جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 2 ص : 892
وَ لا يحْسبنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلى لَهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلى لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(178)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو « و لا يحسبن الذين كفروا » و لا يحسبن الذين يبخلون و لا يحسبن الذين يفرحون كلهن بالياء و كسر السين و كذلك فلا يحسبنهم بضم الباء و بالياء و كسر السين و قرأ حمزة كلها بالتاء و فتح السين و فتح الباء من يحسبنهم و قرأ أهل المدينة و الشام و يعقوب كلها بالياء إلا قوله فلا تحسبنهم بالتاء و فتح الباء إلا إن أهل المدينة و يعقوب كسروا السين و فتحها الشامي و قرأ عاصم و الكسائي و خلف كل ما في هذه السورة بالتاء إلا حرفين « و لا يحسبن الذين كفروا » ، و لا يحسبن الذين يبخلون فإنهما بالياء غير أن عاصما فتح السين و كسرها الكسائي .

الحجة و الإعراب

من قرأ بالياء فالذين في هذه الآي في موضع الرفع بأنه فاعل و إذا كان الذين فاعلا و يقتضي حسب مفعولين أو ما يسد مسد المفعولين نحو حسبت أن زيدا منطلق و حسبت أن يقوم عمرو فقوله تعالى « إنما نملي لهم خير لأنفسهم » قد سد مسد مفعولين الذين يقتضيهما يحسبن و ما يحتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون بمعنى الذي فيكون تقديره لا يحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه لهم خير لأنفسهم ( و الآخر ) أن يكون ما نملي بمنزلة الإملاء فيكون مصدرا و إذا كان مصدرا لم يقتض راجعا إليه و قال المبرد من قرأ « يحسبن » بالياء فتح إن و يقبح الكسر مع الياء و هو جائز على قبحه لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي فهو يبطل عمله مع إن المكسورة كما يبطل مع اللام كما يجوز حسبت لعبد الله منطلق يجوز على بعد حسبت أن عبد الله منطلق و قال أبو علي الوجه فيه أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء و تدخل كل واحد منهما على الابتداء و الخبر فكأنه قال لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خيرا لهم و أما قراءة حمزة بالتاء من تحسبن و بفتح إن فقد خطأه البصريون في ذلك لأنه يصير المعنى و لا تحسبن الذين كفروا إملاءنا و ذلك لا يصح غير أن الزجاج قال يجوز على البدل من الذين و المعنى و لا تحسبن إملاء للذين كفروا خيرا لهم و مثله في الشعر :
و ما كان قيس هلكه هلك واحد
و لكنه بنيان قوم تهدما قال أبو علي لا يجوز ذلك لأنك إذا أبدلت إن من الذين كفروا لزمك أن تنصب خيرا من حيث كان المفعول الثاني و لم ينصبه أحد من القراء و إذا لم يصح البدل لم يجز
مجمع البيان ج : 2 ص : 893
فيه إلا كسر أن على أن يكون إن و خبرها في موضع المفعول الثاني من تحسبن .

اللغة

الإملاء إطالة المدة و الملي الحين الطويل و الملأ الدهر و الملوان الليل و النهار لطول تعاقبهما .

النزول

نزلت في مشركي مكة عن مقاتل و في قريظة و النضير عن عطاء .

المعنى

ثم بين سبحانه أن إمهال الكفار لا ينفعهم إذا كان يؤدي إلى العقاب فقال « و لا يحسبن » أي لا يظنن « الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم » أي إن إطالتنا لأعمارهم و إمهالنا إياهم خير لهم من القتل في سبيل الله بأحد لأن قتل الشهداء أداهم إلى الجنة و بقاء هؤلاء في الكفر يؤديهم إلى العقاب ثم ابتدأ سبحانه فقال « إنما نملي لهم » أي إنما نطيل عمرهم و نترك المعاجلة لعقوبتهم « ليزدادوا إثما » أي لتكون عاقبة أمرهم بازديادهم الإثم فيكون اللام لام العاقبة مثل اللام في قوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا و هم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا و قرة عين و لكن لما علم الله أنه يصير في آخر أمره عدوا و حزنا قال كذلك و مثله في قول الشاعر :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
و دورنا لخراب الدهر نبنيها و قول الآخر :
ء أم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة و قول الآخر :
فللموت تغذو الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن و قول الآخر :
لدوا للموت و ابنوا للخراب و لا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة و الغرض لوجهين ( أحدهما ) أن إرادة القبيح قبيحة و تلك عنه سبحانه منفية ( و الآخر ) أنها لو كانت لام الإرادة لوجب أن يكون الكفار مطيعين لله تعالى من حيث فعلوا ما وافق إرادته و ذلك خلاف الإجماع و قد قال عز اسمه و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله و ما أمروا إلا ليعبدوا الله و القرآن يصدق بعضه بعضا و على هذا فلا بد من تخصيص الآية فيمن علم منه أنه لا يؤمن لأنه لو كان فيهم من يؤمن لما توجه إليهم هذا الوعيد المخصوص و قال أبو القاسم البلخي معناه و لا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم رضا بأفعالهم و قبول لها بل هو شر لهم لأنا نملي لهم و هم يزدادون إثما يستحقون به العذاب الأليم و مثله و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس أي ذرأنا كثيرا
مجمع البيان ج : 2 ص : 894
من الخلق سيصيرون إلى جهنم بسوء أفعالهم و قد يقول الرجل لغيره و قد نصحه فلم يقبل نصحه ما زادك نصحي إلا شرا و وعظي إلا فسادا و نظيره قوله حتى أنسوكم ذكري و معلوم أن الرسل ما أنسوهم ذكر الله على الحقيقة و ما بعثوا إلا للتذكير و التنبيه دون الإنساء مع أن الإنساء ليس من فعلهم فلا يجوز إضافته إليهم و لكنه إنما أضيف إليهم لأن دعاءه إياهم لما كان لا ينجع فيهم و لا يردهم عن معاصيهم فأضيف الإنساء إليهم و في هذا المعنى قوله حكاية عن نوح فلم يزدهم دعائي إلا فرارا و روي عن أبي الحسن الأخفش و الإسكافي أنهما قالا إن في الآية تقديما و تأخيرا و تقديره و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم و هذا بعيد لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون إنما الأخيرة مفتوحة الهمزة لأنها معمول ليحسبن على هذا القول و أن يكون إنما الأولى مكسورة الهمزة لأنها مبتدأ على هذا القول و التقديم و التأخير لا يغيران الإعراب عن استحقاقه و ذلك خلاف ما عليه القراءة لأن القراء قد أجمعوا على كسر الثانية و أكثرهم على فتح الأولى « و لهم عذاب مهين » يهينهم في نار جهنم .
مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتى يَمِيزَ الخَْبِيث مِنَ الطيِّبِ وَ مَا كانَ اللَّهُ لِيُطلِعَكُمْ عَلى الْغَيْبِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يجْتَبى مِن رُّسلِهِ مَن يَشاءُ فَئَامِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسلِهِ وَ إِن تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و الشام و أبو عمرو و عاصم « حتى يميز » و ليميز بالتخفيف و الباقون بالتشديد و ضم الياء الأولى .

الحجة

ماز يميز فعل متعد إلى مفعول واحد كما أن ميز فعل متعد إلى مفعول واحد و يقال مزته فلم يتميز و زلته فلم يتزل و التضعيف في ميز ليس للتعدي و النقل كما أن التضعيف في عوض ليس للنقل من عاض لأن متعد إلى مفعولين كما في قول الشاعر :
عاضها الله غلاما بعد ما
شابت الأصداغ و الضرس نقد
مجمع البيان ج : 2 ص : 895
فلو كان التضعيف في عوض للنقل لتعدى إلى ثلاثة مفاعيل فعوض و عاض لغتان في معنى واحد مثل ميز و ماز .

النزول

قيل أن المشركين قالوا لأبي طالب إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا و من يكفر فإن وجدنا مخبره كما أخبر آمنا به فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله هذه الآية عن السدي و الكلبي و قيل سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن و المنافق فنزلت الآية عن أبي العالية و الضحاك .

المعنى

« ما كان الله ليذر المؤمنين » أي ليدع و معناه لا يدع الله المؤمنين « على ما أنتم عليه » يا أهل الكفر من الإبهام و اشتباه المخلص بالمنافق أي لم يكن يجوز في حكم الله أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبي بل يتعبدكم « حتى يميز الخبيث من الطيب » أي الكافر من المؤمن عن قتادة و السدي و قيل حتى يميز المنافق من المخلص يوم أحد على ما مضى شرحه عن مجاهد و ابن إسحاق و ابن جريج و قيل هو خطاب للمؤمنين و تقديره ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق و على هذا فيكون قد رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله « حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم » و اختلف في أنه بأي شيء ميز بين الخبيث و الطيب فقيل بالامتحان و تكليف الجهاد و نحوه مما يظهر به الحال كما ظهر يوم أحد بأن ثبت المؤمنون و تخلف المنافقون عن الجبائي و قيل بالآيات و الدلالات التي يستدل بها عليهم و قيل بأن ينصر الله المؤمنين و يكثرهم و يعز الدين و يذل الكافرين و المنافقين عن أبي مسلم و قيل بأن يفرض الفرائض فيثبت المؤمن على إيمانه و يتميز ممن ينقلب على عقبيه « و ما كان الله ليطلعكم على الغيب » أي ما كان الله ليظهر على غيبه أحدا منكم فتعلموا ما في القلوب إن هذا مؤمن و هذا منافق « و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء » أي يختار من يشاء فيطلعه على الغيب أي يوقفه على علم الغيب و يعرفه إياه « ف آمنوا بالله و رسله » كما أمركم « و أن تؤمنوا » أي تصدقوا « و تتقوا » عقابه بلزوم أمره و اجتناب نهيه « فلكم » في ذلكم « أجر عظيم » و قيل معناه يصطفي من رسله من يشاء ممن يصلح له و لا يطلعه على الغيب عن السدي و في هذه الآية دلالة على أنه يجوز أن يصلح جماعة لرسالته فيختار منهم من يشاء إما لأنه أصلح و بالتادية أقوم و عن المنفردات أبعد و إما لأنهم قد تساووا في جميع الوجوه فيختار من يشاء من بينهم لأن النبوة ليست مستحقة و لا جزاء و فيها
مجمع البيان ج : 2 ص : 896
دلالة على أن الثواب مستحق بالإيمان و التقوى خلافا لمن قال أنه تفضل .
وَ لا يحْسبنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ هُوَ خَيراً لَّهُم بَلْ هُوَ شرُّ لَّهُمْ سيُطوَّقُونَ مَا بخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ للَّهِ مِيرَث السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180)

القراءة

ذكرنا اختلاف القراءة فيه فمن قرأ « يحسبن » بالياء فالذين يبخلون فاعل يحسبن و المفعول الأول محذوف من اللفظ لدلالة اللفظ عليه و هو مثل قولك من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له و كذلك في الآية « لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله » البخل « هو خيرا لهم » فدخلت هو فصلا لأن تقدم يبخلون بمنزلة تقدم البخل و من قرأ بالتاء فالفاعل المخاطب و هو النبي و « الذين يبخلون » مفعول أول لتحسبن و « خيرا لهم » المفعول الثاني و في الكلام حذف تقديره و لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم و هو فصل و إنما احتجت إلى هذا المحذوف ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى لأن هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ و الخبر و إذا كان الخبر مفردا فيجب أن يكون هو المبتدأ في المعنى و البخل هو منع الواجب لأنه توعد عليه و ذم به و أصله في اللغة المشقة في الإعطاء و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب يعملون بالياء كناية عن الذين يبخلون و الباقون بالتاء على الخطاب .

المعنى

« و لا يحسبن » الباخلون « الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله » أي أعطاهم الله من الأموال فيبخلون بإخراج الحقوق الواجبة فيها ذلك البخل « هو خيرا لهم بل هو شر لهم » و على القراءة الأخرى لا تحسبن أيها السامع أو لا تظنن يا محمد فالخطاب له و المراد غيره بخل الذين يبخلون خيرا لهم بل هو شر لهم أي ليس كذلك كما يظنون بل ذلك البخل شر لهم « سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة » اختلف في معناه فقيل يجعل ما بخل به من المال طوقا في عنقه و الآية نزلت في مانعي الزكاة و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و هو قول ابن مسعود و ابن عباس و السدي و الشعبي و غيرهم و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ما من رجل لا يؤدي الزكاة إلا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة ثم تلا
مجمع البيان ج : 2 ص : 897
هذه الآية و قال ما من ذي رحم يأتي ذا رحمة يسأله من فضل أعطاه الله إياه فيبخل به عنه إلا أخرج الله له من جهنم شجاعا يتلمظ بلسانه حتى يطوقه و تلا هذه الآية و قيل معناه يجعل في عنقه يوم القيامة طوقا من نار عن النخعي و قيل معناه يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم عن مجاهد و قيل هو كقوله « يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم » فمعناه أنه يجعل طوقا فيعذب بها عن الجبائي و قيل معناه أنه يعود عليهم وباله فيصير طوقا لأعناقهم كقوله « و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه » عن ابن مسلم قال و العرب تعبر بالرقبة و العنق عن جميع البدن أ لا ترى إلى قوله « فتحرير رقبة » و يروى عن ابن عباس أيضا أن المراد بالآية الذين يبخلون ببيان صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الفضل هو التوراة التي فيها صفته و الأول أليق بسياق الآية « و لله ميراث السماوات و الأرض » معناه يموت من في السماوات و الأرض و يبقى تعالى هو جل جلاله لم يزل و لا يزال فيبطل ملك كل مالك إلا ملكه و قد تضمنت الآية الحث على الإنفاق و المنع عن الإمساك من قبل أن الأموال إذا كانت بمعرض الزوال إما بالموت أو بغيره من الآفات فأجدر بالعاقل أن لا يبخل بإنفاقه و لا يحرص على إمساكه فيكون عليه وزره و لغيره نفعه « و الله بما تعملون خبير » هذا تأكيد للوعد و الوعيد في إنفاق المال لإحراز الثواب و الأجر و السلامة من الإثم و الوزر .

النظم

الوجه في اتصال الآية بما قبلها هو أنهم كما بخلوا بالجهاد بخلوا بالإنفاق و الزكاة عن علي بن عيسى و قيل أنهم مع ما تقدم من أحوالهم كتموا أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بخلوا ببيانه .
لَّقَدْ سمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نحْنُ أَغْنِيَاءُ سنَكْتُب مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيقِ(181) ذَلِك بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْس بِظلام لِّلْعَبِيدِ(182)

القراءة

قرأ حمزة سيكتب بضم الياء و قتلهم بالرفع و يقول بالياء و قرأ الباقون
مجمع البيان ج : 2 ص : 898
« سنكتب » بالنون و « قتلهم » بالنصب و « نقول » بالنون .

الحجة

الوجه في قراءة من قرأ « سنكتب » أن النون هاهنا بعد الاسم الموضوع للغيبة فهو مثل قوله « بل الله مولاكم » ثم قال « سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب » و لو قال سيكتب بالياء لكان في الإفراد كقوله « و قذف في قلوبهم الرعب » و قوله « كتب الله لأغلبن أنا و رسلي » و قوله « و نقول » معطوف على سنكتب و الوجه في قراءة حمزة و قتلهم أنه عطف على ما قالوا و هو في موضع رفع و من قال « و قتلهم » فإنه عطفه على ما قالوا أيضا و هو في موضع نصب بأنه مفعول به .

اللغة

يقال سمع يسمع سمعا إذا أدرك بحاسة الأذن و الله يسمع من غير إدراك بحاسة و السميع من هو على حالة يسمع لأجلها المسموعات إذا وجدت و السامع المدرك لذلك و قال المحققون أن الله تعالى سميع فيما لم يزل و سامع عند وجود المسموع و كونه سميعا بصيرا ليس بصفة زائدة على كونه حيا و كونه مدركا بصفة زائدة على كونه حيا و كونه سامعا مبصرا عالما بمعناه و قال أبو القاسم البلخي فائدة كونه سميعا بصيرا أنه يعلم المسموعات و المبصرات و هو لا يثبت للقديم تعالى صفة الإدراك و قال الخليل كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه إلا أنه توسع و جاء في الخبر حتى تذوقي من عسيلته و يذوق من عسيلتك كنى بذلك عن الجماع و هذا من الكنايات المليحة و الحريق النار و كذلك الحرق بفتح الراء و الحرق بسكونه المصدر لقولهم حرقت الشيء إذا بردته بالمبرد .

الإعراب

موضع الباء في قوله « بما قدمت أيديكم » رفع لأنها في موضع خبر المبتدأ و هو ذلك و هي متصلة بالاستقرار كأنه قيل ذلك استقر بما قدمت أيديكم « و أن الله » إنما فتح أن لأنه معطوف على ما عمل فيه الباء و تقديره و بأن الله فموضعه جر .

النزول

لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قالت اليهود أن الله فقير يستقرض منا و نحن أغنياء و قائله حي بن أخطب عن الحسن و مجاهد و قيل كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و أن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام و الصلاة و الزكاة فقال فنحاص إن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير و نحن أغنياء و لو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا فغضب أبو بكر و ضرب وجهه فأنزل الله هذه الآية عن عكرمة و السدي و مقاتل و محمد بن إسحاق .

المعنى

ثم ذكر سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال « لقد سمع الله
مجمع البيان ج : 2 ص : 899
قول الذين قالوا إن الله فقير » قيل معناه أدرك قولهم و قيل علم ذلك عن البلخي « إن الله فقير » أي ذو حاجة لأنه يستقرض منا « و نحن أغنياء » عن الحاجة و قد علموا أن الله لا يطلب القرض و إنما ذلك تلطيف في الاستدعاء إلى الإنفاق و إنما قالوه تلبيسا على عوامهم و قيل معناه قالوا إن الله فقير لأنه يضيق علينا الرزق و نحن أغنياء لأنا نوسع الرزق على أهالينا « سنكتب ما قالوا » قيل معناه سنحفظ ما قالوا و كني بالكتابة عن الحفظ لأنه طريق إلى الحفظ و قيل نأمر بكتب ذلك في صحائف أعمالهم و إنما يفعل ذلك مبالغة في الزجر عن المعصية لأن المكلف إذا علم أن أفعاله و أقواله مكتوبة في الصحائف و أنه لا بد من عرضها عليه و من قراءته على رءوس الأشهاد يوم التناد كان ذلك أبلغ له في الزجر عن المأثم و أمنع عن ارتكاب الجرائم « و قتلهم الأنبياء بغير حق » أي و سنكتب قتل أسلافهم الأنبياء و رضى هؤلاء به فنجازي كلا بفعله و فيه دلالة على أن الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم لأن اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولوا ذلك بأنفسهم و إنما ذموا بذلك لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإثم « و نقول ذوقوا عذاب الحريق » يعني المحرق و إنما الفائدة فيه أن يعلم أن العذاب بالنار التي تحرق و هي الملتهبة لأن ما لم تلتهب لا يسمى حريقا و قد يكون العذاب بغير النار و يفيد قوله « ذوقوا » إنكم لا تتخلصون من ذلك يقال ذق هذا البلاء أي إنك لست بناج منه « ذلك » إشارة إلى ما سبق أي ذلك العقاب « بما قدمت أيديكم » معناه بما كنتم عملتموه و جنيتموه على أنفسكم « و أن الله ليس بظلام للعبيد » أي بأن الله لا يظلم أحدا من عباده و إنما أضافه إلى اليد و إن كانت تكتسب الذنوب بجميع الجوارح لأن عامة ما يكسبه الإنسان إنما يكسبه بيده و لأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يلابسها الإنسان إلى اليد و إن كان اكتسبها بجارحة أخرى فجرى خطاب القديم تعالى على عادتهم و في هذا دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأنه يدل على أنه لو وقع العقاب من غير جرم سلف من العبد لكان ظلما و ذلك على خلاف ما يذهبون إليه من أنه سبحانه يعذب الكفار من غير جرم سلف منهم و أنه يخلق فيهم الكفر ثم يعذبهم عليه لأنه لا ظلم أعظم من ذلك و إنما ذكر لفظ الظلام و هو للتكثير تأكيدا لنفي الظلم عنه .

مجمع البيان ج : 2 ص : 900
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسول حَتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَان تَأْكلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسلٌ مِّن قَبْلى بِالْبَيِّنَتِ وَ بِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(183) فَإِن كذَّبُوك فَقَدْ كُذِّب رُسلٌ مِّن قَبْلِك جَاءُو بِالْبَيِّنَتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتَبِ الْمُنِيرِ(184)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده و بالزبر بالباء و كذلك هي في مصاحف الشام كما في فاطر و الباقون بغير باء .

الحجة

من حذف فلأن واو العطف أغنت عن تكرار العامل و من أثبتها فإنما كرر العامل تأكيدا و كلاهما حسن .

اللغة

القربان مصدر على وزن عدوان و خسران تقول قربت قربانا و قد يكون اسما كالبرهان و السلطان و هو كل بر يتقرب به العبد إلى الله و الزبر جمع زبور و كل كتاب فيه حكمة فهو زبور قال امرؤ القيس :
لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط زبور في عسيب يمان تقول زبرت الكتاب إذا كتبته و زبرت الرجل إذا زجرته و الزبرة مجتمع الشعر على كتف الأسد و زبرت البئر إذا أحكمت طيها بالحجارة فهي مزبورة و الزبر العقل و إنما جمع بين الزبر و الكتاب و معناهما واحد لأن أصلهما يختلف هو كتاب بضم حروف بعضها إلى بعض و زبور لما فيه من الزجر على خلاف الحق و إنما سمي كتاب داود زبورا لكثرة ما فيه من المواعظ و الزواجر .

الأعراب

« الذين قالوا » محله جر ردا على الذين قالوا إن الله فقير على تقدير و سمع قول الذين .

النزول

قيل نزلت الآية في جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف و مالك بن الضيف و وهب بن يهودا و فنحاص بن عازورا قالوا يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن زعمت أن الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك فأنزل الله هذه الآية عن الكلبي و قيل إن الله أمر بني إسرائيل في التوراة من
مجمع البيان ج : 2 ص : 901
جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتي بقربان تأكله النار حتى يأتيكم عيسى و محمد فإذا أتياكم ف آمنوا بهما بغير قربان .

المعنى

ثم ذكر قولهم الآخر فقال « الذين قالوا » لنبيهم « إن الله عهد إلينا » أي أمرنا و قيل أوصانا في كتبه و على ألسن رسله « ألا نؤمن لرسول » أي لا نصدق رسولا فيما يقول من أنه جاء به من عند الله تعالى « حتى يأتينا بقربان » أي حتى يجيئنا بما يتقرب به إلى الله من صدقة أو بر تتقبل منه و قوله « تأكله النار » بيان لعلامة التقبل فإنه كان علامة قبول قربانهم أن تنزل النار من السماء فتأكله و كان يكون ذلك دلالة على صدق المقرب فيما ادعاه عن ابن عباس « قل » يا محمد لهؤلاء اليهود « قد جاءكم رسل من قبلي » يعني جاء أسلافكم « بالبينات » أي بالحجج الدالة على صدقهم و صحة رسالتهم و حقيقة قولهم كما كنتم تقترحون و تطلبون منهم « و بالذي قلتم » معناه و بالقربان الذي قلتم « فلم قتلتموهم » أراد بذلك زكريا و يحيى و جميع من قتلهم اليهود من الأنبياء يعني لم قتلتموهم و أنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم « إن كنتم صادقين » فيما عهد إليكم مما ادعيتموه و هذا تكذيب لهم في قولهم و دلالة على عنادهم و على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لو أتاهم بالقربان المتقبل كما أرادوه لم يؤمنوا به كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء الذين أتوا به و بغيره من المعجزات و إنما لم يقطع الله عذرهم بما سألوه من القربان الذي تأكله النار لعلمه تعالى بأن في الإتيان به مفسدة لهم و المعجزات تابعة للمصالح و لأن ذلك اقتراح في الأدلة على الله و الذي يلزم في ذلك أن يزيح علتهم بنصب الأدلة فقط « فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك » هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تكذيب الكفار إياه و ذلك بأنه تعالى أخبر بأنه ليس بأول مكذب من الرسل بل كذب قبله رسل « جاءوا بالبينات » أي بالمعجزات الباهرات « و الزبر » أي الكتب التي فيها الحكم و الزواجر « و الكتاب المنير » قيل المراد به التوراة و الإنجيل لأن اليهود كذبت عيسى و ما جاء به من الإنجيل و حرفت ما جاء به موسى من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بدلت عهده إليهم فيه و النصارى أيضا جحدت ما في الإنجيل من نعته و غيرت ما أمرهم به فيه و المنير الذي ينير الحق لمن اشتبه عليه و قيل المنير الهادي إلى الحق .

مجمع البيان ج : 2 ص : 902
كلُّ نَفْس ذَائقَةُ المَْوْتِ وَ إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَعُ الْغُرُورِ(185)

اللغة

يقال لكل من نجا من هلكة و كل من لقي ما يغتبط به فقد فاز و تأويل فاز تباعد عن المكروه و لقي ما يحب و معنى قولهم مفازة للمهلكة التفؤل و إنما المفازة المنجاة كما سموا اللذيع سليما و الأعمى بصيرا .

المعنى

ثم بين سبحانه أن مرجع الخلق إليه فيجازي المكذبين رسله على أعمالهم من حيث حتم الموت على جميع خلقه فقال « كل نفس ذائقة الموت » أي ينزل بها الموت لا محالة فكأنها ذاقته و قيل معناه كل نفس ذائقة مقدمات الموت و شدائده و سكراته كقوله تعالى « حتى إذا جاء أحدهم الموت » و على هذا جاء قوله لقنوا أمواتكم شهادة أن لا إله إلا الله و هذا الظاهر يدل على أن كل نفس تذوق الموت و إن كانت مقتولة و إن القتل لا ينفك عن الموت الذي هو فعل الله و قيل أن المراد بالموت هنا انتفاء الحياة و القتيل قد انتفت الحياة منه و القتيل فهو داخل في الآية « و إنما توفون أجوركم » معناه و إنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا « يوم القيامة » إن خيرا فخيرا و ثوابا و إن شرا فشرا و عقابا فإن الدنيا ليست بدار جزاء و إنما هي دار عمل و الآخرة دار جزاء و ليست بدار عمل « فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة » أي بوعد عن نار جهنم و نجي عنها و أدخل الجنة « فقد فاز » أي نال المنية و ظفر بالبغية و نجا من الهلكة « و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » معناه ما لذات الدنيا و شهواتها و زينتها إلا متعة متعكموها الغرور و الخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الاختبار لأنكم تلتذون بها ثم أنها تعود عليكم بالرزايا و الفجائع و لا تركنوا إليها و لا تغتروا بها فإنها هي غرور و صاحبها مغرور و قيل متاع الغرور القوارير و هي في الأصل ما لا بقاء له عن عكرمة و في الآية دلالة على أن أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا باسرة و لذلك قال (عليه السلام) موضع سوط في الجنة خير من الدنيا و ما فيها و فيها دلالة على أن كل حي سيموت و لو لا ورود السمع بذلك لكان يجوز في العقل أن يتصل حياتهم إلى وقت المجازاة و إذا قيل أ ليس من قولكم لا بد من القطع بين حال التكليف و حال المجازاة فجوابه أن ذلك القطع كان يجوز أن يحصل مع بقاء الحياة و فيها دلالة على أن المقتول يحصل فيه الموت و قد اختلف في الموت قول أبي علي و أبي هاشم فعند أبي علي الموت معنى يضاد الحياة و عند أبي هاشم عدم الحياة فعلى كلا المذهبين يجوز حصوله في المقتول .

مجمع البيان ج : 2 ص : 903
* لَتُبْلَوُنَّ فى أَمْوَلِكمْ وَ أَنفُسِكمْ وَ لَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب مِن قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَ إِن تَصبرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِك مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(186)

الإعراب

اللام في قوله « لتبلون » لام التأكيد و فيه معنى القسم و النون تأكيد للقسم و إنما ضمت الواو في لتبلون و لم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو الضمير حركت بما كان يجب لما قبلها من الضم و مثله اشتروا الضلالة بالهدى و لو كانت الواو حرف الإعراب لفتحت نحو هل تغزون زيدا .

النزول

نزلت الآية في كعب بن الأشرف و كان يهجو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين و يحرض المشركين عليهم و يشبب بنساء المسلمين فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) من لي بابن الأشرف فقال محمد بن سلمة أنا يا رسول الله فخرج هو و أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة و أتوا برأسه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) آخر الليل و هو قائم يصلي عن الزهري و قيل نزلت في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما بعث رسول الله أبا بكر إليه ليستمده و كتب إليه كتابا فلما قرأه قال قد احتاج ربكم إلى أن نمده فهم أبو بكر بضربه ثم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا تفتاتن بشيء حتى ترجع فكف عنه عن عكرمة و مقاتل .

المعنى

ثم بين تعالى أن الدنيا دار محنة و ابتلاء و أنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا فقال « لتبلون » أي لتوقع عليكم المحن و تلحقكم الشدائد « في أموالكم » بذهابها و نقصانها « و » في « أنفسكم » أيها المؤمنون بالقتل و المصاب مثل ما نالكم يوم أحد و يقال بفرض الجهاد و غيره من الفرائض و القرب التي أمرناها بها و إنما سماه بلوى مجازا فإن حقيقة الاختبار و التجربة لا يجوز على الله لأنه العالم بالأشياء قبل كونها و إنما يفعل ذلك ليتميز المحق من المبطل عن أبي علي الجبائي « و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » يعني اليهود و النصارى « و من الذين أشركوا » يعني كفار مكة و غيرهم « أذى كثيرا » يعني ما سمعوه من تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و من الكلام الذي يغمه « و إن تصبروا و تتقوا » يعني إن صبرتم على ذلكم و تمسكتم بالطاعة و لم تجزعوا عنده جزعا يبلغ الإثم « فإن ذلك من عزم الأمور » أي مما بأن رشده و صوابه و وجب على العاقل العزم عليه و قيل من محكم الأمور .

مجمع البيان ج : 2 ص : 904
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظهُورِهِمْ وَ اشترَوْا بِهِ ثمَناً قَلِيلاً فَبِئْس مَا يَشترُونَ(187)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم ليبيننه بالياء و لا يكتمونه بالياء أيضا و الباقون بالتاء فيهما .

الحجة

حجة من قرأ بالتاء قوله « و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم » و الاتفاق عليه و كذلك قوله « و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله » و قد تقدم القول في ذلك و حجة من قرأ بالياء أن الكلام حمل على الغيبة لأنهم غيب .

المعنى

ثم حكى سبحانه عنهم نقض الميثاق و العهود بعد حكايته عنهم التكذيب بالرسل فقال « و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » قيل أراد به اليهود خاصة و قيل أراد اليهود و النصارى و قيل أراد به كل من أوتي علما بشيء من الكتب « لتبيننه للناس » أي لتظهرنه للناس و الهاء عائدة إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قول سعيد بن جبير و السدي لأن في كتابهم إن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إن الدين هو الإسلام و قيل الهاء عائدة إلى الكتاب فيدخل فيها بيان أمر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لأنه في الكتاب عن الحسن و قتادة « و لا تكتمونه » أي و لا تخفونه عند الحاجة « فنبذوه وراء ظهورهم » و معناه ضيعوه و تركوه وراء ظهورهم فلم يعلموا به و إن كانوا مقرين به عن ابن عباس و يقال لمن يطرح الشيء و لا يعبأ به رماه بظهره قال الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي
بظهر و لا يعبأ علي جوابها « و اشتروا به ثمنا قليلا » أي استبدلوا بعهد الله عليه و مخالفته و ميثاقه عوضا يسيرا من حطام الدنيا يعني ما حصلوه لأنفسهم من المأكلة و الرشا و الهدايا التي أخذوها من تحوتهم « فبئس ما يشترون » أي بئس الشيء ذلك إذ يستحقون به العذاب الأليم و إن كان نفعا عاجلا و دلت الآية على وجوب إظهار الحق و تحريم كتمانه فيدخل فيه بيان الدين و الأحكام و الفتاوى و الشهادات و غير ذلك من الأمور التي يختص بها العلماء و روى الثعلبي
مجمع البيان ج : 2 ص : 905
في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فالفيتة على بابه فقلت إن رأيت أن تحدثني فقال أ و ما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني و إما أن أحدثك فقال حدثني فقلت حدثني الحكم بن عيينة عن نجم الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا .
لا تحْسبنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّ يحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تحْسبَنهُم بِمَفَازَة مِّنَ الْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(188)

القراءة

قد ذكرنا اختلاف القراءة في « تحسبن » و « تحسبنهم » فيما قبل .

الحجة

قال أبو علي من قرأ لا يحسبن بالياء فلا يحسبنهم فالذين في موضع رفع بأنه فاعل يحسبن و لم يوقع يحسبن على شيء قال أبو الحسن لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء لأنه لم يوقعه على شيء و يرى أنه لم يستحسن أن لا يعدي حسب لأنه قد جرى مجرى اليمين في نحو علم الله لأفعلن و لقد علمت لتأتين منيتي و ظنوا ما لهم من محيص فكما أن القسم لا يتكلم به حتى يعلق بالمقسم عليه فكذلك ظننت و علمت في هذا الباب و أيضا فقد جرى في كلامهم لغوا و ما جرى لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة و من ثم جاء نحوه :
و ما خلت أبقي بيننا من مودة
عراض المذاكي المسنقات القلايصا و إنما هو و ما أبقي بيننا فالوجه في هذه القراءة أنه لم يعد حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما لأن حسبت في قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » لما جعل بدلا من الأول و عدي إلى مفعوليه استغني بهما عن تعدية الأول إليهما كما استغني في قوله :
بأي كتاب أو ب آية سنة
ترى حبهم عارا علي و تحسب
مجمع البيان ج : 2 ص : 906
بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما و الفاء زائدة فالتقدير لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب و أما قراءة فلا تحسبنهم بضم الباء فإن فعل الفاعل الذي هو يحسبن تعدى إلى ضميره و حذفت واو الضمير لدخول النون الثقيلة فإن قيل هلا لم تحذف الواو من تحسبون و أثبتها كما ثبتت في تمود بالثوب أ تحاجوني و نحو ذلك مما يثبت فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأول من زيادة المد التي تقوم مقام الحركة فالقول فيه أنه حذفت كما حذفت مع الخفيفة أ لا ترى أنك لو قلت لا تحسبن زيدا ذاهب لم يلزمك الحذف فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة في هذا و قوله « بمفازة من العذاب » في موضع المفعول الثاني و فيه ذكر للمفعول الأول و فعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه نحو ظننتني أخاك لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على المبتدأ و الخبر أشبهت أن و أخواتها في دخولها على المبتدأ و الخبر كدخول هذه الأفعال عليهما و ذلك قولك ظننتني ذاهبا كما تقول إني ذاهب و مما يدل على ذلك قبح دخول النفس عليها لو قلت أظن نفسي تفعل كذا لم يحسن كما يحسن أظنني فاعلا فأما قراءة نافع و أبي جعفر و ابن عامر لا يحسبن بالياء « فلا تحسبنهم » بالتاء و فتح الياء فمثل قراءة ابن كثير و أبي عمرو إلا في قوله « فلا تحسبنهم » و المفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله لا يحسبن الذين يفرحون محذوفا لدلالة ما ذكر من بعد عليهما و لا يجوز البدل هنا كما جاز هناك لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما و أما قراءة حمزة بالتاء فيهما فحذف المفعول الثاني الذي يقتضيه تحسبن لأن ما يجيء من بعد قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » يدل عليه و يجوز أن يجعل تحسبنهم بدلا من تحسبن و الفاء زائدة كما في قوله ( فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ) .

النزول

نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم و نسبتهم إياهم إلى العلم عن ابن عباس و قيل نزلت في أهل النفاق لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا رجعوا اعتذروا و أحبوا أن يقبل منهم العذر و يحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان عن أبي سعيد الخدري و زيد بن ثابت و قيل أتت يهود خيبر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا نحن نعرفك و نؤمن بك و ليس ذلك في قلوبهم فحمدهم المسلمون فنزلت فيهم الآية عن قتادة .

المعنى

ثم بين سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال « لا تحسبن
مجمع البيان ج : 2 ص : 907
الذين يفرحون بما أتوا » أي الفارحون الذين يفرحون بالنفاق « و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا » أي بالإيمان و قيل هم اليهود الذين فرحوا بكتمان أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أحبوا أن يحمدوا بأنهم أئمة و ليسوا كذلك و قد عرفت المعنى في القراءة بالتاء و الياء في الحجة فلا معنى لإعادته و قال أبو القاسم البلخي أن اليهود قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه و أهل الصلاة و الصوم و ليسوا أولياء الله و لا أحباءه و لا أهل الصلاة و الصوم و لكنهم أهل الشرك و النفاق و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و قيل معناه أنهم يحبون أن يحمدوا على إبطالهم أمر محمد و تكذيبهم به و الأقوى أن يكون المعني بالآية من أخبر الله عنهم أنه أخذ ميثاقهم في أن يبينوا أمر محمد و لا يكتموه و عليه أكثر أهل التأويل و قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » أي لا تظننهم بمنجاة و بعد من النار « و لهم عذاب أليم » أي مؤلم موجع .
وَ للَّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(189)

المعنى

لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة من فرح بمعصية ركبها و أحب أن يحمد بما لم يفعله و أخبر أنه لا نجاة لهم من عذابه قال « و لله ملك السماوات و الأرض » أي هو مالك ما في السماوات و الأرض بمعنى أنه يملك تدبيرهما و تصرفهما على ما يشاء من جميع الوجوه ليس لغيره الاعتراض عليه فكيف يطمع و الحال هذه في الخلاص منه « و الله على كل شيء قدير » فيه تنبيه على أنه قادر على إهلاك من أراد إهلاكه و على الإنشاء و الإفناء كما يشاء .

مجمع البيان ج : 2 ص : 908
إِنَّ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلَفِ الَّيْلِ وَ النهَارِ لاَيَت لأُولى الأَلْبَبِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكرُونَ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْت هَذَا بَطِلاً سبْحَنَك فَقِنَا عَذَاب النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّك مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظلِمِينَ مِنْ أَنصار(192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلايمَنِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَ ءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلى رُسلِك وَ لا تخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّك لا تخْلِف المِْيعَادَ(194)

فضلها

روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا قام من الليل استاك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول « إن في خلق السماوات و الأرض » إلى قوله « فقنا عذاب النار » و قد اشتهرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه لما نزلت هذه الآيات قال ( ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأمل ما فيها ) و ورد عن الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة و في الضجعة بعد ركعتي الفجر و روى محمد بن علي بن محبوب عن العباس بن معروف عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) و ذكر أن النبي قال كان يؤتي بطهور فيخمر عند رأسه و يوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره إلى السماء و تلا الآيات من آل عمران « إن في خلق السماوات و الأرض » الآيات ثم يستن و يتطهر ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه يركع حتى يقال متى يرفع رأسه و يسجد حتى يقال متى يرفع رأسه ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يعاب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيصلي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يقلب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلي ركعتين ثم يخرج إلى الصلاة .

اللغة

اللب العقل سمي به لأنه خير ما في الإنسان و اللب من كل شيء خيره و خالصة سبحانك معناه تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا و براءة مما لا يليق بصفاتك قال الشاعر :
سبحانه ثم سبحانا يعود له
و قبلنا سبح الجودي و الحجر و الأبرار جمع بر و هو الذي بر الله بطاعته إياه حتى أرضاه و أصل البر الاتساع فالبر
مجمع البيان ج : 2 ص : 909
الواسع من الأرض خلاف البحر و البر صلة الرحم و البر العمل الصالح و البر الحنطة و أبر الرجل على أصحابه أي زاد عليهم .

الأعراب

« الذين يذكرون » في موضع جر صفة لأولي الألباب « قياما و قعودا » نصب على الحال و « على جنوبهم » أيضا في موضع نصب على الحال و لذلك عطف على قياما و قعودا أي و مضطجعين لأن الظرف يكون حالا للمعرفة كما يكون نعتا للنكرة لما فيه من معنى الاستقرار تقول مررت برجل على الحائط أي مستقر على الحائط و كذا مررت برجل في الدار و تقول أنا أصير إلى فلان ماشيا و على الفرس فيكون موضع على الفرس نصبا على الحال من الضمير في أصير و قوله « ما خلقت هذا باطلا » أي يقولون ما خلقت هذا الخلق و لذلك لم يقل هذه و لا هؤلاء و باطلا نصب على أنه المفعول الثاني و قيل تقديره بالباطل و للباطل ثم نزع الحرف فوصل الفعل خبر إن في قوله « إنك من تدخل النار فقد أخزيته » جملة مركبة من الشرط و الجزاء و الأصل فيهما جملتان كل واحدة منهما من فعل و فاعل لأن موضع من نصب بتدخل على أنه مفعول به و قوله « أن آمنوا » يحتمل أن يكون أن هذه هي المفسرة بمعنى أي و يحتمل أن يكون الناصبة للفعل لأنه يصلح في مثله دخول الباء نحو ينادي بأن آمنوا .

المعنى

لما بين سبحانه بأن له ملك السماوات و الأرض عقبه ببيان الدلالات على ذلك فقال « إن في خلق السماوات و الأرض » أي في إيجادهما بما فيهما من العجائب و البدائع « و اختلاف الليل و النهار » أي تعاقبهما و مجيء كل واحد منهما خلف الآخر « لآيات » أي دلالات على توحيد الله و صفاته العلي « لأولي الألباب » أي لذوي البصائر و العقول و وجه الدلالة في خلق السماوات و الأرض أن وجودهما متضمن بأعراض حادثة و ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث مثله و المحدث لا بد له من محدث يحدثه و موجد يوجده فدل وجودهما و حدوثهما على أن لهما محدثا قادرا و دل إبداعهما بما فيهما من البدائع و الأمور الجارية على غاية الانتظام و الاتساق على أن مبدعهما عالم لأن الفعل المحكم المنتظم لا يصح إلا من عالم كما أن الإيجاد لا يصح إلا من قادر و دل ذلك أيضا على أن صانعهما قديم لم يزل لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث فيؤدي إلى التسلسل و وجه الدلالة في تعاقب الليل و النهار أن في ترادفهما على مقدار معلوم لا يزيدان عليه و لا ينقصان منه و نقصان كل واحد منهما عن الآخر في حال و زيادته عليه في حال و ازدياد أحدهما بقدر نقصان الآخر دلالة ظاهرة على أن لهما صانعا قادرا حكيما لا يدركه عجز و لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 910
يلحقه سهو ثم وصف سبحانه أولي الألباب فقال « الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم » أي هؤلاء الذين يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات و الأرض هم الذين يذكرون الله قائمين و قاعدين و مضطجعين أي في سائر الأحوال لأن أحوال المكلفين لا تخلو من هذه الأحوال الثلاثة و قد أمروا بذكر الله تعالى في جميعها و قيل معناه يصلون لله على قدر إمكانهم في صحتهم و سقمهم فالصحيح يصلي قائما و السقيم يصلي جالسا و على جنبه أي مضطجعا فسمي الصلاة ذكرا رواه علي بن إبراهيم في تفسيره و لا تنافي بين التفسيرين لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال و هم في الصلاة و هو قول ابن جريج و قتادة « و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض » أي و من صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السماوات و الأرض و يتدبروا في ذلك ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى و كمال قدرته و علمه و حكمته ثم يقولون « ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك » أي ما خلقت هذا الخلق عبثا و قيل بالباطل و للباطل بل خلقته لغرض صحيح و حكمة و مصلحة ليكون دليلا على وحدانيتك و حجة على كمال حكمتك ثم ينزهونه عن كل ما لا يليق بصفاته أو يلحق نقصا بذاته فيقولون « سبحانك » أي تنزيها لك عما لا يجوز عليك فلم تخلقهما عبثا و لا لعبا بل تعريضا للثواب و الأمن من العقاب « فقنا عذاب النار » بلطفك الذي يتمسك معه بطاعتك و في هذه الآية دلالة على أن الكفر و القبائح و الضلال ليست خلقا لله لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف و قد نفى الله تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيما خلقه فيجب بذاك القطع على أن القبائح كلها غير مضافة إليه و منفية عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم حكى عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضا يقولون « ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته » قيل في وجوه ( أحدها ) أن معناه فضحته و أهنته فيكون منقولا من الخزي و نظيره قوله « و لا تخزون في ضيفي » ( و ثانيها ) قول المفضل أن معناه أهلكته و أنشد :
أخزى الإله من الصليب إلهه
و اللابسين ملابس الرهبان ( و ثالثها ) أن معناه أحللته محلا و وقفته موقفا يستحيا منه فيكون منقولا من الخزاية التي معناها الاستحياء و قال ذو الرمة :
خزاية أدركته بعد جولته
من جانب الدف مخلوطا به الغضب و اختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية فروي عن أنس بن مالك و سعيد بن المسيب و قتادة و ابن جريج أن الإخزاء يكون بالتابيد في النار و هي خاصة بمن لا يخرج
مجمع البيان ج : 2 ص : 911
منها و قال جابر بن عبد الله أن الخزي يكون بالدخول فيها و روى عنه عمرو بن دينار و عطاء أنه قال و ما أخزاه حين أحرقه بالنار و إن دون ذا لخزيا و هذا هو الأقوى لأن الخزي إنما هو هتك المخزي و فضيحته و من عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه و هذا غير مناف لما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين لأن على قول من قال أن الخزي هو الخلود في النار فمن عفا الله عنه لا يكون أخزاه إن أدخله النار ثم أخرجه منها بعد استيفاء العقاب و على قول من أثبت الخزي بنفس الدخول فإنه و إن كان خزيا فليس كمثل خزي الكفار و يجوز حمل قوله « يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه » على كلا الوجهين و على قول من جعله من الخزاية التي هي الاستحياء فيكون إخزاء المؤمنين محمولة على الاستحياء و إخزاء الكافرين على الإهانة و الخلود في النار و قوله « و ما للظالمين من أنصار » أي ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله على وجه المغالبة و القهر لأن الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة و لا ينافي ذلك ما صح من شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الأولياء لأهل الكبائر لأن الشفاعة على سبيل المسألة و الخضوع و التضرع إلى الله و ليست من النصرة في شيء و صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ليصيبن أقواما شفع بذنوب أصابوها ثم يخرجون فيسميهم أهل الجنة الجهنميين رواه البخاري بإسناده في الصحيح عن أنس بن مالك و فيما رواه أبو سعيد الخدري عنه (عليه السلام) قال فيخرجون قد امتحشوا و عادوا حمما قال فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة قال فينبتون فيه كما تنبت الحبة في جميل السيل و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح و ما روي في مثل ذلك من الأخبار لا يحصى و هذا كما تراه صريح في وقوع العفو عن مرتكبي الكبائر « ربنا إننا سمعنا مناديا » قيل المنادي محمد عن ابن عباس و ابن مسعود و ابن جريج و اختاره الجبائي و قيل أنه القرآن عن محمد بن كعب القرظي و قتادة و اختاره الطبري قال لأنه ليس يسمع كل أحد قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لا يراه و القرآن سمعه من رآه و لم يره كما قال مخبرا عن الجن إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد و لمن نصر القول الأول أن يقول من بلغه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و دعوته جاز أن يقول سمعنا مناديا و إن كان فيه ضرب من التجوز و معنى قوله « سمعنا مناديا » نداء مناد لأن المنادي لا يسمع و قوله « ينادي للإيمان » معناه إلى الإيمان كقوله « الحمد لله الذي هدانا لهذا » و معناه إلى هذا و كقول الراجز :
أوحى لها القرار فاستقرت
و شدها بالراسيات الثبت و مثله قوله « بأن ربك أوحى لها » فالمعنى ربنا إننا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان
مجمع البيان ج : 2 ص : 912
و التصديق بك و الإقرار بوحدانيتك و اتباع رسولك و اتباع أمره و نهيه و قوله « أن آمنوا بربكم » معناه بأن آمنوا بربكم فحذف الباء و قيل معناه قال لنا آمنوا بربكم « ف آمنا » أي فصدقنا الداعي فيما دعا إليه من التوحيد و الدين و أجبناه « فاغفر لنا ذنوبنا » معناه استرها علينا و لا تفضحنا بها يوم القيامة على رءوس الأشهاد بعقوبتك « و كفر عنا سيئاتنا » معناه امحها بفضلك و رحمتك إيانا « و توفنا مع الأبرار » معناه و اقبضنا إليك في جملة الأبرار و احشرنا معهم فإن قيل ما معنى قوله « و كفر عنا سيئاتنا » و قد أغنى عنه قوله « فاغفر لنا » فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) إن معناه اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة و كفر عنا إن تبنا و الثاني إن معناه اغفر لنا ذنوبنا بالتوبة و كفر عنا باجتناب الكبائر من السيئات لأن الغفران قد يكون ابتداء و من سبب و التكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد و الأول أليق بمذهبنا « ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك » هذه حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب « و لا تخزنا » أي لا تفضحنا أو لا تهلكنا « يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد » و هو كلام مستأنف بدلالة أنه كسر إن و المعنى أنك وعدت الجنة لمن آمن بك و أنت لا تخلف وعدك فإن قيل ما وجه المسألة في إنجاز الوعد و المعلوم أنه يفعله لا محالة فالجواب عنه من وجوه ( أحدها ) إن ذلك على وجه الانقطاع إلى الله و التضرع له و التعبد كما قال « و قل رب احكم بالحق » و اختاره علي بن عيسى و الجبائي ( و الثاني ) إن الكلام خرج مخرج المسألة و المراد الخبر أي توفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا به على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق و لا بد أن ينجزه ( و الثالث ) معناه السؤال و الدعاء بأن يجعلهم ممن أتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله لا أنهم قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم و شهدوا ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم لأنه لو كان كذا لكانوا قد زكوا أنفسهم و شهدوا بأنهم استوجبوا كرامة الله و لا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين ( و الرابع ) أنهم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إلى الله في أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر و إعلاء كلمة الحق على الباطل ليعجل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين و لا على غير يقين أن الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك و لكنهم كانوا وعدوا النصر و لم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه في تعجيل ذلك لهم لما لهم في ذلك من السرور بالظفر و هو اختيار الطبري و قال الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي الذين رغبوا في تعجيل النصرة على أعدائهم و قالوا لا صبر لنا على أناتك و حلمك و قوي ذلك بما بعد هذه الآية
مجمع البيان ج : 2 ص : 913
من قوله « فاستجاب لهم ربهم » الآيات و إلى هذا أومأ أبو القاسم البلخي أيضا .
فَاستَجَاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَمِل مِّنكُم مِّن ذَكَر أَوْ أُنثى بَعْضكُم مِّن بَعْض فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَ أُوذُوا فى سبِيلى وَ قَتَلُوا وَ قُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنهُمْ سيِّئَاتهِمْ وَ لأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّت تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوَابِ(195)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف و قتلوا و قاتلوا بتقديم الفعل المبني للمفعول به على الفعل المبني للفاعل و التخفيف و قرأ الباقون بتقديم قاتلوا على قتلوا و شدد التاء من قتلوا ابن كثير و ابن عامر .

الحجة

أما تقديم قاتلوا على قتلوا فلأن القتال قبل القتل و حسن التشديد لتكرر الفعل فهو مثل مفتحة لهم الأبواب و من خفف « قتلوا » فلأن فعلوا يقع على الكثير و القليل و التشديد يختص بالكثير و أما تقديم قتلوا على قاتلوا فلأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى و إن كان مؤخرا في اللفظ و يمكن أن الوجه فيه أن يكون لما قتل منهم قاتلوا و لم يهنوا و لم يضعفوا للقتل الذي وقع بهم كقوله « فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله » .

اللغة

الإضاعة الإهلاك ضاع الشيء يضيع ضياعا إذا هلك و أضاع و ضيع بمعنى و منه الضيعة للقرية و أما قولهم كل رجل و ضيعته فإن الضيعة هاهنا بمعنى الحرفة هاجر فاعل من الهجر و هو ضد الوصل يقال هاجر القوم من دار إلى دار أي تركوا الأولى للثانية و تهجر الرجل أي تشبه بالمهاجرين .

الإعراب

من في قوله « من ذكر أو أنثى » للتبيين و التفسير عن قوله « منكم » أي لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور و الإناث فهو بيان لجنس من أضيف إليه العمل و يقال
مجمع البيان ج : 2 ص : 914
أنها مؤكدة بمعنى النفي في لا أضيع أي لا أضيع عمل ذكر و أنثى منكم و بعضكم مبتدأ و قوله « من بعض » في موضع رفع بأنه خبره و ثوابا مصدر مؤكد لأن معنى « و لأدخلنهم جنات » و لأثيبنهم و مثله قوله « كتاب الله عليكم » لأن معنى قوله « حرمت عليكم أمهاتكم » كتب الله عليكم هذا فكتاب الله مصدر مؤكد .

النزول

روي أن أم سلمة قالت يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء فأنزل الله هذه الآية قال البلخي نزلت الآية و ما قبلها في المتبعين للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و المهاجرين معه ثم هي في جميع من سلك سبلهم و حذا حذوهم من المسلمين .

المعنى

ثم عقب سبحانه دعوة المؤمنين بذكر الإجابة فقال « فاستجاب لهم ربهم » أي أجاب المؤمنين الذين تقدم الخبر عنهم « أني لا أضيع » أي بأني لا أبطل « عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى » رجل أو امرأة « بعضكم من بعض » في النصرة و الدين و الموالاة فحكمي في جميعكم حكم واحد فلا أضيع عمل واحد منكم لاتفاقكم في صفة الإيمان و هذا يتضمن الحث على مواظبة الأدعية التي في الآيات المتقدمة و الإشارة إلى أنها مما تعبد الله تعالى بها و ندب إليها و ذلك لأنه تضمن الإجابة لمن دعا بها « فالذين هاجروا » إلى المدينة و فارقوا قومهم من أهل الكفر « و أخرجوا من ديارهم » أخرجهم المشركون من مكة « و أوذوا في سبيلي » أي في طاعتي و عبادتي و ديني و ذلك هو سبيل الله فتحملوا الأذى لأجل الدين « و قاتلوا » في سبيل الله « و قتلوا » فيها « لأكفرن عنهم سيئاتهم » يعني لأمحونها و لأتفضلن عليهم بعفوي و مغفرتي و رحمتي و هذا يدل على أن إسقاط العقاب تفضل من الله « و لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أبنيتها و أشجارها « ثوابا » أي جزاء لهم « من عند الله » على أعمالهم « و الله عنده حسن الثواب » أي عنده من حسن الجزاء على الأعمال ما لا يبلغه وصف واصف و لا يدركه نعت ناعت مما لا رأت عين و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر و قيل حسن الثواب في دوامه و سلامته عن كل شوب من النقصان و التكدير .

مجمع البيان ج : 2 ص : 915
لا يَغُرَّنَّك تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فى الْبِلَدِ(196) مَتَعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْس المِْهَادُ(197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّتٌ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَ مَا عِندَ اللَّهِ خَيرٌ لِّلأَبْرَارِ(198)

القراءة

قرأ يعقوب برواية رويس و زيد لا يغرنك و لا يحطمنكم و لا يستخفنك و إما نذهبن بك أو نرينك خفيفة في الجميع و الباقون بالتشديد و قرأ أبو جعفر لكن الذين اتقوا بتشديد النون و الباقون « لكن » بالتخفيف .

اللغة

الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم و ليس كل إيهام غرورا لأنه قد يتوهمه تخوفا فيحذر منه فلا يقال غره و الغرر نظير الخطر و الفرق بينهما أن الغرر قبيح كله لأنه ترك الجزم فيما يمكن أن يتوثق منه و الخطر قد يحسن على بعض الوجوه لأنه من العظم من قولهم رجل خطير أي عظيم و المتاع النفع الذي يتعجل به اللذة إما بوجود اللذة أو بما يكون به اللذة نحو المال الجليل و الملك و الأولاد و الإخوان و المهاد الذي يسكن فيه الإنسان و يفترشه و واحد الأبرار بر تقول بررت والدي فأنا بر و أصله برر و لكن الراء أدغمت للتضعيف .

الإعراب

بني المضارع مع نون التأكيد لأنه بمنزلة ضم اسم إلى اسم كخمسة عشر و نحوه و متاع خبر مبتدإ محذوف و تقديره تقلبهم متاع قليل حذف المبتدأ لدلالة ما تقدمه عليه و بئس المهاد حذف المخصوص بالذم من الكلام لدلالة ما تقدمه عليه تقديره بئس المهاد جهنم و نزلا مصدر مؤكد أيضا مثل ما تقدم ذكره في قوله « ثوابا من عند الله » لأن خلودهم في الجنة إنزالهم فيها فصار كأنه قال نزلوها نزلا و هو بمعنى أنزلوها إنزالا و قيل هو نصب على التفسير كما يقال هو لك هبة أو صدقة عن الفراء و « خالدين فيها » منصوب على الحال أي مقدرا لهم الخلود فيها .

النزول

نزلت في مشركي العرب و كانوا يتجرون و يتنعمون بها فقال بعض المسلمين أن أعداء الله في العيش الرخي و قد هلكنا من الجوع فنزلت الآية و قال الفراء كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فأنزل الله تعالى « لا يغرنك » الآية .

المعنى

« لا يغرنك » يا محمد الخطاب له و المراد غيره و قيل معناه لا يغرنك أيها الإنسان أو أيها السامع « تقلب الذين كفروا » أي تصرفهم « في البلاد » سالمين غانمين غير مؤاخذين بأجرامهم أعلم الله تعالى إن ذلك مما لا ينبغي أن يغبطوا به لأن مأواهم و مصيرهم إلى النار بكفرهم و لا خير بخير بعده النار و قوله « متاع قليل » معناه تصرفهم في البلاد و النعم متاع قليل أي يتنعمون بذلك قليلا ثم يزول و سماه متاعا لأنهم
مجمع البيان ج : 2 ص : 916
متعوا به في الدنيا « ثم مأواهم » أي مصيرهم و مرجعهم « جهنم و بئس المهاد » أي ساء المستقر هي ثم أعلم تعالى أن من أراد الله و اتقاه فله الجنة فقال « لكن الذين اتقوا ربهم » لكن للاستدراك فيكون بخلاف المعنى المتقدم فمعناه ليس للكفار عاقبة خير إنما هي للمؤمنين المتقين الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات و ترك المعاصي « لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله » بين سبحانه ما يصيرون إليه من النعيم المقيم في دار القرار المعدة للأبرار و النزل ما يعد للضيف من الكرامة و البر و الطعام و الشراب « و ما عند الله » من الثواب و الكرامة « خير للأبرار » مما يتقلب فيه الذين كفروا لأن ذلك عن قريب سيزول و ما عند الله تعالى دائم لا يزول و يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما من نفس برة و لا فاجرة إلا و الموت خير لها من الحياة فأما الأبرار فقد قال الله « و ما عند الله خير للأبرار » و أما الفجار فقال تعالى « و لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم » الآية و قوله في النفس الفاجرة أن الموت خير لها إنما يعني بذلك إذا كانت تدوم على فجورها .
وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتَبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ خَشِعِينَ للَّهِ لا يَشترُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سرِيعُ الْحِسابِ(199)

اللغة

أصل الخشوع السهولة من قولهم الخشعة و هي السهودة في الرمل كالربوة و الخاشع من الأرض الذي لا يهتدي له لأن الرمل يعفي آثاره و الخاشع الخاضع ببصره و الخشوع هو التذلل خلاف التصعب .

الإعراب

خاشعين نصب على الحال من الضمير في يؤمن و هو عائد إلى من و قيل هو حال من الضمير في « أنزل إليهم » المجرور بالي و الأول أحسن .

النزول

اختلفوا في نزولها فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة و اسمه أصحمة و هو بالعربية عطية و ذلك أنه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه فقال
مجمع البيان ج : 2 ص : 917
رسول الله أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا و من ؟ قال النجاشي فخرج رسول الله إلى البقيع و كشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي و صلى عليه فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط و ليس على دينه فأنزل الله هذه الآية عن جابر بن عبد الله و ابن عباس و أنس و قتادة و قيل نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب و اثنين و ثلاثين من أرض الحبشة و ثمانية من الروم كانوا على دين عيسى ف آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطاء و قيل نزلت في جماعة من اليهود كانوا أسلموا منهم عبد الله بن سلام و من معه عن ابن جريج و ابن زيد و ابن إسحاق و قيل نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم لأن الآية قد تنزل على سبب و تكون عامة في كل ما يتناوله عن مجاهد .

المعنى

لما ذم تعالى أهل الكتاب فيما تقدم وصف طائفة منهم بالإيمان و إظهار الحق و الصدق فقال « و إن من أهل الكتاب » أي من اليهود و النصارى « لمن يؤمن بالله » أي يصدق بالله و يقر بوحدانيته « و بما أنزل إليكم » أيها المؤمنون و هو القرآن « و ما أنزل إليهم » و هو التوراة و الإنجيل « خاشعين لله » أي خاضعين له مستكينين له بالطاعة متذللين بها قال ابن زيد الخاشع المتذلل الخائف و قال الحسن الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله « لا يشترون ب آيات الله ثمنا قليلا » أي لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب و كتمان الحق من الرشى و المأكل كما فعله غيرهم ممن وصفهم تعالى في قوله « أولئك الذين اشتروا الضلالة » بالهدى و لكن ينقادون إلى الحق يعملون بما أمرهم الله به و ينتهون عما نهاهم عنه ثم قال « أولئك » يعني هؤلاء الذين وصفناهم « لهم أجرهم عند ربهم » معناه لهم ثواب أعمالهم و أجر طاعاتهم عند الله مذخور حتى يوفيهم الله يوم القيامة « إن الله سريع الحساب » وصف الحساب بالسرعة لأنه تعالى لا يؤخر الجزاء عمن يستحقه بطول الحساب لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها و بعد أن عملوها فلا حاجة به إلى إحصاء عدد فيقع في الإحصاء إبطاء و قيل معناه أنه يحاسب كل الخلق معا فإذا حاسب واحدا فقد حاسب الجميع لأنه قادر على أن يكلمهم في حالة واحدة كل واحد بكلام يخصه لأنه القادر لنفسه عن أبي علي الجبائي و إنما خص الله تعالى هذه الطائفة بالوعيد ليبين أن جزاء أعمالهم موفر عليهم و لا يضرهم كفر من كفر منهم .

مجمع البيان ج : 2 ص : 918
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصبرُوا وَ صابِرُوا وَ رَابِطوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200)

اللغة

أصل الرباط ارتباط الخيل للعدو و الربط الشد و منه قولهم ربط الله على قلبه بالصبر ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ممن أرادهم بسوء و الرباط أيضا اسم لما يشد به .

المعنى

لما حكى الله تعالى أحوال المؤمنين و الكافرين فيما تقدم حث بعد ذلك على الصبر على الطاعة و لزوم الدين في الجهاد في سبيل الله فقال « يا أيها الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله « اصبروا و صابروا و رابطوا » اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) إن المعنى اصبروا على دينكم أي أثبتوا عليه و صابروا الكفار و رابطوهم في سبيل الله عن الحسن و قتادة و ابن جريج و الضحاك فعلى هذا يكون معناه اصبروا على طاعة الله و عن معاصيه و قاتلوا العدو و اصبروا على قتالهم في الحق كما يصبرون على قتالكم في الباطل و إنما أتى بلفظ صابروا هاهنا لأن فاعل إنما يأتي لما يكون بين اثنين و الرباط هو المرابطة فيكون بين اثنين أيضا يعني أعدوا لهم من الخيل ما يعدونه لكم كقوله « و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة » ( و ثانيها ) إن المراد اصبروا على دينكم و صابروا وعدي إياكم و رابطوا عدوي و عدوكم عن محمد بن كعب القرظي ( و ثالثها ) أن المراد اصبروا على الجهاد عن زيد بن أسلم و قيل إن معنى رابطوا أي رابطوا الصلوات و معناه انتظروها واحدة بعد واحدة لأن المرابطة لم تكن حينئذ روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات و أكمل التحيات و عن جابر بن عبد الله و أبي سلمة ابن عبد الرحمن و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال إسباغ الوضوء في السبرات و نقل الأقدام إلى الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال معناه اصبروا على المصائب و صابروا على عدوكم و رابطوا عدوكم و هو قريب من القول الأول و قوله « و اتقوا الله لعلكم تفلحون » معناه و اتقوا أن تخالفوا الله فيما يأمركم به لكي تفلحوا بنعيم الأبد و قيل معناه اتقوا عذاب الله بلزوم أمره و اجتناب نهيه لكي تظفروا و تفوزوا بنيل المنية و درك البغية و الوصول إلى النجح في الطلبة و ذلك حقيقة الفلاح و هذه الآية تتضمن جميع ما يتناوله المكلف لأن قوله « اصبروا » يتناول لزوم العبادات و اجتناب المحرمات « و صابروا » يتناول ما يتصل بالغير كمجاهدة الجن و الإنس و ما
مجمع البيان ج : 2 ص : 919
هو أعظم منها من جهاد النفس « و رابطوا » يدخل فيه الدفاع عن المسلمين و الذب عن الدين « و اتقوا الله » يتناول الانتهاء عن جميع المناهي و الزواجر و الائتمار بجميع الأوامر ثم يتبع جميع ذلك الفلاح و النجاح .

<<        الفهرس        >>