت جبتي قميصا أي جعلتها قميصا ذكره المغربي و قد يكون التبديل بأن يوضع غيره موضعه قال الله يوم تبدل الأرض غير الأرض و الظل أصله الستر لأنه يستر من الشمس قال رؤبة كل موضع تكون فيه الشمس و تزول عنه فهو ظل و فيء و ما سوى ذلك فظل و لا يقال فيه فيء و الظل الليل كأنه كالستر من الشمس و الظلة السترة و الظليل الكنين .

المعنى

لما تقدم ذكر المؤمن و الكافر عقبه بذكر الوعد و الوعيد على الإيمان و الكفر فقال « إن الذين كفروا ب آياتنا » أي جحدوا حججنا و كذبوا أنبياءنا و دفعوا الآيات الدالة على توحدنا و صدق نبينا « سوف نصليهم نارا » أي نلزمهم نارا نحرقهم فيها و نعذبهم بها و دخلت سوف لتدل على أنه يفعل ذلك بهم في المستقبل « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها » قيل فيه أقوال ( أحدها ) إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت على ظاهر القرآن في أنها غيرها عن قتادة و جماعة من أهل التفسير و اختاره علي بن
مجمع البيان ج : 3 ص : 97
عيسى و من قال على هذا أن هذا الجلد المجدد لم يذنب فكيف يعذب من لا يستحق العذاب فجوابه أن المعذب الحي و لا اعتبار بالأطراف و الجلود و قال علي بن عيسى إن ما يزاد لا يؤلم و لا هو بعض لما يؤلم و إنما هو شيء يصل به الألم إلى المستحق له ( و ثانيها ) إن الله يجددها بأن يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه إذا كان قد تغير وجهه من الحالة الأولى كما إذا انكسر خاتم فاتخذ منه خاتما آخر يقال هذا غير الخاتم الأول و إن كان أصلهما واحدا فعلى هذا يكون الجلد واحدا و إنما تتغير الأحوال عليه و هو اختيار الزجاج و البلخي و أبي علي الجبائي ( و ثالثها ) إن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله تعالى سرابيلهم من قطران و سميت السرابيل الجلود على سبيل المجاورة للزومها الجلود و هذا ترك للظاهر بغير دليل و على القولين الأخيرين لا يلزم سؤال التعذيب لغير العاصي فأما من قال إن الإنسان غير هذه الجملة المشاهدة و أنه المعذب في الحقيقة فقد تخلص من هذا السؤال و قوله « ليذوقوا العذاب » معناه ليجدوا ألم العذاب و إنما قال ذلك ليبين أنهم كالمبتدأ عليهم العذاب في كل حالة فيحسون في كل حالة ألما لكن لا كمن يستمر به الشيء فإنه يصير أخف عليه « إن الله كان عزيزا » أي لم يزل منيعا لا يدافع و لا يمانع و قيل معناه أنه قادر لا يمتنع عليه إنجاز ما توعد به أو وعده « حكيما » في تدبيره و تقديره و في تعذيب من يعذبه و روى الكلبي عن الحسن قال بلغنا أن جلودهم تنضج كل يوم سبعين ألف مرة « و الذين آمنوا » بكل ما يجب الإيمان به « و عملوا الصالحات » أي الطاعات الصالحة الخالصة « سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أشجارها و قصورها الأنهار أي ماء الأنهار « خالدين فيها » أي دائمين فيها « أبدا لهم فيها أزواج مطهرة » طهرن من الحيض و النفاس و من جميع المعائب و الأدناس و الأخلاق الدنية و الطبائع الردية لا يفعلن ما يوحش أزواجهن و لا يوجد فيهن ما ينفر عنهن « و ندخلهم » في ذلك « ظلا ظليلا » أي كنينا ليس فيه حر و لا برد بخلاف ظل الدنيا و قيل ظلا دائما لا تنسخه الشمس كما في الدنيا و قيل ظلا متمكنا قويا كما يقال يوم أيوم و ليل أليل و داهية دهياء يصفون الشيء بمثل لفظه إذا أرادوا المبالغة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 98
* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَنَتِ إِلى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُم بَينَ النَّاسِ أَن تحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظكم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سمِيعَا بَصِيراً(58)

القراءة

قد ذكرنا الاختلاف بين القراء في نعما و وجوه قراءتهم و حججها في سورة البقرة .

اللغة

يقال أديت الشيء تأدية و قد يوضع الأداء موضع التأدية فيقام الاسم مقام المصدر و السميع هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و البصير من كان على صفة يجب لأجلها أن يبصر المبصرات إذا وجدت و السامع هو المدرك للمسموعات و المبصر هو المدرك للمبصرات و لهذا يوصف القديم فيما لم يزل بأنه سميع بصير و لا يوصف في القدم بأنه سامع مبصر .

الإعراب

قوله « نعما يعظكم به » تقديره نعم شيئا شيء يعظكم به فيكون شيئا تبيينا لاسم الجنس المضمر الذي هو فاعل نعم و المخصوص بالمدح قد حذف و أقيمت صفته مقامه و قوله « نعما يعظكم به » جملة في موضع رفع بأنه خبر أن .

المعنى

ثم أمر سبحانه بأداء الأمانة فقال « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » قيل في المعنى بهذه الآية أقوال ( أحدها ) أنها في كل من اوتمن أمانة من الأمانات و أمانات الله أوامره و نواهيه و أمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال و غيره عن ابن عباس و أبي بن كعب و ابن مسعود و الحسن و قتادة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ( و ثانيها ) إن المراد به ولاة الأمر أمرهم الله أن يقوموا برعاية الرعية و حملهم على موجب الدين و الشريعة عن زيد بن أسلم و مكحول و شهر بن حوشب و هو اختيار الجبائي و رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد الله الصادق قالا أمر الله تعالى كل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى من بعده ، و يعضده أنه سبحانه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر و روي عنهم أنهم قالوا آيتان إحداهما لنا و الأخرى لكم قال الله « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » الآية ثم قال « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم » الآية و هذا القول داخل في القول الأول لأنه من جملة ما ائتمن الله عليه الأئمة الصادقين و لذلك قال أبو جعفر (عليه السلام) إن أداء الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج من الأمانة و يكون من جملتها الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات و الغنائم و غير ذلك مما يتعلق به حق الرعية و قد عظم الله سبحانه أمر الأمانة بقوله « يعلم خائنة الأعين » و قوله « لا تخونوا الله
مجمع البيان ج : 3 ص : 99
و الرسول » و قوله « و من أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك » الآية ( و ثالثها ) إنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) برد مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة حين قبض منه المفتاح يوم فتح مكة و أراد أن يدفعه إلى العباس لتكون له الحجابة و السقاية عن ابن جريج و المعول على ما تقدم و إن صح القول الأخير و الرواية فيه فقد دل الدليل على أن الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه بل يكون على عمومه « و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » أمر الله الولاة و الحكام أن يحكموا بالعدل و النصفة و نظيره قوله « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق » و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي سو بين الخصمين في لحظك و لفظك و ورد في الآثار أن الصبيين ارتفعا إلى الحسن بن علي في خط كتباه و حكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي فقال يا بني أنظر كيف تحكم فإن هذا حكم و الله سائلك عنه يوم القيامة « إن الله نعما يعظكم به » أي نعم الشيء ما يعظكم به من الأمر برد الأمانة و النهي عن الخيانة و الحكم بالعدل و معنى الوعظ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قيل هو الأمر بالخير و النهي عن الشر « إن الله كان سميعا » بجميع المسموعات و « بصيرا » بجميع المبصرات و قيل معناه عالم بأقوالكم و أفعالكم و أدخل كان تنبيها على أن هذه الصفة واجبة له فيما لم يزل .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسولَ وَ أُولى الأَمْرِ مِنكمْ فَإِن تَنَزَعْتُمْ فى شىْء فَرُدُّوهُ إِلى اللَّهِ وَ الرَّسولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِك خَيرٌ وَ أَحْسنُ تَأْوِيلاً(59)

المعنى

لما بدأ في الآية المتقدمة بحث الولاة على تأدية حقوق الرعية و النصفة و التسوية بين البرية ثناه في هذه الآية بحث الرعية على طاعتهم و الاقتداء بهم و الرد إليهم فقال « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله » أي ألزموا طاعة الله سبحانه فيما أمركم به و نهاكم عنه « و أطيعوا الرسول » أي و الزموا طاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيضا و إنما أفرد الأمر بطاعة الرسول و إن كانت طاعته مقترنة بطاعة الله مبالغة في البيان و قطعا لتوهم من توهم أنه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر و نظيره قوله « من يطع الرسول فقد أطاع الله و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و ما ينطق عن الهوى » و قيل معناه أطيعوا الله في الفرائض
مجمع البيان ج : 3 ص : 100
و أطيعوا الرسول في السنن عن الكلبي و الأول أصح لأن طاعة الرسول هي طاعة الله و امتثال أوامره امتثال أوامر الله و أما المعرفة بأنه رسول الله فهي معرفة برسالته و لا يتم ذلك إلا بعد معرفة الله و ليست إحداهما هي الأخرى و طاعة الرسول واجبة في حياته و بعد وفاته لأن اتباع شريعته لازم بعد وفاته لجميع المكلفين و معلوم ضرورة أنه دعا إليها جميع العالمين إلى يوم القيامة كما علم أنه رسول الله إليهم أجمعين و قوله « و أولي الأمر منكم » للمفسرين فيه قولان ( أحدهما ) أنهم الأمراء عن أبي هريرة و ابن عباس في إحدى الروايتين و ميمون بن مهران و السدي و اختاره الجبائي و البلخي و الطبري ( و الآخر ) أنهم العلماء عن جابر بن عبد الله و ابن عباس في الرواية الأخرى و مجاهد و الحسن و عطا و جماعة و قال بعضهم لأنهم الذين يرجع إليهم في الأحكام و يجب الرجوع إليهم عند التنازع دون الولاة و أما أصحابنا فإنهم رووا عن الباقر و الصادق (عليهماالسلام) أن أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلا من ثبتت عصمته و علم أن باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم جل الله عن أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلفين في القول و الفعل لأنه محال أن يطاع المختلفون كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه و مما يدل على ذلك أيضا أن الله تعالى لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسول بطاعته إلا و أولوا الأمر فوق الخلق جميعا كما أن الرسول فوق أولي الأمر و فوق سائر الخلق و هذه صفة أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذين ثبتت إمامتهم و عصمتهم و اتفقت الأمة على علو رتبتهم و عدالتهم « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول » معناه فإن اختلفتم في شيء من أمور دينكم فردوا التنازع فيه إلى كتاب الله و سنة الرسول و هذا قول مجاهد و قتادة و السدي و نحن نقول الرد إلى الأئمة القائمين مقام الرسول بعد وفاته هو مثل الرد إلى الرسول في حياته لأنهم الحافظون لشريعته و خلفاؤه في أمته فجروا مجراه فيه ثم أكد سبحانه ذلك و عظمه بقوله « إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر » فما أبين هذا و أوضحه « ذلك » إشارة إلى طاعة الله و طاعة رسوله و أولي الأمر و الرد إلى الله و الرسول « خير و أحسن تأويلا » أي أحمد عاقبة عن قتادة و السدي و ابن زيد قالوا لأن التأويل من آل يؤول إذا رجع و المال المرجع و العاقبة سمي تأويلا لأنه م آل الأمر و قيل معناه أحسن جزاء عن مجاهد و قيل خير لكم في الدنيا و أحسن عاقبة في الآخرة و قيل معناه أحسن من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله و سنة نبيه عن الزجاج و هو الأقوى لأن الرد إلى الله
مجمع البيان ج : 3 ص : 101
و رسوله و من يقوم مقامه من المعصومين أحسن لا محالة من تأويل بغير حجة و استدل بعضهم بقوله « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول » على إن إجماع الأمة حجة بأن قالوا إنما أوجب الله الرد إلى الكتاب و السنة بشرط وجود التنازع فدل على أنه إذا لم يوجد التنازع لا يجب الرد و لا يكون كذلك إلا و الإجماع حجة و هذا الاستدلال إنما يصح لو فرض إن في الأمة معصوما حافظا للشرع فأما إذا لم يفرض ذلك فلا يصح لأن تعليق الحكم بشرط أو صفة لا يدل على إن ما عداه بخلافه عند أكثر العلماء فكيف اعتمدوا عليه هاهنا على أن الأمة لا تجمع على شيء إلا عن كتاب أو سنة و كيف يقال إنها إذا اجتمعت على شيء لا يجب عليها الرد إلى الكتاب و السنة و قد ردت إليهما .
أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَ مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِك يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشيْطنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضلَلا بَعِيداً(60) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَ إِلى الرَّسولِ رَأَيْت الْمُنَفِقِينَ يَصدُّونَ عَنك صدُوداً(61)

اللغة

الطاغوت ذو الطغيان على جهة المبالغة في الصفة فكل من يعبد من دون الله فهو طاغوت و قد يسمى به الأوثان كما يسمى بأنه رجس من عمل الشيطان و يوصف به أيضا كل من طغى بأن حكم بخلاف حكم الله و أصل الضلال الهلاك بالعدول عن الطريق المؤدي إلى البغية لأنه ضد الهدى الذي هو الدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية و له تصرف كثير يرجع جميعه إلى هذه النكتة ذكرناها في سورة البقرة عند قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » و تعالوا أصله من العلو فإذا قلت لغيرك تعال فمعناه ارتفع إلي ، و صددت الأصل فيه أن لا يتعدى تقول صددت عن فلان أصد بمعنى أعرضت عنه و يجوز صددت فلانا عن فلان بالتعدي لأنه دخله معنى منعته عنه و مثله رجعت أنا و رجعت غيري لأنه دخله معنى رددته .

مجمع البيان ج : 3 ص : 102

الإعراب

صدودا نصب على المصدر على وجه التأكيد للفعل كقوله « و كلم الله موسى تكليما » و المعنى أنه ليس ذلك على بيان مثل الكلام بل حكمة في الحقيقة و قيل في معنى تكليما أنه كلمه تكليما شريفا عظيما فيمكن تقدير مثل ذلك في الآية أي يصدون عنك صدودا عظيما .

النزول

كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي أحاكم إلى محمد لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة و لا يجور في الحكم فقال المنافق لا بل بيني و بينك كعب بن الأشرف لأنه علم أنه يأخذ الرشوة فنزلت الآية عن أكثر المفسرين .

المعنى

لما أمر الله أولي الأمر بالحكم و العدل و أمر المسلمين بطاعتهم وصل ذلك بذكر المنافقين الذين لا يرضون بحكم الله و رسوله فقال « أ لم تر » أي أ لم تعلم و قيل أنه تعجب منه أي أ لم تتعجب من صنيع هؤلاء و قيل أ لم ينته علمك « إلى » هؤلاء « الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك » من القرآن « و ما أنزل من قبلك » من التوراة و الإنجيل « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » يعني كعب بن الأشرف عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و الضحاك و قيل أنه كاهن من جهينة أراد المنافق أن يتحاكم إليه عن الشعبي و قتادة و قيل أراد به ما كانوا يتحاكمون فيه إلى الأوثان بضرب القداح عن الحسن و روى أصحابنا عن السيدين الباقر (عليه السلام) و الصادق (عليه السلام) إن المعني به كل من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحق « و قد أمروا أن يكفروا به » يعني به قوله تعالى « فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها » « و يريد الشيطان » بما زين لهم « أن يضلهم ضلالا بعيدا » عن الحق نسب إضلالهم إلى الشيطان فلو كان الله قد أضلهم بخلق الضلالة فيهم على ما يقوله المجبرة لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا « و إذا قيل لهم » أي المنافقين « تعالوا إلى ما أنزل الله » في القرآن من الأحكام « و إلى الرسول » في حكمه « رأيت » يا محمد « المنافقين يصدون عنك صدودا » أي يعرضون عنك أي عن المصير إليك إلى غيرك إعراضا .

مجمع البيان ج : 3 ص : 103
فَكَيْف إِذَا أَصبَتْهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوك يحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسناً وَ تَوْفِيقاً(62) أُولَئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِض عَنهُمْ وَ عِظهُمْ وَ قُل لَّهُمْ فى أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغاً(63)

اللغة

الحلف القسم و منه الحليف لتحالفهم فيه على الأمر و أصل البلاغة البلوغ يقال بلغ الرجل بالقول يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا صار يبلغ بعبارته كثيرا مما في قلبه و يقال أحمق بلغ و بلغ إذا كان مع حماقته يبلغ حيث يريد و قيل معناه قد بلغ في الحماقة .

الإعراب

موضع كيف رفع بأنه خبر مبتدإ محذوف و التقدير فكيف صنيعهم إذا أصابتهم مصيبة فكأنه قال الإساءة صنيعهم بالجرأة على كذبهم أم الإحسان صنيعهم بالتوبة من جرمهم و يجوز أن يكون موضع كيف نصبا و تقديره كيف يكونوا أ مصرين أم تائبين يكونون و لو قلت أنه رفع على معنى كيف بك كأنه قال إصلاح بك أم فساد بك فيكون مبتدأ محذوف الخبر و يحلفون في موضع نصب على الحال و « إن أردنا إلا إحسانا » جواب القسم و إحسانا مفعول به أي أردنا إحسانا .

المعنى

ثم عطف تعالى على ما تقدم بقوله « فكيف » صنيع هؤلاء « إذا أصابتهم مصيبة » أي نالتهم من الله عقوبة « بما قدمت أيديهم » بما كسبت أيديهم من النفاق و إظهار السخط لحكم النبي « ثم جاءوك » يا محمد « يحلفون » يقسمون « بالله إن أردنا إلا إحسانا » أي ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا التخفيف عنك فإنا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك و نقتصر على من يتوسط لنا برضاء الخصمين دون الحكم المورث للضغائن فقوله « إلا إحسانا » أي إحسانا إلى الخصوم « و توفيقا » بينهم بالتماس التوسعة دون الحمل على مر الحكم و أراد بالتوفيق الجمع و التأليف و قيل توفيقا أي طلبا لما يوافق الحق و قيل إن المعنى بالآية عبد الله بن أبي و المصيبة ما أصابه من الذل برجعتهم من غزوة بني المصطلق و هي غزوة المريسيع حين نزلت سورة المنافقين فاضطر إلى الخشوع و الاعتذار و سنذكر ذلك إن شاء الله في سورة المنافقين أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله في الإقالة و الاستغفار و أستوهبه ثوبه ليتقي به النار يقولون ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين بني المصطلق ذكره الحسين بن علي المغربي و في الآية دلالة على أنه قد
مجمع البيان ج : 3 ص : 104
تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب ثم اختلف في ذلك فقال أبو علي الجبائي لا يكون ذلك إلا عقوبة إلا في التائب و قال أبو هاشم يكون ذلك لطفا و قال القاضي عبد الجبار قد يكون ذلك لطفا و قد يكون جزاء و هو موقوف على الدليل « أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم » من الشرك و النفاق و الخيانة « فأعرض عنهم » أي لا تعاقبهم « و عظهم » بلسانك « و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا » أي قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم فهذا هو القول البليغ لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ عن الحسن و قيل معناه فأعرض عن قبول الاعتذار منهم و عظهم مع ذلك و خوفهم بمكاره تنزل بهم في أنفسهم إن عادوا لمثل ما فعلوه عن أبي علي الجبائي و في قوله « و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا » دلالة على فضل البلاغة و حث على اعتمادها بأوضح بيان لكونها أحد أقسام الحكمة لما فيها من بلوغ المعنى الذي يحتاج إلى التفسير باللفظ الوجيز مع حسن الترتيب .
وَ مَا أَرْسلْنَا مِن رَّسول إِلا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلَمُوا أَنفُسهُمْ جَاءُوك فَاستَغْفَرُوا اللَّهَ وَ استَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً(64)

الإعراب

ما في قوله « و ما أرسلنا » نافية فلذلك قال « من رسول » لأن من لا تزاد في الإيجاب و زيادتها تؤذن باستغراق الكلام كقولك ما جاءني من أحد و لو موضوعة للفعل لما فيها من معنى الجزاء تقول لو كان كذا لكان كذا و لا تأتي بعدها إلا أن خاصة و إنما أجيز في أن خاصة أن تقع بعدها لأنها كالفعل في إفادة التأكيد فموضع أن بعد لو مع اسمها و خبرها رفع بكونه فاعل الفعل المضمر بعد لو و تقديره لو وقع أنهم جاءوك وقت ظلمهم أنفسهم أي لو وقع مجيئهم .

المعنى

ثم لامهم سبحانه على ردهم أمره و ذكر أن غرضه من البعثة الطاعة فقال « و ما أرسلنا من رسول » أي لم نرسل رسولا من رسلنا « إلا ليطاع » عني به أن الغرض من الإرسال أن يطاع الرسول و يمتثل بما يأمر به و إنما اقتضى ذكر طاعة الرسول هنا أن هؤلاء المنافقين الذين يتحاكمون إلى الطاغوت زعموا أنهم يؤمنون به و أعرضوا عن طاعته فبين الله أنه لم يرسل رسولا إلا ليطاع و قوله « بإذن الله » أي بأمر الله الذي دل به على وجوب
مجمع البيان ج : 3 ص : 105
طاعتهم و الأذن على وجوه ( أحدها ) يكون بمعنى اللطف كقوله « و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » - ( و ثانيها ) - بمعنى التخلية كقوله تعالى « و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ( و ثالثها ) - بمعنى الأمر كما في الآية « و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم » أي بخسوها حقها بإدخال الضرر عليها بفعل المعصية من استحقاق العقاب و تفويت الثواب بفعل الطاعة و قيل ظلموا أنفسهم بالكفر و النفاق « جاءوك » تائبين مقبلين عليك مؤمنين بك « فاستغفروا الله » لذنوبهم و نزعوا عما هم عليه « و استغفر لهم الرسول » رجع من لفظ الخطاب في قوله « جاءوك » إلى لفظ الغيبة جريا على عادة العرب المألوفة و استغفرت لهم يا محمد ذنوبهم أي سألت الله أن يغفر لهم ذنوبهم « لوجدوا الله » هذا يحتمل معنيين - ( أحدهما ) - لوجدوا مغفرة الله لذنوبهم و رحمته إياهم - ( و الثاني ) - لعلموا الله توابا رحيما و الوجدان يكون بمعنى العلم و بمعنى الإدراك فلا يجوز أن يكون على ظاهره هنا بمعنى الإدراك لأنه سبحانه غير مدرك في نفسه « توابا » أي قابلا لتوبتهم « رحيما » بهم في التجاوز عما قد سلف منهم و في قوله « و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع » أوكد دلالة على بطلان مذهب المجبرة و القائلين بأن الله يريد أن يعصي أنبياءه قوم و يطيعهم آخرون و ذكر الحسن في هذه الآية إن اثني عشر رجلا من المنافقين ائتمروا فيما بينهم و اجتمعوا على أمر مكيدة لرسول الله فأتاه جبرائيل فأخبره بها فقال (عليه السلام) إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا و ليستغفروا الله و ليعترفوا بذلك حتى أشفع لهم فلم يقوموا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مرارا لا تقومون فلم يقم أحد منهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) قم يا فلان قم يا فلان حتى عد اثني عشر رجلا فقاموا و قالوا كنا عزمنا على ما قلت و نحن نتوب إلى الله من ظلمنا فاشفع لنا فقال الآن أخرجوا عني أنا كنت في أول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة و كان الله أسرع إلى الإجابة فخرجوا عنه حتى لم يرهم و في الآية دلالة على أن مرتكب الكبيرة يجب عليه الاستغفار فإن الله سيتوب عليه بأن يقبل توبته و يدل أيضا على أن مجرد الاستغفار لا يكفي مع كونه مصرا على المعصية لأنه لم يكن ليستغفر لهم الرسول ما لم يتوبوا بل ينبغي أن يتوب و يندم على ما فعله و يعزم في القلب على أن لا يعود أبدا إلى مثله ثم يستغفر الله باللسان ليتوب الله عليه .
فَلا وَ رَبِّك لا يُؤْمِنُونَ حَتى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يجِدُوا فى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضيْت وَ يُسلِّمُوا تَسلِيماً(65)
 

<<        الفهرس        >>