جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 2 ص : 835
لما أمرهم به يوم أحد من لزوم مراكزهم فخالفوا و اشتغلوا بالغنيمة و كان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
* وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكمْ وَ جَنَّة عَرْضهَا السمَوَت وَ الأَرْض أُعِدَّت لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فى السرَّاءِ وَ الضرَّاءِ وَ الْكظِمِينَ الْغَيْظ وَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يحِب الْمُحْسِنِينَ(134)

القراءة

قرأ أهل المدينة و الشام سارعوا بغير واو و كذلك هو في مصاحفهم و الباقون بالواو و كذلك هو في مصاحف مكة و العراق .

الحجة

و الفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بغير واو و وصلها بما تقدم إذا قرىء بواو لأنه يكون عطفا على ما تقدم و يجوز أيضا ترك الواو لأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن عطفها بالواو كما جاء في التنزيل ثلاثة رابعهم كلبهم و قال سبعة و ثامنهم كلبهم .

اللغة

أصل الكظم شد رأس القربة عن ملئها تقول كظمت القربة إذ ملأتها ماء ثم شددت رأسها و فلان كظيم و مكظوم إذا كان ممتلئا حزنا و كذلك إذا كان ممتلئا غضبا لم ينتقم و كظم البعير إذا لم يجتر و الكظامة القناة التي تجري تحت الأرض سميت بذلك لامتلائها تحت الأرض و في غريب الحديث لأبي عبيدة عن أوس بن أبي أوس أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أتى كظامة قوم فتوضأ و مسح على قدميه و يقال أخذ بكظمه أي مجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس و الفرق بين الغيظ و الغضب إن الغضب ضد الرضا و هو إرادة العقاب المستحق بالمعاصي و لعنه و ليس كذلك الغيظ لأنه هيجان الطبع بتكره ما يكون من المعاصي و لذلك يقال غضب الله على الكفار و لا يقال اغتاظ منهم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 836

المعنى

لما حذر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب عقبه بالحث على الأفعال الموجبة للثواب فقال « و سارعوا » أي بادروا « إلى مغفرة من ربكم » باجتناب معاصيه و معناه إلى الأعمال التي توجب المغفرة و اختلف في ذلك فقيل سارعوا إلى الإسلام عن ابن عباس و قيل إلى أداء الفرائض عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و قيل إلى الهجرة عن أبي العالية و قيل إلى التكبيرة الأولى عن أنس بن مالك و قيل إلى أداء الطاعات عن سعيد بن جبير و قيل إلى الصلوات الخمس عن يمان و قيل إلى الجهاد عن الضحاك و قيل إلى التوبة عن عكرمة « و جنة » أي و إلى جنة « عرضها السماوات و الأرض » و اختلف في معناه على أقوال أحدها أن المعنى عرضها كعرض السماوات السبع و الأرضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى بعض عن ابن عباس و الحسن و اختاره الجبائي و البلخي و إنما ذكر العرض بالعظم دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم من العرض و ليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض و مثل الآية قوله « ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة » و معناه إلا كخلق و بعث نفس واحدة و قال الشاعر :
كان عذيرهم بجنوب سلي
نعام قاق في بلد قفار أي عذير نعام و قال آخر :
حسبت بغام راحلتي عناقا
و ما هي ويب غيرك بالعناق أي صوت عناق و ثانيها أن معناه ثمنها لو بيعت كثمن السماوات و الأرض لو بيعتا كما يقال عرضت هذا المتاع للبيع و المراد بذلك عظم مقدارها و جلالة قدرها و أنه لا يساويها شيء و إن عظم عن أبي مسلم الأصفهاني و هذا وجه مليح إلا أن فيه تعسفا و ثالثها أن عرضها لم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول و إنما أراد سعتها و عظمها و العرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض قال امرؤ القيس :
بلاد عريضة و أرض أريضة
مواقع عيث في فضاء عريض و قال ذو الرمة :
فأعرض في المكارم و استطالا أي توسع فيها و يسأل فيقال إذا
مجمع البيان ج : 2 ص : 837
كانت الجنة عرضها كعرض السماء و الأرض فأين تكون النار فجوابه أنه روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سئل عن ذلك فقال سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل و هذه معارضة فيها إسقاط المسألة لأن القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يخلق النهار حيث شاء و يسأل أيضا فيقال إذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض و الجواب أنه قيل أن الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش عن أنس بن مالك و قيل إن الجنة فوق السماوات السبع و النار تحت الأرضين السبع عن قتادة و قيل إن معنى قولهم أن الجنة في السماء أنها في ناحية السماء و جهة السماء لا أن السماء تحويها و لا ينكر أن يخلق الله في العلو أمثال السماوات و الأرضين فإن صح الخبر أنها في السماء الرابعة كان كما يقال في الدار بستان لاتصاله بها و كونه في ناحية منها أو يشرع إليها بابها و إن كان أضعاف الدار و قيل أن الله يريد في عرضها يوم القيامة فيكون المراد عرضها السماوات و الأرض يوم القيامة لا في الحال عن أبي بكر أحمد بن علي مع تسليم أنها في السماء و قوله « أعدت للمتقين » أي المطيعين لله و لرسوله لاجتنابهم المقبحات و فعلهم الطاعات و يجوز لاحتجازهم بالطاعة عن العقوبة و إنما أضيفت إلى المتقين لأنهم المقصودون بها و إن دخلها غيرهم من الأطفال و المجانين فعلى وجه التبع و كذلك حكم الفساق لو عفي عنهم و قيل معناه أنه لو لا المتقون لما خلقت الجنة كما يقال وضعت المائدة للأمير و هذا يدل على أن الجنة مخلوقة اليوم لأنها لا تكون معدة إلا و هي مخلوقة « الذين ينفقون في السراء و الضراء » صفة للمتقين و في معنى السراء و الضراء قولان ( أحدهما ) أن معناه في اليسر و العسر عن ابن عباس أي في حال كثرة المال و قلته ( و الثاني ) في حال السرور و الاغتمام أي لا يقطعهم شيء من ذلك عن إنفاق المال في وجوه البر « و الكاظمين الغيظ » أي المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك « و العافين عن الناس » يعني الصافحين عن الناس المتجاوزين عما يجوز العفو و التجاوز عنه مما لا يؤدي إلى الإخلال بحق الله تعالى و قيل العافين عن المملوكين « و الله يحب المحسنين » أي من فعل ذلك فهو محسن و الله يحبه بإيجاب الثواب له و يحتمل أن يكون الإحسان شرطا مضموما إلى هذه الشرائط قال الثوري الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك فأما من أحسن إليك فإنه متاجرة كنقد السوق خذ مني و هات .

[ فصل]


فأول ما عدد الله من أخلاق أهل الجنة السخاء و مما يؤيد ذلك من الأخبار ما رواه أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال السخاء شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا
مجمع البيان ج : 2 ص : 838
من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة و البخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار و قال علي (عليه السلام) الجنة دار الأسخياء و قال (عليه السلام) السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار و البخيل بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ثم عد تعالى بعد ذلك من أخلاق أهل الجنة كظم الغيظ و مما جاء فيه من الأخبار ما رواه أبو أمامة قال قال رسول الله من كظم غيظه و هو قادر على إنفاذه ملأه الله يوم القيامة رضا و في خبر آخر ملأه الله يوم القيامة أمنا و إيمانا و قال أيضا كاظم الغيظ كضارب السيف في سبيل الله في وجه عدوه و ملأ الله قلبه رضا و في خبر آخر ملأ الله قلبه يوم القيامة أمنا و أمانا و قال (عليه السلام) ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ثم ذكر « العافين عن الناس » و روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله و قد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت و في هذا دليل واضح على أن العفو عن المعاصي مرغب فيه مندوب إليه و إن لم يكن واجبا و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده الله بها عزا ثم ذكر سبحانه أنه يحب المحسنين و المحسن هو المنعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح و يكون المحسن أيضا هو الفاعل للأفعال الحسنة من وجوه الطاعات و القربات و روي أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية إن الله تعالى يقول « و الكاظمين الغيظ » فقال لها قد كظمت غيظي قالت « و العافين عن الناس » قال قد عفا الله عنك قالت « و الله يحب المحسنين » قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله .
وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَحِشةً أَوْ ظلَمُوا أَنفُسهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَن يَغْفِرُ الذُّنُوب إِلا اللَّهُ وَ لَمْ يُصرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُولَئك جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ جَنَّتٌ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ(136)

اللغة

أصل الفاحشة الفحش و هو الخروج إلى عظيم القبح أو رأي العين فيه
مجمع البيان ج : 2 ص : 839
و لذلك قيل للطويل المفرط أنه لفاحش الطول و أفحش فلان إذا أفصح بذكر الفحش و الإصرار أصله الشد من الصرة و الصر شدة البرد فكأنما هو ارتباط الذنب بالإقامة عليه و قيل أصله الثبات على الشيء و قال الحطيئة يصف الخيل :
عوابس بالشعث الكمأة إذا انتقوا
علالتها بالمخصرات أصرت أي إذا اختاروا بقية جريها بالسياط ثبتت على جريها .

الإعراب

و الذين عطف على المتقين و قيل رفع على الاستئناف كأنه عطف جملة على جملة فعلى القول الأول هم فرقة واحدة و على القول الثاني هم فرقتان و يجوز أن يكون راجعا إلى الأولين و يكون محله رفعا على المدح و قوله « إلا الله » يرتفع الله حملا على المعنى لا على اللفظ إذ ليس قبله جحد و تقديره و هل يغفر الذنوب أحد إلا الله أو هل رأى أحد يغفر الذنوب إلا الله و معناه لا يغفر الذنوب إلا الله لأن الاستفهام قد يقع موقع النفي « و نعم أجر العاملين » المخصوص بالمدح محذوف و تقديره و نعم أجر العاملين أجرهم .

النزول

روي أن قوما من المؤمنين قالوا يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه ( أجدع أنفك أو أذنك افعل كذا ) فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت الآية فقال أ لا أخبركم بخير من ذلكم و قرأ عليهم هذه الآية عن ابن مسعود و في ذلك تسهيل لما كان قد شدد فيه على بني إسرائيل إذ جعل الاستغفار بدلا منه و قيل نزلت في نبهان التمار أتته امرأة تبتاع منه تمرا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد و في البيت أجود منه و ذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه فقبلها فقالت له اتق الله فتركها و ندم و أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ذكر له ذلك فنزلت الآية عن عطاء .

المعنى

« و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم » اختلفوا في الفاحشة و ظلم النفس فقيل الفاحشة الزنا و ظلم النفس سائر المعاصي عن السدي و جابر و قيل الفاحشة الكبائر و ظلم النفس الصغائر عن القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني و قيل الفاحشة اسم لكل معصية ظاهرة و باطنة إلا أنها لا تكاد تقع إلا على الكبيرة عن علي بن عيسى و قيل فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا « ذكروا الله » أي ذكروا وعيد الله فانزجروا عن المعصية و استغفروا لذنوبهم فيكون من الذكر بعد النسيان و إنما مدحهم
مجمع البيان ج : 2 ص : 840
لأنهم تعرضوا للذكر و قيل ذكروا الله بأن قالوا اللهم اغفر لنا ذنوبنا فإنا تبنا نادمين عليها مقلعين عنها و قوله « و من يغفر الذنوب إلا الله » من لطيف فضل الله تعالى و بليغ كرمه و جزيل منته و هو الغاية في ترغيب العاصين في التوبة و طلب المغفرة و النهاية في تحسين الظن للمذنبين و تقوية رجاء المجرمين و هذا كما يقول السيد لعبده و قد أذنب ذنبا اعتذر إلي و من يقبل عذرك سواي و إذا سئل أن العباد قد يغفر بعضهم لبعض الإساءة فالجواب أن الذنوب التي يستحق عليها العقاب لا يغفرها إلا الله و أيضا فإنه أراد سبحانه غفران الكبائر العظام و الإساءة من بعضنا إلى بعض صغيرة بالإضافة إليها « و لم يصروا على ما فعلوا » أي لم يقيموا على المعصية و لم يواظبوا عليها و لم يلزموها و قال الحسن هو فعل الذنب من غير توبة و هو قريب من الأول و ذلك لا يكفي فإن التوبة مجرد الاستغفار مع الإصرار و ذلك إن الاستغفار إنما يؤثر عند ترك الإصرار و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار يعني لا تبقى الكبيرة كبيرة مع التوبة و الاستغفار و لا تبقى الصغيرة صغيرة مع الإصرار و في تفسير ابن عباس الإصرار السكون على الذنب بترك التوبة و الاستغفار منه و قوله « و هم يعلمون » يحتمل وجوها ( أحدها ) أن معناه و هم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين و لا ناسين لأنه تعالى يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه و إن لم يتب منه بعينه عن الجبائي و السدي ( و ثانيها ) إن معناه و هم يعلمون الحجة في أنها خطيئة فإذا لم يعلموا و لا طريق لهم إلى العلم به كان الإثم موضوعا عنهم كمن تزوج أمة من الرضاع و النسب و هو لا يعلم به فإذا لا يأثم و هذا معنى قول ابن عباس و الحسن ( و ثالثها ) إن المراد و هم يعلمون إن الله يملك مغفرة ذنوبهم عن الضحاك « أولئك » إشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون في السراء و الضراء إلى آخر الكلام أي هؤلاء « جزاؤهم » على أعمالهم و توبتهم « مغفرة من ربهم » أي ستر لذنوبهم « و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » قد مر تفسيرها في سورة البقرة « و نعم أجر العاملين » هذا يعني ما وصفه من الجنات و أنواع الثواب و المغفرة بستر الذنوب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها و العقوبة عليها و الله تعالى متفضل بذلك لأن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه و أما استحقاق الثواب بالتوبة فواجب لا محالة عقلا لأنه لو لم يكن مستحقا بالتوبة لقبح تكليفه التوبة لما فيها من المشقة .

النظم

قيل إن الآية اتصلت بما قبلها لأنها من صفة المتقين و قيل بل هما فرقتان بين تعالى أن الجنة للمتقين المنفقين في السراء و الضراء إلى آخر الآية و لمن عثر ثم تاب و لم يصر .

مجمع البيان ج : 2 ص : 841
قَدْ خَلَت مِن قَبْلِكُمْ سنَنٌ فَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَانظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(138)

اللغة

السنة الطريقة المجعولة ليقتدى بها و من ذلك سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لبيد :
من معشر سنت لهم آباؤهم
و لكل قوم سنة و إمامها و قال سليمان بن قتة :
و إن الأولى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام الت آسيا و أصل السنة الاستمرار في جهة يقال سن الماء إذا صبه حتى يفيض من الإناء و سن السكين بالمسن إذا أمره عليه لتحديده و منه السن واحد الأسنان لاستمرارها على منهاج و السنان لاستمرار الطعن به و السنن استمرار الطريق و العاقبة ما يؤدي إليها السبب المتقدم و ليس كذلك الآخرة لأنه قد كان يمكن أن تجعل هي الأولى في العدة و الموعظة ما يلين القلب و يدعو إلى التمسك بما فيه من الزجر عن القبيح و الدعاء إلى الجميل و قيل الموعظة هو ما يدعو بالرغبة و الرهبة إلى الحسنة بدلا من السيئة .

المعنى

لما بين سبحانه ما يفعله بالمؤمن و الكافر في الدنيا و الآخرة بين أن ذلك عادته في خلقه فقال « قد خلت » أي قد مضت « من قبلكم » يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل هو خطاب لمن انهزم يوم أحد « سنن » من الله في الأمم السالفة إذا كذبوا رسله و جحدوا نبوتهم بالاستيصال و تبقية آثارهم في الديار للاعتبار و الاتعاظ عن الحسن و ابن إسحاق و قيل سنن أي أمثال عن ابن زيد و قيل سنن أمم و السنة الأمة عن المفضل و قال الشاعر :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم
و لا رأوا مثلكم في سالف السنن و قيل معناه أهل سنن و قيل معناه قد مضت لكل أمة سنة و منهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم عن الكلبي « فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » أي تعرفوا أخبار المكذبين و ما نزل بهم لتتعظوا بذلك و تنتهوا عن مثل ما فعلوه و لا تسلكوا في
مجمع البيان ج : 2 ص : 842
التكذيب و الإنكار طريقتهم فيحل بكم من العذاب ما حل بهم و أراد بالمكذبين الجاحدين للبعث و النشور و الثواب و العقاب جازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستيصال و في الآخرة باليم العذاب و عظيم النكال « هذا » إشارة إلى القرآن « بيان للناس » أي دلالة و حجة لهم كافة عن الحسن و قتادة و قيل إشارة إلى ما تقدم من قوله « قد خلت من قبلكم سنن » أي هذا الذي عرفتكم بيان للناس عن ابن أبي إسحاق و اختاره البلخي و الطبري « و هدى » قال علي بن عيسى الفرق بين البيان و الهدى إن البيان إظهار المعنى للغير كائنا ما كان و الهدى بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي « و موعظة للمتقين » و إنما خص المتقين به مع كونه بيانا و هدى و موعظة للناس كافة لأن المتقين هم المنتفعون به و المهتدون بهداه و المتعظون بمواعظه .
وَ لا تَهِنُوا وَ لا تحْزَنُوا وَ أَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139) إِن يَمْسسكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَس الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَ تِلْك الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنكُمْ شهَدَاءَ وَ اللَّهُ لا يحِب الظلِمِينَ(140)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص قرح بضم القاف فيهما و كذلك قوله ( من بعد ما أصابهم القرح ) و الباقون بفتح القاف .

الحجة

قال أبو علي قرح و قرح مثل ضعف و ضعف و الكره و الكره و الدفء و الدفء و الشهد و الشهد قال أبو الحسن قرح يقرح قرحا و قرحا فهذا يدل على أنهما مصدران و من قال أن القرح الجراحات بأعيانها و القرح ألم الجراحات قبل ذلك منه إذا أتى فيه برواية لأن ذلك مما لا يعلم بالقياس .

اللغة

الوهن الضعف و الوهن و الموهن ساعة تمضي في الليل الأعلون واحده الأعلى و مؤنثه العلياء و جمعه العليات و العلى و الفرق بين اللمس و المس أن اللمس لصوق بإحساس و المس لصوق فقط و الدولة الكرة لفريق بنيل المراد و أدال الله فلانا من فلان إذا جعل الكرة له عليه و تداول القوم الشيء إذا صار من بعضهم إلى بعض و ضم الدال في الدولة و فتحها لغتان و قيل الضم في المال و الفتح في الحرب .

مجمع البيان ج : 2 ص : 843

الإعراب

« و أنتم الأعلون » جملة في موضع الحال كأنه قال لا تحزنوا عالين أي منصورين على الأعداء و يحتمل أن يكون لا موضع لها في الإعراب لأنها اعتراض بوعد مؤكد و تقديره و لا تهنوا و لا تحزنوا إن كنتم مؤمنين و أنتم الأعلون مع ذلك و قوله « و ليعلم الله » العامل في اللام محذوف يدل عليه أول الكلام و تقديره و ليعلم الله الذين آمنوا نداولها و يجوز أن يعمل فيه نداولها الذي في اللفظ و تقديره نداولها بين الناس بضروب من التدبير و ليعلم الله الذين آمنوا .

النزول

قيل نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل و الجراح عن الزهري و قتادة و ابن أبي نجيح و قيل لما انهزم المسلمون في الشعب و أقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة إلا هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى الآية و تاب نفر رماة فصعدوا الجبل و رموا خيل المشركين حتى هزموهم و علا المسلمون الجبل فذلك قوله « و أنتم الأعلون » عن ابن عباس و قيل نزلت الآية بعد يوم أحد حين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصحابه بطلب القوم و قد أصابهم من الجراح ما أصابهم و قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي و دليله قوله تعالى « و لا تهنوا في ابتغاء القوم » الآية .

المعنى

ثم حث الله تعالى المسلمين على النجدة و نهاهم عن الوهن و الحزن و وعدهم الغلبة في الحال و حسن العاقبة في المال فقال « و لا تهنوا » أي و لا تضعفوا عن قتال عدوكم « و لا تحزنوا » بما يصيبكم في أموالكم و أبدانكم و قيل لا تضعفوا بما نالكم من الجراح و لا تحزنوا على ما نالكم من المصائب بقتل الإخوان و قيل لا تهنوا بما نالكم من الهزيمة و لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة « و أنتم الأعلون » أي الظافرون المنصورون الغالبون عليهم في العاقبة و قيل أراد و أنتم الأعلون في المكان « إن كنتم مؤمنين » معناه إن من كان مؤمنا يجب أن لا يهن و لا يحزن لثقته بالله و يحتمل أن يكون معناه إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بالنصرة و الظفر على عدوكم فلا تهنوا و لا تحزنوا ثم أخذ سبحانه في تسلية المؤمنين فقال « إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » معناه إن يصبكم جراح فقد أصاب القوم جراح مثله عن ابن عباس و قيل إن يصبكم ألم و جراح يوم أحد فقد أصاب القوم ذلك يوم بدر و قال أنس بن مالك أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعلي (عليه السلام) يومئذ و فيه نيف و ستون جراحة من طعنة و ضربة و رمية فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) )
مجمع البيان ج : 2 ص : 844
يمسحها و هي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن و عن ابن عباس قال لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اللهم أنه ليس لهم أن يعلونا فمكث أبو سفيان ساعة و قال يوما بيوم و أن الأيام دول و إن الحرب سجال فقال (عليه السلام) أجيبوه فقالوا لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار فقال لنا عزى و لا عزى لكم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الله مولانا و لا مولى لكم فقال أبو سفيان أعل هبل فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) الله تعالى أعلى و أجل « و تلك الأيام نداولها بين الناس » أي نصرفها مرة لفرقة و مرة عليها عن الحسن و قتادة و الربيع و السدي و ابن إسحاق و إنما يصرف الله الأيام بين المسلمين و بين الكفار بتخفيف المحنة عن المسلمين أحيانا و تشديدها عليهم أحيانا لا بنصرة الكفار عليهم لأن الله لا ينصر الكفار على المسلمين لأن النصرة تدل على المحبة و الله تعالى لا يحب الكافرين و إنما جعل الله الدنيا متقلبة لكيلا يطمئن المسلم إليها و لتقل رغبته فيها أو حرصه عليها إذ تفنى لذاتها و يطعن مقيمها و يسعى للآخرة التي يدوم نعيمها و إنما جعل الدولة مرة للمؤمنين و مرة عليهم ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك و هو قيام الحجة فإنه لو كانت الدولة أبدا للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن و الفال على أن كل موضع حضره النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يخل من ظفر إما في ابتداء الأمر و إما في انتهائه و إنما لم يستمر ذلك لما بيناه و قوله « و ليعلم الله الذين آمنوا » المفعول الثاني ليعلم محذوف و تقديره و تلك الأيام نداولها بين الناس لوجوه من المصالح و ضروب من الحكمة و ليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم و على هذا لا يكون يعلم بمعنى يعرف لأنه ليس المعنى أنه يعرف الذوات بل المعنى أنه يعلم تميزها بالإيمان و يجوز أن يكون المعنى ليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي يعاملهم معاملة من يعرفهم بهذه الحال و إذا كان الله تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان كما يعلمهم بعده فإنما يعلم قبل الإظهار أنهم سيميزون فإذا أظهروه علمهم متميزين و يكون التغير حاصلا في المعلوم لا في العالم كما أن أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه على معنى أنه سيجيء فإذا جاء علمه جائيا و علمه يوما لا غدا فإذا انقضى فإنما يعلمه الأمس لا يوما و لا غدا و يكون التغير واقعا في المعلوم لا في العالم و قيل معناه و ليعلم أولياء الله الذين آمنوا و إنما أضاف إلى نفسه تفخيما و قيل معناه ليظهر المعلوم من صبر من يصبر و جزع من يجزع و إيمان من يؤمن و قيل ليظهر المعلوم من الإخلاص و النفاق و معناه ليعلم
مجمع البيان ج : 2 ص : 845
الله المؤمن من المنافق فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر و قوله « و يتخذ منكم شهداء » قيل فيه قولان ( أحدهما ) إن معناه ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد عن الحسن و قتادة و ابن إسحاق ( و الآخر ) و يتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان لما لكم في ذلك من جلالة القدر و علو المرتبة و الشهداء يكون جمع شاهد و جمع شهيد عن أبي علي الجبائي و إنما سموا شهداء لمشاهدتهم الأعمال التي يشهدون بها و أما في جمع الشهيد فلأنهم بذلوا الروح عند شهود الوقعة و لم يفروا « و الله لا يحب الظالمين » ظاهر المعنى و فائدته أنه تعالى بين أنه لا يمكن الظالمين منهم لمحبته لهم و لكن لأحد المعاني التي ذكرها و ليمحص ذنوب المؤمنين كما قاله فيما بعد .
وَ لِيُمَحِّص اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكَفِرِينَ(141)

اللغة

أصل التمحيص التخليص قال الخليل المحص الخلوص من العيب و محصته أمحصه محصا إذا خلصته من كل عيب و يقال اللهم محص عنا ذنوبنا أي أذهبها عنا لأنه تخليص الحسنات بتكفير السيئات و أصل المحق فناء الشيء حالا بعد حال و لهذا دخله معنى النقصان و انمحق الشيء انمحاقا و امتحق الشيء و تمحق إذا ذهبت بركته حالا بعد حال و المحاق آخر الشهر لذهاب ضوء الهلال حالا بعد حال .

المعنى

ثم بين تعالى وجه المصلحة في مداولة الأيام بين الناس فقال « و ليمحص الله الذين آمنوا » قيل في معنى الآية أقوال ( أحدها ) « و ليمحص الله » أي و ليبتلي الله الذين آمنوا « و يمحق الكافرين » ينقصهم عن ابن عباس و مجاهد و السدي ( و ثانيها ) ليخلص الله ذنوب المؤمنين عن الزجاج - ( و ثالثها ) - ينجي الله الذين آمنوا من الذنوب بالابتلاء و يهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء عن علي بن عيسى و إنما قابل بين التمحيص و المحق لأن محص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم و هذه مقابلة في المعنى و في هذه الآية دلالة على أنه تعالى إنما يداول بين الناس لتمحيص ذنوب المؤمنين و محق الكافرين و إنما يمحصهم بالمداولة لشيئين - ( أحدهما ) - إن في تخليتهم و تمكين الكافرين منهم تعريضا لهم للصبر الذي يستحقون به عظيم الأجر و يحط به عنهم كثيرا من أثقال الوزر - ( و الثاني ) - إن في ذلك لطفا لهم يعصمهم عن اقتراف نفوسهم الإثم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 846
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُوا مِنكُمْ وَ يَعْلَمَ الصبرِينَ(142) وَ لَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنتُمْ تَنظرُونَ(143)

اللغة

الفرق بين التمني و الإرادة أن الإرادة من أفعال القلوب و التمني قول القائل ليت كان كذا أو ليت لم يكن و قيل إن التمني معنى في القلب يطابق هذا القول و الصحيح هو الأول .

الإعراب

أم في قوله « أم حسبتم » هي المنقطعة و تقديره بل أ حسبتم و هو استفهام على وجه الإنكار و الفرق بين لم و لما أن لما جواب لقول القائل قد فعل فلان يريد به الحال و إذا قال فعل فجوابه لم يفعل لما كان أصلها لم مؤكدة بحرف كانت جوابا لما هو مؤكد بحرف و قوله « و يعلم الصابرين » نصب على الصرف عن العطف إذ ليس المعنى على نفي الثاني و الأول و إنما هو على نفي اجتماع الثاني و الأول و تقديره و إن يعلم فيكون منصوبا بإضمار أن و المعنى و لما يقع العلم بالجهاد و العلم بصبر الصابرين و روي عن الحسن أنه قرأ و يعلم الصابرين بالكسر عطفا على الأول .

المعنى

لما حث الله على الجهاد و رغب فيه زاد في البيان و الأخبار بأن الجنة لا تنال إلا بالبلوى و الاختبار فقال « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة » المراد به الإنكار أي أ ظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة « و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين » أي و لما يجاهد المجاهدون منكم فيعلم الله جهادهم و يصبر الصابرون منكم فيعلم صبرهم على القتال و إنما جاز « و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم » على معنى نفي الجهاد دون العلم لما في ذلك من الإيجاز في انتفاء جهادهم لأنه لو كان لعلمه و تقديره و لما لم يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم لأن المعنى مفهوم لا يشتبه « و لقد كنتم » يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « تمنون الموت » أي تتمنون الموت فحذف إحدى التاءين للتخفيف و ذلك أن قوما ممن فاتهم شهود بدر كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر قبل أحد فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه فانهزموا فعاتبهم الله على ذلك عن الحسن و مجاهد و الربيع و قتادة و السدي « من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه » الهاء في تلقوه و رأيتموه راجعة إلى الموت أي من قبل أن تلقوا أسباب الموت و هو الحرب فقد رأيتموها لأن
مجمع البيان ج : 2 ص : 847
الموت لا يرى و نحو ذلك قول الشاعر :
و الموت تحت لواء آل محلم ) أي أسباب الموت و قيل الهاء راجعة إلى الجهاد « و أنتم تنظرون » قيل أنه تأكيد للرؤية كما يقال رأيته عيانا فرأيته بعيني و سمعته بإذني لأن لا يتوهم رؤية القلب و سمع العلم و قيل معناه و أنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي فعلى هذا يكون النظر بمعنى الفكر و قيل معناه و أنتم تنظرون إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و فيه حذف أي فلم انهزمتم لأنه موضع عتاب فإن قيل كيف يتمنى قتل المشركين لهم لينالوا منزلة الشهادة و هل يجوز ذلك قلنا ذلك لا يجوز لأن قتل المشركين لهم معصية و لا يجوز تمني المعاصي كما لا يجوز إرادتها و لا الأمر بها فإذا ثبت ذلك فإنما تمنوا الشهادة بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا .
وَ مَا محَمَّدٌ إِلا رَسولٌ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِهِ الرُّسلُ أَ فَإِين مَّات أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِب عَلى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرَّ اللَّهَ شيْئاً وَ سيَجْزِى اللَّهُ الشكرِينَ(144)

اللغة

محمد أخذ من الحمد ، و التحميد فوق الحمد فمعناه المستغرق لجميع المحامد لأن التحميد لا يستوجبه إلا المستولي على الأمر في الكمال فأكرم الله عز اسمه نبيه و حبيبه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) باسمين مشتقين من اسمه تعالى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أحمد و إليه أشار حسان بن ثابت في قوله :
نبي أتانا بعد بأس و فترة
من الدين و الأوثان في الأرض تعبد
أ لم تر أن الله أرسل عبده
برهانه و الله أعلى و أمجد و شق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود و هذا محمد .

الإعراب

إنما دخل حرف الاستفهام على حرف الشرط و تقديره أ تنقلبون إن مات أو قتل لأن الشرط لما انعقد به صار جملة واحدة و خبرا واحدا فكان بمنزلة تقديم الاسم على الفعل في الذكر إذا قيل أ زيد قام فكذلك تقديمه في القسم و الاكتفاء بجواب الشرط عن جواب القسم كما قال الشاعر :
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل
أمامك بيت من بيوتي سائر .

مجمع البيان ج : 2 ص : 848

النزول

قال أهل التفسير سبب نزول هذه الآية أنه لما أرجف بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد قتل يوم أحد و أشيع ذلك قال أناس لو كان نبيا لما قتل و قال آخرون نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به و ارتد بعضهم و انهزم بعضهم و كان سبب انهزامهم و تضعضعهم إخلال الرماة لمكانهم من الشعب و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نهاهم عن الإخلال به و أمر عبد الله بن جبير و هو أخو خوات بن جبير على الرماة و هم خمسون رجلا و قال لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم بمكانكم و جاءت قريش على ميمنتهم خالد بن الوليد و على ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل و معهم النساء يضربن بالدفوف و ينشدن الأشعار فقالت هند :
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق و كان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش و عبيد أهل مكة فقاتلهم قتالا شديدا و حميت الحروب فقال رسول الله من يأخذ هذا السيف بحقه و يضرب به العدو أو العبيد حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذ السيف اعتم بعمامة حمراء و جعل يفتخر تبخترا و يقول :
أنا الذي عاهدني خليلي
أن لا أقيم الدهر في الكيول
أضرب بسيف الله و الرسول فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنها لمشية يبغضها الله و رسوله إلا في هذا الموضع ثم حمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أصحابه على المشركين فهزموهم و قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أصحاب اللواء كما تقدم بيانه و أنزل الله نصرته على المسلمين قال الزبير فرأيت هندا و صواحبها هاربات مصعدات في الجبال نادية خدامهن ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا و رأوا النبي و أصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب و اختلفوا فقال بعضهم لا تتركوا أمر الرسول و قال بعضهم ما بقي من الأمر شيء ثم انطلق عامتهم و لحقوا بالعسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة و اشتغال المسلمين بالغنيمة و رأى ظهورهم خالية صاح
مجمع البيان ج : 2 ص : 849
في خيله من المشركين و حمل على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من خلفهم فهزموهم و قتلوهم و رمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله بحجر و كسر أنفه و رباعيته و شجه في وجهه فأثقله و تفرق عنه أصحابه و أقبل يريد قتله فذب مصعب بن عمير و هو صاحب راية رسول الله يوم بدر و يوم أحد و كان اسم رايته العقاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى قتل مصعب بن عمير قتله ابن قمية فرجع و هو يرى أنه قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال إني قتلت محمدا و صاح صائح ألا إن محمدا قد قتل و يقال أن ذلك الصائح كان إبليس لعنه الله فانكف الناس و جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدعو الناس و يقول إلي عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين و رمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه و أصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست و أصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله مكانها فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أدركه أبي بن خلف الجمحي و هو يقول لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله أ لا يعطف عليه أحد منا فقال دعوه حتى إذا دنا منه و كان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله بل أنا أقتلك إن شاء الله فلما كان يوم أحد و دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحرث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه و خدش خدشة فتدهده عن فرسه و هو يخور كما يخور الثور و هو يقول قتلني محمد فاحتمله أصحابه و قالوا ليس عليك بأس قال بلى لو كانت هذه بربيعة و مضر لقتلتهم أ ليس قال لي أقتلك فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات قال و فشا في الناس أن رسول الله قد قتل فقال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان و بعضهم جلسوا و ألقوا بأيديهم و قال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن نضر عم أنس بن مالك يا قوم إن كان قد قتل محمد فرب محمد لم يقتل و ما تصنعون بالحياة بعد رسول الله فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله و موتوا على ما مات عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ثم أن رسول الله انطلق إلى الصخرة و هو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله كعب بن مالك قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا فهذا رسول الله فأشار إلي أن أسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا يا رسول الله فديناك ب آبائنا و أمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى « و ما محمد إلا رسول » الآية .

مجمع البيان ج : 2 ص : 850

المعنى

ثم بين سبحانه أنه لا ينبغي أن يترك أمر الله تعالى كان الرسول بين أظهرهم أو لم يكن فقال « و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » يعني أنه بشر اختاره الله لرسالته إلى خلقه قد مضت قبله رسل بعثوا فأدوا الرسالة و مضوا و ماتوا و قتل بعضهم و أنه يموت كما ماتت الرسل قبله فليس الموت بمستحيل عليه و لا القتل و قيل أراد أن أصحاب الأنبياء لم يرتدوا عند موتهم أو قتلهم فاقتدوا بهم ثم أكد ذلك فقال « أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم » معناه أ فإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم كفارا بعد إيمانكم فسمي الارتداد انقلابا على العقب و هو الرجوع القهقرى لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي و الألف في قوله « أ فإن مات » ألف إنكار صورته صورة الاستفهام و مثله أ تختار الفساد على الصلاح و الخطأ على الصواب و في قوله « مات أو قتل » دلالة على أن الموت غير القتل لأن الشيء لا يعطف على نفسه فالقتل هو نقض بنية الحياة و الموت فساد البنية التي تحتاج إليها الحياة و قيل الموت معنى يضاد الحياة و الصحيح الأول « و من ينقلب على عقبيه » يعني من يرتد عن دينه « فلن يضر الله شيئا » لأنه لا يجوز عليه المضار بل مضرته عائدة عليه لأنه مستحق للعقاب الدائم « و سيجزي الله الشاكرين » أي يثيب الله الشاكرين على شكرهم لنعم الله و اعترافهم بها و قيل المراد بالشاكرين المطيعين لأن الطاعات هي شكر الله على نعمه و هذا يتصل بما قبله اتصال الوعد بالوعيد لأن قوله فلن يضر الله شيئا دليل على معنى الوعيد فكأنه قال من يرتد عاد ضرره عليه و من شكر و آمن فنفعه يعود إليه .

] فصل في ذكر ما جاء في اسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)
[ كانت كفار قريش يشتمون مذمما يعنون اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أ لم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش و شتمهم يشتمون مذمما و أنا محمد و في مسند علي بن موسى الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه و أوسعوا له في المجلس و لا تقبحوا له وجها و ما من قوم كان لهم مشورة فحضر معهم من اسمه محمد أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم و ما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه محمد أو أحمد إلا قدس في كل يوم ذلك المنزل مرتين و عن أنس بن مالك قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في السوق فقال رجل يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله فقال الرجل إنما أدعو ذاك فقال رسول الله تسموا باسمي و لا تكنوا بكنيتي و عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)
مجمع البيان ج : 2 ص : 851
لا تجمعوا بين اسمي و كنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي و أنا أقسم ثم رخص في ذلك لعلي (عليه السلام) و ابنه و عن علي بن أبي طالب قال قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن ولد لك غلام نحلته اسمي و كنيتي .
وَ مَا كانَ لِنَفْس أَن تَمُوت إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَباً مُّؤَجَّلاً وَ مَن يُرِدْ ثَوَاب الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنهَا وَ مَن يُرِدْ ثَوَاب الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنهَا وَ سنَجْزِى الشكِرِينَ(145)

الإعراب

كتابا نصب على المصدر لفعل محذوف دل عليه أول الكلام مع العلم بأن كل ما يكون فقد كتبه الله فتقديره كتب الله ذلك كتابا و قال الأخفش اللام في قوله « و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله » منقولة عما دخل عليه في غيره و تقديره و ما كان لنفس لتموت أي لأن تموت .

المعنى

« و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله » و معناه ما كان نفس لتموت إلا بإذن الله و مثله « و ما كان الله أن يتخذ من ولد » أي و ما كان الله ليتخذ ولدا و قوله « و ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » معناه ما كنتم لتنبتوا شجرها لأن إنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة البشر ففي الآية إخبار بأن الموت لا يكون إلا بإذن الله و هذا تسلية عما لحق النفوس بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من جهة أنه بإذن الله و معناه أنه إن مات فإنما يموت بإذن الله و علمه كغيره من الناس فلا عذر لأحد في ترك دينه بعد موته و قيل أن فيه حضا على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله أي لا تتركوا الجهاد خشية القتل فإن ذلك لا يؤخر أجلا قد حضر و لا يقدم الجهاد أجلا لم يحضر فلا معنى للانهزام و قوله « بإذن الله » يحتمل أمرين ( أحدهما ) بعلم الله ( و الثاني ) بأمر الله و قال أبو علي الجبائي فيه دلالة على أنه لا يقدر على الموت غير الله كما لا يقدر على ضده من الحياة غير الله و لو كان من مقدور غيره لم يكن بإذنه و قوله « كتابا مؤجلا » معناه كتب الله لكل حي أجلا و وقتا لحياته و وقتا لموته لا يتقدم و لا يتأخر و قيل حتما موقتا و حكما لازما مبرما « و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها » قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن المراد من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة عن ابن إسحاق أي فلا يغتر بحاله في الدنيا ( و ثانيها ) من أراد بجهاده ثواب الدنيا و هو النصيب من الغنيمة نؤته منها فبين أن حصول الدنيا للإنسان ليس بموضع غبطة
مجمع البيان ج : 2 ص : 852
لأنها مبذولة للبر و الفاجر عن أبي علي الجبائي ( و ثالثها ) من تعرض لثواب الدنيا بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا دون الآخرة لإحباط عمله بفسقه و هذا على مذهب من يقول بالإحباط « و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها » أي و من يرد بالجهاد و أعماله ثواب الآخرة نؤته منها فلا ينبغي لأحد أن يطلب بطاعاته غير ثواب الله و مثله قوله تعالى « و من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه » الآية ، و قريب منها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب و من في قوله « منها » يحتمل أن تكون زائدة و يحتمل أن تكون للتبعيض لأنه إنما يستحق الثواب على قدر العمل « و سنجزي الشاكرين » أي نعطيهم جزاء الشكر و في تكراره قولان ( أحدهما ) أنه للتأكيد و للتنبيه على عظم منزلة الشاكرين ( و الثاني ) أن معناه و سنجزي الشاكرين من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما يعطى الكافر من نعيم الدنيا عن ابن إسحاق و روى أبان بن عثمان عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه أصاب عليا (عليه السلام) يوم أحد ستون جراحة و أن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أمر أم سليم و أم عطية أن تداوياه فقالتا أنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان آخر و قد خفنا عليه فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده و يقول إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى و أعذر و كان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يلتئم فقال علي (عليه السلام) الحمد لله إذ لم أفر و لم أولي الدبر فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن و هو قوله « و سيجزي الله الشاكرين » من الرزق في الدنيا « و سنجزي الشاكرين » قال أبو علي الجبائي و في هذه الآية دلالة على أن أجل الإنسان إنما هو أجل واحد و هو الوقت الذي يموت فيه لأنه لا ينقطع بالقتل عن الأجل الذي أخبر الله بأنه أجل لموته و قال ابن الإخشيد لا دليل فيه على ذلك لأن للإنسان أجلين أجلا يموت فيه لا محالة و أجلا هو موهبة من الله له و مع ذلك فلن يموت إلا عند الأجل الذي جعله الله أجلا لموته و الأقوى الأول .

النظم

اتصل قوله « و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله » بما قبله لأنه حث على الجهاد و قيل لأنه تسلية عما حق النفوس من الوجوم بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل للبيان بأن حالهم لا تختلف في التكليف بأن يموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فينبغي أن يتمسك بأمره في حياته و بعد وفاته .

مجمع البيان ج : 2 ص : 853
وَ كَأَيِّن مِّن نَّبىّ قَتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصابهُمْ فى سبِيلِ اللَّهِ وَ مَا ضعُفُوا وَ مَا استَكانُوا وَ اللَّهُ يحِب الصبرِينَ(146) وَ مَا كانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ إِسرَافَنَا فى أَمْرِنَا وَ ثَبِّت أَقْدَامَنَا وَ انْصرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكفِرِينَ(147) فَئَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَاب الدُّنْيَا وَ حُسنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ وَ اللَّهُ يحِب المُْحْسِنِينَ(148)

القراءة

قرأ ابن كثير كائن على وزن كاعن و أبو جعفر يلين الهمزة و هو قراءة الحسن و الباقون « كأين » على وزن كعين و قرأ أهل البصرة و ابن كثير و نافع قتل بضم القاف بغير ألف و هي قراءة ابن عباس و الباقون « قاتل » بالألف و هي قراءة ابن مسعود .

الحجة

أصل كائن أي دخلت عليه كاف التشبيه كما دخلت على ذا من كذا و على أن من كأن و كثر استعمال الكلمة فصارت ككلمة واحدة فقلبت قلب الكلمة الواحدة فصار كيان فحذفت الياء الثانية كما حذفت في كينونة فصار كيان مثل كيعن ثم أبدلت من الياء الألف كما أبدلت من طائي فصار كائن ثم لينت الهمزة على قراءة أبي جعفر قال الشاعر :
و كائن رددنا عنكم من مدجج
يجيء أمام القوم يردي مقنعا و قال آخر :
و كائن إليكم عاد من رأس فنية
جنودا و أمثال الجبال كتائبه و قد حذفت الياء من أي في قول الفرزدق :
تنورت نسرا و المساكين أيهما
علي من الغيث استهلت مواطره و أما قتل فيجوز أن يكون مسندا إلى ضمير نبي و إذا أسند هذا إلى الضمير احتمل هذا « معه ربيون » أمرين ( أحدهما ) أن يكون صفة لنبي فإذا قدرته هذا التقدير كان قوله
مجمع البيان ج : 2 ص : 854
« ربيون » مرتفعا بالظرف بلا خلاف لأن الظرف إذا اعتمد على ما قبله جاز أن يرفع على مذهب سيبويه أيضا ( و الآخر ) ألا تجعله صفة و لكن حالا من الضمير في قتل و الأحسن أن يكون الاسم الذي أسند إليه قتل قوله « ربيون » فيكون على هذا التقدير قوله « معه » متعلقا بقتل و على القبيلتين الآخرين اللذين هما الصفة و الحال متعلقا في الأصل بمحذوف و كذلك من قرأ « قاتل معه ربيون » فهو يجوز فيه ما جاز في قراءة من قرأ قتل و حجة من قرأ قتل قوله « أ فإن مات أو قتل » و حجة من قرأ « قاتل » أن القاتل قد مدح كما يمدح المقتول قال تعالى « و قاتلوا و قتلوا » و من جعل قوله « معه ربيون » صفة أضمر للمبتدأ الذي هو كأين خبرا و موضع الكاف الجارة هي في كأين مع المجرور رفع كما أن موضع الكاف في قوله كذا و كذا رفع و لا معنى للتشبيه فيها كما أنه لا معنى للتشبيه في كذا و كذا .

اللغة

الوهن الضعف و قال « و ما ضعفوا » من حيث إن انكسار الجسم بالخوف و غيره و الضعف نقصان القوة و الاستكانة أصلها من الكينة و هي الحالة السيئة يقال فلان بات بكينة أي بنية سوء و الإسراف مجاوزة المقدار و الإفراط بمعناه و ضدهما التقتير و قيل الإسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان و الأول أظهر يقال أسرفت الشيء أي نسيته لأنه جاوزه إلى غيره بالسهو عنه .

المعنى

ثم أكد سبحانه ما تقدم بقوله « و كأين من نبي » أي و كم من رسول « قاتل » أي حارب أو قتل « معه ربيون كثير » ذكرنا تقديره في الحجة و قيل في ربيون أقوال ( أحدها ) أنهم علماء فقهاء صبر عن ابن عباس و الحسن ( و ثانيها ) أنهم جموع كثيرة عن مجاهد و قتادة ( و ثالثها ) أنهم منسوبون إلى الرب و معناه المتمسكون بعبادة الله عن الأخفش و قال غيره أنهم منسوبون إلى علم الرب ( و رابعها ) أن الربيون عشرة آلاف عن الزجاج و هو المروي عن أبي جعفر ( و خامسها ) أن الربيون الأتباع و الربانيون الولاة عن ابن زيد و من أسند الضمير الذي في قتل إلى نبي فالمعنى كم من قتل ذلك النبي و كان معه جماعة كثيرة فقاتل أصحابه بعد « فما وهنوا » و ما فتروا و من أسند قتل إلى الربيين دون ضمير نبي فالمعنى ما وهن باقيتهم بعد ما قتل كثير منهم في سبيل الله إلى هذا ذهب الحسن لأنه كان يقول لم يقتل نبي قط في معركة و إلى الأول ذهب ابن إسحاق و قتادة و الربيع و السدي فعلى هذا يكون النبي المقتول و الذين معه لا يهنون ، بين الله سبحانه أنه لو قتل النبي كما أرجف بذلك يوم أحد لما أوجب ذلك أن يضعفوا و يهنوا كما لم يهن من
مجمع البيان ج : 2 ص : 855
كان مع الأنبياء بقتلهم و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل معناه فما وهنوا بقتل نبيهم و لا ضعفوا عن عدوهم و لا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم عن ابن عباس و قيل « فما وهنوا » أي فما جبنوا عن قتال عدوهم « و ما ضعفوا » أي ما فتروا « و ما استكانوا » أي و ما خضعوا لعدوهم عن الزجاج « و الله يحب الصابرين » في الجهاد قال ابن الأنباري أي فقد كان واجبا عليكم أن تقاتلوا على أمر نبيكم لو قتل كما قاتل أمم الأنبياء بعد قتلهم و لم يرجعوا عن دينهم « و ما كان قولهم » عند لقاء العدو « إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا » و المعنى ما كان قولهم إلا استغفارهم أي إلا قولهم « ربنا اغفر لنا ذنوبنا » و قوله « أن قالوا » اسم كان و قولهم خبره و الضمير يعود إلى النبي و من معه على أحد القولين و إلى الربيين في قول الآخر و قوله « اغفر لنا ذنوبنا » أي استرها علينا بترك عقابنا و مجازاتنا عليها « و إسرافنا في أمرنا » أي تجاوزنا الحد و تفريطنا و تقصيرنا ، رغب الله تعالى أصحاب الرسول في أن يقولوا هذا القول و لا يقولوا قولا يدل على الضعف فيطمع الأعداء فيهم « و ثبت أقدامنا » في جهاد عدوك بتقوية القلوب و فعل الألطاف التي معها تثبت الأقدام فلا تزول للانهزام و قيل معناه ثبتنا على الدين فتثبت به أقدامنا « و انصرنا » على القوم و أعنا « على القوم الكافرين » بإلقاء الرعب في قلوبهم و إمدادنا بالملائكة ثم بين تعالى ما آتاهم عقيب دعائهم فقال « فأتاهم الله » يعني الذين وصفهم أعطاهم الله « ثواب الدنيا » و هو نصرهم على عدوهم حتى ظفروا بهم و قهروهم و غلبوهم و نالوا منهم الغنيمة و حسن ثواب الآخرة و هو الجنة و المغفرة و يجوز أن يكون ما آتاهم في الدنيا من الظفر و الفتح و النصر و أخذ الغنيمة ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم لأن في ذلك التعظيم لهم و الإجلال و لذلك تقول إن المدح على فعل الطاعة و التسمية بالأسماء الشريفة بعض الثواب و يجوز أن يكون أعطاهم الله ذلك تفضلا منه تعالى أو لما لهم فيه من اللطف فيكون تسميته بأنه ثواب مجازا و توسعا و الثواب هو النفع الخالص المستحق المقارن للتعظيم و التبجيل « و الله يحب المحسنين » في أقوالهم و أفعالهم و المحسن فاعل الحسن و قيل المحسن الذي يحسن إلى نفسه بطاعة ربه و قيل الذي يحسن إلى غيره .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكمْ عَلى أَعْقَبِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَسرِينَ(149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَامْ وَ هُوَ خَيرُ النَّصرِينَ(150)

اللغة

الطاعة موافقة الإرادة المرغبة في الفعل و بالترغيب ينفصل عن الإجابة و إن
مجمع البيان ج : 2 ص : 856
كان موافقة الإرادة حاصلة و في الناس من قال الطاعة هي موافقة الأمر و الأول أصح لأن من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه كان مطيعا لله و إن لم يكن هناك أمر .

الإعراب

يردوكم جزم لأنه جواب الشرط فتنقلبوا عطف عليه و خاسرين نصب على الحال و بل حقيقته الإضراب عن الأول إلى الثاني .

النزول

قيل نزلت في المنافقين إذ قالوا للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم و ارجعوا إلى دينهم عن علي (عليه السلام) و قيل هم اليهود و النصارى عن الحسن و ابن جريج .

المعنى

ثم أمر سبحانه بترك الائتمار لمن ثبطهم عن الجهاد من الكفار و قال « يا أيها الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله « إن تطيعوا الذين كفروا » أي إن أصغيتم إلى قول اليهود و المنافقين إن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قتل فارجعوا إلى عشائركم « يردوكم على أعقابكم » أي يرجعوكم كفارا كما كنتم « فتنقلبوا » أي ترجعوا « خاسرين » لأنفسكم فلا خسران أعظم من أن تبدلوا الكفر بالإيمان و النار بالجنة « بل الله مولاكم » أي لهو أولى بأن تطيعوه و هو أولى بنصرتكم « و هو خير الناصرين » إنما قال ذلك و إن كان نصر غيره لا يعتد به مع نصره استظهارا في الحجة أي إن اعتد بنصرة غيره فهو خير ناصر لأنه لا يجوز أن يغلب و غيره يجوز أن يغلب و إن نصر فهو الناصر في الحقيقة إن شاء أمدكم بأهل الأرض و إن شاء نصركم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم .
سنُلْقِى فى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب بِمَا أَشرَكوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سلْطناً وَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَ بِئْس مَثْوَى الظلِمِينَ(151)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو جعفر و الكسائي و يعقوب و أبو حاتم الرعب بضمتين و الآخرون بتسكين العين و قد تقدم القول في مثله .

اللغة

السلطان هنا معناه الحجة و البرهان و أصله القوة فسلطان الملك قوته
مجمع البيان ج : 2 ص : 857
و السلطان البرهان لقوته على دفع الباطل و التسليط على الشيء التقوية على الشيء مع الإغراء به و السلاطة حدة اللسان مع شدة الصحب للقوة على ذلك مع إيثار فعله و السليط الزيت لقوة استعماله بحدته و الإلقاء أصله في الأعيان يدل عليه قوله و ألقى الألواح فألقوا حبالهم و استعمل في غير عين اتساعا إذ ليس الرعب و كذلك قوله و ألقيت عليك محبة مني و مثل الإلقاء في ذلك الرمي قال سبحانه الذين يرمون أزواجهم أي بالزنا فهذا اتساع لأنه ليس بعين و كذلك قوله :
رماني بأمر كنت منه و والدي
بريا و من حول الطوي رماني و المثوى المنزل و أصله من الثواء و هو طول الإقامة و أم المثوى ربة البيت و الثوي الضعيف لأنه مقيم مع القوم .

النزول

قال السدي لما ارتحل أبو سفيان و المشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به و ستأتي هذه القصة فيما بعد إن شاء الله فنزلت الآية .

المعنى

ثم بين سبحانه أن من جملة نصرته للمؤمنين إلقائه الرعب في قلوب المشركين فقال « سنلقي » أي سنقذف « في قلوب الذين كفروا الرعب » أي الخوف و الفزع « بما أشركوا بالله » أي بشركهم بالله و قولهم عليه ما لا يجوز من الند و الشريك « ما لم ينزل به سلطانا » أي برهانا و حجة يعني لم يجعل لهم في ذلك حجة « و مأويهم » أي مستقرهم « النار » يعذبون بها « و بئس مثوى الظالمين » معناه و بئس مقام الظالمين النار و روي أن الكفار دخلوا مكة كالمنهزمين مخافة أن يكون لرسول الله و أصحابه الكرة عليهم و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نصرت بالرعب مسيرة شهر .

مجمع البيان ج : 2 ص : 858
وَ لَقَدْ صدَقَكمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسونَهُم بِإِذْنِهِ حَتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَزَعْتُمْ فى الأَمْرِ وَ عَصيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَ مِنكم مَّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمَّ صرَفَكمْ عَنهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنكمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضل عَلى الْمُؤْمِنِينَ(152)

اللغة

الحس القتل على وجه الاستئصال و أصله من الإحساس و منه هل تحس منهم من أحد و سمي القتل حسا لأنه يبطل الحس و الفشل الجبن .

الإعراب

صدق يتعدى إلى مفعولين و جواب إذا في قوله « حتى إذا فشلتم » قيل فيه وجهان ( أحدهما ) أنه محذوف و تقديره حتى إذا فشلتم امتحنتم ( و الثاني ) أنه على زيادة الواو و التقديم و التأخير و تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم عن الفراء و قال هذا كقوله فلما أسلما و تله للجبين و ناديناه و معناه ناديناه و الواو زيادة و حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها و أنشد :
حتى إذا قملت بطونكم
و رأيتم أبناءكم شبوا
و قلبتم ظهر المجن لنا
إن اللئيم العاجز الخب و البصريون لا يجيزون هذا و يأولون جميع ما استشهد به على الحذف لأنه أبلغ في الكلام و أحسن .

النزول

ذكر ابن عباس و البراء بن عازب و الحسن و قتادة أن الوعد المذكور في الآية كان يوم أحد لأن المسلمين كانوا يقتلون المشركين حتى إذا أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرسول بالمقام عنده فأتاهم خالد من ورائهم و قتل عبد الله بن جبير و من معه و تراجع المشركون و قتل من المسلمين سبعون رجلا و نادى مناد قتل محمد ثم من الله على المسلمين فرجعوا و في ذلك نزلت الآية .

المعنى

ثم بين تعالى أنه صدقهم وعده فقال « و لقد صدقكم الله وعده » معناه وفى الله لكم بما وعدكم من النصر على عدوكم في قوله بلى أن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية و قيل كان الوعد قول رسول الله للرماة لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم « إذ تحسونهم » أي تقتلونهم « بإذنه » أي بعلمه و قيل بلطفه لأن أصل الأذن هو الإطلاق في الفعل و اللطف تيسير للفعل كما أن الأذن كذلك فحسن إجراء اسمه عليه « حتى إذا فشلتم » معناه جبنتم عن عدوكم و كففتم
مجمع البيان ج : 2 ص : 859
« و تنازعتم في الأمر » أي اختلفتم « و عصيتم » أمر نبيكم في حفظ المكان « من بعد ما أراكم ما تحبون » من النصرة على الكفار و هزيمتهم و الظفر بهم و الغنيمة و أكثر المفسرين على أن المراد بالجميع يوم أحد و قال أبو علي الجبائي معناه أن تحسونهم يوم بدر حتى إذا فشلتم يوم أحد و تنازعتم و عصيتم يوم أحد من بعد ما أراكم ما تحبون يوم بدر و الأولى أن يكون حكاية عن يوم أحد على ما بيناه و جواب إذا هاهنا محذوف يدل الكلام عليه و تقديره حتى إذا فعلتم ذلك ابتلاكم و امتحنكم و رفع النصرة عنكم « منكم من يريد الدنيا » يعني الغنيمة و هم الذين أخلوا المكان الذي رتبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيه و أمرهم بلزومه « و منكم من يريد الآخرة » أراد عبد الله بن جبير و من ثبت مكانه أي يقصد بجهاده إلى ما عند الله و روي عن ابن مسعود قال ما كنت أدري أن أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يريد الدنيا حتى نزلت فينا هذه الآية يوم أحد « ثم صرفكم عنهم » قد ذكرنا في إضافة انصرافهم إلى الله سبحانه وجوه ( أحدها ) أنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه و منهم من لم يعص لأنهم قلوا بعد انهزام تلك الفرقة فانصرفوا بإذن الله لئلا يقتلوا لأن الله تعالى أوجب ثبات المائة للمائتين فإذا نقصوا لا يجب عليهم ذلك فجاز أن يذكر الفريقين بأنه صرفهم و عفا عنهم يعني صرف بعضهم و عفا عن بعض عن أبي علي الجبائي ( و ثانيها ) أن معناه رفع النصرة عنكم و وكلكم إلى أنفسكم بخلافكم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فانهزمتم عن جعفر بن حرب ( و ثالثها ) أن معناه لمن يأمركم بمعاودتهم من فورهم ليبتليكم بالمظاهرة في الإنعام عليكم و التخفيف عنكم عن البلخي و قوله « ليبتليكم » معناه ليختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل و ذلك أنه تعالى إنما يجازي عباده على ما يفعلونه دون ما قد علمه منهم « و لقد عفا عنكم » أي صفح عنكم بعد أن خالفتم أمر الرسول و قيل عفا عنكم تتبعهم بعد أن أمركم بالتتبع لهم عن البلخي قال لما بلغوا حمراء الأسد عفا عنهم في ذلك .
و قال أبو علي الجبائي هو خاص بمن لم يعص الله بانصرافه و الأولى أن يكون عاما في الجميع فإنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد عفا لهم عن المعصية « و الله ذو فضل على المؤمنين » أي ذو من و نعمة عليهم بنعم الدنيا و الدين و قيل بغفران ذنوبهم و قيل بأن لا يستأصلهم كما فعل بمن كان قبلهم و روى الواحدي بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي قال خرج رسول الله يوم أحد و كسرت رباعيته و هشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة بنته تغسل عنه الدم و علي بن أبي طالب (عليه السلام) يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى إذا صار رمادا ألزمته الجرح فاستمسك الدم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 860
* إِذْ تُصعِدُونَ وَ لا تَلْوُنَ عَلى أَحَد وَ الرَّسولُ يَدْعُوكمْ فى أُخْرَاكُمْ فَأَثَبَكمْ غَمَّا بِغَمّ لِّكيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكمْ وَ لا مَا أَصبَكمْ وَ اللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشى طائفَةً مِّنكُمْ وَ طائفَةٌ قَدْ أَهَمَّتهُمْ أَنفُسهُمْ يَظنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظنَّ الجَْهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شىْء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كلَّهُ للَّهِ يخْفُونَ فى أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَك يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فى بُيُوتِكُمْ لَبرَزَ الَّذِينَ كُتِب عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلىَ اللَّهُ مَا فى صدُورِكمْ وَ لِيُمَحِّص مَا فى قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ(154)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم تغشى طائفة بالتاء و الباقون « يغشي » بالياء و قرأ أهل البصرة كله لله بالرفع و الباقون بالنصب .

الحجة

قال أبو علي حجة من قرأ « يغشي » بالياء قوله إذ يغشيكم النعاس أمنة و النعاس هو الغاشي و لأن يغشي أقرب إلى النعاس فأسناد الفعل إليه أولى و يقال غشيني النعاس و غلب علي النعاس و لا يسهل غشيتني الأمنة و حجة من قرأ بالتاء أن النعاس و إن كان بدلا من الأمنة فليس المبدل منه في طريق ما يسقط من الكلام يدلك على ذلك قولهم الذي مررت به زيد أبو عبد الله و قال :
و كأنه لهق السراة كأنه
ما حاجبيه مغير بسواد فجعل الخبر على الذي أبدل منه و حجة من نصب كله أن كله بمنزلة أجمعين في
مجمع البيان ج : 2 ص : 861
أنه الإحاطة و العموم فالوجه أن لا يلي العوامل كما لا يليها أجمعون و حجة أبي عمرو في رفعه كله و ابتداؤه به أنه و إن كان في أكثر الأمر بمنزلة أجمعين لعمومها فقد ابتدىء بها كما ابتدىء بسائر الأسماء نحو قوله و كلهم آتيه يوم القيامة فردا فابتدأ به في الآية .

اللغة

الفرق بين الإصعاد و الصعود أن الإصعاد في مستوى من الأرض و الصعود في ارتفاع يقال أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها و منه قول الشاعر :
هواي مع الركب اليمانين مصعد
جنيب و جثماني بمكة موثق و روي عن الحسن أنه قرأ تصعدون بفتح التاء و العين و قال إنهم صعدوا في الجبل فرارا و قال الفراء الإصعاد الابتداء في كل سفر و الانحدار الرجوع عنه و لا تلون أي لا تعرجون على أحد كما يفعله المنهزم و لا يذكر هذه إلا في النفي لا يقال لويت على كذا و أصله من لي العنق للالتفات و النعاس الوسن و ناقة نعوس توصف بالسماحة في الدر .

الإعراب

قوله « إذ تصعدون » العامل في إذ قوله و لقد عفا عنكم و اللام في قوله « لكيلا تحزنوا » يتعلق به أيضا و قيل يتعلق بقوله « فأثابكم » و لا تحزنوا منصوب بكي و أمنة مفعول أنزل و نعاسا بدل منها و طائفة الأولى مفعول يغشي و طائفة الثانية مرفوعة بالابتداء و خبرها يظنون و « قد أهمتهم أنفسهم » في موضع رفع بالصفة و يجوز أن يكون قد أهمتهم أنفسهم خبرا و الواو في طائفة واو الحال على تقدير يغشي النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم فالجملة في موضع الحال و يجوز النصب على أن يجعل الواو واو العطف كما تقول ضربت زيدا و عمرا أكرمته فيكون منصوبا على إضمار فعل الذي قد ظهر تفسيره .

المعنى

ثم ذكر تعالى المنهزمين من أصحاب رسول الله يوم أحد فقال « إذ تصعدون » معناه و لقد عفا عنكم إذ تذهبون في وادي أحد للانهزام فرارا من العدو عن قتادة و الربيع « و لا تلوون على أحد » أي لا تقيمون على من خلفتم في الحرب و لا تلتفتون إليهم و لا يقف أحد منكم على أحد « و الرسول » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « يدعوكم في أخراكم » أي يناديكم من ورائكم فيقول ارجعوا إلى عباد الله ارجعوا إلي أنا رسول الله يقال فلان جاء في آخر الناس و آخرة الناس و أخرى الناس إذا جاء خلفهم « فأثابكم غما بغم » اختلف فيه على أقوال ( أحدها ) أن معناه جعل مكان ما ترجونه من الثواب أن غمكم بالهزيمة و ظفر المشركين بكم بغمكم رسول الله إذ عصيتموه و ضيعتم أمره فالغم
مجمع البيان ج : 2 ص : 862

الأول لهم و الثاني للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و اختاره الزجاج ( و ثانيها ) أن معناه غما على غم أو غما مع غم أو غما بعد غم كما يقال نزلت بفلان و على فلأن حتى فعل كذا و يقال ما نزلت بزيد حتى فعل أي مع زيد و أراد به كثرة الغم بالندم على ما فعلوا و بما أصابهم من الشدائد و أنهم لا يدرون ما استحقوا به من عقاب الله ( و ثالثها ) أن الغم الأول القتل و الجراح و الثاني الإرجاف بقتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قتادة و الربيع ( و رابعها ) أثابكم غما يوم أحد بغم ألحق المشركين يوم بدر عن الحسن و في هذا القول نظر لأن ما لحق المشركين من الغم يوم بدر من جهة المسلمين إنما توجب المجازاة بالكرامة دون الغم ( و خامسها ) أن المراد غم المشركين بما ظهر من قوة المسلمين على طلبهم و خروجهم إلى حمراء الأسد فجعل هذا الغم عوضا عن غم المسلمين بما نيل منهم عن الحسين بن علي المغربي و إنما قيل في الغم ثواب لأن أصله ما يرجع إلى المجازاة على الفعل طاعة كان أو معصية ثم كثر في جزاء الطاعة فهو كما قال الشاعر :
و أراني طربا في إثرهم
طرب الواله أو كالمختبل و قيل أنه مما وضع مكان غيره كقوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم أي ضعه موضع البشارة فهو كما قال الشاعر :
أخاف زيادا إن يكون عطاؤه
أداهم سودا أو مدحرجة سمرا « لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم » معناه فعل بكم هذا الغم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة و لا تتركوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لئلا تحزنوا على ما أصابكم من الشدائد في سبيل الله و ليكن غمكم بأن خالفتم النبي فقط و تقديره ليشغلكم حزنكم على سوء ما صنعتم عن الحزن على غيره و قيل معناه و لقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن « و الله خبير بما تعملون » فيه ترغيب في الطاعة و ترهيب عن المعصية ثم ذكر ما أنعم به عليهم بعد ذلك حتى تراجعوا و أقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل النعاس عليهم في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون على الأرض و كان المنافقون لا يستقرون حتى طارت عقولهم فقال « ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا » لفظ الإنزال توسع و معناه ثم وهب الله لكم أيها المؤمنون بعد ما نالكم من يوم أحد من الغم أمنة يعني أمنا نعاسا أي نوما و هو بدل الاشتمال عن أمنة لأن النوم يشتمل على الأمن لأن الخائف لا ينام ثم ذكر سبحانه إن تلك الأمنة لم تكن عامة بل

<<        الفهرس        >>