جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 131
به و تصدقه و قد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت و ذلك استعارة ( و ثالثها ) أن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان و لا يخرج عنها الكفر كقوله صم بكم عمي و كقول الشاعر
أصم عما ساءه سميع ) و قول الآخر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا
و لكن لا حياة لمن تنادي و المعنى أن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها و صاروا بمنزلة من لا يفهم و لا يبصر و لا يسمع عن الأصم و أبي مسلم الأصفهاني ( و رابعها ) أن الله وصف من ذمه بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن النظر و الاستدلال فلم ينشرح له فهو خلاف من ذكره في قوله أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه و مثل قوله « أم على قلوب أقفالها » و قوله « و قالوا قلوبنا غلف و قلوبنا في أكنة » و يقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع فقال بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا و قال و طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون و يبين ذلك قوله تعالى « قل أ رأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم » فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع و البصر فدل هذا على أن الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه كما لا ينتفع بالسمع و البصر مع أخذهما و إنما يكون ضيقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر و الاستدلال الفاصل بين الحق و الباطل و هذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن لأن الشجاعة محلها القلب فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة لو كانت فإن لا تكون الشجاعة أولى قال طرفة :
فالهبيت لا فؤاد له
و الثبيت قلبه قيمه و كما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له و أنه يراعة و أنه مجوف كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه و إقامة الحجة عليه بأنه مختوم على قلبه و مطبوع عليه و ضيق صدره و قلبه في كنان و في غلاف و هذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي و إنما قال ختم الله و طبع الله لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى فجاز ذلك اللفظ كما يقال أهلكته فلانة إذا أعجب بها و هي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في اتباعها .

سؤال

إن قيل لم خص هذه الأعضاء بالذكر .

فالجواب

قيل إنها طرق العلم فالقلب محل العلم و طريقه إما السماع أو الرؤية .
وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَ مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)
مجمع البيان ج : 1 ص : 132

اللغة

الناس و البشر و الإنس نظائر و هي الجماعة من الحيوان المتميزة بالصورة الإنسانية و أصله أناس من الإنس و وزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف و اللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا و الأصل لكن إنا و قيل الناس مأخوذة من النوس و هو الحركة و تصغيره نويس و وزنه فعل و قيل أخذ من الظهور فسمي ناسا و إنسانا لظهوره و إدراك البصر إياه يقال آنست ببصري شيئا و قال الله سبحانه إني آنست نارا و الإنسان واحد و الناس جمعه لا من لفظه و قيل أخذ من النسيان لقوله تعالى « فنسي و لم نجد له عزما » و أصل الإنسان إنسيان و لذلك قيل في تحقيره و تصغيره أنيسيان فرد إلى الأصل و اليوم الآخر يوم القيامة و إنما سمي آخرا لأنه يوم لا يوم بعده سواه إذ ليس بعده ليلة و قيل لأنه متأخر عن أيام الدنيا و إنما فتح نون من عند التقاء الساكنين استثقالا لتوالي الكسرتين لو قلت من الناس فأما عن الناس فلا يجوز فيه إلا الكسر لأن أول عن مفتوح و من يقول النون تدغم في الياء فمنهم من يدغم بغنة و منهم من يدغم بغير غنة .

الإعراب

من يقول موصول و صلة و هو مرفوع بالابتداء أو بالظرف على ما تقدم بيانه و قوله « آمنا بالله و باليوم الآخر » حديث يتعلق بقوله يقول و ما حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ و الخبر كما يدخل ليس عليهما و فيه نفي الحال كما في ليس فأجري مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل و هم مرفوع لأنه اسم ما و الباء في قوله « بمؤمنين » مزيدة دخلت توكيدا للنفي و هو حرف جار و مؤمنين مجرور به و بمؤمنين في موضع نصب بكونه خبر ما و لفظة من تقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث و لذلك عاد الذكر إليه مجموعا على المعنى و منه قول الفرزدق :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فثني الضمير العائد إلى من على المعنى .

النزول

نزلت في المنافقين و هم عبد الله بن أبي بن سلول و جد بن قيس و معتب بن قشير و أصحابهم و أكثرهم من اليهود .

المعنى

بين الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله و ما أنزل على رسوله من ذكر البعث فيظهرون كلمة الإيمان و كان قصدهم أن يطلعوا على أسرار
مجمع البيان ج : 1 ص : 133
المسلمين فينقلوها إلى الكفار أو تقريب الرسول إياهم كما كان يقرب المؤمنين ثم نفى عنهم الإيمان فقال « و ما هم بمؤمنين » و في هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان و الإقرار بالبعث فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم و هذا يدل على فساد قول من يقول الإيمان مجرد القول .
يخَدِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ مَا يخْدَعُونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَشعُرُونَ(9)

القراءة

قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ما يخادعون إلا أنفسهم و الباقون « و ما يخدعون » .

الحجة

حجة من قرأ « يخدعون » أن فعل هنا أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين و يدل عليه قوله في الآية الأخرى « يخادعون الله و هو خادعهم » و حجة من قرأ يخادعون هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك و يعاوضه إياه فيكون الفعل كأنه من اثنين فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت و ذكر حمارا أراد الورود
يذكر من أنى و من أين شربه
يؤامر نفسية كذي الهجمة الإبل فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو تركه الورود و التمثيل بينهما بمنزلة نفسين .

اللغة

أصل الخدع الإخفاء و الإبهام بخلاف الحق و التزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر و خديعة و قالوا إنك لأخدع من ضب حرشته و خادعت فلانا فخدعته و النفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح و النفس بمعنى التأكيد تقول جاءني زيد نفسه و النفس بمعنى الذات و هو الأصل و يقال النفس غير الروح و يقال هما اسمان بمعنى واحد و يشعرون يعلمون و أصل الشعر الإحساس بالشيء من جهة تدق و من هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى و الوزن و لا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف و التخيل .

الإعراب

يخادعون فعل و فاعل و النون علامة الرفع و الجملة في موضع نصب بكونها حالا و ذو الحال الضمير الذي في قوله « آمنا » العائد إلى من و الله نصب بيخادعون
مجمع البيان ج : 1 ص : 134
و الذين آمنوا عطف و ما نفي و إلا إيجاب و أنفسهم نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية و ما نفي و يشعرون فعل و فاعل و كل موضع يأتي فيه إلا بعد نفي فهو إيجاب و نقض للنفي .

المعنى

معنى قوله « يخادعون الله » أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه و يعلم أنه لا يخفى عليه خافية و هذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله و هو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع و هذا يكون من العارف و غير العارف و قيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله و معصيته معصية الله فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هذا كقوله تعالى و إن يريدوا أن يخدعوك و المفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله و عاقبت اللص و طارقت النعل فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم و قوله « و الذين آمنوا » أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا و هم غير مؤمنين أو بمجالستهم و مخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم و التقية أيضا تسمى خداعا فكأنهم لما أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعا من حيث أنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم و معنى قوله « و ما يخدعون إلا أنفسهم » أنهم و إن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت و هم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم « و ما يشعرون » أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال أنه قاتل فلانا و لم يقتل إلا نفسه و قوله « و ما يشعرون » يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق و بأنهم لا يعلمون ذلك .
فى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ(10)

القراءة

قرأ ابن عامر و حمزة فزادهم الله بإمالة الزاي و كذلك شاء و جاء و قرأ أهل الكوفة « يكذبون » بفتح الياء مخففا و الباقون يكذبون .

الحجة

حجة من أمال الألف من زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين و بيض جمع أعين و أبيض لتصح الياء و لا تقلب إلى
مجمع البيان ج : 1 ص : 135
الواو و حجة من قرأ « يكذبون » أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة و ما بعدها لأن قولهم آمنا بالله كذب منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم و ما و صلته بمعنى المصدر و في قولهم فيما بعد إذا خلوا إلى شياطينهم إنا معكم دلالة أيضا على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم و إذا كان أشبه بما قبله و ما بعده كان أولى و حجة من قرأ يكذبون بالتشديد قوله « و لقد كذبت رسل » و قوله « و إن كذبوك فقل لي عملي » و قوله « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » و قوله « و إن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك » و نحو ذلك و التكذيب أكثر من الكذب لأن كل من كذب صادقا فقد كذب و ليس كل من كذب مكذبا فكأنه قال و لهم عذاب أليم بتكذيبهم و أدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى .

اللغة

المرض العلة في البدن و نقيضه الصحة قال سيبويه أمرضته جعلته مريضا و مرضته قمت عليه و وليته و زاد فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله تعالى « و زدناهم هدى » و « زاده بسطة » و مصدره الزيادة و الزيد قال
كذلك زيد المرء بعد انتقاصه ) و الأليم الموجع فعيل بمعنى مفعل كالسميع بمعنى المسمع و النذير بمعنى المنذر و البديع بمعنى المبدع قال ذو الرمة
يصك وجوهها وهج أليم ) و الكذب ضد الصدق و هو الإخبار عن الشيء لا على ما هو به و الكذب ضرب من القول و هو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قوله
قد قالت الأنساع للبطن الحقي ) جاز أيضا في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله :
و ذبيانية وصت بنيها
بأن كذب القراطف و القروف فيكون في ذلك انتفاء لها كما أنه إذا أخبر عن الشيء بخلاف ما هو به كان فيه انتفاء للصدق أي كذب القراطف فأوجدوها بالغارة .

المعنى

« في قلوبهم مرض » المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق بلا خلاف و إنما سمي الشك في الدين مرضا لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا و كذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا و قيل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنه في البدن فتور الأعضاء و تقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله و رسوله مرض أي شك حذف المضاف
مجمع البيان ج : 1 ص : 136
و أقيم المضاف إليه مقامه و قوله « فزادهم الله مرضا » قيل فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه ازدادوا شكا عند ما زاد الله من البيان بالآيات و الحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح (عليه السلام) « لم يزدهم دعائي إلا فرارا » لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح (عليه السلام) نسب إليه و كذلك قوله « و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم » الآيات لم تزدهم رجسا و إنما ازدادوا رجسا عندها ( و ثانيها ) ما قاله أبو علي الجبائي أنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة و بتمكنه فيها و ظهور المسلمين و قوتهم فزادهم الله غما بما زاده من التمكين و القوة و أمده به من التأييد و النصرة ( و ثالثها ) ما قاله السدي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا و هذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى « فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله » أي من ترك ذكر الله ( و رابعها ) أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم و مخازيهم فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم و مساويهم و الإخبار عن خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم و سمي الغم مرضا لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض ( و خامسها ) ما قاله أبو مسلم الأصفهاني أن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم » فكأنه دعاء عليهم بأن يخليهم الله و ما اختاروه و لا يعطيهم من زيادة التوفيق و الألطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلانا لهم و هو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم و إن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم ثم قال « و لهم عذاب أليم » و هو عذاب النار « بما كانوا يكذبون » أي بتكذيبهم الله و رسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولهم « آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين » .
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نحْنُ مُصلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لَكِن لا يَشعُرُونَ(12)

القراءة

قرأ الكسائي قيل و غيض و سيء و سيئت و حيل و سيق و جيء بضم أوائل ذلك كله و روي عن يعقوب مثل ذلك و وافقهما نافع في سيء و سيئت و ابن عامر فيهما و في حيل و سيق و الباقون يكسرون كلها .

الحجة

في هذه كلها ثلاث لغات الكسر و إشمام الضم و قول بالواو فأما قيل بالكسر فعلى نقل حركة العين إلى الفاء لأن أصله قول ثم قلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها و هو قياس مطرد في كل ما اعتلت عينه و أما الإشمام فلأجل الدلالة على الأصل
مجمع البيان ج : 1 ص : 137
مع التخفيف .

اللغة

الإفساد إحداث الفساد و هو كل ما تغير عن استقامة الحال و الصلاح نقيض الفساد و الأرض مستقر الحيوان و يقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها قال :
إذا ما استحمت أرضه من سمائه
جرى و هو مودوع و واعد مصدق .

الإعراب

إذا لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفا زمانيا و فيها معنى الشرط و إنما يعمل فيها جوابها ففي هذه الآية إذا في محل نصب لأنه ظرف قالوا لأنه الجواب و لا يجوز أن يعمل فيه قيل لهم لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل و المضاف إليه لا يعمل في المضاف و كذلك قوله « و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا » و إذا مبني و إنما بني لتضمنه معنى في و لزومه إياه و قد يكون إذا ظرفا مكانيا في نحو قولك خرجت فإذا الناس وقوف أي ففي المكان الناس وقوف و يجوز أن ينصب وقوفا على الحال لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبرا عن الجثة و قيل مبني على الفتح و كذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح و لا حرف نهي و هي تعمل الجزم في الفعل و تفسدوا مجزوم بلا و علامة الجزم فيه سقوط النون و الواو ضمير الفاعلين و ما في قوله « إنما » كافة كفت إن عن العمل فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأ و خبرا و هو قوله « نحن مصلحون » فنحن مبتدأ و مصلحون خبره و موضع الجملة نصب بقالوا كما تقول قلت حقا أو باطلا و نحن مبنية لمشابهتها للحروف و بنيت على الضم لأنها من ضمائر الرفع و الضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع و الضمة بعض الواو و الواو علامة الجمع في نحو ضاربون و يضربون و قوله « لا تفسدوا في الأرض » جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شيء فهي اسم ما لم يسم و قوله إلا كلمة تنبيه و افتتاح للكلام تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قوله إلا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله و أصله لا دخل عليه ألف الاستفهام و الألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير و التحقيق كقوله « أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى » لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى و هم في إنهم في موضع نصب بأن و هم الآخر يجوز أن يكون فصلا على ما فسرناه قبل و يجوز أن يكون مبتدأ و المفسدون خبره و الجملة خبر إن و ضم الميم من هم لالتقاء الساكنين ردوه إلى الأصل .

مجمع البيان ج : 1 ص : 138

النزول

الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة و روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد و الأول يقتضيه نظم الكلام و يجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء فيكون قول سلمان محمولا على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية .

المعنى

المراد « و إذا قيل » للمنافقين « لا تفسدوا في الأرض » بعمل المعاصي و صد الناس عن الإيمان على ما روي عن ابن عباس أو بممالأة الكفار فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي أو بتغيير الملة و تحريف الكتاب على ما قاله الضحاك « قالوا إنما نحن مصلحون » و هو يحتمل أمرين أحدهما أن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين و الآخر أنهم جحدوا ذلك و قالوا أنا لا نعمل بالمعاصي و لا نمالىء الكفار و لا نحرف الكتاب و كان ذلك نفاقا منهم كما قالوا « آمنا بالله » و لم يؤمنوا ثم قال إلا أنهم أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا « هم المفسدون » و هذا تكذيب من الله تعالى لهم « و لكن لا يشعرون » أي لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد و ليس بصلاح و لو علموا ذلك لرجي صلاحهم و قيل لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب و هذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف لقوله « لا يعلمون » و إنما جاز تكليفهم و إن لم يشعروا أنهم على ضلال لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك .
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاس قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفَهَاءُ وَ لَكِن لا يَعْلَمُونَ(13)

القراءة

« السفهاء » إلا أهل الكوفة و ابن عامر حققوا الهمزتين و أهل الحجاز و أبو عمرو همزوا الأولى و لينوا الثانية و كذا كل همزتين مختلفتين من كلمتين و قد ذكرنا الوجه فيها حيث ذكرنا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة و هو قوله : « أنذرتهم » .

اللغة
ا

لسفهاء جمع سفيه و السفيه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع و المضار و لذلك سمى الله الصبيان و النساء سفهاء بقوله « و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما » و قال قطرب السفيه العجول الظلوم القائل خلاف الحق
مجمع البيان ج : 1 ص : 139
و قال مؤرج السفيه الكذاب البهات المتعمد بخلاف ما يعلم و قيل السفه خفة الحلم و كثرة الجهل يقال ثوب سفيه إذا كان رقيقا باليا و سفهته الرياح أي طيرته و قد جاء في الأخبار أن شارب الخمر سفيه و الألف و اللام في الناس و في السفهاء للعهد لا للجنس و المراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم .

الإعراب

قوله « كما آمن » الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف و ما مع صلته بمعنى المصدر أي آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس فحذف الموصوف و أقام الصفة مقامه و الهمزة في أ نؤمن للإنكار و أصلها الاستفهام و مثله أ نطعم من لو يشاء الله أطعمه و إذا ظرف لقوله « قالوا أ نؤمن » و قد مضى الكلام فيه .

المعنى

المراد بالآية و إذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما أنزل عليه كما صدقه أصحابه و قيل كما صدق عبد الله بن سلام و من آمن معه من اليهود قالوا أ نصدق كما صدق الجهال ثم كذبهم الله تعالى و حكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة لأن الجاهل إنما يسمى سفيها لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه و يكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به .
وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلى شيَطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نحْنُ مُستهْزِءُونَ(14)

القراءة

بعض القراء ترك الهمزة من « مستهزءون » و قوله « خلوا إلى » قراءة أهل الحجاز خلو لي حذفوا الهمزة و ألقوا حركتها على الواو قبلها و كذلك أمثاله و الباقون أسكنوا الواو و حققوا الهمزة .

الحجة

قال سيبويه الهمزة المضمومة المكسور ما قبلها تجعلها إذا خففتها بين بين و كذلك الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين و ذهب الأخفش إلى أن تقلب الهمزة ياء في مستهزيون قلبا صحيحا من أجل الكسرة التي قبلها و لا تجعلها بين بين و لا تقلبها واوا مع تحركها بالضمة لخروجه إلى ما لا نظير له أ لا ترى أنه واو مضمومة قبلها كسرة و ذلك مرفوض عندهم .

اللغة

اللقاء نقيض الحجاب قال الخليل كل شيء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه و أصل اللقاء الاجتماع مع الشيء على طريق المقاربة و الاجتماع قد يكون لا على
مجمع البيان ج : 1 ص : 140
طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل و الخلأ نقيض الملأ و يقال خلوت إليه و خلوت معه و يقال خلوت به على ضربين أحدهما بمعنى خلوت معه و الآخر بمعنى سخرت منه و قد ذكرنا معنى الشيطان في مفتتح سورة الفاتحة و يستهزءون أي يهزءون و مثله يستسخرون أي يسخرون و قر و استقر و علا قرنه و استعلى قرنه و رجل هزاءة يهزأ بالناس و هزءة يهزأ به الناس و هذا قياس .

الإعراب

« إنا » أصله إننا لكن النون حذفت لكثرة النونات و المحذوفة النون الثانية من إن لأنها التي تحذف في نحو و إن كل لما جميع و قد جاء على الأصل في قوله « إنني معكما » و معكم انتصب انتصاب الظروف نحو إنا خلفكم أي إنا مستقرون معكم و القراءة بفتح العين و يجوز للشاعر إسكان العين قال :
و ريشي منكم و هواي معكم
و إن كانت زيارتكم لماما .

المعنى

« و إذا لقوا الذين آمنوا » يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين « قالوا آمنا » أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كما صدقتم أنتم و « إذا خلوا إلى شياطينهم » قيل رؤساؤهم من الكفار عن ابن عباس و قيل هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنهم كهانهم « قالوا إنا معكم » أي على دينكم « إنما نحن مستهزءون » أي نستهزىء بأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و نسخر بهم في قولنا آمنا .
اللَّهُ يَستهْزِىُ بهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فى طغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)

اللغة

المد أصله الزيادة في الشيء و المد الجذب لأنه سبب الزيادة في الطول و المادة كل شيء يكون مددا لغيره و قال بعضهم كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو مددت بغير ألف كما تقول مد النهر و مده نهر آخر و كل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو أمددت بالألف كما يقال أمد الجرح لأن المدة من غير الجرح و أمددت الجيش و الطغيان من قولك طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحد و الطاغية الجبار العنيد و العمة التحير يقال عمه يعمه فهو عمه و عامة قال رؤبة :
مجمع البيان ج : 1 ص : 141

و مهمة أطرافه في مهمة
أعمى الهدى بالحائرين العمة .

الإعراب

« يعمهون » جملة في موضع الحال .

و المعنى
قيل في معنى الآية و تأويلها وجوه أحدها أن يكون معنى « الله يستهزىء بهم » يجازيهم على استهزائهم و العرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه و في التنزيل و جزاء سيئة سيئة مثلها و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و قال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا و إنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة ( و ثانيها ) أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم تخطئته إياهم و تجهيله لهم في إقامتهم على الكفر و إصرارهم على الضلال و العرب تقيم الشيء مقام ما يقاربه في معناه قال الشاعر :
إن دهرا يلف شملي بجمل
لزمان يهم بالإحسان و قال آخر :
كم أناس في نعيم عمروا
في ذري ملك تعالى فبسق
سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دما حين نطق و الدهر لا يوصف بالسكوت و النطق و الهم و إنما ذكر ذلك على الاستعارة و التشبيه ( و ثالثها ) أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم و يهلكهم من حيث لا يعلمون و قد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة و إنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة و المراد به استدراجهم إلى الهلاك و العقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم ( و رابعها ) أن معنى استهزائه بهم أنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة و المناكحة و المدافنة و غير ذلك من الأحكام و إن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق فهو سبحانه كالمستهزىء بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا ثم ميزهم منهم في الآخرة ( و خامسها ) ما روي عن ابن عباس أنه قال يفتح لهم و هم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم و فتح لهم باب آخر في موضع آخر فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد
مجمع البيان ج : 1 ص : 142
عليهم فيضحك المؤمنون منهم فلذلك قال الله عز و جل : « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون » و هذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى : « و يمكرون و يمكر الله » و « يخادعون الله و هو خادعهم » و أما قوله « و يمدهم في طغيانهم يعمهون » ففيه وجهان : ( أحدهما ) أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا و هم مع ذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و الآخر أنه يريد أن يتركهم من فوائده و منحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا لهم كشرح الصدر و تنوير القلب فهم في طغيانهم أي كفرهم و ضلالهم يعمهون أي يتحيرون لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا و ترددوا .
أُولَئك الَّذِينَ اشترَوُا الضلَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبحَت تجَرَتُهُمْ وَ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ(16)

القراءة

قرأ جميع القراء « اشتروا الضلالة » بضم الواو و في الشواذ عن يحيى بن يعمر أنه كسرها تشبيها بواو لو في قوله لو استطعنا و روي عن يحيى بن وثاب أنه ضم واو لو و أو تشبيها بواو الجمع .

الحجة

الواو في « اشتروا » ساكنة فإذا سقطت همزة الوصل التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان فحرك الأول منهما لالتقائهما و صار الضم أولى بها ليفصل بالضم بينها و بين واو لو و أو يدل على ذلك اتفاقهم على التحريك بالضم في نحو قوله « لتبلون » و « لترون الجحيم » و مصطفو الله للدلالة على الجمع و يدل على تقرير ذلك في هذه الواو أنهم شبهوا بها الواو التي في أو و لو فحركوها بالضم تشبيها بها فكما شبهوا الواو التي في أو بالتي تدل على الجمع كذلك شبهوا هذه بها فأجازوا فيها الكسر أ لا ترى أنهم أجازوا الضم في لو استطعنا تشبيها بالتي للجمع و مثل هذا إجازتهم الجر في الضارب الرجل تشبيها بالحسن الوجه و إجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل .

اللغة

حقيقة الاشتراء الاستبدال و العرب تقول لمن تمسك بشيء و ترك غيره قد اشتراه و ليس ثم شراء و لا بيع قال الشاعر :
أخذت بالجمعة رأسا أزعرا
و بالثنايا الواضحات الدردرا
و بالطويل العمر عمرا جيدرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
مجمع البيان ج : 1 ص : 143
و الربح الزيادة على رأس المال و منه ( و من نجا برأسه فقد ربح ) و التجارة التعرض للربح في البيع و قوله « فما ربحت تجارتهم » أي فما ربحوا في تجارتهم و العرب تقول ربح بيعك و خسر بيعك و خاب بيعك على معنى ربحت في بيعك و إنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها .

الإعراب

« أولئك » موضعه رفع بالابتداء و خبره « الذين اشتروا الضلالة بالهدى » و ما حرف نفي و كان صورته صورة الفعل و يستعمل على نحوين أحدهما أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد مثل كان زيد قائما فإذا استعمل على هذا فلا بد له من خبر لأن الجملة غير مكتفية بنفسها فيزداد خبر حديثا عن الاسم و يكون اسمه و خبره في الأصل مبتدأ و خبرا فيجب لذلك أن يكون خبره هو الاسم أو فيه ذكر منه كما أن في الآية الواو في موضع الرفع لأنه اسم كان و مهتدين منصوب بأنه خبره و الياء فيه علامة النصب و الجمع و حرف الإعراب و النون عوض من الحركة و التنوين في الواحد و كان في الأصل مهتديين سكنت الياء الأولى التي هي لام الفعل استثقالا للحركة عليها ثم حذفت لالتقاء الساكنين و فتحت النون فرقا بينها و بين نون التثنية و الآخر من نحوي كان ما هو فعل حقيقي يدل على زمان و حدث كقوله تعالى : « إلا أن تكون تجارة » أي تحدث فإذا استعمل هكذا فهي جملة مستقلة لا تحتاج إلى خبر .

المعنى

أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال : « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » قال ابن عباس أخذوا الضلالة و تركوا الهدى و معناه استبدلوا الكفر بالإيمان و متى قيل كيف قال ذلك و إنما كانوا منافقين و لم يتقدم نفاقهم إيمانا فنقول للعلماء فيه وجوه ( أحدها ) أن المراد باشتروا استحبوا و اختاروا لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه عن قتادة ( و ثانيها ) أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر فتركوا ذلك إلى الكفر فكأنهم استبدلوه به ( و ثالثها ) أنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا لأنهم كانوا يبشرون بمحمد و يؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما بعث كفروا به فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان عن الكلبي و مقاتل و قوله « فما ربحت تجارتهم » أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان و العذاب بالثواب و قوله : « و ما كانوا مهتدين » أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل أراد سبحانه أن ينفي عنهم
مجمع البيان ج : 1 ص : 144
الربح و الهداية فإن التاجر قد يخسر و لا يربح و يكون على هدى فإن قيل كيف قال « فما ربحت تجارتهم » في موضع ذهبت فيه رءوس أموالهم فالجواب أنه ذكر الضلالة و الهدى فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا و هلكوا و المعنى فيه أنه ذهبت رءوس أموالهم و يحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل و هو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى استَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضاءَت مَا حَوْلَهُ ذَهَب اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فى ظلُمَت لا يُبْصِرُونَ(17)

اللغة

المثل و المثل و الشبه نظائر و حقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول و مثاله قول كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا
و ما مواعيده إلا الأباطيل فمواعيد عرقوب علم في كل ما لا يصح من المواعيد و منه التمثال لأنه يشبه الصورة و الذي قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى : « و الذي جاء بالصدق و صدق به » ثم قال « أولئك هم المتقون » قال الشاعر :
و إن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد و استوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب و قيل استوقد أي طلب الوقود و الوقود بفتح الواو الحطب و النار جوهر مضيء حار محرق و أصله من النور يقال نار و أنار و استنار بمعنى و المنارات العلامات و أضاء يكون لازما و متعديا يقال أضاء الشين بنفسه و أضاء غيره و الذي في الآية متعد و الترك للشيء و الكف عنه و الإمساك نظائر و الظلمات جمع ظلمة و أصلها انتقاص الحق من قوله و لم تظلم منه شيئا أي لم تنقص و منه و من أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه و الإبصار إدراك الشيء بحاسة البصر يقال أبصر بعينه و الإبصار بالقلب مشبه به .

الإعراب

مثلهم مبتدأ و كمثل الذي خبره و الكاف زائدة تقديره مثلهم مثل الذي استوقد نارا و نحوه قوله « ليس كمثله » أي ليس مثله شيء و استوقد نارا و ما اتصل به من
مجمع البيان ج : 1 ص : 145
صلة الذي و العائد إلى المضمر الذي في استوقد و لما يدل على وقوع الشيء لوقوع غيره و هو بمعنى الظرف و العامل فيه جوابه و تقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي طفئت حين أضاءت و ما في قوله « ما حوله » اسم موصول منصوب بوقوع الإضاءة عليه و حوله نصب على الظرف و هو صلة ما يقال هم حوله و حوليه و حوالة و حواليه و قوله « ذهب الله بنورهم » أي أذهب الله نورهم و الفعل الذي لا يتعدى يتعدى إلى المفعول بحرف الجر و بهمزة النقل و الباء في قوله « بنورهم » يتعلق بذهب و « في ظلمات » يتعلق بتركهم و قوله « لا يبصرون » في موضع نصب على الحال و العامل فيه تركهم أي تركهم غير مبصرين .

المعنى

« مثلهم » أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر « كمثل الذي استوقد » أي أوقد نارا أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها و استدفأ و رأى ما حوله فاتقى ما يحذر و يخاف و أمن فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان و استناروا بنورها و اعتزوا بعزها فناكحوا المسلمين و وارثوهم و أمنوا على أموالهم و أولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة و الخوف و بقوا في العذاب و ذلك معنى قوله « فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم » و هذا هو المروي عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي و كان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية و لكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء و حذف جواب لما إيجازا و اختصارا لدلالة الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب :
دعاني إليها القلب إني لأمره
مطيع فما أدري أ رشد طلابها و تقديره أ رشد أم غي طلابها فحذف للإيجاز و معنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة و ذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم « انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا » و قيل في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر و هو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله من كفرهم و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب و عطا الآية نزلت في اليهود و انتظارهم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إيمانهم به و استفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به و ذلك أن قريظة و النضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)
مجمع البيان ج : 1 ص : 146
بالنبوة و أن أمته خير الأمم و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كل سنة فيحضهم على طاعة الله عز و جل و إقامة التوراة و الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه و انصروه و قد كنت أطمع أن أدركه ثم مات قبل خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقبلوا منه ثم لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل .

سؤال

كيف الله شبه المنافقين أو اليهود و هم جماعة بالذي استوقد نارا و هو واحد .

الجواب

على وجوه ( أحدها ) أن الذي في معنى الجمع كما قيل في الآية الأخرى و الذي جاء بالصدق و صدق به ( و ثانيها ) أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل :
أ بني كليب أن عمي اللذا
قتلا الملوك و فككا الأغلالا ( و ثالثها ) أن يكون الكلام على حذف كأنه قال مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد نارا ثم حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي :
و كيف تواصل من أصبحت
خلالته كأبي مرحب يريد كخلالة أبي مرحب ( و رابعها ) أن يقال أراد بالمستوقد الجنس لما في الذي من الإبهام إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه و على هذا يكون جواب « لما أضاءت ما حوله » محذوفا كأنه قال طفئت و الضمير في قوله « ذهب الله بنورهم » يعود إلى المنافقين ( و خامسها ) أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال بحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم كحال المستوقد نارا و تشبيه الحال بالحال جائز كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار و لو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز و معنى قوله « و تركهم في ظلمات لا يبصرون » معناه لم يفعل الله لهم النور إذ الترك هو الكف عن الفعل بالفعل و هذا إنما يصح فيمن حله فعله و الله سبحانه منزه عن أن يحله فعله فمعناه أنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد و قوله « لا يبصرون » أي لا يبصرون الطريق .

مجمع البيان ج : 1 ص : 147
صمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)

اللغة

الأصم هو الذي ولد كذلك و كذلك الأبكم هو الذي ولد أخرس و أصل الصم السد و الصمم سد الأذن بما لا يقع منه سمع و قناة صماء صلبة مكتنزة الجوف لسد جوفها بامتلائها و حجر أصم صلب و فتنة صماء شديدة و الصمام ما يسد به رأس القارورة و أصل البكم الاعتقال في اللسان و هو آفة تمنع من الكلام و أصل العمى ذهاب الإدراك بالعين و العمى في القلب مثل العمى في العين آفة تمنع من الفهم و يقال ما أعماه من عمى القلب و لا يقال ذلك في العين و إنما يقال ما أشد عماه و ما جرى مجراه و العماية الغواية و العماء السحاب الكثيف المطبق و الرجوع قد يكون عن الشيء أو إلى الشيء فالرجوع عن الشيء هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه و الرجوع إلى الشيء هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه .

الإعراب

« صم بكم عمي » رفع على خبر مبتدإ محذوف أي هؤلاء الذين قصتهم هذه صم بكم عمي .

المعنى

قال قتادة « صم » لا يسمعون الحق « بكم » لا ينطقون به « عمي » لا يبصرونه فهم لا يرجعون عن ضلالتهم و لا يتوبون و إنما شبههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى فكأنهم صم و إذا لم يقروا بالله و برسوله فكأنهم بكم و إذا لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض فكأنهم عمي لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء .
و هذا يدل على أن معنى الختم و الطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم و بين الإيمان لأنه جعل الفهم بالكفر و استثقالهم للحق بمنزلة الصم و البكم و العمي مع صحة حواسهم و كذلك قوله طبع الله على قلوبهم و أضلهم و أصمهم و أعمى أبصارهم و أزاغ الله قلوبهم فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم و أمره لهم بالطاعة و الإيمان لا أنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان و هذا كما قيل في المثل حبك الشيء يعمي و يصم قال مسكين الدارمي :
أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخدر
و تصم عما كان بينهما
أذني و ما في سمعها وقر و في التنزيل « و تراهم ينظرون إليك و هم لا يبصرون » و قوله « فهم لا يرجعون » يحتمل أمرين أحدهما أنه على الذم و الاستبطاء عن ابن عباس و الثاني أنهم لا يرجعون إلى الإسلام عن ابن مسعود .

مجمع البيان ج : 1 ص : 148
أَوْ كَصيِّب مِّنَ السمَاءِ فِيهِ ظلُمَتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يجْعَلُونَ أَصبِعَهُمْ فى ءَاذَانهِم مِّنَ الصوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ محِيط بِالْكَفِرِينَ(19)

القراءة

ظلمات أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع و روي في الشواذ عن الحسن و أبي السماك بسكون اللام و عن بعضهم بفتح اللام و أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين في موضع الخفض و النصب و روي ذلك عن الكسائي و الباقون لا يميلون .

الحجة

الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين فتارة عدلوا إلى الفتح فقالوا ظلمات و تارة عدلوا إلى السكون فقالوا ظلمات و كلا الأمرين حسن في اللغة و إنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة و الراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين و كلما كثرت الكسرات غلبت الإمالة و حسنتها و للقراء في الإمالة مذاهب و اختلافات يطول استقصاؤها و أبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية و جاوز النهاية في احتجاجاتهم و ذكر من التحقيق فيها و التدقيق ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان فالتعمق في إيراد أبوابها و حججها و الغوص إلى لججها لا يليق بتفسير القرآن و كذلك ما يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة و الإدغام و المد فإن لذلك كتبا مؤلفة يرجع إليها و يعول عليها فالرأي أن نلم بأطرافها و نقتصر على بعض أوصافها فيما يأتي من الكتاب أن شاء الله تعالى .

اللغة

الصيب المطر أصله صيوب فيعل من الصواب لكن اجتمعت الواو و الياء و أولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة و مثله سيد و جيد و السماء : المعروف و كل ما علاك و أظلك فهو سماء و سماء البيت سقفه و أصابهم سماء أي مطر و أصله سما من سموت فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة و جعل يكون على وجوه ( أحدها ) أن يتعدى إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا أي صيرت ( و ثانيها ) أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله « و جعل الظلمات و النور » ( و ثالثها ) أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى « و جعلوا لله أندادا » أي سموا له ( و رابعها ) أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد
مجمع البيان ج : 1 ص : 149
يفعل كذا و الصواعق جمع صاعقة و هي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق و الصاعقة صيحة العذاب و الحذر طلب السلامة مما يخاف .

الإعراب

« أو » هاهنا للإباحة إذا قيل لك جالس الفقهاء أو المحدثين فكلا الفريقين أهل أن يجالس فإن جالست أحدهما فأنت مطيع و إن جالست الآخر فأنت مطيع و إن جالستهما فأنت مطيع فكذلك هاهنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا و إن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب و إن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب و تقديره أو كأصحاب صيب حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه لأن هذا عطف على قوله « كمثل الذي استوقد نارا » و الصيب ليس بعاقل فلا يعطف على العاقل و يجعلون في موضع الحال من أصحاب الصيب و قوله « فيه ظلمات » جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب و الضمير المتصل بفي عائد إلى صيب أو إلى السماء و « حذر الموت » منصوب بأنه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت قال الزجاج و إنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت قال الشيخ أبو علي المفعول له لا يكون إلا مصدرا لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث و الحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل بل عن فعل آخر .

المعنى

مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم و شدة تحيرهم « كصيب » أي كأصحاب مطر « من السماء » أي منزل من السماء « فيه » أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر « ظلمات » لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار و النجوم بالليل فيظلم الجو « و رعد » قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب و قيل الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و قيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس و قيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب و من قال أنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات و صوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه و قوله « و برق » قيل أنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (عليه السلام) و قيل أنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس و قيل هو مصع ملك من مجاهد و المصاع المجالدة بالسيوف و غيرها قال الأعشى :
إذا هن نازلن أقرانهن
كان المصاع بما في الجؤن و قيل أنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام و في تأويل الآية و تشبيه المثل أقوال
مجمع البيان ج : 1 ص : 150
( أحدها ) أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء و ما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر و ما فيه من البرق بما فيه من البيان و ما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا و الدعاء إلى الجهاد عاجلا عن ابن عباس ( و ثانيها ) أنه مثل للدنيا شبه ما فيها من الشدة و الرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا و ضررا و أن المنافق يدفع عاجل الضرر و لا يطلب آجل النفع ( و ثالثها ) أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة و شبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر و ما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد و خوف القتل و بما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم و ما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم و مناكحتهم و موارثتهم و ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل و الآجل و يقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه ( و رابعها ) ما روي عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق و كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما و حسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و أنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أن ينزل فيهم شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمد صحيح و « إذا أظلم عليهم قاموا » يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما و قوله « و الله محيط بالكافرين » يحتمل وجوها .
( أحدها ) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم و يطلع نبيه على ضمائرهم عن الأصم ( و ثانيها ) أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر :
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا
بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم أي قدرنا عليهم ( و ثالثها ) ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء و منه أحاط بكل شيء علما أي لم يشذ عن علمه شيء ( و رابعها ) أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه و أحيط
مجمع البيان ج : 1 ص : 151
بثمره أي أصابه ما أهلكه و قوله « إلا أن يحاط بكم » معناه أن تهلكوا جميعا .
يَكادُ الْبرْقُ يخْطف أَبْصرَهُمْ كلَّمَا أَضاءَ لَهُم مَّشوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظلَمَ عَلَيهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَب بِسمْعِهِمْ وَ أَبْصرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(20)

اللغة

الخطف أخذ في استلاب يقال خطف يخطف و خطف يخطف لغتان و الثاني أفصح و عليه القراءة و منه الخطاف و يقال للذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه قال النابغة :
خطاطيف حجن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع و قاموا أي وقفوا و المشيئة الإرادة و الشيء ما يصح أن يعلم و يخبر عنه قال سيبويه هو أول الأسماء و أعمها و أبهمها لأنه يقع على المعدوم و الموجود و قيل أنه لا يقع إلا على الموجود و الصحيح الأول و هو مذهب المحققين من المتكلمين و يؤيده قوله تعالى في هذه الآية « إن الله على كل شيء قدير » فإن كل شيء سواه محدث و كل محدث فله حالتان حالة عدم و حالة وجود و إذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه ليخرجه من العدم إلى الوجود و على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد .

الإعراب

كاد من أفعال المقاربة و لا يتم بالفاعل و يحتاج إلى خبر و خبره الفعل المضارع فقوله « يكاد » فعل و البرق مرفوع بأنه اسم يكاد و فاعله و يخطف أبصارهم في موضع نصب بأنه خبر يكاد و كلما أصله كل و ضم إليه ما الجزاء و هو منصوب بالظرف و العامل فيه أضاء و معناه متى ما أضاء لهم مشوا فيه و أضاء في موضع جزم بالشرط و مشوا في موضع الجزاء و إذا أظلم قد تقدم إعراب مثله و لو حرف معناه امتناع الشيء لامتناع غيره و إذا وقع الفعل بعده و هو منفي كان مثبتا في المعنى و إذا وقع مثبتا كان منفيا في المعنى فقوله « و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم » قد انتفى فيه ذهاب السمع و الأبصار بسبب انتفاء المشيئة .

مجمع البيان ج : 1 ص : 152

المعنى

« يكاد البرق يخطف أبصارهم » المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك « كلما أضاء لهم مشوا فيه » لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير و غنيمة أسرعوا و إذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم و وقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب و قيل هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا هذا الذي بشر به موسى فلما نكبوا بأحد وقفوا و شكوا و قوله « و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم » إنما خص السمع و البصر بالذكر لما جرى من ذكرهما في الآيتين فقال « و لو شاء الله » أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم و كفرهم و هذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى « و الله محيط بالكافرين » و قوله « بسمعهم » مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع كقول الشاعر :
كلوا في بعض بطنكم تعيشوا
فإن زمانكم زمن خمص أي بطونكم و المعنى و لو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم و دمر عليهم لأنه على كل شيء قدير و هو مبالغة القادر و قيل إن قوله سبحانه « إن الله على كل شيء قدير » عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه على المعدومات بأن يوجدها و على الموجودات بأن يفنيها و على مقدور غيره بأن يقدر عليه و يمنع منه و قيل هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما و لفظة كل قد يستعمل على غير عموم نحو قوله تعالى « تدمر كل شيء بأمر ربها » .
يَأَيهَا النَّاس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)

اللغة

الخلق أ على تقدير و خلق السموات فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة من غير زيادة و نقصان و الخلق الطبع و الخليقة الطبيعة و الخلاق النصيب .

الإعراب

يا حرف النداء و أي اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة لأنه إنما يتم بأن
مجمع البيان ج : 1 ص : 153
يوصف و صفته تكون باسم الجنس لأنه لما كان لا يتم إلا بصفة و هي لفظة دالة على ما دل أي عليه مخصصة له و كان التخصيص في الإشارة يقع بالجنس ثم بالوصف وصف بأسماء الأجناس كالناس في قوله « يا أيها الناس » فأي منادى مفرد معرفة مبني لأنه وقع موقع حرف الخطاب و هو الكاف و إنما بني على الحركة مع أن الأصل في البناء السكون ليعلم أنه ليس بعريق في البناء و البناء عارض فيه و إنما حرك بالضم لأنه كان في أصله التنوين فلما سقط التنوين في البناء أشبه قبل و بعد الذي قطع عنه الغاية فارتفع و قد ذكر فيه وجوه آخر توجد في مظانها و الناس مرفوع لأنه صفة لأي فتبعه على حركة لفظه و لا يجوز هنا النصب و إن كانت الأسماء المناديات المفردة المعرفة يجوز في صفاتها النصب و الرفع لأن هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة و أي وصلة إليه و يدل على ذلك لزوم ها و هو حرف التنبيه قبل الناس و بنائها و امتناعهم من حذفها فصار ذلك كالإيذان باستئناف نداء و العلم لأن لا يجوز الاقتصار على المنادى قبله كما جاز في سائر المناديات و أجاز المازني في يا أيها الرجل النصب و ذلك فاسد لما ذكرناه و لأنه لا مجاز لذلك في كلام العرب و لم يرو عنها غير الرفع و « الذين من قبلكم » في موضع نصب لأنه عطف على الكاف و الميم في قوله « خلقكم » و هو مفعول به و من قبلكم صلة الذين و لعل حرف ناصب من أخوات إن و قد ذكرنا القول في مشابهة الفعل و عمله النصب و الرفع فيما تقدم و كذلك حكم لعل و شبه بالفعل أظهر لأن معناه الترجي و كم في موضع نصب بكونه اسم لعل و تتقون جملة في موضع الرفع بأنه خبره .

المعنى

هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم و كافرهم إلا من ليس بمكلف من الأطفال و المجانين و روي عن ابن عباس و الحسن أن ما في القرآن من « يا أيها الناس » فإنه نزل بمكة و ما فيه من « يا أيها الذين آمنوا » فإنه نزل بالمدينة « اعبدوا ربكم » أي تقربوا إليه بفعل العبادة و عن ابن عباس أنه قال معناه وحدوه و قوله « الذي خلقكم » أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين و أوجد من تقدم زمانكم من الخلائق و البشر بين سبحانه نعمه عليهم و على آبائهم لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم « لعلكم تتقون » أي خلقكم لتتقوه و تعبدوه كقوله تعالى « و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون » و قيل معناه اعبدوه لتتقوا و قيل معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم و تكفون عما حرم الله و هذا كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد فليس أنه من ذلك على شك و إنما
مجمع البيان ج : 1 ص : 154
يريد أقبله ترشد و إنما أدخل الكلام لعل ترقيقا للموعظة و تقريبا لها من قلب الموعوظ و يقول القائل لأجيره اعمل لعلك تأخذ الأجرة و ليس يريد بذلك الشك و إنما يريد لتأخذ أجرتك و مثله قول الشاعر :
و قلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
نكف و وثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كلمح سراب في الملأ متألق أراد قلتم لنا كفوا لنكف لأنه لو كان شاكا لما قال وثقتم كل موثق و قال سيبويه إنما وردت لفظة لعل على أنه ترج للمخاطبين كما قال « فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى » و أراد بذلك الإبهام على موسى و هارون فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما و طمعكما و الله عز و جل من وراء ذلك و عالم بما يؤول إليه أمر فرعون و قيل فائدة إيراد لفظة لعل هي أن لا يحل العبد أبدا محل الآمن المدل بعمله بل يزداد حالا بعد حال حرصا على العمل و حذرا من تركه و أكثر ما جاءت لفظة لعل و غيرها من معاني الشك فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا فإذا ذكرت الآخرة مفردة جاء اليقين و قيل معناه لعلكم توقون النار في ظنكم و رجائكم و أجرى لعل على عباده دون نفسه و هذا قريب مما قاله سيبويه .
الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض فِرَشاً وَ السمَاءَ بِنَاءً وَ أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تجْعَلُوا للَّهِ أَندَاداً وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ(22)

القراءة

أدغم جماعة من القراء قوله « جعل لكم » فقالوا جعلكم و الباقون يظهرون .

الحجة

فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد و كثرة الحركات و من أظهر و عليه أكثر القراء فلأنهما منفصلان من كلمتين و في الإدغام و اختلاف القراء فيه و الاحتجاجات لهم كلام كثير خارج عن الغرض بعلوم تفسير القرآن فمن أراد ذلك فليطلبه من الكتب المؤلفة فيه .

اللغة

الجعل و الخلق و الإحداث نظائر و الأرض هي المعروفة و الأرض قوائم الدابة و منه قول الشاعر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 155

و أحمر كالديباج أما سماؤه
فريا و أما أرضه فمحول و الأرض الرعدة و في كلام ابن عباس أ زلزلت الأرض أم بي أرض و الفراش و البساط و المهاد نظائر و سمي السماء سماء لعلوها على الأرض و كل شيء كان فوق شيء فهو لما تحته سماء و سما فلان لفلان إذا قصد نحوه عاليا عليه قال الفرزدق :
سمونا لنجران اليمان و أهله
و نجران أرض لم تدبث مقاوله قال الزجاج كل ما علا الأرض فهو بناء و الماء أصله موه و جمعه أمواه و تصغيره مويه و أنزل من السماء أي من ناحية السماء قال الشاعر :
أ منك البرق أرقبه فهاجا ) أي من ناحيتك و الند المثل و العدل قال حسان بن ثابت :
أ تهجوه و لست له بند
فشركما لخيركما الفداء و قال جرير :
أ تيما تجعلون إلي ندا
و ما تيم لذي حسب نديد و قيل الند الضد .

المعنى

معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم بعبادته و الاعتراف بنعمته ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة فقال سبحانه : « الذي جعل لكم الأرض فراشا » أي بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها و تفترشوها و تتصرفوا فيها و ذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون « و السماء بناء » أي سقفا مرفوعا مبنيا « و أنزل من » نحو « السماء » أي من السحاب « ماء فأخرج به » أي بالماء « من الثمرات رزقا لكم » أي عطاء لكم و ملكا لكم و غذاء لكم و هذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم و الذي رزقهم دون من جعلوه ندا له من الأوثان ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله « فلا تجعلوا لله أندادا » و قوله « أنتم تعلمون » يحتمل وجوها ( أحدها ) أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها و لا بأمثالها و أنها لا تضر و لا تنفع ( و ثانيها ) أن يريد أنكم تعقلون و تميزون و من كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف و لزمته الحجة و ضاق عذره في التخلف عن النظر و إصابة الحق ( و ثالثها ) ما قاله مجاهد و غيره أن المراد بذلك أهل التوراة و
 

<<        الفهرس        >>