جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 2 ص : 863
كانت لأهل الإخلاص و بقي لأهل النفاق الخوف و السهر فقال « يغشى طائفة منكم » يعني المؤمنين ألقي عليهم النوم و كان السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع إلى القتال فقعد المسلمون تحت الجحف متهيئين للحرب فأنزل الله الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظن فطير عنهم النوم عن ابن إسحاق و ابن زيد و قتادة و الربيع « و طائفة قد أهمتهم أنفسهم » أي و جماعة قد شغلتهم أنفسهم و قيل حملتهم على الهم و منه قول العرب همك ما أهمك و معناه كان همهم خلاص أنفسهم و العرب تطلق هذا اللفظ على كل خائف وجل شغله هم نفسه عن غيره « يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية » أي يتوهمون أن الله لا ينصر محمدا و أصحابه كظنهم في الجاهلية و قيل كظن أهل الجاهلية و هم الكفار و المكذبون بوعد الله و وعيده فكان ظن المنافقين كظنهم و قيل ظنهم ما ذكر بعده من قوله « يقولون هل لنا من الأمر من شيء » فهذا تفسير لظنهم يعني يقول بعضهم لبعض هل لنا من النصر و الفتح و الظفر نصيب قالوا ذلك على سبيل التعجب و الإنكار أي أ نطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء أي ليس لنا من ذلك شيء و قيل إن معناه إنا أخرجنا كرها و لو كان الأمر إلينا ما خرجنا عن الحسن و كان هذا القائل عبد الله بن أبي و معتب بن قشير و أصحابهما عن الزبير بن العوام و ابن جريج « قل » يا محمد « إن الأمر كله لله » ينصر من يشاء و يخذل من يشاء لا خاذل لمن نصره و لا ناصر لمن خذله و ربما عجل النصر و ربما أخره لضرب من الحكمة و لا يكون لوعده خلف و المراد بالأمر في الموضعين النصر « يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك » أي يخفون في أنفسهم الشك و النفاق و ما لا يستطيعون إظهاره لك « يقولون لو كان لنا من الأمر » أي من الظفر كما وعدنا « شيء ما قتلنا هاهنا » أي ما قتل أصحابنا شكا منهم فيما وعده الله تعالى نبيه من الاستعلاء على أهل الشرك و تكذيبا به « قل » يا محمد لهم في جواب ذلك « لو كنتم في بيوتكم » و منازلكم « لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم » قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون و المرتابون و تخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون و يقتلون و التقدير و لو تخلفتم عن القتال لما تخلف المؤمنون ( و الثاني ) إن معناه لو كنتم في منازلكم لخرج الذين كتب عليهم القتل أي كتب آجالهم و موتهم و قتلهم في اللوح المحفوظ في ذلك الوقت إلى مصارعهم و ذلك إن ما علم الله كونه فإنه يكون كما علمه لا محالة و ليس في ذلك أن المشركين غير قادرين على ترك القتال من حيث علم الله ذلك منهم و كتبه لأنه كما علم
مجمع البيان ج : 2 ص : 864
أنهم لا يختارون ذلك علم أنهم قادرون و لو وجب ذلك لوجب أن يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله و القول بذلك كفر « و ليبتلي الله ما في صدوركم » أي يختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على ما علم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير معمول عن الزجاج و قيل معناه ليعاملكم معاملة المبتلين مظاهرة في العدل عليكم و قيل أنه عطف على قوله ثم صرفكم عنهم ليبتليكم « و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم » أي يخلص و قيل هذا خطاب للمنافقين أي يأمركم بالخروج فلا تخرجون فيظهر للمسلمين معاداتكم لهم و تنكشف أسراركم فلا يعدكم المسلمون من جملتهم و قيل معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم كما في قوله « الذين يحاربون الله و رسوله » و « يؤذون الله و رسوله » و قيل أنه عطف على قوله « أمنة نعاسا » أي ليظهر عند هذه الأحوال موافقة باطنكم ظاهركم « و ليمحص ما في قلوبكم » أي يطهرها من الشك بما يريكم من عجائب صنعه و يخلص نياتكم و هذا التمحيص خاص للمؤمنين دون المنافقين « و الله عليم بذات الصدور » معناه أن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإن الله عليم بذلك و إنما ابتلاكم ليظهر أسراركم فيقع الجزاء على ما ظهر .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَْمْعَانِ إِنَّمَا استزَلَّهُمُ الشيْطنُ بِبَعْضِ مَا كَسبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155)

المعنى

ثم ذكر الله الذين انهزموا يوم أحد أيضا فقال « إن الذين تولوا منكم » أي إن الذين ولوا الدبر على المشركين بأحد منكم أيها المسلمون عن قتادة و الربيع و قيل هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة عن السدي « يوم التقى الجمعان » جمع المسلمين و سيدهم رسول الله و جمع المشركين و رئيسهم أبو سفيان « إنما استزلهم الشيطان » أي طلب زلتهم عن القتيبي و قيل أزل و استزل بمعنى « ببعض ما كسبوا » من معاصيهم السالفة فلحقهم شؤمها و قيل استزلهم بمحبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة عن الجبائي قال و في ذلك الزجر عما يؤدي إلى الفتور فيما يلزم من الأمور و قيل استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها و الخروج من المظلمة فيها عن الزجاج « و لقد عفا الله عنهم » أعاد تعالى ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين في العفو و منعا لهم عن اليأس و تحسينا لظنون المؤمنين « إن الله غفور حليم »
مجمع البيان ج : 2 ص : 865
قد مر معناه و ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار فأما المهاجرون فعلي (عليه السلام) و أبو بكر و طلحة و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و قد اختلف في الجميع إلا في علي (عليه السلام) و طلحة و قد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال و رأيتني أصعد في الجبل كأني أروى و لم يرجع عثمان من الهزيمة إلا بعد ثلاث فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقد ذهبت فيها عريضة .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لاخْوَنِهِمْ إِذَا ضرَبُوا فى الأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَّوْ كانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِك حَسرَةً فى قُلُوبهِمْ وَ اللَّهُ يحْىِ وَ يمِيت وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156) وَ لَئن قُتِلْتُمْ فى سبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيرٌ مِّمَّا يجْمَعُونَ(157) وَ لَئن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لالى اللَّهِ تحْشرُونَ(158)

القراءة

قرأ ابن كثير و أهل الكوفة غير عاصم بما يعملون بالياء و الباقون بالتاء و قرأ نافع و أهل الكوفة غير عاصم متم بالكسر و وافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا و قرأ الباقون « متم » بضم الميم و قرأ « مما يجمعون » بالياء حفص عن عاصم و الباقون تجمعون بالتاء .

الحجة

قال أبو علي حجة من قرأ بالتاء قوله « و لا تكونوا كالذين كفروا » و حجة من قرأ بالياء أن قبلها أيضا غيبة و هو قوله « و قالوا لإخوانهم » و ما بعده فحمل الكلام على الغيبة و الأشهر الأقيس في « متم ضم الميم و الكسر شاذ في القياس و نحوه مما شذ فضل يفضل في الصحيح و أنشدوا :
ذكرت ابن عباس بدار ابن عامر
و ما مر من عمري ذكرت و ما فضل
مجمع البيان ج : 2 ص : 866
و أما « تجمعون » بالتاء فالمعنى على تجمعون أيها المقتولون في سبيل الله أو المائتون و معنى الياء أنه لمغفرة من الله خير مما يجمعه غيركم .

اللغة

الضرب في الأرض السير فيها و أصله الضرب باليد و قيل هو الإيغال في السير و غزى جمع غاز نحو ضارب و ضرب و طالب و طلب .

الإعراب

قوله « و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض » وضع إذا موضع إذ لأحد أمرين إما لأنه متصل بلا تكونوا كهؤلاء إذا ضرب إخوانهم في الأرض و إما لأن ( الذي ) إذا كان مبهما غير موقت يجري مجرى ما في الجزاء فيقع الماضي فيه موضع المستقبل نحو إن الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله معناه يكفرون و يصدون و يجوز لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته لإبهام الذي و لا يجوز لأكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته لتوقيت الذي من أجل الإشارة إليه بهذا و قوله « ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم » اللام فيه يتعلق بلا تكونوا أي لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول « ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم » دونكم و قيل أنه يتعلق بقوله « و قالوا لإخوانهم » فيكون لام العاقبة عن أبي علي الجبائي و قوله « لئن قتلتم » استغنى عن جواب الجزاء فيه بجواب القسم في قوله « لمغفرة من الله و رحمة خير مما يجمعون » و قد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب و كان جواب القسم أولى بالذكر لأن له صدر الكلام مما يذكر في حشوه و اللام في قوله « و لئن متم » تحتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون خلفا من القسم و يكون اللام في قوله « لألى الله » جوابا كقولك ( و الله إن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله ) ( و الثاني ) أن تكون مؤكدة لما بعدها كما تؤكد أن ما بعدها و تكون الثانية جوابا لقسم محذوف و النون لا بد منها في الفعل المضارع مع لام القسم لأن القسم أحق بالتأكيد من كل ما يدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل على أنه من مواضع التأكيد فإذا جازت في غيره من الأمر و النهي و الاستفهام و العرض و الجزاء مع ما لزمت في القسم لأنه أحق بها من غيره و الفرق بين لام القسم و لام الابتداء إن لام الابتداء يصرف الاسم إليه فلا يعمل فيه ما قبلها نحو قد علمت لزيد خير منك و قد علمت أن زيدا ليقوم و ليس كذلك لام القسم لأنها لا تدخل على الاسم و لا يكسر لها إن نحو قد علمت أن زيدا ليقومن و يلزمها النون في المستقبل .

المعنى

ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم و أفعالهم
مجمع البيان ج : 2 ص : 867
فقال « يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا » يريد عبد الله بن أبي سلول و أصحابه من المنافقين عن السدي و مجاهد و قيل هو عام « و قالوا لإخوانهم » من أهل النفاق « إذا ضربوا في الأرض » أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتوا عن السدي و ابن إسحاق و إنما خص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر و قيل اكتفي بذكر البر عن ذكر البحر كقوله تعالى « سرابيل تقيكم الحر » و قيل لأن الأرض تشتمل على البر و البحر « أو كانوا غزى » أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا « لو كانوا » مقيمين « عندنا ما ماتوا و ما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم » معناه قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد فلم يقبل المؤمنون ذلك و خرجوا و نالوا العز و الغنيمة فصار حسرة في قلوبهم و اللام على هذا في ليجعل لام العاقبة و قيل معناه و لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذه المقالة لكي يجعل الله تلك المقالة سببا لإلزام الحسرة و الحزن في قلوبهم لما يحصل لهم من الخيبة فيما أملوا من الموافقة و لما فاتهم من عز الظفر و الغنيمة « و الله يحيي و يميت » أي هو الذي يحيي و يميت في السفر و الحضر عند حضور الأجل لا مقدم لما أخر و لا مؤخر لما قدم و لا راد لما قضى و لا محيص عما قدر و هذا يتضمن منع الناس عن التخلف في الجهاد خشية القتل فإن الإحياء و الإماتة بيد الله سبحانه فلا حياة لمن قدر الله موته و لا موت لمن قدر الله حياته « و الله بما تعملون بصير » أي مبصر و قيل عليم و هذا يتضمن الترغيب في الطاعة و الترهيب عن المعصية ثم حث سبحانه على الجهاد و بين أن الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة بأن قال « و لئن قتلتم » أيها المؤمنون « في سبيل الله » أي في الجهاد « أو متم » قاصدين مجاهدة الكفار استوجبتم « مغفرة من الله و رحمة » و المغفرة الصفح عن الذنوب و الرحمة الثواب و الجنة و هاتان « خير مما يجمعون » من الأموال و المقاصد الدنيوية و هذا يتضمن تعزية المؤمنين و تسليتهم عما أصابهم في سبيل الله و فيه تقوية لقلوبهم و تهوين للموت و القتل عليهم ثم قال « و لئن متم أو قتلتم لألى الله تحشرون » أي سواء متم أو قتلتم فإن مرجعكم إلى الله فيجزي كلا منكم كما يستحقه المحسن على إحسانه و المسيء على إساءته ف آثروا ما يقربكم منه و يوجب لكم رضاه من العمل بطاعته و الجهاد في سبيله و لا تركنوا إلى الدنيا و في هذا المعنى البيت الذي ينسب إلى الإمام الحسين بن علي :
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل ( سؤال ) إن قيل كيف عادل بين مغفرة الله و رحمته و بين حطام الدنيا مع تفاوت ما
مجمع البيان ج : 2 ص : 868
بينهما و لا يقول أحد الدرة خير من البعرة ( فجوابه ) إن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للاستكثار من الدنيا و إيثارا للمقام فيها فعلى هذا جاز ذلك .
فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللَّهِ لِنت لَهُمْ وَ لَوْ كُنت فَظاًّ غَلِيظ الْقَلْبِ لانفَضوا مِنْ حَوْلِك فَاعْف عَنهُمْ وَ استَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يحِب الْمُتَوَكلِينَ(159)

اللغة

( الفظ الغليظ ) الجافي القاسي القلب يقال منه فظظت تفظ فظاظة و أنت فظ على وزن فعل إلا أنه أدغم كصب و الفظاظة خشونة الكلام و الافتظاظ شرب ماء الكرش لجفائه على الطبائع فإن أصل الفظاظة الجفوة و الفظ ماء الكرش و الفض بالضاد تفريق الشيء و الانفضاض التفرق و شاورت الرجل مشاورة و شوارا و الاسم المشورة و قيل المشورة و فلان حسن الشورة و الصورة أي الهيأة و اللباس و أنه لصير شير و هو حسن الشارة و معنى قولهم شاورت فلانا أظهرت في الرأي ما عندي و ما عنده و شرت الدابة أشورها إذا امتحنتها فعرقت هيئتها في سيرها و شرت العسل و أشرته إذا أخذته من مواضع النحل و عسل مشور و مشار قال الشاعر :
كان القرنفل و الزنجبيل
باتا بفيها و أريا مشورا و قال عدي بن زيد :
و غناء يأذن الشيخ له
و حديث مثل ما ذي مشار و العزم عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله و العزيمة كذلك قال ابن دريد يقال عزمت عليك يعني أقسمت عليك و التوكل إظهار العجز و الاعتماد على الغير و التوكل على الله هو تفويض الأمر إليه و الثقة بحسن تدبيره و أصله الاتكال و هو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه ممن يستند إليه و منه الوكالة لأنه عقد على الكفاية بالنيابة و الوكيل هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه .

مجمع البيان ج : 2 ص : 869

الإعراب

« فبما رحمة » ما زائدة بإجماع المفسرين و مثله قوله عما قليل جاءت ما مؤكدة للكلام و دخولها تحسن النظم كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له
حرمت علي و وليتها لم تحرم و قال الفرزدق :
ناديت أنك إن نجوت فبعد ما
يأس و قد نظرت إليك شعوب و ذلك ليتمكن المعنى في النفس فجرى مجرى التكرير .

المعنى

ثم بين سبحانه أن مساهلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إياهم و مجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق « فبما رحمة » أي فبرحمة « من الله لنت لهم » معناه أن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك و كرم سجيتك بالحجج و البراهين « و لو كنت » يا محمد « فظا » أي جافيا سيء الخلق « غليظ القلب » أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة و لا رأفة « لانفضوا من حولك » أي لتفرق أصحابك عنك و نفروا منك و قيل إنما جمع بين الفظاظة و الغلظة و إن كانتا متقاربتين لأن الفظاظة في الكلام فنفى الجفاء عن لسانه و القسوة عن قلبه « فاعف عنهم » ما بينك و بينهم « و استغفر لهم » ما بينهم و بيني و قيل معناه فاعف عنهم فرارهم من أحد و استغفر لهم من ذلك الذنب « و شاورهم في الأمر » أي استخرج آراءهم و اعلم ما عندهم و اختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال ( أحدها ) أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم و الت آلف لهم و الرفع من أقدارهم ليبين أنهم ممن يوثق بأقوالهم و يرجع إلى آرائهم عن قتادة و الربيع و ابن إسحاق ( و ثانيها ) أن ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة و لم يروها نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم عن سفيان بن عيينة ( و ثالثها ) أن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة ليتميز الناصح من الغاش ( و خامسها ) أن ذلك في أمور الدنيا و مكائد الحرب و لقاء العدو و في مثل ذلك يجوز أن يستعين ب آرائهم عن أبي علي الجبائي « فإذا عزمت » أي فإذا عقدت قلبك على الفعل و إمضائه و رووا عن جعفر بن محمد و عن جابر بن يزيد فإذا عزمت بالضم فعلى هذا يكون معناه فإذا عزمت لك و وفقتك و أرشدتك « فتوكل على الله » أي فاعتمد على الله و ثق به و فوض أمرك إليه
مجمع البيان ج : 2 ص : 870
« إن الله يحب المتوكلين » يعني الواثقين به و المعتمدين عليه و المنقطعين إليه الواكلين أمرهم إلى لطفه و تدبيره و في هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق و محاسن الأفعال و من عجيب أمره (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع و ذلك أنه كان أوسط الناس نسبا و أوفرهم حسبا و أسخاهم و أشجعهم و أزكاهم و أفصحهم و هذه كلها من دواعي الترفع ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب و يخصف النعل و يركب الحمار و يعلف الناضح و يجيب دعوة المملوك و يجلس في الأرض و يأكل على الأرض و كان يدعو إلى الله من غير زئر و لا كهر و لا زجر و لقد أحسن من مدحه في قوله :
فما حملت من ناقة فوق ظهرها
أبر و أوفى ذمة من محمد و في الآية أيضا ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء و حثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم و على مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم من الأمور و نهيهم عن الفظاظة في القول و الغلظة و الجفاء في الفعل و دعائهم إلى التوكل عليه و تفويض الأمر إليه و فيها أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبه على أنه لو لا رحمته لم يقع اللين و التواضع و لو لم يكن كذلك لما أجابوه فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه و عن سائر الأنبياء و من يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق و هذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر لأن التنفير في ذلك أكثر .
إِن يَنصرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِب لَكُمْ وَ إِن يخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَ عَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ(160)

المعنى

لما أمر الله سبحانه نبيه بالتوكل بين معنى وجوب التوكل عليه فقال « إن ينصركم الله » على من ناواكم « فلا غالب لكم » أي فلا يقدر أحد على غلبتكم و إن كثر عدد من يناوئكم و قل عددكم « و إن يخذلكم » أي يمنعكم معونته و يخل بينكم و بين أعدائكم بمعصيتكم إياه « فمن ذا الذي ينصركم من بعده » الهاء عائدة إلى اسم الله على الظن و المعنى على حذف المضاف و تقديره من بعد خذلانه يعني أنه لا ناصر لكم ينصركم بعد خذلان الله إياكم و من هاهنا معناه التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 871
ينصركم أحد من بعده و إنما تضمن حرف الاستفهام معنى النفي لأن جوابه يجب أن يكون بالنفي فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه و كان أبلغ لتقرير المخاطب فيه « و على الله فليتوكل المؤمنون » ظاهر المراد و تضمنت الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة و التحذير من معصية الله التي يستحق بها الخذلان مع إيجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا قال أبو علي الجبائي و في الآية دليل على أن من غلبه أعداء الله من الباغين لم ينصره الله لأنه لو نصره لما غلبوه و ذلك بحسب ما في المعلوم من مصالح العباد مع تعريض المؤمنين لمنازل الأبرار بالصبر على الجهاد مع خوف القتل من حيث لم يجعل على أمان من غلبة الفجار و هذا إنما هو في النصرة بالغلبة فأما النصرة بالحجة فإن الله نصر المؤمنين من حيث هداهم إلى طريق الحق بما نصب لهم من الأدلة الواضحة و البراهين القاطعة و لو لا ذلك لما حسن التكليف و قال أبو القاسم البلخي المؤمنون منصورون أبدا إن غلبوا فهم المنصورون بالغلبة و إن غلبوا فهم المنصورون بالحجة و لا يجوز أن ينصر الله الكافر على وجه و قال الجبائي النصرة بالغلبة ثواب لأنه لا يجوز أن ينصر الله الظالمين من حيث لا يريد استعلاءهم بالظلم على غيرهم و قال ابن الإخشيد ليس بصواب كيف تصرفت الحال لأن الله تعالى أمرنا أن ننصر الفئة المبغى عليها و قد لا تكون مستحقة للثواب فأما الخذلان فلا خلاف أنه عقاب و الخذلان هو الامتناع من المعونة على عدو في وقت الحاجة إليها لأنه لو امتنع إنسان من معونة من يستغني عن معونته لم يكن خاذلا له .
وَ مَا كانَ لِنَبى أَن يَغُلَّ وَ مَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ ثُمَّ تُوَفى كلُّ نَفْس مَّا كَسبَت وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ(161)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم « أن يغل » بفتح الياء و ضم الغين و قرأ الباقون بضم الياء و فتح الغين .

الحجة

من قرأ « يغل » فمعناه يخون .
يقال غل في الغنيمة يغل إذا خان فيها و أغل بمعناه و قال النمر بن تولب :
جزى الله عنا جمرة بنت نوفل
جزاء مغل بالأمانة كاذب
بما سألت عني الوشاة ليكذبوا
علي و قد أوليتها في النوائب
مجمع البيان ج : 2 ص : 872
و من قرأ يغل فمعناه على وجهين ( أحدهما ) ما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة أي يقال له غللت كقولك أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة :
و أسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره و ملاعبه و قال الكميت :
و طائفة قد أكفرتني بحبكم
و طائفة قالت مسيء و مذنب أي نسبتني إلى الكفر ( و الآخر ) ما كان لنبي أن يخان بمعنى يسرق منه و يؤخذ من الغنيمة التي حازها و يكون تخصيص النبي بذلك تعظيما للذنب قال أبو علي الفسوي الحجة لمن قرأ « أن يغل » إنما جاء في التنزيل من هذا النحو أسند الفعل فيه إلى الفاعل نحو ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء و ما كان ليأخذ أخاه و ما كان لنفس أن تموت و ما كان الله ليضل قوما و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و لا يكاد يقال ما كان لزيد أن يضرب و ما كان لزيد ليضرب فيسند الفعل فيه إلى المفعول به فكذلك قوله و ما كان لنبي أن يغل يسند الفعل فيه إلى الفاعل و يروي عن ابن عباس أنه قرأ « يغل » فقيل له أن عبد الله قرأ يغل فقال ابن عباس بلى و الله و يقتل و روي عن ابن عباس أيضا أنه قال و قد كان النبي يقتل فكيف لا يخون .

اللغة

أصل الغلول من الغلل و هو دخول الماء في خلل الشجر يقال انغل الماء في أصول الشجر و الغلول الخيانة لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل كالغلل و منه الغل الحقد لأنه يجري في النفس كالغلل و منه الغليل حرارة العطش و الغلة كأنها تجري في الملك من جهات مختلفة و الغلالة لأنها شعار تحت البدن .

النزول

روي عن ابن عباس و سعيد بن جبير أنها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم فقال بعضهم لعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أخذها و في رواية الضحاك عنه أن رجلا غل بمخيط أي بإبرة من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت الآية و عن مقاتل أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة و قالوا نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له و لا يقسم كما لم يقسم يوم بدر و وقعوا في الغنائم فقال رسول الله أ ظننتم أنا نغل و لا نقسم لكم فأنزل الله الآية و قيل أنه قسم المغنم و لم يقسم للطلائع فلما قدمت
مجمع البيان ج : 2 ص : 873
الطلائع قالوا أقسم الفيء و لم يقسم لنا فعرفه الله الحكم فنزلت الآية و قيل نزلت في أداء الوحي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ القرآن و فيه عيب دينهم و سب آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله الآية .

المعنى

لما قدم تعالى أمر الجهاد و ذكر بعده ما يتعلق به من حديث الغنائم و النهي عن الخيانة فيها فقال « و ما كان لنبي أن يغل » و تقديره و ما كان لنبي الغلول لأن أن مع الفعل بمعنى المصدر أي لا تجتمع النبوة و الخيانة و قيل معناه ما كان له أن يكتم شيئا من الوحي عن ابن إسحاق و تقديره ما كان له أن يغل أمته فيما يؤدي إليهم و قيل اللام منقولة و تقديره ما كان النبي ليغل كقوله ما كان لله أن يتخذ من ولد معناه ما كان الله ليتخذ ولدا و على القراءة الأخرى ما كان لنبي أن يخون أي يخونه أصحابه أو بمعنى يكتمونه شيئا من المغنم على ما مضى القول فيه و خصه بالذكر و إن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير للمسلمين لوجهين ( أحدهما ) لعظم خيانته و أنها أعظم من خيانة غيره و هذا كقوله « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » و إن كان اجتناب جميع الأرجاس واجبا ( و الآخر ) أن النبي إنما خص بالذكر لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه و هو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى و أجدر و قوله « و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة » معناه أنه يأتي حاملا على ظهره كما روي في حديث طويل ألا لا يغلن أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي به على ظهره له حمحمة فيقول يا محمد يا محمد فأقول قد بلغت قد بلغت لا أملك لك من الله شيئا عن ابن عباس و أبي حميد و أحمد الساعدي و ابن عمر و قتادة و قال الجبائي و ذلك ليفضح به على رءوس الأشهاد و قال البلخي فيجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل كان الله إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له و له صوت و قد روي في خبر آخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يأمر مناديا فينادي في الناس ردوا الخيط و المخيط فإن الغلول عار و شنار يوم القيامة فجاء رجل بكبة شعر فقال إني أخذتها لأخيط بردعة بعيري فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أما نصيبي منها فهو لك فقال الرجل أما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا حاجة لي فيها و الأولى أن يكون معناه و من يغلل يواف بما غل يوم القيامة فيكون حمل غلوله على عنقه أمارة يعرف بها و ذلك حكم الله تعالى في كل من وافى يوم القيامة بمعصيته لم يتب منها أو أراد الله تعالى أن يعامله بالعدل أظهر عليه من معصيته علامة تليق بمعصيته ليعلمه أهل القيامة بها و يعلموا سبب استحقاقه العقوبة كما قال تعالى « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان » و هكذا حكمه تعالى في كل من وافى القيامة بطاعة فإنه تعالى يظهر من طاعته علامة يعرف
مجمع البيان ج : 2 ص : 874
بها « ثم توفي كل نفس ما كسبت » أي يعطي كل نفس جزاء ما عملت تاما وافيا « و هم لا يظلمون » أي لا ينقص أحد مقدار ما يستحقه من الثواب و لا يزاد أحد عن مقدار ما استحقه من العذاب و في هذه الآية دلالة على فساد قول المجبرة إن الله لو عذب أولياءه لم يكن ذلك منه ظلما لأنه قد بين أنه لو لم يوفها ما كسبت لكان ظلما .
أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضوَنَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسخَط مِّنَ اللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْس المَْصِيرُ(162) هُمْ دَرَجَتٌ عِندَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ(163)

اللغة

باء أي رجع يقال باء بذنبه يبوء بوءا إذا رجع به و بوأته منزلا أي هيأته له لأنه يرجع إليه و السخط من الله هو إرادة العقاب لمستحقه و لعنه و هو مخالف للغيظ لأن الغيظ هو هيجان الطبع و انزعاج النفس فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى و المصير المرجع و يفرق بينهما بأن المرجع هو انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها و المصير انقلاب الشيء إلى خلاف الحال التي هو عليها نحو مصير الطين خزفا و لا يقال رجع الطين خزفا لأنه لم يكن قبل خزفا و الدرجة الرتبة و الدرجان مشي الصبي لتقارب الرتب و الترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة المعروفة .

النزول

لما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين و اتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية .

المعنى

لما بين تعالى أن كل نفس توفى جزاء ما كسبت من خير و شر عقبه ببيان من كسب الخير و الشر فقال « أ فمن اتبع رضوان الله » و فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه أ فمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول عن الحسن و الضحاك و اختاره الطبري لأنه أشبه بما تقدم ( و ثالثها ) أ فمن اتبع رضوان الله بالجهاد في سبيله « كمن باء بسخط من الله » في الفرار منه رغبة عنه عن الزجاج و الجبائي و هذا الوجه يطابق ما سبق ذكره من سبب النزول « و ماواه جهنم » أي مصيره و مرجعه جهنم « و بئس المصير » أي المكان الذي صار إليه و المستقر و الآية استفهام و المراد به التقرير و الفرق بين الفريقين أي ليس من اتبع رضوان الله أي رضاءه كمن باء بسخطه « هم
مجمع البيان ج : 2 ص : 875
درجات » أي هم ذوو درجات « عند الله » فالمؤمنون ذوو درجة رفيعة و الكافرون ذوو درجة خسيسة و قيل في معناه قولان ( أحدهما ) أن المراد اختلاف مرتبتي أهل الثواب و العقاب بما لهؤلاء من النعيم و الكرامة و لأولئك من العقاب و المهانة و عبر عن ذلك بدرجات مجازا و توسعا ( و الثاني ) أن المراد اختلاف مراتب كل من الفريقين فإن الجنة طبقات بعضها أعلى من بعض كما جاء في الخبر أن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق السماء و النار دركات بعضها أسفل من بعض و مثله في حذف المضاف قول ابن هرمة أنشده سيبويه :
أنصب للمنية تعتريهم
رجالي أم هم درج السيول أي هم ذوو درج « و الله بصير بما يعملون » أي عليم و في هذا ترغيب للناس في اتباع مرضاة الله تعالى و تحذيرهم عما يوجب سخطه و إعلام بأن أسرار العباد عنده علانية و فيه توثيق بأنه لا يضيع عمل عامل لديه إذ لا يخفى شيء من ذلك عليه فيثيب على الطاعة و يعاقب على المعصية .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَث فِيهِمْ رَسولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الْحِكمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضلَل مُّبِين(164)

اللغة

أصل المن القطع يقال منه يمنه إذا قطعه و المن النعمة لأنه يقطع بها عن البلية يقال من فلان علي بكذا أي استنقذني به مما أنا فيه و المن تكدير النعمة لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها و المنة القوة لأنه يقطع بها الأعمال .

المعنى

ثم ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثه نبينا فقال « لقد من الله » أي أنعم الله « على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا » منهم خص المؤمنين بالذكر و إن كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) مبعوثا إلى جميع الخلق لأن النعمة عليهم أعظم لاهتدائهم به و انتفاعهم ببيانه
مجمع البيان ج : 2 ص : 876
و نظير ذلك ما تقدم بيانه من قوله هدى للمتقين و قوله « من أنفسهم » فيه أقوال ( أحدها ) أن المراد به من رهطهم يعرفون منشأه و صدقه و أمانته و كونه أميا لم يكتب كتابا و لم يقرأه ليعلموا أن ما أتى به وحي منزل و يكون ذلك شرفا لهم و داعيا إياهم إلى الإيمان ( و ثانيها ) أن المراد به أنه يتكلم بلسانهم فيسهل عليهم تعلم الحكمة منه فيكون خاصا بالعرب ( و ثالثها ) أنه عام لجميع المؤمنين و المراد بأنفسهم أنه من جنسهم لم يبعث ملكا و لا جنيا و موضع المنة فيه أنه بعث فيهم من عرفوا أمره و خبروا شأنه و قوله « يتلو عليهم آياته » يعني القرآن « و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة » مضى بيانه في سورة البقرة « و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين » يعني أنهم كانوا في ضلال ظاهر بين أي كفارا و كفرهم هو ضلالهم فأنقذهم الله بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
أَ وَ لَمَّا أَصبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصبْتُم مِّثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(165)

الإعراب

إنما دخلت الواو في « أ و لما » لعطف جملة على جملة إلا أنه تقدمها ألف الاستفهام لأن له صدر الكلام و إنما وصلت هذه الواو الكلام الثاني بالأول ليدل على تعلقه به في المعنى و ذلك أنها وصلت التفريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة لفرقة واحدة .

المعنى

ثم عاد الكلام إلى ذكر الجهاد فقال « أ و لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها » أي حين أصابكم القتل و الجرح و ذلك ما أصاب المسلمين يوم أحد فإنه قتل من المسلمين سبعون رجلا و كانوا هم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها فإنهم كانوا قتلوا من المشركين سبعين رجلا و أسروا سبعين عن قتادة و عكرمة و الربيع و السدي أي و قد أصبتم أيها المسلمون يوم بدر مثليها و قيل قتلهم منهم ببدر سبعين و بأحد سبعين عن الزجاج و هذا ضعيف لأنه خلاف ما ذكره أهل السير فإنه لا خلاف بينهم أنه قتل منهم بأحد نفر يسير فقوله خلاف الجمهور « قلتم أنى يكون هذا » أي من أي وجه أصابنا هذا و نحن مسلمون و فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ينزل عليه الوحي و هم مشركون و قيل إنهم إنما استنكروا ذلك لأنه وعدهم بالنصر من الله إن أطاعوه عن الجبائي و قوله « قل هو من عند أنفسكم » أي قل يا محمد ما أصابكم من الهزيمة و القتل من عند أنفسكم أي بخلافكم أمر ربكم و ترككم طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) و فيه أقوال ( أحدها ) أن ذلك بمخالفتهم الرسول في الخروج من
مجمع البيان ج : 2 ص : 877
المدينة للقتال يوم أحد و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) دعاهم إلى أن يتحصنوا بها و يدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها فقالوا كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية و نحن الآن في الإسلام و أنت يا رسول الله نبينا أحق بالامتناع و أعز عن قتادة و الربيع ( و ثانيها ) أن ذلك باختيارهم الفداء من الأسرى يوم بدر و كان الحكم فيهم القتل و شرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا رضينا فإنا نأخذ الفداء و ننتفع به و إذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء عن علي (عليه السلام) و عبيدة السلماني و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) ( و ثالثها ) أن ذلك بخلاف الرماة يوم أحد لما أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) به من ملازمة مراكزهم « إن الله على كل شيء قدير » أي فهو قادر على نصركم فيما بعد و إن لم ينصركم في الحال لمخالفتكم .
وَ مَا أَصبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَْمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَتِلُوا فى سبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَكُمْ هُمْ لِلْكفْرِ يَوْمَئذ أَقْرَب مِنهُمْ لِلايِمَنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مَّا لَيْس فى قُلُوبهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يَكْتُمُونَ(167)

الإعراب

الفاء إنما دخلت في قوله « فبإذن الله » لأن خبر ما الذي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء لأنه معلق بالفعل في الصلة كتعليقه بالفعل في الشرط كقولك الذي قام فمن أجل أنه كريم أي لأجل قيامه صح أنه كريم و من أجل كرمه قام .

المعنى

« و ما أصابكم » أيها المؤمنون « يوم التقى الجمعان » جمع المسلمين و جمع المشركين يعني يوم أحد من النكبة بقتل من قتل منكم « فبإذن الله » أي بعلم الله و منه قوله و أذان من الله أي إعلام و قيل بتخلية الله بينكم و بينهم التي تقوم مقام الإطلاق في الفعل برفع الموانع و التمكين من الفعل الذي يصح معه التكليف و قيل بعقوبة الله فإن الله تعالى جعل لكل ذنب عقوبة و كان ذلك عقوبة لهم من الله على ترك أمر رسول الله و لا يجوز أن يكون المراد بالإذن هاهنا الإباحة و الإطلاق كما يقتضيه اللفظ لأن الله
مجمع البيان ج : 2 ص : 878
لا يبيح المعاصي و لا يطلقها و قتل الكافر المسلم من أعظم المعاصي فكيف يأذن فيه « و ليعلم » الله « المؤمنين و ليعلم الذين نافقوا » معناه و ليميز المؤمنين من المنافقين لأن الله عالم بالأشياء قبل كونها فلا يجوز أن يعلم عند ذلك ما لم يكن عالما به إلا أن الله أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازا أي ليظهر المعلوم من المؤمن و المنافق « قيل لهم » أي للمنافقين « تعالوا قاتلوا في سبيل الله » قالوا إن عبد الله بن أبي و المنافقين معه من أصحابه انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلثمائة رجل و قالوا علام نقتل أنفسنا و قال لهم عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري « تعالوا قاتلوا في سبيل الله » و اتقوا الله و لا تخذلوا نبيكم « أو ادفعوا » عن حريمكم و أنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله و قيل معناه أقيموا معنا و كثروا سوادنا و هذا يدل على أن تكثير سواد المجاهدين معدود في الجهاد و بمنزلة القتال « قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم » يعني قال المنافقون لو علمنا قتالا لقاتلناهم قالوا ذلك إبلاء لعذرهم في ترك القتال و الرجوع إلى المدينة فقال لهم أبعدكم الله ، الله يغني عنكم و قيل إنما القائل لذلك رسول الله يدعوهم إلى القتال عن الأصم « هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان » يعني بإظهار هذا القول صاروا أقرب إلى الكفر إذ كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا الستر فعلم المؤمنون منهم ما لم يعلموه و اللام بمعنى إلى يعني هم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان كقوله تعالى « الحمد لله الذي هدانا لهذا » أي إلى هذا « يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم » ذكر الأفواه تأكيدا لأن القول قد يضاف إليها و قيل إنما ذكر الأفواه فرقا بين قول اللسان و قول الكتاب و المراد به قولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم و إضمارهم أنه لو كان قتال لم يقاتلوا معهم و لم ينصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل معناه يقولون بأفواههم من التقرب إلى الرسول و الإيمان ما ليس في قلوبهم فإن في قلوبهم الكفر « و الله أعلم بما يكتمون » أي بما يضمرونه من النفاق و الشرك .
الَّذِينَ قَالُوا لاخْوَنهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكمُ الْمَوْت إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(168)

اللغة

الدرء الدفع يقال درأ عنه أي دفع عنه قال الشاعر :
مجمع البيان ج : 2 ص : 879

تقول إذا درأت لها وضيني
أ هذا دينه أبدا و ديني .

الإعراب

موضع الذين يحتمل أن يكون نصبا على البدل من الضمير في يكتمون و يحتمل أن يكون رفعا على خبر الابتداء على تقديرهم الذين قالوا .

المعنى

« الذين قالوا » يعني المنافقين « لإخوانهم » في النسب لا في الدين يعني عبد الله بن أبي و أصحابه قالوا في قتلي أحد « و قعدوا » هم يعني هؤلاء القائلون عن جابر و قتادة و السدي و الربيع « لو أطاعونا » في القعود في البيت و ترك الخروج إلى القتال « ما قتلوا قل » لهم يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فادرءوا » أي فادفعوا « عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين » في هذه المقالة و لا يمكنهم دفع الموت لأنه يجوز أن يدخل عليهم العدو فيقتلهم في قعر بيوتهم و إنما ألزمهم الله دفع الموت عن أنفسهم بمقالتهم أنهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا لأن من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت فينبغي أن يدفعه هذا القائل فإنه أجدى عليه و في هذا ترغيب في الجهاد و بيان أن كل أحد يموت بأجله .
فلا ينبغي أن يجعل ذلك عذرا في القعود عن الجهاد لأن المجاهد ربما يسلم و القاعد ربما يموت فيجب أن يكون على الله التكلان .
وَ لا تحْسبنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فى سبِيلِ اللَّهِ أَمْوَتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَ يَستَبْشرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) *يَستَبْشرُونَ بِنِعْمَة مِّنَ اللَّهِ وَ فَضل وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)

القراءة

قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قرأ الكسائي وحده إن الله
مجمع البيان ج : 2 ص : 880
لا يضيع بكسر الألف و الباقون بالفتح .

الحجة

من قرأ « قتلوا » بالتخفيف فالوجه فيه إن التخفيف يصلح للقليل و الكثير و وجه الفتح في أن أن المعنى و يستبشرون بأن الله لا يضيع أجرهم و يتوفر ذلك عليهم و يوصله إليهم من غير نقص و بخس و وجه الكسر على الاستئناف .

اللغة

أصل البشارة من البشرة لظهور السرور فيها و منه البشر لظهور بشرته و المستبشر من طلب السرور في البشارة فوجده و لحقت الشيء و ألحقته غيري و قيل لحقت و ألحقت لغتان بمعنى واحد و جاء في الدعاء أن عذابك بالكفار ملحق بكسر الحاء أي لاحق و النعمة هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح لأن المنفعة على ضربين - ( أحدهما ) - منفعة اغترار و حيلة - ( و الآخر ) - منفعة خالصة من شائبة الإساءة و النعمة تعظم بفعل غير المنعم كنعمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على من دعاه إلى الإسلام فاستجاب له لأن دعاءه أنفع من وجهين - ( أحدهما ) - حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له ( و الآخر ) بقصده الدعاء إلى حق يعلم أن يستجيب له المدعو و إنما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة و عظم المنزلة .

الإعراب

أحياء رفع بأنه خبر مبتدإ محذوف أي بل هم أحياء و لا يجوز النصب فيه بحال لأنه يصير التقدير فيه بل احسبهم أحياء و المراد بل أعلمهم أحياء و يرزقون في موضع رفع صفة لأحياء و فرحين نصب على الحال من يرزقون و هو أولى من رفعه عطفا على بل أحياء لأن النصب ينبىء عن اجتماع الرزق و الفرح في حال واحدة و لو رفع على الاستئناف لكان جائزا و قال الخليل موضع « ألا خوف عليهم » جر بالباء على تقدير بأن لا خوف عليهم و قال غيره موضعه نصب على أنه بدل من قوله « الذين لم يلحقوا » و هو بدل الاشتمال مثل قوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه .

النزول

قيل نزلت في شهداء بدر و كانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار و ستة من المهاجرين و قيل نزلت في شهداء أحد و كانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب و مصعب بن عمير و عثمان بن شماس و عبد الله بن جحش و سائرهم
مجمع البيان ج : 2 ص : 881
من الأنصار عن ابن مسعود و الربيع و قتادة و قال الباقر (عليه السلام) و كثير من المفسرين أنها تتناول قتلي بدر و أحد معا و قيل نزلت في شهداء بئر معونة و كان سبب ذلك ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس بن مالك و غيره قالوا قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة و كان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله المدينة و أهدى له هدية فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يقبلها و قال يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك و قرأ عليه القرآن فلم يسلم و لم يعد و قال يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إني أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة و حرام بن ملحان و عروة بن أسماء بن صلت السلمي و نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد فساروا حتى نزلوا بئر معونة فلما نزلوا قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله أهل هذه الماء فقال حرام بن ملحان أنا فخرج بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى عامر بن الطفيل فلما أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول الله فقال حرام يا أهل بئر معونة أني رسول رسول الله إليكم و أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله ف آمنوا بالله تعالى و رسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت و رب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه و قالوا لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا و جوارا فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية و رعلا و ذكوانا فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه و به رمق فارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق و كان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري و رجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير يحوم حول العسكر فقالوا و الله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم و إذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري
مجمع البيان ج : 2 ص : 882
لعمرو بن أمية ما ذا ترى قال أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر فقال الأنصاري لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل و أخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من ضمر أطلقه عامر بن الطفيل و جز ناصيته و أعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أبيه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله و أخبره الخبر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذا عمل أبي براء و قد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه و ما أصاب رسول الله بسببه فقال حسان بن ثابت يحرض أبا براء على عامر بن الطفيل :
بني أم البنين أ لم يرعكم
و أنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء
ليخفره و ما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي
فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء
و خالك ماجد حكم بن سعد و قال كعب بن مالك :
لقد طارت شعاعا كل وجه
خفارة ما أجار أبو براء
بني أم البنين أ ما سمعتم
دعاء المستغيث مع النساء
و تنوية الصريخ بلى و لكن
عرفتم أنه صدق اللقاء فلما بلغ ربيعة بن أبي براء قول حسان و قول كعب حمل على عامر بن الطفيل و طعنه فخر عن فرسه فقال هذا عمل أبي براء إن مت فدمي لعمي و لا يتبعن سواي و إن عشت فسأرى فيه رأيي قال فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرآنا بلغوا قومنا عنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا و رضينا عنه ثم نسخت و رفعت بعد ما قرأناها و أنزل الله تعالى « و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله » الآية .

المعنى

لما حكى الله سبحانه قول المنافقين في المقتولين الشهداء تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء ذكر بعده ما أعد الله للشهداء من الكرامة و خصهم به من النعيم في دار المقامة فقال « و لا تحسبن » و الخطاب للنبي أو يكون على معنى لا تحسبن أيها السامع أو أيها الإنسان « الذين قتلوا في سبيل الله » أي في الجهاد و في نصرة دين الله
مجمع البيان ج : 2 ص : 883
« أمواتا » أي موتى كما مات من لم يقتل في سبيل الله في الجهاد « بل أحياء » أي بل هم أحياء و قد مر تفسيره في سورة البقرة عند قوله « و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات » الآية و قوله « عند ربهم » فيه وجهان ( أحدهما ) أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا و لا ضرا إلا ربهم و ليس المراد بذلك قرب المسافة لأن ذلك من صفة الأجسام و ذلك مستحيل على الله تعالى ( و الآخر ) أنهم عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس عن أبي علي الجبائي و روي عن ابن عباس و ابن مسعود و جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و روي عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب و قد استشهد في غزاة موته رأيته و له جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنة و أنكر بعضهم حديث الأرواح و قال الروح عرض لا يجوز أن يتنعم و هذا لا يصح لأن الروح جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح و يدل على ذلك أنه يخرج من البدن و يرد إليه و هي الحساسة الفعالة دون البدن و ليست من الحياة في شيء لأن ضد الحياة الموت و ليس كذلك الروح و هذا قول علي بن عيسى « يرزقون » من نعيم الجنة غدوا و عشيا و قيل يرزقون النعيم في قبورهم « فرحين بما آتاهم الله من فضله » أي يسرون بما أعطاهم الله من ضروب نعمه في الجنة و قيل في قبورهم و قيل معناه فرحين بما نالوا من الشهادة و جزائها « و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » أي يسرون بإخوانهم الذين فارقوهم و هم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان و الجهاد لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم و صاروا من كرامة الله إلى مثل ما صاروا هم إليه يقولون إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من النعيم مثل ما أصبنا عن ابن جريج و قتادة و قيل أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه فيسر بذلك و يستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا عن السدي و قيل معناه لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم و إيمانهم عن الزجاج « ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون » أي يستبشرون بأن لا خوف عليهم و ذلك لأنه بدل من قوله « الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » لأن الذين يلحقون بهم مشتملون على عدم الحزن فالاستبشار هنا إنما يقع بعدم خوف هؤلاء اللاحقين و معناه لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم لأن الله تعالى يتولاهم و لا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم لأن الله قد أجزل ما عوضهم و قيل معناه لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله محص ذنوبهم بالشهادة و لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 884
هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة « يستبشرون » يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم الله بأنهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله « بنعمة من الله و فضل » الفضل و النعمة عبارتان يعبر بهما عن معنى واحد قيل في تكراره قولان ( أحدهما ) إن المراد أنها ليست نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور و اللذة فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم و الفضل ما زادهم من المضاعفة في الأجر ( و الآخر ) إنه للتأكيد و تمكين المعنى في النفس و المبالغة « و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين » أي يوفر جزاءهم و إنما ذكر ذلك و إن كان غيرهم يعلم ذلك لأنهم يعلمونه بعلم الموت ضرورة و إنما يعلمونه في دار التكليف استدلالا و ليس الاستدلال كالمشاهدة و لا الخبر كالمعاينة فإن مع الضرورة و العيان يتضاعف سرورهم و يشتد ارتباطهم و فيه دلالة على أن الثواب مستحق و إن الله لا يبطله البتة و إن الإثابة لا تكون إلا من قبله تعالى و لذلك أضاف نفي الإضاعة إلى نفسه و ما روي في الأخبار من ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى أعلاها إسنادا ما رواه علي بن موسى الرضا (عليهماالسلام) عن الحسين بن علي (عليهماالسلام) قال بينما أمير المؤمنين يخطب و يحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ناقته العضباء و نحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عما سألتني عنه فقال الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان و البيوت و يخرجون من الذنوب كما تخرج الحية من سلخها و يوكل الله بكل رجل أربعين ملكا يحفظونه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و لا يعمل حسنة إلا ضعف له و يكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله ألف سنة كل سنة ثلاثمائة و ستون يوما اليوم مثل عمر الدنيا و إذا صاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم فإذا برزوا لعدوهم و أشرعت الأسنة و فوقت السهام و تقدم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة و التثبيت فينادي مناد الجنة تحت ظلال السيوف فتكون الطعنة و الضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف و إذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض مرحبا بالروح الطيب الذي أخرج من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر و يقول الله عز و جل أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني و من أسخطهم فقد أسخطني و يجعل الله روحه في حواصل طير
مجمع البيان ج : 2 ص : 885
خضر تسرح في الجنة حيث يشاء تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش و يعطي الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس سلوك كل غرفة ما بين صنعاء و الشام يملأ نورها ما بين الخافقين في كل غرفة سبعون بابا على كل باب سبعون مصراعا من ذهب على كل باب سبعون غرفة مسبلة في كل غرفة سبعون خيمة في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب قوائمها الدر و الزبرجد مرمولة بقضبان الزمرد على كل سرير أربعون فراشا غلظ كل فراش أربعون ذراعا على كل فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا فقال أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبة فقال هي الغنجة الرضية الشهية لها سبعون ألف وصيف و سبعون ألف وصيفة صفر الحلي بيض الوجوه عليهن تيجان اللؤلؤ على رقابهم المناديل بأيديهم الأكوبة و الأباريق فإذا كان يوم القيامة فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجلوا لهم لما يرون من بهائهم حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها و يشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته و جيرانه حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا فيقعدون معي و مع إبراهيم على مائدة الخلد فينظرون إلى الله عز و جل في كل يوم بكرة و عشيا .
الَّذِينَ استَجَابُوا للَّهِ وَ الرَّسولِ مِن بَعْدِ مَا أَصابهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسنُوا مِنهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً وَ قَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكيلُ(173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَة مِّنَ اللَّهِ وَ فَضل لَّمْ يَمْسسهُمْ سوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضوَنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضل عَظِيم(174)

اللغة

استجاب و أجاب بمعنى و قيل استجاب طلب الإجابة و أجاب فعل الإجابة و القرح الجرح و أصله الخلوص من الكدر و منه ماء قراح أي خالص و القراح من الأرض ما خلص طينه من السبخ و غيره و القريحة خالص الطبيعة و اقترحت عليه كذا أي اشتهيته عليه لخلوصي على ما تتوق نفسه إليه كأنه قال استخلصته و فرس قارح طلع نابه لخلوصه عن
مجمع البيان ج : 2 ص : 886
نقص الصغار ببلوغ تلك الحال و القرح الجراح لخلوص ألمه إلى النفس و الإحسان هو النفع الحسن و الإفضال النفع الزائد على أقل المقدار حسبنا الله أي كافينا الله و أصله من الحساب لأن الكفاية بحسب الحاجة و بحساب الحاجة و منه الحسبان و هو الظن و الوكيل الحفيظ و قيل هو الولي و أصله القيام بالتدبير فمعنى الوكيل في صفات الله هو المتولي للقيام بتدبير خلقه لأنه مالكهم الرحيم بهم و هو في صفة غيره و إنما يعتد بالتوكيل .

الإعراب

موضع الذين يحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب الجر على أن يكون نعتا للمؤمنين و الأحسن و الأشبه بالآية أن يكون في موضع الرفع على الابتداء و خبره الجملة التي هي « للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم » و يجوز النصب على المدح و تقديره أعني الذين استجابوا إذا ذكروا و كذلك القول في موضع الذين في الآية الثانية لأنهما نعت لموصوف واحد و قوله « لم يمسسهم سوء » في موضع نصب على الحال و تقديره فانقلبوا بنعمة من الله و فضل سالمين و العامل فيه فانقلبوا .

النزول

لما انصرف أبو سفيان و أصحابه من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم عن المسلمين و تلاوموا فقالوا لا محمدا قتلهم و لا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركتموهم فارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأراد أن يرهب العدو و يريهم من نفسه و أصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان و قال أ لا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكا للعدو و أبعد للسمع فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القراح و الجراح الذي أصابهم يوم أحد و نادى منادي رسول الله ألا لا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس و إنما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليرهب العدو و ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة و إن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم فينصرفوا فخرج في سبعين رجلا حتى بلغ حمراء الأسد و هي من المدينة على ثمانية أميال و ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال هل من رجل يأتينا بخبر القوم فلم يجبه أحد فقال أمير المؤمنين أنا آتيك بخبرهم قال اذهب فإن كانوا ركبوا الخيل و جنبوا الإبل فإنهم يريدون المدينة و إن كانوا ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة فمضى أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما به من الألم و الجراح حتى كان قريبا من القوم فرآهم قد ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فرجع و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فقال أرادوا مكة فلما دخل رسول الله المدينة نزل جبرائيل فقال يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن الله عز و جل يأمرك أن تخرج و لا يخرج معك إلا من به جراحة فأقبلوا يكمدون جراحاتهم و يداوونها فأنزل الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و لا تهنوا في ابتغاء القوم أن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون » فخرجوا
مجمع البيان ج : 2 ص : 887
على ما بهم من الألم و الجراح حتى بلغوا حمراء الأسد و روي محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب أن رجلا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا قال شهدت أحدا أنا و أخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالخروج في طلب العدو قلنا لا تفوتنا غزوة مع رسول الله فو الله ما لنا دابة نركبها و ما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كنت أيسر جرحا من أخي فكنت إذا غلب حملته عقبة و مشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى حمراء الأسد فمر برسول الله معبد الخزاعي بحمراء الأسد و كانت خزاعة مسلمهم و كافرهم عيبة رسول الله بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا و معبد يومئذ مشرك فقال يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الله لقد عز علينا ما أصابك في قومك و أصحابك و لوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ثم خرج من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى لقي أبا سفيان و من معه بالروحاء و أجمعوا الرجعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قالوا قد أصبنا حد أصحابه و قادتهم و أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراك يا معبد قال محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا و قد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم و ندموا على صنيعهم و فيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط قال ويلك ما تقول قال فأنا و الله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم قال فأنا و الله أنهاك عن ذلك فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا من شعر قال و ما قلت قال قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء و لا خرق معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول
و قلت ويل لابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السبل ضاحية
لكل ذي إربة منهم و معقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة
و ليس يوصف ما أثبت بالقيل قال فثنى ذلك أبا سفيان و من معه و مر به ركب من عبد قيس فقال أين تريدون فقالوا
مجمع البيان ج : 2 ص : 888
نريد المدينة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه و أحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا قالوا نعم قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا الكرة عليه و على أصحابه لنستأصل بقيتهم و انصرف أبو سفيان إلى مكة و مر الركب برسول الله و هو بحمراء الأسد فأخبره بقول أبي سفيان فقال رسول الله و أصحابه حسبنا الله و نعم الوكيل ثم انصرف رسول الله إلى المدينة بعد الثالثة و قد ظفر في وجهه ذلك بمعونة ابن المغيرة بن العاص و أبي قرة الجمحي و هذا قول أكثر المفسرين و قال مجاهد و عكرمة نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى و ذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف يا محمد موعد بيننا و بينك موسم بدر الصغرى القابل إن شئت فقال رسول الله ذلك بيننا و بينك فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران ثم ألقى الله عليه الرعب فبدا له فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي و قد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان إني واعدت محمدا و أصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى و أن هذه عام جدب و لا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر و نشرب فيه اللبن و قد بدا لي أن لا أخرج إليها و أكره أن يخرج محمد و لا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم و لك عندي عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم و قراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الذي نفسي بيده لأخرجن و لو وحدي فأما الجبان فإنه رجع و أما الشجاع فإنه تأهب للقتال و قال حسبنا الله و نعم الوكيل فخرج رسول الله في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى و هو ماء لبني كنانة و كانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان و قد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق و يقولون إنما خرجتم تشربون السويق و لم يلق رسول الله و أصحابه أحدا من المشركين ببدر و وافق السوق و كانت لهم تجارات فباعوا و أصابوا للدرهم درهمين و انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين و قد روى ذلك أبو الجارود عن الباقر (عليه السلام) .

المعنى

« الذين استجابوا لله و الرسول » أي أطاعوا الله في أوامره و أطاعوا رسوله « من بعد ما أصابهم القرح » أي نالهم الجراح يوم أحد « للذين أحسنوا منهم » بطاعة رسول الله و إجابته إلى الغزو « و اتقوا » معاصي الله لهم « أجر عظيم » أي ثواب جزيل « الذين قال لهم الناس » في المعنى بالناس الأول ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنهم الركب الذين
مجمع البيان ج : 2 ص : 889
دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجنبوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم عن ابن عباس و ابن إسحاق و قد مضت قصتهم ( و الثاني ) أنه نعيم بن مسعود الأشجعي و هو قول أبي جعفر و أبي عبد الله ( و الثالث ) أنهم المنافقون عن السدي « إن الناس قد جمعوا لكم » المعني به أبو سفيان و أصحابه عند أكثر المفسرين أي جمعوا جموعا كثيرة لكم و قيل جمعوا الآلات و الرجال و إنما عبر بلفظ الواحد عن الجميع في قوله « قال لهم الناس » لأمرين ( أحدهما ) أنه قد جاءهم من جهة الناس فأقيم كلامه مقام كلامهم و سمي باسمهم ( و الآخر ) أنه لتفخيم الشأن « فاخشوهم » أي خافوهم ثم بين تعالى أن ذلك القول زادهم إيمانا و ثباتا على دينهم و إقامة على نصرة نبيهم بأن قال « فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل » أي كافينا الله و ولينا و حفيظنا و المتولي لأمرنا و « نعم الوكيل » أي نعم الكافي و المعتمد و الملجأ الذي يوكل إليه الأمور « فانقلبوا » أي فرجع النبي و من معه من أصحابه « بنعمة من الله و فضل » أي بعافية من السوء و تجارة رابحة « لم يمسسهم سوء » أي قتل عن السدي و مجاهد و قيل النعمة هاهنا الثبوت على الإيمان في طاعة الله و الفضل الربح في التجارة عن الزجاج و قيل إن أقل ما يفعله الله فهو نعمة و ما زاد على ذلك فهو الموصوف بأنه فضل و الفرق بين النعمة و المنفعة أن النعمة لا تكون نعمة إلا إذا كانت حسنة و المنفعة قد تكون حسنة و قد تكون قبيحة و هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر و لا يستحق الشكر بالقبيح « و اتبعوا رضوان الله » بالخروج إلى لقاء العدو « و الله ذو فضل عظيم » على المؤمنين و قد تضمنت الآية التنبيه على أن كل من دهمه أمره فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة و قد صحت الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله « حسبنا الله و نعم الوكيل » فإني سمعت الله يقول بعقبها « فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء » و روي عن ابن عباس أنه قال آخر كلام إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار « حسبنا الله و نعم الوكيل » و قال نبيكم مثلها و تلا هذه الآية .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشيْطنُ يخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ فَلا تخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(175)

الإعراب

كم من « ذلكم » للخطاب لا للضمير فلا موضع لها من الإعراب و قوله « يخوف » يتعدى إلى مفعولين يقال خاف زيد القتال و خوفته القتال .

مجمع البيان ج : 2 ص : 890

المعنى

ثم ذكر أن ذلك التخويف و التثبيط عن الجهاد من عمل الشيطان فقال « إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه » و المعنى إنما ذلك التخويف الذي كان من نعيم بن مسعود من فعل الشيطان و بإغوائه و تسويله يخوف أولياءه المؤمنين قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و يخوف المؤمنين بالكافرين و قال الزجاج و أبو علي الفارسي و غيرهما أن تقديره و يخوفكم أولياءه أي من أوليائه بدلالة قوله « فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين » أي إن كنتم مصدقين بالله فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم و مثله قوله لينذر بأسا شديدا أي لينذركم بباس شديد فلما حذف الجار نصبه و قيل معناه إن الشيطان يخوف المنافقين الذين هم أولياؤه و أنهم هم الذين يخافون من ذلك التخويف بأن يوسوس إليهم و يرهبهم و يعظم أمر العدو في قلوبهم فيقعدوا عن متابعة الرسول و المسلمون لا يخافونه لأنهم يثقون بالنصر الموعود و نظيره قوله أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون و الأول أصح .
وَ لا يحْزُنك الَّذِينَ يُسرِعُونَ فى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضرُّوا اللَّهَ شيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فى الاَخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(176) إِنَّ الَّذِينَ اشترَوُا الْكُفْرَ بِالايمَنِ لَن يَضرُّوا اللَّهَ شيْئاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)

القراءة

قرأ نافع في جميع القرآن يحزن بضم الياء و كسر الزاي إلا قوله « لا يحزنهم الفزع الأكبر » فإنه فتحها و ضم الزاي و قرأ الباقون في جميع القرآن بفتح الياء و ضم الزاي و قرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع فإنه فتح الياء في جميع القرآن إلا قوله لا يحزنهم فإنه ضم الياء .

الحجة

قال أبو علي قال سيبويه تقول فتن الرجل و فتنته و حزن الرجل و حزنته و زعم الخليل إنك حيث قلت فتنته و حزنته لم ترد أن تقول جعلته حزينا و جعلته فاتنا كما إنك حين تقول أدخلته جعلته داخلا و لكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزنا و فتنة كما تقول كحلته جعلت فيه كحلا و دهنته جعلت فيه دهنا فجئت بفعلته على حدة و لم ترد بفعلته هاهنا تغيير قولك حزن و فتن و لو أردت ذلك لقلت أحزنته و أفتنته قال و قال بعض العرب
مجمع البيان ج : 2 ص : 891
أفتنت الرجل و أحزنته إذا جعلته فاتنا و حزينا فغيروا فعل قال أبو علي فهذا الذي حكيته عن بعض العرب حجة نافع فأما قراءة لا يحزنهم الفزع الأكبر فيشبه أن يكون اتبع فيه أثرا و أحب الأخذ بالوجهين .

الإعراب

قوله « شيئا » نصب على أنه وقع موقع المصدر و يحتمل أن يكون نصبا بحذف الباء كأنه قال بشيء مما يضر به كما يقال ما ضررت زيدا شيئا من نقص مال و لا غيره .

المعنى

لما علم الله تعالى المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إياهم خص رسوله بضرب من التعليم في هذه الآية فقال « و لا يحزنك » أيها الرسول « الذين يسارعون في الكفر » يعني المنافقين عن مجاهد و ابن إسحاق و قوما من العرب ارتدوا عن الإسلام عن أبي علي الجبائي « أنهم لن يضروا الله شيئا » بكفرهم و نفاقهم و ارتدادهم لأن الله تعالى لا يجوز عليه المنافع و المضار و إنما قال ذلك على جهة التسلية لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه كان يصعب عليه كفر هؤلاء و يعظم عليه امتناعهم عن الإيمان و لا يبعد أنه ربما كان يخطر بباله أن مسارعتهم إلى الكفر و امتناعهم عن الإيمان لتفريط حصل من قبله ف آمنه الله من ذلك و أخبر أن ضرر كفرهم راجع إليهم و مقصور عليهم « يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة » أي نصيبا في الجنة و إذا كانت الإرادة تتعلق بما يصح حدوثه و لا يتعلق بأن لا يكون الشيء فلا بد من حذف في الكلام و معناه أنه يريد أن يحكم بحرمان ثوابهم الذي عرضوا له في تكليفهم و أن يعاقبهم في الآخرة على سبيل الجزاء لكفرهم و نفاقهم « و لهم عذاب عظيم » هذا ظاهر المعنى و هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لأنه تعالى نسب إليهم المسارعة إلى الكفر و إذا كان ذلك قد خلقه فيهم فكيف يصح نسبته إليهم ثم استأنف تعالى الإخبار بأن من اشترى الكفر بالإيمان و هم جميع الكفار بهذه الصفة فقال « إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان » أي استبدلوا الكفر بالإيمان و قد بينا فيما تقدم أن إطلاق لفظ الشراء على ذلك مجاز و توسع و إنما شبه استبدالهم الكفر بالإيمان بشراء السلعة بالثمن « لن يضروا الله شيئا » إنما هذا لأنه إنما ذكر ذلك في الآية الأولى على طريقة العلة لما يجب من التسلية عن المسارعة إلى الضلالة و ذكر في هذه الآية على وجه العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي و الفرق بين المضرة و الإساءة إن الإساءة لا تكون إلا قبيحة و المضرة قد تكون حسنة إذا كانت مستحقة أو على وجه اللطف أو فيها نفع يوفي عليها أو دفع ضرر أعظم منها « و لهم عذاب أليم » أي مؤلم .

<<        الفهرس        >>