جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 1 ص : 156
دون غيرهم أي تعلمون ذلك في الكتابين و قال الشريف الأجل المرتضى قدس الله روحه استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى : « الذي جعل لكم الأرض فراشا » و في آية أخرى « بساطا » على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل قال و هذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و إن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها و يستقر عليها و إنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل .
وَ إِن كنتُمْ فى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسورَة مِّن مِّثْلِهِ وَ ادْعُوا شهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(23)

اللغة

إن دخلت هاهنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون و لكن هذا على عادة العرب في خطابهم كقولهم إن كنت إنسانا فافعل كذا و إن كنت ابني فأطعني و إن كان كونه إنسانا و ابنا معلوما و إنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب و الريب الشك مع تهمة و العبد المملوك من جنس ما يعقل و نقيضه الحر من التعبيد و هو التذليل لأن العبد يذل لمولاه و العبودية من أحكام الشرع لأنه بمنزلة ذبح الحيوان و يستحق عليها العوض و ليست بعقوبة و لذلك يسترق المؤمن و الصبي و السورة غير مهموزة مأخوذة من سورة البناء و كل منزلة رفيعة فهي سورة و منه قول النابغة :
أ لم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب هذا قول أبي عبيدة و ابن الأعرابي في تفسير السورة فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة و منزل عال رفيع يرتفع القارىء منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن و قيل السورة مهموزة و المراد بها القطعة من القرآن انفصلت عما سواها و أبقيت و سؤر كل شيء بقيته و أسأرت في الإناء أبقيت فيه قال الأعشى يصف امرأة :
فبانت و قد أسأرت في الفؤاد
صدعا علي نأيها مستطيرا .

الأعراب

إن حرف شرط تجزم الفعل المضارع و تدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الاستقبال و لا بد للشرط من جزاء و هما جملتان ربطت إحداهما بالأخرى
مجمع البيان ج : 1 ص : 157
نحو إن تفعل أفعل فقولك إن تفعل شرط و هو مجزوم بإن و قولك أفعل جزاء و هو مجزوم بالشرط لا بإن وحدها و لا بالفعل فإن كان الجزاء جملة من فعل و فاعل كان مجزوما و إن كان جملة من مبتدإ و خبر فلا بد من الفاء و كانت الجملة في موضع الجزم فقوله « كنتم » في موضع الجزم بإن و قوله « فأتوا بسورة » ائتوا مبني على الوقف لأنه أمر المخاطبين و الواو فاعل و الفاء و ما بعده في موضع جزم بأنه جزاء و ما قبل الفاء لا يعمل فيما بعده و من يقع على أربعة أوجه ( أحدها ) أن يكون بمعنى ابتداء الشيء من مكان ما كقولك خرجت من البصرة .
( و ثانيها ) بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزا ( و ثالثها ) بمعنى التبيين كقوله تعالى : « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » و هي في التبيين تخصص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها ( و رابعها ) أن تقع مزيدة نحو ما جاءني من رجل فإذا قد عرفت هذا فقوله تعالى : « من مثله » قال بعضهم أن من بمعنى التبعيض و تقديره فأتوا ببعض ما هو مثل له و هو سورة و قيل هو لتبيين الصفة و قيل أن من مزيدة لقوله في موضع آخر « بسورة مثله » أي مثل هذا القرآن و تعود الهاء في مثله إلى ما من قوله « مما نزلنا على عبدنا » في الأقوال الثلاثة و قيل أن من بمعنى ابتداء الغاية و الهاء من مثله يعود إلى عبدنا فيكون معناه بسورة من رجل مثله و الأول أقوى لما نذكره بعد .

المعنى

لما احتج الله تعالى للتوحيد عقبه من الاحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال « و إن كنتم في ريب » من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا « فأتوا بسورة من مثله » أي من مثل القرآن و على قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى عبدنا فالمعنى فأتوا بسورة من بشر أمي مثله لا يحسن الخط و الكتابة و لا يدري الكتب و الصحيح هو الأول لقوله تعالى في سورة أخرى : « فليأتوا بحديث مثله » و قوله « فأتوا بسورة مثله » و قوله « لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله » يعني فأتوا بسورة مثل ما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم و جزالة اللفظ و الفصاحة التي اختصت به و الإخبار عما كان و عما يكون دون تعلم الكتب و دراسة الأخبار و قوله : « و ادعوا شهداءكم » قال ابن عباس يعني أعوانكم و أنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم و سمي أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة و الشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس و الأكيل و يسمى الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضا و قوله « من دون الله »
مجمع البيان ج : 1 ص : 158
أي من غير الله كما يقال ما دون الله مخلوق يريد و ادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله « إن كنتم صادقين » في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه و قال الفراء أراد و ادعوا آلهتكم و قال مجاهد و ابن جريج أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم و قول ابن عباس أقوى لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله لأن الدعاء بمعنى الاستعانة كما قال الشاعر :
فلما التقت فرساننا و رجالنا
دعوا يا لكعب و اعتزينا لعامر و قال آخر :
و قبلك رب خصم قد تمالوا
علي فما جزعت و لا دعوت و أما قول مجاهد فلا وجه له لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كفارا فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار و الكفار لا بد أن يسارعوا إلى إبطال الحق أو تحقيق الباطل إذا دعوا إليه فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم و لكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قوله تعالى : « قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا » و قال قوم أن هذا الوجه جائز أيضا صحته لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن و لا يكون مثله كما لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة و هذه الآية تدل على صحة نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أن الله تعالى تحدى بالقرآن و ببعضه و وجه الاستدلال بها أنه تعالى خاطب قوما عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة و تسنموا الذروة العليا من البلاغة فأنزل إليهم كلاما من جنس كلامهم و تحداهم بالإتيان بمثله أو ببعضه بقوله : « فأتوا بعشر سور مثله » و « بسورة مثله » و جعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم و دلالة على صدق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هم أهل الحمية و الأنفة فبذلوا أموالهم و نفوسهم في إطفاء أمره و لم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة و لا خطبة فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم فدل ذلك على أن القرآن معجز دال على صحة نبوته .

مجمع البيان ج : 1 ص : 159
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَ لَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتى وَقُودُهَا النَّاس وَ الحِْجَارَةُ أُعِدَّت لِلْكَفِرِينَ(24)

الإعراب

إن حرف شرط و لم حرف يدخل على الفعل المضارع فينفيه و يجعله بمعنى الماضي و يعمل فيه الجزم و تفعلوا فعل و فاعل و هو مجزوم بلم و علامة الجزم فيه سقوط النون و « لم تفعلوا » في موضع جزم أيضا بأن و لن حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالاستقبال و ينفيه و يعمل فيه النصب و علامة النصب في تفعلوا سقوط النون أيضا و قال سيبويه في لن زعم الخليل أنها لا أن و لكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا ويلمه و جعلت بمنزلة حرف واحد كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد و إنما هي هل و لا قال و هذا ليس بجيد لأنه لو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب و أقول أن معنى هذا القول هو أنه لو كان أصل لن لا أن و ما بعد أن يكون صلة لها و لا يجوز تقديم معمول ما في الصلة على الموصول فكان يجب أن لا يجوز تقديم زيدا في قولك لن أضرب زيدا على لن كما لم يجز تقديمه على أن فلا تقول زيدا أن أضرب و زيدا لا أن أضرب و لا خلاف بين النحويين في جواز التقديم هناك و قوله « و لن تفعلوا » لا موضع له من الإعراب لأنه اعتراض وقع بين الشرط و الجزاء كما يقع بين المبتدأ و الخبر في قولك زيد فافهم ما أقول لك عالم و الاعتراض غير واقع موقع المفرد فيكون له موضع إعراب .

المعنى

« فإن لم تفعلوا » أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله و قد تظاهرتم أنتم و شركاؤكم عليه و أعوانكم و تبين لكم عجزكم و عجز جميع الخلق عنه و علمتم أنه من عندي فلا تقيموا على التكذيب به و معنى « و لن تفعلوا » أي و لن تأتوا بسورة مثله أبدا لأن لن تنفي على التأبيد في المستقبل و فيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنهم لا يأتون بمثله فوافق المخبر عنه الخبر و قوله : « فاتقوا النار » أي فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم و إنما جاز أن يكون قوله « فاتقوا النار » جواب الشرط مع لزوم اتقاء النار كيف تصرفت الحال لأنه لا يلزمهم الاتقاء إلا بعد التصديق بالنبوة و لا يصح العلم بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة فكأنه قال : « فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا » فقد قامت الحجة و وجب اتقاء « النار التي وقودها » أي حطبها « الناس و الحجارة » و هي جمع حجر و قيل أنها حجارة الكبريت لأنها أحر شيء إذا أحميت عن ابن مسعود و ابن عباس و الظاهر أن الناس و الحجارة وقود النار أي حطبها يريد بها أصنامهم المنحوتة من الحجارة كقوله تعالى : « إنكم و ما تعبدون من دون الله
مجمع البيان ج : 1 ص : 160
حصب جهنم » و قيل ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار لأنها لا تأكل الحجارة ألا و هي في غاية الفظاعة و الهول و قيل معناه أن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقد بها النار بتبقية الله إياها و يؤيد ذلك قوله « كلما نضجت جلودهم » الآية و قيل معناه أنهم يعذبون بالحجارة المحمية بالنار و قوله تعالى : « أعدت للكافرين » معناه خلقت و هيئت للكافرين لأنهم الذين يخلدون فيها و لأنهم أكثر أهل النار فأضيفت إليهم و قيل إنما خص النار بكونها معدة للكافرين و إن كانت معدة للفاسقين أيضا لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال : « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » و هذه الآية تدل على بطلان قول من حرم النظر و الحجاج العقلي لأن الله عز اسمه احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية و ألزمهم به تصديق نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قررهم بأن القرآن كلامه إذ قال إن كان هذا القرآن كلام محمد فأتوا بسورة من مثله لأنه لو كان كلام البشر لتهيأ لكم مع تقدمكم في البلاغة و الفصاحة الإتيان بمثله أو بسورة منه مع قوة دواعيكم إليه فإذا لم يتأت لكم ذلك فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى و هذا هو المراد بالاحتجاج العقلي و استدل بقوله « أعدت للكافرين » على أن النار مخلوقة الآن لأن المعد لا يكون إلا موجودا و كذلك الجنة بقوله « أعدت للمتقين » و الفائدة في ذلك أنا و إن لم نشاهدهما فإن الملائكة يشاهدونهما و هم من أهل التكليف و الاستدلال فيعرفون ثواب الله للمتقين و عقابه للكافرين .
وَ بَشرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ أَنَّ لهَُمْ جَنَّت تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ كلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَة رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشبِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مُّطهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(25)

اللغة

البشارة هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة و قد قيل للإخبار بما يغم أيضا بشارة كقوله تعالى : « و بشرهم بعذاب أليم » و ذلك على سبيل التوسع و هي مأخوذة من البشرة و هي ظاهر الجلد لتغيرها
مجمع البيان ج : 1 ص : 161
بأول خبر و تباشير الصبح أوله و الجنات جمع الجنة و هي البستان و المراد بذلك الجنة ما في الجنة من أشجارها و ثمارها دون أرضها فلذلك قال « تجري من تحتها الأنهار » لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها بأنه جار تحت الأشجار لأن الماء إذا كانت تحت الأرض فلا حظ فيها للعيون على أنه روي عن مسروق أن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد رواه عنه أبو عبيدة و غيره و أصلها من الجن و هو الستر و منه الجن لتسترها عن عيون الناس و الجنون لأنه يستر العقل و الجنة لأنها تستر البدن و الجنين لتستره بالرحم قال المفضل البستان إذا كان فيه الكرم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غيره أو لم يكن و الجنة كل بستان فيه نخل و إن لم يكن فيه غيره و الأزواج جمع زوج و الزوج يقع على الرجل و المرأة و يقال للمرأة زوجة أيضا و زوج كل شيء شكله و الخلود الدوام و البقاء .

الإعراب

موضع أن مع اسمه و خبره نصب معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى أن فنصبه و على قول الخليل يكون أن في موضع جر و إن سقطت الباء و جنات منصوب بأنه اسم أن و لهم الجار و المجرور في موضع خبره و التاء تاء جماعة المؤنث تكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين و نحوه يكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة و قوله « تجري » مع ما اتصل به جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات و كلما ضم كل إلى ما الجزاء فصارا أداة للتكرار و هو منصوب على الظرف و العامل فيه رزقوا منها من ثمرة من مزيدة أي ثمرة و قال علي بن عيسى هي بمعنى التبعيض لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت و يجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة و هو أن يبين الرزق من أي جنس هو و من قبل تقديره أي من قبل هذا الزمان أو هذا الوقت فحذف المضاف إليه منه لفظا مع أن الإضافة مرادة معنى فبني لأجل مشابهته الحرف و إنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل و إنما خص بالضم لأن إعرابه عند الإضافة كان بالفتح أو الجر نحو من قبلك و قبلك لكونه ظرفا فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب و هي الضمة و موضعه نصب على الظرف و متشابها نصب على الحال و أزواج رفع أما بالابتداء أو بالظرف .

المعنى

قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد فيما قبلها ليحصل الترغيب و الترهيب فقال « و بشر » أي أخبر بما يسر « الذين آمنوا » أي صدقوا « و عملوا الصالحات » فيما بينهم و بين ربهم عن ابن عباس ب « أن لهم جنات تجري من تحتها »
مجمع البيان ج : 1 ص : 162
أي من تحت أشجارها و مساكنها « الأنهار » و النهر لا يجري و إنما يجري الماء فيه و يستعمل الجري فيه توسعا لأنه موضع الجري و قوله : « كلما رزقوا منها » أي من الجنات و المعنى من أشجارها و تقديره كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين « من ثمرة رزقا » أي أعطوا من ثمارها عطاء و أطعموا منها طعاما لأن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به و لا يكون لأحد المنع منه « قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » فيه وجوه ( أحدها ) أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل هذا قول أبي عبيدة و يحيى بن كثير ( و ثانيها ) أن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هذا الذي وعدنا به في الدنيا ( و ثالثها ) معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي كالذي رزقنا و هم يعلمون أنه غيره و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته عن الحسن و واصل قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله و أقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال : « كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » فعم و لم يخص فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا و يكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم فأقام المضاف إليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما و وصفه له يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي يريد مثله و من جنسه و قوله « و أتوا به » أي جيئوا به و ليس معناه أعطوه و قوله « متشابها » فيه وجوه ( أحدها ) أنه أراد متشابها في اللون مختلفا في الطعم عن ابن عباس و مجاهد ( و ثانيها ) أن كلها متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه عن الحسن و قتادة و اختاره الأخفش قال و هذا كما يقول القائل و قد جيء بأشياء فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل لا أدري ما اختار منها كلها عندي فاضل كقول الشاعر :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري يعني أنهم قد تساووا في الفضل ( و ثالثها ) أنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب عن عكرمة ( و رابعها ) أنه يشبه بعضه بعضا في اللذة و جميع الصفات عن أبي مسلم ( و خامسها ) أن التشابه من حيث الموافقة فالخادم يوافق المسكن و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به و قوله « و لهم فيها أزواج » قيل هن الحور العين و قيل هن
مجمع البيان ج : 1 ص : 163
من نساء الدنيا قال الحسن هن عجائزكم الغمص الرمص العمش طهرن من قذرات الدنيا « مطهرة » قيل في الأبدان و الأخلاق و الأعمال فلا يحضن و لا يلدن و لا يتغوطن و لا يبلن قد طهرن من الأقذار و الآثام و هو قول جماعة المفسرين « و هم فيها » أي في الجنة « خالدون » يعني دائمون يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك و لا نفاد لأن النعمة تتم بالخلود و البقاء كما تنتقص بالزوال و الفناء و الخلود هو الدوام من وقت مبتدإ و لهذا لا يقال لله تعالى خالد .
* إِنَّ اللَّهَ لا يَستَحْىِ أَن يَضرِب مَثَلاً مَّا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كثِيراً وَ يَهْدِى بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَسِقِينَ(26)

القراءة

يستحيي بيائين و روي عن ابن كثير يستحي بياء واحدة و وجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين فحذف إحداهما و هي لغة بني تميم .

اللغة

الاستحياء من الحياء و نقيضه القحة .
و الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا يقال ضرب في التجارة و ضرب في الأرض و ضرب في سبيل الله و ضرب بيده إلى كذا و ضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه و ضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد يقال ضربت القول مثلا و أرسلته مثلا و ما أشبه ذلك و البعوض القرقس و هو صغار البق الواحدة بعوضة و المثل و المثل كالشبه و الشبه قال كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا
و ما مواعيده إلا الأباطيل و الفسق و الفسوق الترك لأمر الله و قال الفراء الفسق الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت و لذلك سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها .

الإعراب

ما في قوله « ما بعوضة » بالنصب فيه وجوه ( أحدها ) أن تكون ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 164
مزيدة و معناها التوكيد كما في قوله « فبما رحمة من الله لنت لهم » و تقديره أن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب ( و ثانيها ) أن يكون ما نكرة مفسرة ببعوضة كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى : « هذا ما لدي عتيد » فيكون تقديره لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة فتكون بعوضة بدلا من شيئا ( و ثالثها ) ما يحكى عن الفراء أن معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية و له عشرون ما ناقة فجملا و هي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك و الاختيار عند البصريين الوجه الأول و إنما اختير هذا الوجه لأن ضرب هاهنا بمعنى جعل فجاز أن يتعدى إلى مفعولين و يدخل على المبتدأ و الخبر و في التنزيل ما يدل عليه و هو قوله تعالى : « إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء » فمثل الحياة مبتدأ و كماء خبره و في موضع آخر و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء فدخل اضرب على المبتدأ و الخبر فصار بمنزلة قولك ظننت زيدا كعمرو و يجوز في الإعراب الرفع في بعوضة و إن لم تجز القراءة به و فيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون خبرا لمبتدء محذوف في صلة ما فكأنه قال الذي هو بعوضة كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع و هذا عند سيبويه ضعيف و هو في الذي أقوى لأن الذي أطول و ليس للذي مذهب غير الأسماء .
( و الثاني ) على الجواب كأنه لما قيل « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما » قيل ما هو فقيل « بعوضة » أي بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد فتكون ما على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة و الصلة و قوله « فأما الذين آمنوا » لغة العرب جميعا بالتشديد و كثير من بني تميم يقولون أيما فلان فيفعل كذا و أنشد بعضهم :
مبتلة هيفاء أيما وشاحها
فيجري و أيما الحجل منها فلا يجري و هي كلمة تجيء في شيئين أو أشياء يفصل القول بينهما كقولك أما زيد فمحسن و أما عمرو فمسيء فزيد مبتدأ و محسن خبره و فيها معنى الشرط و الجزاء و تقديره مهما يكن من شيء فزيد محسن ثم أقيم أما مقام الشرط فيحصل أما فزيد محسن ثم أخر الفاء إلى الخبر لإصلاح اللفظ و لكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام فقوله « الذين آمنوا » على هذا يكون مبتدأ و يعلمون خبره و كذلك « الذين كفروا » مبتدأ و يقولون خبره و قوله « ما ذا أراد الله بهذا مثلا » ما استفهام و هو اسم في موضع الرفع بالابتداء و ذا بمعنى الذي و صلته ما بعده و هو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ تقديره أي شيء الذي أراد
مجمع البيان ج : 1 ص : 165
الله فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل و يحتمل أن يكون ما و ذا بمنزلة اسم واحد تقديره أي شيء أراد الله فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل و مثال الأول قوله تعالى : « ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين » و مثال الثاني قوله « ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا » و مثلا منصوب على الحال و قيل على القطع و قيل على التفسير .

النزول

روي عن ابن مسعود و ابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله « مثلهم كمثل الذي استوقد نارا » و قوله « أو كصيب من السماء » قال المنافقون الله أعلى و أجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية و روي عن قتادة و الحسن لما ضرب المثل بالذباب و العنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

« إن الله لا يستحيي » أي لا يدع و قيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شيء تركه و امتنع منه و معناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها و قيل معناه هو أن الذي يستحيي منه ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب حتى يستحيي منه و قيل معناه أنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال « و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه » أي تستحيي الناس و الله أحق أن تستحييه فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك و أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح و قال علي بن عيسى معناه أنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيي منه فكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيي منه فوضع قوله « إن الله لا يستحيي » موضعه و قوله « ما بعوضة فما فوقها » أي ما هو أعظم منها عن قتادة و ابن جريج و قيل فما فوقها في الصغر و القلة لأن الغرض هاهنا الصغر و قال الربيع بن أنس أن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه و عجيب صنعه و قد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشيء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق :
مجمع البيان ج : 1 ص : 166

ضربت عليك العنكبوت بنسجها
و قضى عليك به الكتاب المنزل و بقوله أيضا
و هل شيء يكون أذل بيتا
من اليربوع يحتفر الترابا و قوله « فأما الذين آمنوا » أي صدقوا محمدا و القرآن و قبلوا الإسلام « فيعلمون أنه الحق من ربهم » مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم و أن المثل وقع في حقه « و أما الذين كفروا » بالقرآن « فيقولون » أي فلإعراضهم عن طريق الاستدلال و إنكارهم الحق قالوا « ما ذا أراد الله بهذا مثلا » أي ما ذا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف و اللام و قوله « يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا » فيه وجهان ( أحدهما ) حكي عن الفراء أنه قال أنه حكاية عمن قال ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا أي يضل به قوم و يهتدي به قوم ثم قال الله تعالى « و ما يضل به إلا الفاسقين » فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا و هذا وجه حسن و الآخر أنه كلامه تعالى ابتداء و كلاهما محتمل و إذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله « يضل به كثيرا » إن الكفار يكذبون به و ينكرونه و يقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه و إذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه و قوله « و يهدي به كثيرا » يعني الذين آمنوا به و صدقوه و قالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال و ذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضل عندها سميت إضلالا و إذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير و يهتدي بها قوم كثير و مثله قوله « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » أي ضلوا عندها و هذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتك و هو لم يفعل فيها الفساد و إنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته و قريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته و لا يريدون أنه أراد أن يضل و إنما يريدون ضلت منه لا من غيره و قولهم أفسدت فلانة فلانا و أذهبت عقله و هي ربما لم تعرفه و لكن لما ذهب عقله و فسد من أجلها أضيف الفساد إليها و قد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة و ترك المنع بالقهر و منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم و هذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك أريد به أنك لم تحدث فيه الإصلاح في كل وقت
مجمع البيان ج : 1 ص : 167
بالصقل و الإحداد و قد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال و الحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال و أكفره إذا نسبه إلى الكفر قال الكميت :
فطائفة قد أكفروني بحبكم
و طائفة قالوا مسيء و مذنب و قد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى « إن المجرمين في ضلال و سعر يوم يسحبون في النار على وجوههم » و منه قوله تعالى « أ إذا ضللنا في الأرض » أي هلكنا و قوله « و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم » أي لن يبطل سيهديهم و يصلح بالهم فعلى هذا يكون المعنى أن الله تعالى يهلك و يعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب و طريق الجنة بسببه فيهلكوا و يهدي إلى الثواب و طريق الجنة بالإيمان به كثيرا عن أبي علي الجبائي و يدل على ذلك قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير و التشكيك فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا و هذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة لا إلى أول أو ثبوت إضلال لا إضلال قبله و إذا كان ذلك من فعله فقد أضل من لم يكن فاسقا و هو خلاف قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » و على هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر و براءته منهم و لعنته عليهم إهلاكا لهم و يكون إهلاكه إضلالا و كل ما في القرآن من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه و لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان و إلى فرعون و السامري بقوله و لقد أضل منكم جبلا كثيرا و قوله « و أضل فرعون قومه » و قوله « و أضلهم السامري » و هو أن يكون بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد و الضلال و غير ذلك مما يؤدي إلى التظليم و التجويز على ما يذهب إليه المجبرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

[ فصل في حقيقة الهداية و الهدى]


و إذا قد ذكرنا أقسام الإضلال و ما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها و ما لا يجوز
مجمع البيان ج : 1 ص : 168
فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده اعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه ( أحدها ) أن تكون بمعنى الدلالة و الإرشاد يقال هداه الطريق و للطريق و إلى الطريق إذا دله عليه و هذا الوجه عام لجميع المكلفين فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق بأن دله عليه و أرشده إليه لأنه كلفه الوصول إليه فلو لم يدله عليه لكان قد كلفه بما لا يطيق و يدل عليه قوله تعالى « و لقد جاءهم من ربهم الهدى » و قوله « إنا هديناه السبيل » و قوله « أنزل فيه القرآن هدى للناس » و قوله « و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى » و قوله « و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم » و قوله « و هديناه النجدين » و ما أشبه ذلك من الآيات ( و ثانيها ) أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى و منه قوله تعالى « و الذين اهتدوا زادهم هدى » أي شرح صدورهم و ثبتها ( و ثالثها ) أن يكون بمعنى الإثابة و منه قوله تعالى « يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم » و قوله « و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم و يصلح بالهم » و الهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة لأنه ليس بعد الموت تكليف ( و رابعها ) الحكم بالهداية كقوله تعالى « و من يهد الله فهو المهتد » و هذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة و هم المؤمنون و يزيدهم بإيمانهم و طاعاتهم ألطافا و يحكم لهم بالهداية لذلك أيضا ( و خامسها ) أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه كما يجعل الشيء متحركا بخلق الحركة فيه و الله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب فذلك هداية منه تعالى و هذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به و بأنبيائه و غير ذلك فإنها من فعل العباد و لذلك يستحقون عليها المدح و الثواب و إن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك و إرشادهم إليه و دعائهم إلى فعله و تكليفهم إياه و أمرهم به فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم و منة منه واصلة إليهم و فضل منه و إحسان لديهم فهو سبحانه مشكور على ذلك محمود إذ فعل بتمكينه و ألطافه و ضروب تسهيلاته و معوناته .
الَّذِينَ يَنقُضونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَ يَقْطعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصلَ وَ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ(27)
مجمع البيان ج : 1 ص : 169

اللغة

النقض نقيض الإبرام و العهد العقد و العهد الموثق و العهد الالتقاء و هو قريب العهد بكذا و عهد الله وصيته و أمره يقال عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي أمره و أوصاه به و منه قوله تعالى « أ لم أعهد إليكم يا بني آدم » و الميثاق ما وقع التوثيق به كما أن الميقات ما وقع التوقيت به و يقال فلان ثقة يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث و يقال ثقات في الرجال و النساء و القطع الفصل بين الشيئين و أصل ذلك في الأجسام و يستعمل ذلك أيضا في الأعراض تشبيها به يقال قطع الحبل و قطع الكلام و الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل هذه صيغته ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به و صيغة الأمر تستعمل في الإباحة نحو قوله فاصطادوا و في التهديد نحو قوله « اعملوا ما شئتم » و في التحدي نحو قوله « فأتوا بسورة من مثله » و في التكوين كقوله « كن فيكون » و الأصل في الجميع الطلب و الوصل نقيض الفصل و هو الجمع بين شيئين من غير حاجز و الخسران النقصان و الخسار الهلاك و الخاسرون الهالكون و أصل الخسران ذهاب رأس المال .

الأعراب

« الذين ينقضون » في موضع النصب لأنها صفة الفاسقين و أولئك مبتدأ و الخاسرون خبره و هم فصل و يجوز أن يكون مبتدأ و الخاسرون خبره و الجملة خبر أولئك و قوله « من بعد ميثاقه » من مزيدة و قيل معناه ابتداء الغاية و الهاء في ميثاقه عائد إلى العهد و يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى و قوله « أن يوصل » بدل من الهاء التي في به أي ما أمر الله بأن يوصل فهو في موضع جر به .

المعنى

ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال هم « الذين ينقضون عهد الله » أي يهدمونه لا يفون به و قيل في عهد الله وجوه ( أحدها ) أنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد و العدل و تصديق الرسل و ما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم و نقضهم لذلك تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة ( و ثانيها ) أنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهاهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به ( و ثالثها ) أن المراد به كفار أهل الكتاب و عهد الله الذي نقضوه « من بعد ميثاقه » هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و التصديق بما جاء به من عند ربه و نقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته و كتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس و لا يكتمونه و أنهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا و نبذوا العهد وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا و اختار هذا الوجه الطبري ( و رابعها ) أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب
مجمع البيان ج : 1 ص : 170
آدم كما وردت به القصة و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل و قوله تعالى « و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل » معناه أمروا بصلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين فقطعوهم عن الحسن و قيل أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها عن قتادة و قيل أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء و الكتب ففرقوا و قطعوا ذلك و قيل أمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه و هذا أقوى لأنه أعم و يدخل فيه الجميع و قوله « و يفسدون في الأرض » قال قوم استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض و قيل إخافتهم السبيل و قطعهم الطريق و قيل نقضهم العهد و قيل أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها و الأولى حمله على العموم « أولئك هم الخاسرون » أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله و روي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر و ما نسبه إلى المسلمين فإنما عنى به الدنيا .
كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كنتُمْ أَمْوَتاً فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)

القراءة

قرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء على أن الفعل لهم و الباقون بضم التاء و فتح الجيم على ما لم يسم فاعله .

الإعراب

كيف في الأصل سؤال عن الحال و يتضح ذلك في الجواب إذا قيل كيف رأيت زيدا فتقول مسرورا أو مهموما و ما أشبه ذلك فتجيب بأحواله فكيف ينتظم جميع الأحوال كما أن كم ينتظم جميع العدد و ما ينتظم جميع الجنس و أين ينتظم جميع الأماكن و من ينتظم جميع العقلاء و معناه في الآية التوبيخ و تقديره أ متعلقين بحجة تكفرون فيكون منصوب الموضع على الحال و العامل فيه تكفرون و قال الزجاج هو استفهام في معنى التعجب و هذا التعجب إنما هو للخلق أو للمؤمنين أي أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون و قد ثبتت حجة الله عليهم و معنى و كنتم و قد كنتم و الواو واو الحال و إضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه و مثله قوله تعالى « أو جاءوكم حصرت صدورهم » أي قد حصرت صدورهم و هي جملة في موضع الحال و إنما وجب إظهار قد في مثل هذا أو
مجمع البيان ج : 1 ص : 171
تقديرها لأن الماضي لا يكون حالا و قد إنما يكون لتقريب العهد و لتقريب الحال فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا .

المعنى

ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث و جحودهم لرسله و كتبه بما أنعم به عليهم فقال « كيف تكفرون بالله » و من قال هو توبيخ قال معناه ويحكم كيف تكفرون كما يقال كيف تكفر نعمة فلان و قد أحسن إليك و من قال هو تعجب قال تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته و المعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته و قيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته و شكر نعمته ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم فقال « و كنتم أمواتا فأحياكم » أي و حالكم أنكم كنتم أمواتا و فيه وجوه ( أحدها ) أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا فأحياهم الله ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان و موتتان عن قتادة ( و ثانيها ) أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة عن ابن عباس و ابن مسعود ( و ثالثها ) أن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر فأحياكم بالظهور ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث و العرب تسمي كل امرىء خامل ميتا و كل امرىء مشهور حيا كما قال أبو نخيلة السعدي
فأحييت من ذكري و ما كان خاملا
و لكن بعض الذكر أنبه من بعض ( و رابعها ) أن معناه كنتم نطفا في أصلاب آبائكم و بطون أمهاتكم و النطفة موات فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء « ثم يميتكم ثم يحييكم » في القبر للمسائلة « ثم إليه ترجعون » أي يبعثكم يوم الحشر للحساب و المجازاة على الأعمال و سمي الحشر رجوعا إلى الله تعالى لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير و لا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان و إنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره و إنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة و من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه خلقه إياه حيا لينفعه و بالحياة يتمكن الإنسان من الانتفاع و الالتذاذ و إنما عد الموت من النعم و هو يقطع النعم في الظاهر لأن الموت يقطع التكليف فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم فهو من هذا الوجه نعمة و قيل إنما ذكر الموت لتمام الاحتجاج لا لكونه نعمة و في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه فيهم لأنه لو أراده منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله « كيف تكفرون بالله » كما لا يجوز أن يقول لهم كيف أو لم كنتم طوالا أو قصارا و ما أشبه ذلك مما
مجمع البيان ج : 1 ص : 172
هو من فعله تعالى فيهم .
هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ استَوَى إِلى السمَاءِ فَسوَّاهُنَّ سبْعَ سمَوَت وَ هُوَ بِكلِّ شىْء عَلِيمٌ(29)

اللغة

أصل الخلق التقدير و الجمع الضم و نقيضه الفرق و سميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس و الاستواء الاعتدال و الاستقامة و نقيضه الاعوجاج و السبع للمؤنث و السبعة للمذكر و السبع مشتق من ذلك لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات و العليم في معنى العالم قال سيبويه إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل نحو عليم و رحيم .

المعنى

قال المفسرون لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله تعالى خلق السموات و الأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة فقال « هو الذي خلق لكم » أي لأجلكم « ما في الأرض جميعا » ما في موضع نصب بأنه مفعول بها و معناه أن الأرض و جميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم إما دينية فتستدلون بها على معرفته و إما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا و قوله « ثم استوى إلى السماء » فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه قصد للسماء و لتسويتها كقول القائل كان الأمير يدبر أمر الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول تدبيره و فعله إليهم ( و ثانيها ) أنه بمعنى استولى على السماء بالقهر كما قال لتستووا على ظهوره أي تقهروه و منه قوله « و لما بلغ أشده و استوى » أي تمكن من أمره و قهر هواه بعقله فعلى هذا يكون معناه ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و منه قول الشاعر :
فلما علونا و استوينا عليهم
تركناهم صرعى لنسر و كاسر و قال آخر :
ثم استوى بشر على العراق
من غير سيف و دم مهراق ( و ثالثها ) أن معناه ثم استوى أمره و صعد إلى السماء لأن أوامره و قضاياه تنزل من السماء إلى الأرض عن ابن عباس ( و رابعها ) ما روي عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل
مجمع البيان ج : 1 ص : 173
عن معنى الاستواء في صفة الله عز و جل فقال الاستواء الإقبال على الشيء يقال كان فلان مقبلا على فلان ] يشتمه [ ثم استوى علي و إلي يكلمني على معنى أقبل إلي و علي فهذا معنى قوله « ثم استوى إلى السماء » و قوله « فسواهن سبع سماوات » التسوية جعل الشيئين أو الأشياء على استواء يقال سويت الشيئين فاستويا و إنما قال « فسواهن » فجمع الضمير العائد إلى السماء لأن السماء اسم جنس يدل على القليل و الكثير كقولهم أهلك الناس الدينار و الدرهم و قيل السماء جمع سماوة و سماءة و لذلك يؤنث مرة و يذكر أخرى فقيل السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه و بين واحده الهاء نحو نخل و نخلة و بقر و بقرة و قيل إن السماوات كانت سماء فوق سماء فهي في التقدير واحدة و تكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق و أسمال و برقة أعشار و أرض أعقال و المعنى أن كل ناحية منها كذلك فجمع على هذا المعنى جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور و لا أمت قال علي بن عيسى أن السموات غير الأفلاك لأن الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله « إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا » و هذا قول ضعيف لأن قوله أن تزولا معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها و لو لا إمساكه لزالت عنها .

سؤال

ظاهر قوله تعالى « ثم استوى إلى السماء » يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء لأن ثم للتعقيب و التراخي و قوله في سورة أخرى « و الأرض بعد ذلك دحاها » بخلافه فكيف يجمع بينهما الجواب معناه أن الله خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك و دحوها بسطها و مدها عن الحسن و عمرو بن عبيد و قد يجوز أيضا أن لا يكون معنى ثم و بعد في هذه الآيات الترتيب في الأوقات و إنما هو على جهة تعداد النعم و التنبيه عليها و الإذكار لها كما يقول القائل لصاحبه أ ليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت بك و فعلت و ربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل و إنما المراد التذكير كما ذكره و قوله « و هو بكل شيء عليم » و لم يقل قدير لأنه لما وصف نفسه بالقدرة و الاستيلاء وصل ذلك بالعلم إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان و الإحكام و أيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله و حال المنعم به عليه فتتحقق بذلك النعمة و في هذه الآية دلالة على أن صانع السماء و الأرض قادر و عالم و أنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض و أن له تعالى
مجمع البيان ج : 1 ص : 174
على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها و فيها أيضا دلالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد ثم صار حظا لكل واحد منهم فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه يحتاج إلى دليل .
وَ إِذْ قَالَ رَبُّك لِلْمَلَئكَةِ إِنى جَاعِلٌ فى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسفِك الدِّمَاءَ وَ نحْنُ نُسبِّحُ بحَمْدِك وَ نُقَدِّس لَك قَالَ إِنى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30)

اللغة

القول موضوع في كلام العرب للحكاية نحو قولك قال زيد خرج عمرو و الرب السيد يقال رب الدار و رب الفرس و لا يقال الرب بالألف و اللام إلا لله تعالى و أصله من ربيته إذا قمت بأمره و منه قيل للعالم رباني لأنه يقوم بأمر الأمة و الملائكة جمع ملك و اختلف في اشتقاقه فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة و هي الرسالة و قال الخليل الألوك الرسالة و هي المالكة و المالكة على مفعلة و قال غيره إنما سميت الرسالة الوكا لأنها تولك في الفم أي تمضغ و الفرس تألك اللجام و تعلك قال عدي بن زيد :
أبلغا النعمان عني مالكا
أنه قد طال حسبي و انتظاري و يروى ملاءكا و قال لبيد :
و غلام أرسلته أمه
بالوك فبذلنا ما سأل و قال الهذلي :
ألكني إليها و خير الرسول
أعلمهم بنواحي الخبر فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك قال الشاعر :
فلست لإنسي و لكن لملأك
تنزل من جو السماء يصوب
مجمع البيان ج : 1 ص : 175
فوزن ملأك معفل مقلوب مالك مفعل و من العرب من يستعمله مهموزا و الجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام و حذفها فيقال ملك و ذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل فملأك على هذا القول مفعل و ملائكة مفاعلة غير مقلوبة و الميم في هذين الوجهين زائدة و ذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك و أن وزن ملأك فعال مثل شمال و ملائكة فعائلة فالميم على هذا القول أصلية و الهمزة زائدة و الملك و إن كان أصله الرسالة فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل الله غير البشر كما أن السماء و إن كان أصله الارتفاع فقد صار غالبا على السماوات المعروفة و قال أصحابنا رضي الله عنهم أن جميع الملائكة ليسوا برسل الله بدلالة قوله تعالى « يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس » فلو كانوا كلهم رسلا لكان جميعهم مصطفين فعلى هذا يكون الملك اسم جنس و لا يكون من الرسالة و الجعل و الخلق و الفعل و الإحداث نظائر إلا أن الجعل قد يتعلق بالشيء لا على سبيل الإيجاد بخلاف الفعل و الإحداث تقول جعلته متحركا و حقيقة الجعل تغيير الشيء عما كان عليه و حقيقة الفعل و الإحداث الإيجاد و الخليفة و الإمام واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقا فالخليفة استخلف في الأمر مكان من كان قبله فهو مأخوذ من أنه خلف غيره و قام مقامه و الإمام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به و فرض طاعته فيما تقدم فيه و السفك صب الدم و الدم قد اختلف في وزنه فقال بعضهم دمي على وزن فعل قال الشاعر :
فلو أنا على حجر ذبحنا
جرى الدميان بالخبر اليقين و قيل أصله دمي على وزن فعل و الشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الاسم حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك و التسبيح التنزيه لله تعالى عن السوء و عما لا يليق به و السبوح المستحق للتنزيه و التعظيم و القدوس المستحق للتطهير و التقديس التطهير و نقيضه التنجيس و القدس السطل الذي يتطهر منه و قد حكى سيبويه أن منهم من يقول سبوح قدوس بالفتح و الضم أكثر في الكلام و الفتح أقيس لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح و سبحان اسم المصدر قال سيبويه سبحان الله معناه براءة الله من كل سوء و تنزيه الله قال الأعشى :
أقول لما جاءني فخره
سبحان من علقمة الفاخر أي براءة منه قال و هو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف و الزيادة و قد اضطر الشاعر فنونه قال أمية :
مجمع البيان ج : 1 ص : 176

سبحانه ثم سبحانا يعود له
و قبله سبح الجودي و الجمد و هو مشتق من السبح الذي هو الذهاب و لا يجوز أن يسبح غير الله و إن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه .

الإعراب

قال أبو عبيدة إذ هاهنا زائدة و أنكر الزجاج و غيره عليه هذا القول و قالوا أن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه قال الزجاج و معناه الوقت و لما ذكر الله تعالى خلق الناس و غيرهم فكأنه قال ابتداء خلقكم « إذ قال ربك للملائكة » و قال علي بن عيسى تقديره اذكر إذ قال ربك للملائكة فموضع إذ نصب على إضمار فعل و الواو عاطفة جملة على جملة و « إني جاعل في الأرض خليفة » جملة في موضع نصب بقال و قوله « أ تجعل فيها » إلى قوله « و نقدس لك » في موضع نصب بقالوا و الواو في قوله « و نحن » واو الحال و تسمى واو القطع و واو الاستئناف و واو الابتداء و واو إذ كذا كان يمثلها سيبويه و مثله الواو في قوله « يغشي طائفة منكم و طائفة قد أهمتهم أنفسهم » أي إذ طائفة و كذا هاهنا إذ نحن نسبح و العامل في الحال هاهنا أ تجعل كأنه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها و هذه حالنا و الباء في بحمدك تتعلق بنسبح و اللام من لك تتعلق بنقدس و ما موصولة و صلته لا تعلمون و العائد ضمير المفعول حذف لطول الكلام أي لا تعلمونه و هو في موضع النصب بأعلم .

المعنى

اذكر يا محمد « إذ قال ربك للملائكة » قيل أنه خطاب لجميع الملائكة و قيل خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة عن ابن عباس « إني جاعل » أي خالق « في الأرض خليفة » أراد بالخليفة آدم (عليه السلام) فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل إنما سمى الله تعالى آدم خليفة لأنه جعل آدم و ذريته خلفاء للملائكة لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض و قيل كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها و سفكوا الدماء فأهلكوا فجعل آدم و ذريته بدلهم عن ابن عباس و قيل عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا و هم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق و عمارة الأرض عن الحسن البصري و قيل أراد بالأرض مكة لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال دحيت الأرض من مكة و لذلك سميت أم القرى و روي أن قبر نوح و هود و صالح و شعيب بين زمزم و الركن و المقام و الظاهر أنها الأرض
مجمع البيان ج : 1 ص : 177
المعروفة و هو الصحيح و قوله « قالوا » يعني الملائكة لله تعالى أ تجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها بالكفر و المعاصي و يسفك الدماء بغير حق و ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا فيها فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض و كان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم فقالوا يا ربنا « أ تجعل فيها من يفسد فيها » كما فعل بنو الجان قاسوا بالشاهد على الغائب و هو قول كثير من المفسرين ( و ثانيها ) أن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الاستفهام و على وجه الاستخبار و الاستعلام عن وجه المصلحة و الحكمة لا على وجه الإنكار و لا على سبيل إخبار فكأنهم قالوا يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه ( و ثالثها ) أن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي و يسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس و ابن مسعود و الغرض في إعلامه إياهم أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به و قيل ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا و كذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير و الاستفادة لوجه الحكمة فيه و هذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف و يكون التقدير إني جاعل في الأرض خليفة و إني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها و يسفك الدماء فحذف اختصارا و كذلك قوله « أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك » في ضمنه اختصار شديد أي فنحن على ما نظنه و يظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض لأنا نطيع و غيرنا يعصي و في قوله « إني أعلم ما لا تعلمون » اختصار أيضا لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه و ما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور و مثل هذه الحذوف العجيبة و الاختصارات البديعة كثيرة في القرآن و الحذف معدود في أنواع الفصاحة إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي و مما جاء منه في الشعر قول الشنفري :
و لا تقبروني إن قبري محرم
عليكم و لكن خامري أم عامر أي لا تدفنوني بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر يعني الضبع و قول أبي داود :
إن من شيمتي لبذل تلادي
دون عرضي فإن رضيت فكوني
مجمع البيان ج : 1 ص : 178
أي فكوني على ما أنت عليه و إن سخطت فبيني فحذف و قال عنترة :
هل تبلغني دارها شدنية
لعنت بمحروم الشراب مصرم أي دعي عليها بانقطاع لبنها و جفاف ضرعها فصارت كذلك و الناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير و إنما أرادت الملائكة بقولهم « أ تجعل فيها من يفسد فيها » ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء و لا معصومين لا آدم نفسه و من يجري مجراه من الأنبياء و المعصومين و معنى قولهم « و نحن نسبح بحمدك » نتكلم بالحمد لك و النطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى « و الملائكة يسبحون بحمد ربهم » و إنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله الثناء عليه و الشكر له و هذا تنزيه له و اعتراف بأنه أهل لأن ينزه و يعظم و يثني عليه عن مجاهد و قيل معنى « نسبح بحمدك » نصلي لك كقوله « فلو لا أنه كان من المسبحين » أي من المصلين عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل و منه قول جرير :
قبح الإله وجوه تغلب كلما
سبح الحجيج و كبروا إهلالا و قوله « و نقدس لك » أي ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص و لا نضيف إليك القبائح فاللام على هذا زائدة نقدسك و قيل نقدس لك أي نصلي لأجلك و قيل نطهر أنفسنا من الخطايا و المعاصي قوله « إني أعلم ما لا تعلمون » قيل أراد ما أضمره إبليس من الكبر و العجب و المعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء و الصالحين عن قتادة و قيل أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح و روي عن أبي عبد الله قال إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا قال فلما أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون فقال الله تعالى للملائكة إني أعرف بالمصلحة منكم و هو معنى قوله « أعلم ما لا تعلمون » و هذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه لو كان يحسن منه كل شيء لم يكن لهذا الكلام معنى لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح .

النظم

و اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا و هي نعمة
مجمع البيان ج : 1 ص : 179
الحياة ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض و ما فيها و بخلق السماء ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم (عليه السلام) و ما أعطاه من الفضيلة فكأنه قال اذكر لهم كيف تكفرون بالله و قد فعل بكم كذا و كذا و أنعم عليكم بكذا أو كذا .
وَ عَلَّمَ ءَادَمَ الأَسمَاءَ كلَّهَا ثُمَّ عَرَضهُمْ عَلى الْمَلَئكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونى بِأَسمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(31)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أهل البصرة هؤلاء بمدة واحدة لا يمدونها إلا على قدر خروج الألف و يمدون أولاء كأنهم يجعلونه كلمتين و الباقون يمدون مدتين في كل القرآن فأما الهمزتان من كلمتين نحو « هؤلاء إن كنتم صادقين » و نحوها فأبو جعفر و نافع برواية ورش و ابن كثير برواية القواس و يعقوب يهمزون الأولى و يخففون الثانية و يشيرون بالكسرة إليها و كذلك يفعلون في كل همزتين متفقتين تلتقيان من كلمتين مكسورتين كانتا أو مضمومتين أو مفتوحتين فالمكسورتان على البغاء إن أردن و المضمومتان أولياء أولئك ليس في القرآن غيره و المفتوحتان جاء أحدكم و شاء أنشره و أبو عمرو و البزي بهمزة واحدة فيتركان إحداهما أصلا إذا كانتا متفقتين و نافع برواية إسماعيل و ابن كثير برواية ابن فليح بتليين الأولى و تحقيق الثانية و إذا اختلفتا فاتفقوا على همز الأولى و تليين الثانية نحو السفهاء إلا و البغضاء إلى يوم القيامة فأما ابن عامر و عاصم و الكسائي فإنهم يهمزون همزتين في جميع ذلك متفقتين كانتا أو مختلفتين أما الحذف و التليين فللتخفيف و أما الهمز فللحمل على الأصل .

اللغة

في اشتقاق آدم قولان ( أحدهما ) أنه مأخوذ من أديم الأرض فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته صرفته ( و الثاني ) أنه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون و الصفة فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرفه و الأدمة و السمرة و الدكتة و الورقة متقاربة المعنى و آدم أبو البشر (عليه السلام) قال صاحب العين الأدمة في الناس شربة من سواد و هي السمرة و في الإبل و الظباء بياض و كل لفظة عموم على وجه الاستيعاب و حقيقته للإحاطة بالأبعاض يقال أ بعض القوم جاءك أم كلهم و يكون تأكيدا مثل أجمعون إلا أنه يبدأ في الذكر بكل كقوله تعالى « فسجد الملائكة كلهم أجمعون » لأن كلا قد يلي العوامل و أجمعون لا يكون إلا تابعا و العرض من قولهم عرضت الشيء عليه و عرضت الجند قال الزجاج أصله في اللغة الناحية من نواحي الشيء فمن ذلك العرض خلاف الطول و عرض
 

<<        الفهرس        >>