جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 180

الرجل ما يمدح به أو يذم و يقال عرضه خليقته المحمودة و يقال عرضه حسبه و قال علي بن عيسى هو ناحيته التي يصونها عن المكروه و السب ، و العرض و ما يعرض في الجسم و يغير صفته و يقال عرضت المتاع على البيع عرضا أي أظهرته حتى عرفت جهته و الإنباء و الإعلام و الإخبار واحد و النبأ الخبر و يقال منه أنبأته و نبأته و أنبئوني بأسماء هؤلاء أي أخبروني بها أما المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل نحو أنبأت زيدا عمرا خير الناس و كذلك نبأت فهو هذا في الأصل إلا أنه حمل على المعنى فعدي إلى ثلاثة مفاعيل لأن الإنباء بمعنى الإعلام و دخول هذا المعنى فيه و حصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار و عن أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما بالباء أو بعن نحو نبئهم عن ضيف إبراهيم و النبوة إذا أخذت من الإنباء فهي مهموزة و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تنبئن باسمي لرجل قال له يا نبيء الله مهموزا و النبي بغير همز الطريق الواضح يأخذ بك إلى حيث تريد و الفرق بين الإعلام و الإخبار أن الإعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل و العلم بالمشاهدات و قد يكون بنصب الأدلة على الشيء و الإخبار هو إظهار الخبر علم به أو لم يعلم و لا يكون مخبرا بما يحدثه من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك .

المعنى

ثم أبان سبحانه و تعالى لملائكته فضل آدم عليهم و على جميع خلقه بما خصه به من العلم فقال سبحانه و تعالى « و علم آدم الأسماء كلها » أي علمه معاني الأسماء إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها و لا وجه لإشارة الفضيلة بها و قد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عند ما سئلوا عن ذكرها و الإخبار عنها أنه لا علم لهم بها فقال الله تعالى « يا آدم أنبئهم بأسمائهم » عن قتادة و قيل أنه سبحانه علمه جميع الأسماء و الصناعات و عمارة الأرضين و الأطعمة و الأدوية و استخراج المعادن و غرس الأشجار و منافعها و جميع ما يتعلق بعمارة الدين و الدنيا عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و عن أكثر المتأخرين و قيل أنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق و ما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده عن أبي علي الجبائي و علي بن عيسى و غيرهما قالوا فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه و اعتادوه و تطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه و يجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (عليه السلام) فلما أهلك الله الناس إلا نوحا و من تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا و تفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها و تركوا ما سواه و نسوة و قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال
مجمع البيان ج : 1 ص : 181
و هذا البساط مما علمه و قيل أنه علمه أسماء الملائكة و أسماء ذريته عن الربيع و قيل أنه علمه ألقاب الأشياء و معانيها و خواصها و هو أن الفرس يصلح لما ذا و الحمار يصلح لما ذا و هذا أبلغ لأن معاني الأشياء و خواصها لا تتغير بتغير الأزمنة و الأوقات و ألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة و قال بعضهم أنه تعالى لم يعلمه اللغة العربية فإن أول من تكلم بالعربية إسماعيل (عليه السلام) و قالوا أن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة من الأنبياء آدم و إسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم اختلف في كيفية تعليم الله تعالى آدم الأسماء فقيل علمه بأن أودع قلبه معرفة الأسماء و فتق لسانه بها فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها و كان ذلك معجزة له لكونه ناقصا للعادة و قيل علمه إياها بأن اضطره إلى العلم بها و قيل علمه لغة الملائكة ثم علمه بتلك اللغة سائر اللغات و قيل إنما علمه أسماء الأشخاص بأن أحضر تلك الأشياء و علمه أسماءها في كل لغة و أنه لأي شيء يصلح و أي نفع فيه و أي ضرر و قوله « ثم عرضهم على الملائكة » روي عن ابن عباس أنه قال عرض الخلق و عن مجاهد قال عرض أصحاب الأسماء و على هذا فيكون معناه ثم عرض المسميات على الملائكة و فيهم من يعقل و فيهم من لا يعقل فقال عرضهم غلب العقلاء فأجرى على الجميع كناية من يعقل كقوله « و الله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع » أجري عليهم كناية من يعقل و في قراءة أبي ثم عرضها و في قراءة ابن مسعود ثم عرضهن و على هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء دون المسميات و اختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة و قيل صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها و قيل عرض عليهم من كل جنس واحد و أراد بذلك تعجيزهم فإن الإنسان إذا قيل له ما اسم شيء صفته كذا و كذا فلم يعلم كان أبلغ عذرا ممن عرض عليه شيء بعينه و سئل عن اسمه فلم يعرفه و بين بذلك أن آدم (عليه السلام) أصلح لكدخدائية الأرض و عمارتها لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة و حرث الأرض و زراعتها و إنباط الماء و استخراج الجواهر من المعادن و قعر البحار بلطائف الحكمة و هذا يقوي قول من قال أنه علمه خواص الأشياء و أراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء مع مشاهدتكم لها فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز « فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أن سأل فقيل ما الذي ادعت الملائكة حتى خوطبوا بهذا و كيف أمرهم الله سبحانه أن يخبروا بما لا يعلمون فالجواب أن للعلماء فيه وجوها من الكلام ( أحدها ) أن الله تعالى لما أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة هجس في نفوسها
مجمع البيان ج : 1 ص : 182
أنه إن كان الخليفة منهم بدلا من آدم و ذريته لم يكن في الأرض فساد و لا سفك دم كما يكون في ولد آدم و إن كان الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح في التدبير و الأصوب في الحكمة فقال الله تعالى « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » فيما ظننتم من هذا المعنى ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد ( و ثانيها ) أنه خطر ببالهم أنه لن يخلق الله خلقا إلا و هم أعلم منه و أفضل في سائر أنواع العلم فقيل « إن كنتم صادقين » في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء ( و ثالثها ) أن المراد أن كنتم صادقين في أنكم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب فكما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس ( و رابعها ) ما قاله الأخفش و الجبائي و علي بن عيسى و هو أن المراد « إن كنتم صادقين » فيما تخبرون به من أسمائهم فأخبروا بها و هذا كقول القائل لغيره ( أخبر بما في يدي إن كنت صادقا ) أي إن كنت تعلم فأخبر به لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك إلا إذا أخبر عن علم منه و لا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به و لا بد إذا استدعوا إلى الإخبار عما لا يعلمون من أن يشترط هذا الشرط و على هذا فيكون لفظه الأمر و معناه التنبيه أو يكون أمرا مشروطا كما يقول العالم للمتعلم ما تقول في كذا و يعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه و يحثه على طلبه و البحث عنه و لو قال له أخبر بذلك أن كنت تعلم أو إن كنت صادقا لكان حسنا فإذا تنبه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه حينئذ فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه و أوقع في نفسه و لا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم أن آدم يعرف أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه و تخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه هم فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف و في هذه الآية دلالة على شرف العلم و أهله من حيث إن الله سبحانه لما أراد تشريف آدم (عليه السلام) اختصه بعلم أبانه به من غيره و فضله به على من سواه .
قَالُوا سبْحَنَك لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّك أَنت الْعَلِيمُ الحَْكِيمُ(32)

اللغة

الحكمة نقيض السفه و الإحكام الإتقان و الحكيم المانع من الفساد و منه حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير :
مجمع البيان ج : 1 ص : 183

أ

بني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا أي امنعوهم و الحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل و الصدق الذي لا يشوبه كذب و منه قوله حكمة بالغة و رجل حكيم إذا كان ذلك شأنه و كانت معه أصول من العلم و المعرفة و يقال حكم يحكم في الحكم بين الناس و حكم يحكم إذا صار حكيما و الحكمة في الإنسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل .

الإعراب

سبحانك نصب على المصدر قال سيبويه سبحت الله تسبيحا و سبحانا فالمصدر تسبيح و سبحان اسم يقوم مقام المصدر و اللام من قوله « لنا » يتعلق بمحذوف فيكون جملة ظرفية في موضع رفع بالخبر لأن لا علم في موضع رفع بالابتداء و « ما علمتنا » موصول و صلة و الضمير من علمتنا العائد إليه محذوف تقديره ما علمتنا و هو في موضع رفع بدل من موضع لا علم و أنت يجوز أن يكون فصلا فيكون لا موضع له من الإعراب و خبر إن العليم الحكيم و يجوز أن يكون مبتدأ و الجملة خبر إن .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه و التسليم لأمره و قال « قالوا » أي الملائكة « سبحانك » أي تنزيها لك و تعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك عن ابن عباس و قيل تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك و قيل إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم فقالوا تنزيها لك عن فعل كل قبيح و أن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك و قيل أنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه و قوله « لا علم لنا إلا ما علمتنا » معناه إنا لا نعلم إلا بتعليمك و ليس هذا فيما علمتنا و لو أنهم اقتصروا على قولهم « لا علم لنا » لكان كافيا في الجواب لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له و الاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم و أن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته و أن هذا ليس من جملة ذلك و إنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه ليقررهم على أنهم لا يملكون إلا ما علمهم الله و ليرفع به درجة آدم عندهم بأنه علمه ما لم يعلموه و قوله « إنك أنت العليم » أي العالم بجميع المعلومات لأنه من صفات ذاته و هو مبالغة العالم و قيل أنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي أنت العالم من غير تعليم و نحن المعلمون و قوله « الحكيم » يحتمل أمرين ( أحدهما ) أنه بمعنى العالم لأن العالم بالشيء يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم و يوصف بهما فيما لم يزل لأن ذلك واجب في العالم لنفسه ( و الثاني ) أن معناه المحكم لأفعاله و يكون فعيلا بمعنى مفعل و على هذا يكون من صفات الأفعال و معناه أن أفعاله كلها حكمة و صواب و ليس فيها تفاوت و لا وجه من وجوه القبح
مجمع البيان ج : 1 ص : 184
و على هذا فلا يوصف بذلك فيما لم يزل و روي عن ابن عباس أنه قال العليم الذي كمل في علمه و الحكيم الذي كمل في حكمته و في هذه الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى و إنما كان كذلك لأن العلوم لا تخلو إما أن تكون ضرورية فهو الذي فعلها و إما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها فلا علم لأحد إلا ما علمه الله تعالى .
قَالَ يَئَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسمَائهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسمَائهِمْ قَالَ أَ لَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنى أَعْلَمُ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)

القراءة

روي عن ابن عامر أنبئهم بالهمزة و كسر الهاء و الباقون بضم الهاء .

الحجة

من ضم الهاء حملها على الأصل لأن الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة و إنما تكسر الهاء إذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم و عليهم و مع هذا فقد ضمه قوم حملا على الأصل و من كسر الهاء التي قبلها همزة مخففة فإن لذلك وجها من القياس و هو أنه اتبع كسرة الهاء الكسرة التي قبلها و لم يعتد بالحاجز الساكن كما حكي عنهم هذا المرء و رأيت المرء و مررت بالمرء فاتبعوا مع هذا الفصل كما اللغة في اللغة الأخرى هذا امرؤ و رأيت امرءا و مررت بامرىء و حكى أبو زيد عن بعض العرب أخذت هذا منه و منهما و منهمي فكسر المضمر في الإدراج و الوقف و لم أعرفه و لم أضربه .

اللغة

الإبداء و الإظهار و الإعلان بمعنى واحد و ضد الإبداء الكتمان و ضد الإظهار الإبطان و ضد الإعلان الإسرار و يقال بدا يبدو بدوا من الظهور و بدأ يبدأ بدءا بالهمزة بمعنى استأنف و قال علي بن عيسى الرماني حد الظهور الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة و الله سبحانه ظاهر بأدلته باطن عن إحساس خلقه و كل استدلال فإنما هو ليظهر شيء بظهور غيره .

الإعراب

آدم منادى مفرد معرفة مبني على الضم و محله النصب لأن المنادى مدعو و المدعو مفعول .

المعنى

ثم خاطب الله تعالى آدم ف « قال : يا آدم أنبئهم » أي أخبر الملائكة
مجمع البيان ج : 1 ص : 185
« بأسمائهم » يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم و هم كناية عن المرادين بقوله أسماء هؤلاء و قد مضى بيانه « فلما أنبأهم » يعني أخبرهم آدم « بأسمائهم » أي باسم كل شيء و منافعه و مضارة « قال » الله تعالى للملائكة « أ لم أقل لكم » الألف للتنبيه و إن كان أصلها الاستفهام كقول القائل ( أ ما ترى اليوم ما أطيبه ) لمن يعلم ذلك و حكى سيبويه أ ما ترى أي برق هاهنا و من الناس من قال أن هذه الألف معناها التوبيخ و من لم يجز على الملائكة المعصية منع من ذلك « إني أعلم غيب السماوات و الأرض » أي أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه « و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون » قيل فيه أقوال : ( أحدها ) أنه أراد أعلم سركم و علانيتكم و ذكر ذلك تنبيها لهم على ما يحيلهم عليه من الاستدلال لأن الأصول الأول التي يستدل بها إنما تذكر على وجه التنبيه ليستخرج بها غيرها فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه للاستصلاح في التكليف و ما توجبه الحكمة ( و ثانيها ) أنه أراد « أعلم ما تبدون » من قولكم أ تجعل فيها من يفسد فيها « و ما كنتم تكتمون » من إضمار إبليس المعصية و المخالفة قال علي بن عيسى و هذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة و ليس إبليس منهم و لأنه عام فلا يخص إلا بدليل و جوابه أن إبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود جاز أن يذكر في جملتهم و قد رويت روايات تؤيد هذا القول و اختاره الطبري ( و ثالثها ) أن الله تعالى لما خلق آدم مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح و لم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه و أفضل عنده فهذا ما أخفوه و كتموه و أما ما أبدوه فقولهم « أ تجعل فيها من يفسد فيها » روي ذلك عن الحسن و الأول أقوى لأنه أعم و مما يسأل في هذه الآية أن يقال ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب و الجواب أنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد و يسفك الدماء على وجه التعريض دون التصريح لأنه لو صرح بذلك لقال خلقت من يفسد و يسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي فيما كلفتهم إياه فدل سبحانه الإحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور و ظاهرها أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك و دلهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله و التسليم لقضاء الله لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه و يعلم من مصالحهم في دينهم و دنياهم ما لا يطلعون عليه فإن قيل فأي شيء في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه بالغيب فالجواب قيل أنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك و الهامة إياها فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته و جلالة قدره و ارتفاع شأنه بما اختصه الله به من العلم الذي لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 186
يوصل إليه إلا بتعليم الله عز و جل و دلهم على ذلك بأن قررهم أولا فأقروا بأن لا علم لهم به ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله إياه فبان بذلك الإعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب و فيه من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة و أنه علمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة مع كثرة علومها و أنها أعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية و لذلك نبههم فقال « أ لم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض » أي قد دللتكم على ذلك قبل و هذه دلالة بعد و قد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم ثم ختم به في محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه و في هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من مفسري القرآن تعرض له و ذلك أن يقال من أين علمت الملائكة صحة قول آدم و مطابقة الأسماء المسميات و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل و الكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها و لو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى : « أ لم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض » معنى و لا كانوا أيضا مستفيدين نبوته و تميزه و اختصاصه بما ليس لهم لأن كل ذلك إنما يتم مع العلم و الجواب أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء و مطابقتها للمسميات أما عن طريق أو ابتداء بلا طريق فعلموا بذلك تمييزه و اختصاصه و ليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة بل بعده درجات و مراتب لا بد من الاستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة .
و وجه آخر و هو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة و كل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره إلا أنه يكون إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم علمه جميع تلك الأسماء فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته و علم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل و على هذا الجواب فيكون معنى أنبئوني بأسماء هؤلاء ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء و هذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم و أن إخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته لأنه لو كان نبيا قبل ذلك و كانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقوله الذي علموا أنه حق و صدق .

مجمع البيان ج : 1 ص : 187
وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئكَةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس أَبى وَ استَكْبرَ وَ كانَ مِنَ الْكَفِرِينَ(34)

القراءة

قرأ أبو جعفر وحده للملائكة اسجدوا بضم التاء حيث وقع و كذلك قل رب احكم بضم الباء .

الحجة

أتبع التاء ضمة الجيم و قيل أنه نقل ضمة الهمزة لو ابتدىء بها و الأول أقوى لأن الهمزة تسقط في الدرج فلا يبقى فيها حركة تنقل .

اللغة

السجود الخضوع و التذلل في اللغة و هو في الشرع عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة كالركوع و القنوت و غيرهما و هو وضع الجبهة على الأرض و يقال سجد و أسجد إذا خضع قال الأعشى :
من يلق هوذة يسجد غير متئب
إذا تعمم فوق الرأس أو خضعا و قال آخر :
فكلتاهما خرت و أسجد رأسها
كما سجدت نصرانة لم تحنف و نساء سجد إذا كن فاترات الأعين قال
و لهوي إلى حور المدامع سجد ) و الإسجاد الإطراق و إدامة النظر في فتور و سكون قال :
أغرك مني أن دلك عندنا
و إسجاد عينيك الصيودين رابح و أبي معناه ترك الطاعة و امتنع و الإباء و الترك و الامتناع بمعنى و نقيض أبى أجاب و رجل أبي من قوم أباة و ليس الإباء بمعنى الكراهة لأن العرب تتمدح أنها تأبى الضيم و لا مدح في كراهية الضيم و إنما المدح في الامتناع منه كقوله تعالى : « و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون » أي يمنع الكافرين من إطفاء نوره و الاستكبار و التكبر و التعظم و التجبر نظائر و ضده التواضع و حقيقة الاستكبار الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه و قيل حده الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحقها فأصل الباب الكبر و هو العظم و يقال على وجهين كبر
مجمع البيان ج : 1 ص : 188
الجثة و كبر الشأن و الله سبحانه الكبير من كبر الشأن و ذلك يرجع إلى سعة مقدوراته و معلوماته فهو القادر على ما لا يتناهى من جميع أجناس المقدورات و العالم بجميع المعلومات و إبليس اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف و العجمة قال الزجاج و غيره من النحويين هو اسم أعجمي معرب و استدلوا على ذلك بامتناع صرفه و ذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس و وزنه إفعيل و أنشدوا للعجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
قال نعم أعرفه و أبلسا و زعموا أنه لم يصرف استثقالا له من حيث أنه اسم لا نظير له في أسماء العرب فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف و زعموا أن إسحاق من أسحقه الله تعالى إسحاقا و أيوب من أب يؤب و إدريس من الدرس في أشباه ذلك و غلطوا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربية و كان أبو بكر السراج يمثل ذلك على جهة التبعيد بمن زعم أن الطير ولدت الحوت و غلطوا أيضا في أنه لا نظير له في أسماء العرب لأنهم يقولون إزميل للشفرة و إغريض للطلع و إحريض لصبغ أحمر و يقال هو العصفر و سيف إصليت ماض كثير الماء و ثوب إضريج مشبع الصبغ و قالوا هو من الصفرة خاصة و مثل هذا كثير و سبيل إبليس سبيل إنجيل في أنه معرب غير مشتق .

الإعراب

قوله « و إذ » في موضع نصب لأنها معطوفة على إذ الأولى و قوله « لآدم » آدم في موضع جر باللام لا ينصرف لأنه على وزن أفعل فإذا قلت مررت ب آدم و آدم آخر فإن سيبويه و الخليل يقولان أنه لا ينصرف في النكرة لأنك إذا نكرته فقد أعدته إلى حال كان فيها لا ينصرف قال الأخفش إذا سميت به فقد أخرجته من باب الصفة فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول و آدم آخر و قوله « اسجدوا » الأصل في همزة الوصل أن تكسر لالتقاء الساكنين و لكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة و كذلك كل ما كان ثالثة مضموما في الفعل المستقبل نحو قوله انظرونا و اقتلوا يوسف و ليس في كلام العرب فعل لكراهتهم الضمة بعد الكسرة و إبليس نصب على الاستثناء المتصل من الكلام الموجب و هو في مذهب من جعله من الملائكة و على الاستثناء المنقطع على مذهب من جعله من غير الملائكة .

المعنى

ثم بين سبحانه ما آتاه آدم (عليه السلام) من الإعظام و الإجلال و الإكرام فقال و اذكر يا محمد « إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم » و الظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل و ميكائيل لقوله « فسجد الملائكة كلهم أجمعون » و في هذا
مجمع البيان ج : 1 ص : 189
تأكيد للعموم و قال قوم أن الأمر كان خاصا لطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس طهر الله بهم الأرض من الجن و اختلف في سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان فالمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنه على وجه التكرمة لآدم و التعظيم لشأنه و تقديمه عليهم و هو قول قتادة و جماعة من أهل العلم و اختاره علي بن عيس الرماني و لهذا جعل أصحابنا رضي الله عنهم هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة من حيث أنه أمرهم بالسجود لآدم و ذلك يقتضي تعظيمه و تفضيله عليهم و إذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنه أفضل من الملائكة و قال الجبائي و أبو القاسم البلخي و جماعة أنه جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم و فيه ضرب من التعظيم و هذا غير صحيح لأنه لو كان على هذا الوجه لما امتنع إبليس من ذلك و لما استعظمته الملائكة و قد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته مثل قوله « أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن » و قوله « أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين » و لو لم يكن الأمر على هذا الوجه لوجب أن يعلمه الله تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه و تفضيله عليه و إنما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه و لم يجز إغفال ذلك فإنه سبب معصية إبليس و ضلالته فلما لم يقع ذلك علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم و التفضيل و الإكرام و التبجيل ثم اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا فذهب قوم أنه كان منهم و هو المروي عن ابن عباس و ابن مسعود و قتادة و اختاره الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي قدس الله روحه قال و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و الظاهر في تفاسيرنا ثم اختلف من قال أنه من الملائكة فمنهم من قال أنه كان خازنا على الجنان و منهم من قال كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض و منهم من قال أنه كان يسوس ما بين السماء و الأرض و قال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه أنه كان من الجن و لم يكن من الملائكة قال و قد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام و هو مذهب الإمامية و هو المروي عن الحسن البصري و هو قول علي بن عيسى و البلخي و غيره و احتجوا على صحة هذا القول بأشياء ( أحدها ) قوله تعالى : « إلا إبليس كان من الجن » و من أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف و كل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه ( و ثانيها ) قوله تعالى : « لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون » فنفى المعصية عنهم نفيا
مجمع البيان ج : 1 ص : 190
عاما ( و ثالثها ) أن إبليس له نسل و ذرية قال الله تعالى « أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو » و قال الحسن إبليس أب الجن كما أن آدم أب الإنس و إبليس مخلوق من النار و الملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم و من النور في قول الحسن لا يتناسلون و لا يطعمون و لا يشربون ( و رابعها ) قوله تعالى : « جاعل الملائكة رسلا » و لا يجوز على رسل الله الكفر و لا الفسق و لو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب و قالوا إن استثناء الله تعالى إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم و إنما استثناه منهم لأنه كان مأمورا بالسجود معهم فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم و قيل أيضا أن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى « ما لهم به من علم إلا اتباع الظن » و أنشد سيبويه :
و الحرب لا يبقى لجا
حمها التخيل و المراح
إلا الفتى الصبار في
النجدات و الفرس الوقاح و كقول النابغة
و ما بالربع من أحد ) إلا الأواري ) و يؤيد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء فقال لم يكن من الملائكة و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء و كان من الجن و كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها و كان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان و كذا رواه العياشي في تفسيره و أما من قال أنه كان من الملائكة فإنه احتج بأنه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما بترك السجود فإن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم و قد مضى الجواب عن هذا و يزيده بيانا قوله تعالى : « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود و إن لم يكن من جملتهم و هذا كما إذا قيل أمر أهل البصرة بدخول الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة فإنه يعلم من هذا أن غير أهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع غير أن أهل البصرة خصوا بالذكر لكونهم الأكثر فكذلك القول في الآية و أجاب القوم عن الاحتجاج الأول و هو قوله تعالى « كان من الجن » بأن الجن جنس من الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون قال الأعشى قيس بن ثعلبة :
و لو كان شيء خالدا أو معمرا
لكان سليمان البري من الدهر
برأه إلهي و اصطفاه عباده
و ملكه ما بين تونا إلى مصر
و سخر من جن الملائك تسعة
قياما لديه يعملون بلا أجر
مجمع البيان ج : 1 ص : 191
و قد قال الله تعالى : « و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا » لأنهم قالوا الملائكة بنات الله و أجابوا عن الثاني و هو قوله تعالى : « لا يعصون الله ما أمرهم » الآية بأنه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة فلا يوجب عصمة لغيرهم من الملائكة و أجابوا عن الثالث بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف و إن لم يكن ذلك في باقي الملائكة و يجوز أن يكون الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض تغيرت حاله عن حال الملائكة قالوا و أما قولكم أن الملائكة خلقوا من الريح و هو مخلوق من النار فإن الحسن قال خلقوا من النور و النار و النور سواء و قولكم إن الجن يطعمون و يشربون فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون و لا يشربون أنشد ابن دريد قال أنشد أبو حاتم :
و نار قد حضات بعيد وهن
بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة و عين
أكالئها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم
زعيم نحسد الإنس الطعاما
لقد فضلتم بالأكل فينا
و لكن ذاك يعقبكم سقاما فهذا يدل على أنهم لا يأكلون و لا يشربون لأنهم روحانيون و قد جاء في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم و الروث لأن ذلك طعام الجن و طعام دوابهم و قد قيل أنهم يتشممون ذلك و لا يأكلونه و أجابوا عن الرابع و هو قوله : « جاعل الملائكة رسلا » بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى : « الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس » لأن من للتبعيض و كلا القولين مروي عن ابن عباس و روي عنه أنه قال أن الملائكة كانت تقاتل الجن فسبي إبليس و كان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم فسجدوا و أبى إبليس فلذلك قال الله تعالى : « إلا إبليس كان من الجن » و روى مجاهد و طاووس عنه أيضا أنه قال كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل و كان من سكان الأرض و كان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن و لم يكن من الملائكة أشد اجتهادا و لا أكثر علما منه فلما تكبر على الله و أبى السجود لآدم و عصاه لعنه و جعله شيطانا و سماه إبليس و أما قوله تعالى : « و كان من الكافرين » قيل معناه كان كافرا في الأصل و هذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة و قيل أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين و قيل معناه صار من الكافرين كقوله تعالى : « فكان من المغرقين » و استدل بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان فقال لو لم يكن كذلك لوجب أن يكون إبليس
مجمع البيان ج : 1 ص : 192
مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى و إن فسق بابائه و هذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا كما أنا إذا رأينا من يسجد للصنم علمنا أنه كافر و إن كان نفس السجود ليس بكفر و اختلفوا في صفة أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود فقيل كان بخطاب من الله تعالى للملائكة و لإبليس و قيل بوحي من الله إلى من بعثه إليهم من رسله لأن كلام الرسول كلام المرسل و قيل أن الله تعالى أظهر فعلا دلهم به على أنه أمرهم بالسجود فإن قيل لم حكم الله بكفره مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر قلنا لأنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود حكمة و منها أنه امتنع من السجود تكبرا و ردا على الله تعالى أمره و من تركه الآن كذلك يكفر أيضا و منها أنه استخف بنبي الله و ازدراه و هذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر من وجوه منها قوله « أبى » فدل على قدرته على السجود الذي أباه و تركه و إلا لم يصح وصفه بالآباء و منها قوله « فسجدوا » فدل على أن السجود فعلهم و منها أنه مدح الملائكة بالسجود و ذم إبليس بترك السجود و عندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود و لا القدرة الموجبة له .
وَ قُلْنَا يَئَادَمُ اسكُنْ أَنت وَ زَوْجُك الجَْنَّةَ وَ ُكلا مِنْهَا رَغَداً حَيْث شِئْتُمَا وَ لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظلِمِينَ(35)

اللغة

السكون و الاطمئنان و الهدو نظائر و السكن بسكون الكاف العيال و أهل البيت و السكن بالفتح المنزل و السكن الرحمة و البركة في قوله « إن صلاتك سكن لهم » و الزوج بطرح الهاء قال الأصمعي هو أكثر كلام العرب و الأكل و المضغ و اللقم متقارب و ضد الأكل الأزم و سأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب فقال يا حار ما الدواء فقال الأزم أي ترك الأكل و الرغد النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء قال ابن دريد الرغد السعة في العيش و المشيئة من قبيل الإرادة و كذلك المحبة و الاختيار و الإيثار و إن كان لها شروط ذكرت في أصول الكلام و القرب الدنو قرب الشيء يقرب قربا و قرب فلان أهله يقرب قربانا إذا غشيها و ما قربت هذا الأمر قربانا و قربا و الشجرة ما قام على ساق و جمعها أشجار و شجرات و شجر و تشاجر القوم اختلفوا أخذ من الشجر لاشتباك أغصانه
مجمع البيان ج : 1 ص : 193
و الظلم و الجور و العدوان متقارب و ضد الظلم الإنصاف و ضد الجور العدل و أصل الظلم انتقاص الحق قال الله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها و لم تظلم منه شيئا أي لم تنقص و قيل أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم من أشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه و كلاهما مطرد و على الوجهين فالظلم اسم ذم لا يجوز إطلاقه على الأنبياء و المعصومين .

الإعراب

قوله : « اسكن أنت و زوجك » استقبح عطف الظاهر على الضمير المستكن و المتصل فقال « اسكن أنت و زوجك الجنة » فأنت تأكيد للضمير المستكن في اسكن الذي هو فاعله و زوجك معطوف على موضع أنت فلو عطفه على الضمير المستكن لكان أشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل فأتى بالضمير المنفصل فعطفه عليه و رغدا منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف كأنه قال أكلا رغدا أي واسعا كثيرا و يجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله « كلا » قال الخليل يقال قوم رغد و نساء رغد و عيش رغد و رغيد قال امرؤ القيس :
بينما المرء تراه ناعما
يأمن الأحداث في عيش رغد فعلى هذا يكون تقديره و كلا منها متوسعين في العيش و حيث مبني على الضم كما تبنى الغاية نحو من قبل و من بعد لأنه منع من الإضافة إلى مفرد كما منعت الغاية من الإضافة و إنما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه و « لا تقربا » مجزوم بالنهي و الألف ضمير الفاعلين و قوله « فتكونا » يحتمل أمرين أحدهما أن يكون جوابا للنهي فيكون منصوبا بإضمار أن و أن مع الفعل في تأويل اسم مفرد و إذا قدر إضمار أن بعد الفاء كان ذلك عطفا على مصدر الفعل المتقدم فيكون تقديره لا يكون منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيكون الكلام جملة واحدة لأن المعطوف يكون من جملة المعطوف عليه و إنما سميناه جوابا لمشابهته الجزاء في أن الثاني سببه الأول لأن معنى الكلام أن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين و الثاني أن يكون معطوفا على النهي فيكون مجزوما و تكون الفاء عاطفة جملة على جملة فكأنه قال فلا تكونا من الظالمين .

المعنى

ثم ذكر سبحانه ما أمر به آدم (عليه السلام) بعد أن أنعم عليه بما اختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام و أسجد له الملائكة الكرام فقال عز اسمه « و قلنا » و هذه
مجمع البيان ج : 1 ص : 194
نون الكبرياء و العظمة لا نون الجمع « يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة » أي اتخذ أنت و امرأتك الجنة مسكنا و مأوى لتأوي إليه و تسكن فيه أنت و امرأتك و اختلف في هذا الأمر فقيل أنه أمر تعبد و قيل هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف و قوله « و كلا » إباحة و قوله « و لا تقربا » تعبد بالاتفاق و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنه لما أخرج إبليس من الجنة و لعن و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه فخلقت حواء ليسكن إليها و روي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم و أخذ منه ضلعا فخلق منه حواء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت قالت امرأة قال لم خلقت قالت لتسكن إلي فقالت الملائكة ما اسمها يا آدم قال حواء قالوا و لم سميت حواء قال لأنها خلقت من حي فعندها قال الله تعالى « اسكن أنت و زوجك الجنة » و قيل إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة ثم أدخلا معا الجنة و في كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين و خلق حواء من آدم فهمة الرجال الماء و الطين و همة النساء الرجال قال أهل التحقيق ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها و إنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل و قيل لأنها أم كل حي و اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم فقال أبو هاشم هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكلها دائم و لا تكليف فيها و قال أبو مسلم هي جنة من جنان الدنيا في الأرض و قال أن قوله « اهبطوا منها » لا يقتضي كونها في السماء لأنه مثل قوله « اهبطوا مصرا » و استدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس « هل أدلك على شجرة الخلد » فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج إلى دلالة و قال أكثر المفسرين و الحسن البصري و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و كثير من المعتزلة كالجبائي و الرماني و ابن الإخشيد إنها كانت جنة الخلد لأن الألف و اللام للتعريف و صارا كالعلم عليها قالوا و يجوز أن تكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه قالوا و قال من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب فأما قبل ذلك فإنها تفنى لقوله تعالى « كل شيء هالك إلا وجهه » و قوله « و كلا منها رغدا » أي كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه « حيث شئتما » من بقاع الجنة و قيل منها أي من ثمارها إلا ما استثناه « و لا تقربا هذه الشجرة » أي لا تأكلا منها و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) فمعناه لا تقرباها بالأكل و يدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل
مجمع البيان ج : 1 ص : 195
بلا خلاف لا بالدنو منها و لذلك قال فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و اختلف في هذا النهي فقيل أنه نهي التحريم و قيل أنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق و هو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة و كان بالتناول منها تاركا نفلا و فضلا و لم يكن فاعلا لقبيح فإن الأنبياء (عليهم السلام) لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها و لا كبيرها و قالت المعتزلة كان ذلك صغيرة من آدم (عليه السلام) على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو أو التأويل و إنما قلنا أنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء (عليهم السلام) من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم و العقاب لأن المعاصي عندنا كلها كبائر و إنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه و إذا بطل ذلك فلا معصية إلا و يستحق فاعلها الذم و العقاب و إذا كان الذم و العقاب منفيين عن الأنبياء (عليهم السلام) وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب و لأنه لو جاز عليهم شيء من ذلك لنفر عن قبول قولهم و المراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك و لا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة و الهيئات المستنكرة و إذا صح ما ذكرناه علمنا أن مخالفة آدم (عليه السلام) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه و اختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم فقيل هي السنبلة عن ابن عباس و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود و السدي و قيل هي التينة عن ابن جريج و قيل هي شجرة الكافور يروي عن علي (عليه السلام) و قيل هي شجرة العلم علم الخير و الشر عن الكلبي و قيل هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان و قوله « فتكونا من الظالمين » أي تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما و يجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب أنه ظالم لنفسه كقوله تعالى حكاية عن أيوب إني كنت من الظالمين حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه و اختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة فجوز البصريون من أهل العدل ذلك قالوا يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا تفضلا منه لا على وجه الثواب لأن ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم و تعريضهم للثواب نعمة و قال أبو القاسم البلخي لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب و ترهيب و وعد و وعيد و كان يكون لا بد من دار أخرى يجازون فيها و يخلدون و إن كانوا غير متعبدين كانوا مهملين و ذلك غير جائز و جوابه أنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة لكان يضطرهم إلى المعرفة و يلجئهم إلى فعل الحسن و ترك القبيح و متى راموا القبيح منعوا منه فلا يؤدي إلى ما قاله و هذا كما يدخل الله الجنة
مجمع البيان ج : 1 ص : 196
الأطفال و غير المكلفين لا على وجه الثواب .
فَأَزَلَّهُمَا الشيْطنُ عَنهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كانَا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطوا بَعْضكمْ لِبَعْض عَدُوُّ وَ لَكمْ فى الأَرْضِ مُستَقَرُّ وَ مَتَعٌ إِلى حِين(36)

القراءة

قرأ حمزة فأزالهما بالألف و الباقون « فأزلهما » .

الحجة

من قرأ أزالهما قال إن قوله « اسكن أنت و زوجك » معناه اثبتا فثبتا فأزالهما الشيطان فقابل الثبات بالزوال الذي هو خلافه و حجة من قرأ « فأزلهما » أنه يحتمل تأويلين أحدهما كسبهما الزلة و الآخر أزل من أزل أي عثر و يدل على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من قوله « ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين » و قوله « فوسوس لهما الشيطان » الآية و قد نسب كسب الشيطان الزلة إلى الشيطان في قوله « إنما استزلهم الشيطان » و استزل و أزل بمعنى واحد و يدل على الوجه الثاني قوله « فأخرجهما مما كانا فيه » فكما أن خروج الإنسان عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره كذلك عثاره و زلله .

اللغة

الزلة و الخطيئة و المعصية و السيئة بمعنى واحد و ضد الخطيئة الإصابة يقال زلت قدمه زلا و زل في مقالته زلة و المزلة المكان الدحض و المزلة الزلل في الدحض و أزللت إلى فلان نعمة أي أسديت و في الحديث من أزلت إليه نعمة فليشكرها قال كثير :
و إني و إن صدت لمثن و صادق
عليها بما كانت إلينا أزلت و الأصل في ذلك الزوال و الزلة زوال عن الحق و أزله الشيطان إذا أزاله عن الحق و الهبوط و النزول و الوقوع نظائر و هو التحرك من علو إلى سفل و يقال هبطته و أهبطته و الهبوط كالحدور و هو الموضع الذي يهبطك من أعلى إلى أسفل و قد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان و النزول به قال الله تعالى اهبطوا مصرا و يقول القائل هبطنا بلد كذا يريد حللنا قال زهير :
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت
أيدي الركاب بهم من راكس فلقا و العدو نقيض الولي و العداوة المصدر و أصله من المجاوزة و القرار الثبات و البقاء
مجمع البيان ج : 1 ص : 197
و ضد القرار الانزعاج و ضد الثبات الزوال و ضد البقاء الفناء و الاستقرار الكون أكثر من وقت واحد على حال و المستقر يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار و يحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه و المتاع و التمتع و المتعة و التلذذ متقاربة المعنى و كل شيء تمتعت به فهو متاع و الحين و المدة و الزمان متقارب و الحين في غير هذا الموضع ستة أشهر يدل عليه قوله تعالى « تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها » و الحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه في الاستعمال في الكثير منها أكثر .

المعنى

ثم بين سبحانه حال آدم (عليه السلام) قال « فأزلهما الشيطان » أي حملهما على الزلة نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه و وسوسته و إغوائه « عنها » أي عن الجنة و ما كانا فيه من عظيم الرتبة و المنزلة و الشيطان المراد به إبليس « فأخرجهما مما كانا فيه » من النعمة و الدعة و يحتمل أن يكون أراد إخراجهما من الجنة حتى اهبطا و يحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية و أضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال صرفني فلان عن هذا الأمر و لم يكن إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام لا تجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء و أعظم الفرية على الله سبحانه و تعالى و إذا صح ما قلناه فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة فاقتضت الحكمة و التدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض و ابتلاءه بالتكليف و المشقة و سلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل و الامتنان فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى و الامتحان كما له أن يفقر بعد الإغناء و يميت بعد الإحياء و يسقم بعد الصحة و يعقب المحنة بعد المحنة و اختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم و حواء حتى وسوس إليهما و إبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود و هما في الجنة فقيل إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه فكان يكلمه و كان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض و بعد أن أخرج من الجنة عن أبي علي الجبائي و قيل أنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه و قيل أنه دخل في فقم الحية و خاطبهما من فقمها و الفقم جانب الشدق و قيل أنه راسلهما بالخطاب و ظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب و قوله « و قلنا اهبطوا » خاطب بخطاب الجمع و فيه وجوه ( أحدها ) أنه خاطب آدم و حواء و إبليس و هو اختيار الزجاج و قول جماعة من المفسرين و هذا غير منكر و أن إبليس قد
مجمع البيان ج : 1 ص : 198
أخرج قبل ذلك بدلالة قوله اخرج منها فإنك رجيم فجمع الخبر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط و إن كانت أوقاتهم متفرقة فيه كما يقال أخرج جميع من في الحبس و إن أخرجوا متفرقين و الثاني أنه أراد آدم و حواء و الحية و في هذا الوجه بعد لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن و لأنه لم يتقدم للحية ذكر و الكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله « حتى توارت بالحجاب » و قوله « ما ترك على ظهرها من دابة » و قول حاتم :
أ ماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر ( و الثالث ) أنه أراد آدم و حواء و ذريتهما لأن الوالدين يدلان على الذرية و يتعلق بهما ( و الرابع ) أن يكون الخطاب يختص ب آدم و حواء عليهما السلام و خاطب الاثنين على الجمع على عادة العرب و ذلك لأن الاثنين أول الجمع قال الله تعالى « إذ نفشت فيه غنم القوم و كنا لحكمهم شاهدين » أراد حكم داود و سليمان و قد تأول قوله تعالى « فإن كان له إخوة » على معنى فإن كان له أخوان ( و الخامس ) آدم و حواء و الوسوسة عن الحسن و هذا ضعيف و قوله « بعضكم لبعض عدو » يعني آدم و ذريته و إبليس و ذريته و لم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه و لكن حسده الملعون و خالفه فنشأت بينهما العداوة ثم إن عداوة آدم له إيمان و عداوة إبليس له كفر و قال الحسن يريد بني آدم و بني إبليس و ليس ذلك بأمر بل هو تحذير يعني أن الله تعالى لا يأمر بالعداوة فالأمر مختص بالهبوط و المعاداة يجري مجرى الحال لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص ب آدم و حواء فالمراد به أن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا و علق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية و بين أصلها و قوله « و لكم في الأرض مستقر » أي مقر و مقام و ثبوت بأن جعل الأرض قرارا لكم « و متاع » أي استمتاع « إلى حين » إلى وقت الموت و قيل إلى يوم القيامة و قيل إلى فناء الآجال أي كل امرىء مستقر إلى فناء أجله و قال أبو بكر السراج لو قال و لكم في الأرض مستقر و متاع لظن أنه غير منقطع فقال « إلى حين » أي إلى حين انقطاعه و الفرق بين قول القائل أن هذا لكم حينا و بين قوله « إلى حين » إلى أن يدل على الانتهاء و لا بد أن يكون له ابتداء و ليس كذلك الوجه الآخر و في هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية و لا يصد أحدا عن الطاعة و لا يخرجه عنها
مجمع البيان ج : 1 ص : 199
و لا يسبب المعصية ذلك إلى الشيطان جل ربنا و تقدس عما نسبه إلى إبليس و الشياطين و يدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي .
فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلِمَت فَتَاب عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّاب الرَّحِيمُ(37)

القراءة

قرأ ابن كثير آدم بالنصب و كلمات بالرفع و قرأ الباقون برفع « آدم » و نصب « كلمات » .

الحجة

حجة ابن كثير في نصب آدم أنه في المعنى كالقراءة الأخرى فإن الأفعال المتعدية على ثلاثة أضرب منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به و المفعول فاعلا نحو ضرب زيد عمروا و منها ما لا يجوز لك فيه نحو أكلت الخبز و نحوه و منها ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى كإسناده إلى المفعول به نحو نلت و أصبت و تلقيت تقول نالني خير و نلت خيرا و أصابني شيء و أصبت شيئا و تلقاني زيد و تلقيت زيدا و مثل هذه الآية قوله تعالى « لا ينال عهدي الظالمين » و في حرف عبد الله فيما قيل ( لا ينال عهدي الظالمون ) .

اللغة

التلقي نظير التلقن يقال تلقيت منه أي أخذت و قبلت و أصله من لقيت خيرا فتعدى إلى مفعول واحد ثم يعدى إلى مفعولين بتضعيف العين نحو لقيت زيدا خيرا كقوله تعالى « و لقاهم نضرة و سرورا » و مطاوعة تلقيته بالقبول أي قبلته منه و من ذلك قول أبي مهدية في آيات من القرآن تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة تلقاها من رسول الله و تلقيت الرجل استقبلته و تلقاني استقبلني و كلمات جمع كلمة و الكلمة اسم جنس لوقوعها على الكثير من ذلك و القليل قالوا قال امرؤ القيس في كلمته يعنون في قصيدته و قال قس في كلمته يعنون خطبته فقد وقعت على الكثير و قيل لكل واحد من الكلم الثلاث كلمة فوقعت على القليل من الاسم المفرد و الفعل المفرد و الحرف المفرد و أما الكلام فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم و على هذا جاء التنزيل قال الله تعالى « يريدون أن يبدلوا كلام الله » يعني به قوله تعالى « فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا » أ لا ترى إلى قوله كذلكم قال الله من قبل يقال كلمه تكليما و كلاما و تكلم تكلما و الكلم الجرح يقال كلمته أكلمه و أصل الباب التأثر و الكلم أثر دال على الجارح و الكلام أثر دال على المعنى الذي تحته و الذي حرره المتكلمون في حد الكلام هو أنه ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة و قال بعضهم هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة ليتميز من
مجمع البيان ج : 1 ص : 200
الكتابة التي ليست بمسموعة و يتميز من أصوات كثير من الطيور لأنها ليست بمتميزة و ينقسم الكلام إلى مهمل و مستعمل و إنما أراد سيبويه بقوله إن المهمل لا يكون كلاما أنه لا يكون مفيدا إذ الكلام عنده لا يقع إلا على المفيد و به قال أبو القاسم البلخي و التوبة و الإقلاع و الإنابة في اللغة نظائر و ضد التوبة الإصرار و الله تعالى يوصف بالتواب و معناه أنه يقبل التوبة عن عباده و أصل التوبة الرجوع عما سلف و الندم على ما فرط فالله تعالى تائب على العبد بقبول توبته و العبد تائب إلى الله تعالى بندمه على معصيته .

المعنى

قوله « فتلقى آدم » أي قبل و أخذ و تناول على سبيل الطاعة « من ربه » و رب كل شيء « كلمات » و أغنى قوله « فتلقى » عن أن يقول فرغب إلى الله بهن أو سأله بحقهن لأن معنى التلقي يقيد ذلك و ينبىء عما حذف من الكلام اختصارا و لهذا قال تعالى « فتاب عليه » لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سأل بتلك الكلمات و على قراءة من قرأ فتلقى آدم من ربه كلمات لا يكون معنى التلقي القبول بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة و اختلف في الكلمات ما هي فقيل هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية عن الحسن و قتادة و عكرمة و سعيد بن جبير و أن في ذلك اعترافا بالخطيئة فلذلك وقعت موقع الندم و حقيقته الإنابة و قيل هي قوله ( اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ) ( اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) عن مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و قيل بل هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قيل و هي رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام أن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها فقيل له هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى و الأسماء محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين فتوسل آدم (عليه السلام) إلى ربه بهم في قبول توبته و رفع منزلته قوله « فتاب عليه » فيه حذف أي تاب آدم فتاب الله عليه أي قبل توبته و قيل تاب عليه أي وفقه للتوبة و هداه إليها بأن لقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته « إنه هو التواب » أي كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة و هو في صفة العباد الكثير التوبة و قيل إن معناه أنه يقبل التوبة و إن عظمت الذنوب فيسقط عقابها قوله « الرحيم » إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة و منعم به و أن ذلك ليس على وجه الوجوب و إنما قال فتاب عليه و لم يقل عليهما لأنه اختصر و حذف للإيجاز و التغليب كقوله سبحانه و تعالى « و الله و رسوله أحق أن يرضوه » و معناه أن يرضوهما و قوله « و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 201
إليها » و كقول الشاعر
رماني بأمر كنت منه و والدي
بريا و من جول الطوي رماني و قال الآخر :
نحن بما عندنا و أنت بما
عندك راض و الرأي مختلف فكذلك معنى الآية فتاب عليهما و قال الحسن البصري لم يخلق الله آدم إلا للأرض و لو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال و قال غيره يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى و لغيرها إن لم يعص و هو الأقوى .

[ فصل مختصر في التوبة و شروطها و الاختلاف فيها]


اعلم أن من شروط التوبة الندم على ما مضى من القبيح و العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح فإن هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها و اختلفوا فيما عداها و كل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها و الطاعة لا يصح التوبة منها و عندنا يصح التوبة إذا كانت من ترك الندب و يكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله و على هذا يحمل توبة الأنبياء (عليهم السلام) في جميع ما نطق به القرآن و قبول التوبة و إسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى غير واجب عليه عندنا و عند جميع المعتزلة واجب و قد وعد الله تعالى بذلك و إن كان تفضلا و علمنا أنه لا يخلف الميعاد و أما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه فعند أكثر المتكلمين هي صحيحة و عند أبي هاشم و أصحابه لا يصح و اعتمد الأولون على أن قالوا كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنه يفعل قبيحا آخر و إن علم قبحه كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه و اختلفوا في التوبة عند ظهور أشراط الساعة هل تصح أم لا فقال الحسن يحجب عنها عند الآيات الست و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و دابة الأرض و خويصة أحدكم يعني الموت و أمر العامة يعني القيامة و قيل لا شك أن التوبة عند بعض هذه الآيات تحجب و عند بعضها يجوز أن لا تحجب و الله أعلم .

مجمع البيان ج : 1 ص : 202
قُلْنَا اهْبِطوا مِنهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاى فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ(38)

القراءة

قرأ يعقوب فلا خوف بنصب الفاء في جميع القرآن و قرأ الباقون بالرفع و التنوين و أجمعوا على إثبات الألف في « هداي » و تحريك الياء و روي عن الأعرج بسكون الياء و هو غلط إلا أن يكون نوى الوقف و روى بعضهم هدي و هي لغة هذيل يقلبون الألف إلى الياء للياء التي بعدها لأن شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فجعل قلب الألف ياء بدل كسرها إذ الألف لا يتحرك فهو مثل علي ولدي و قالوا هوي قال أبو ذؤيب :
سبقوا هوي و أعنقوا لسبيلهم
فتخرموا و لكل جنب مضجع .

اللغة

الهبوط النزول من موضع عال إلى استفال و قد يستعمل في هبوط المنزلة قال لبيد :
كل بني حرة مصيرهم
قل و إن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا
يوما فهم للفناء و الفند و الإتيان و المجيء و الإقبال نظائر و نقيضه الذهاب و الانصراف و الاتباع و الاقتداء و الاحتذاء نظائر و التابع التالي و في الحديث القادة و الأتباع فالقادة السادة و الأتباع الذين يتبعونهم و التبيع ولد البقرة و ثلاثة أتبعة و الجمع أتابيع و التبع الظل و الخوف و الجزع و الفزع نظائر و نقيض الخوف الأمن و طريق مخوف يخافه الناس و مخيف يخيف الناس و الحزن و الغم و الهم نظائر و نقيضه السرور يقال حزن حزنا و حزنه حزنا و يقال حزنه و أحزنه و هو محزون و محزن و قال قوم لا يقولون حزنه الأمر و يقولون يحزنه فإذا صاروا إلى الماضي قالوا أحزنه و هذا شاذ نادر لأنه استعمل أحزن و أهمل يحزن و استعمل يحزن و أهمل حزن و أصل الباب غلظ الهم مأخوذ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض .

الإعراب

إما هو أن الجزاء دخلت عليها ما ليصح دخول نون التأكيد في الفعل و لو أسقطت لم يجز دخول النون لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم أو ما أشبه
مجمع البيان ج : 1 ص : 203
القسم كقولك زيد ليأتينك و لو قلت بغير لام لم يجز و كذلك تقول بعين ما أرينك و بجهد ما تبلغن و في عضة ما ينبتن شكيرها و لو قلت بعين أرينك بغير ما لم يجز فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام و تؤكد النون آخره و الأمر و النهي و الاستفهام تدخل النون فيه و إن لم يكن معه ما إذ كان الأمر و النهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه و الاستفهام مشبه به إذ كان معناه أخبرني و النون إنما تلحق للتوكيد فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى « لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا » قال الزجاج و إنما فتح ما قبل النون في قوله « يأتينكم » لسكون الياء و سكون النون الأولى قال أبو علي و لو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن و نحوه من الصحيح لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو و في هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين و جواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني و جزائه لأن الشرط و جوابه بمنزلة المبتدأ و الخبر فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه و لك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ و خبر كقولك زيد أبوه منطلق فكذلك أن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء و وقع بعد الفاء الكلام مستأنفا صلح أن يكون جزاء و غير جزاء تقول إن تأتني فأنت مكرم و لك أن تقول أن تأتني فمن يكرمك أكرمه فقوله « إما يأتينكم » شرط و يأتينكم في موضع الجزم بإن و جزاؤه الفاء و ما بعده من قوله « فمن تبع هداي » الآية و من في موضع الرفع بالابتداء و تبع في موضع الجزم بالشرط و جزاؤه الفاء و ما بعده و هو قوله « فلا خوف عليهم » و لا خوف عليهم جملة اسمية « و لا هم يحزنون » جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها و الفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء لقوله « من تبع هداي » و الشرط و الجزاء مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته من في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو من ثم الفاء و ما بعده من قوله « فمن تبع هداي » الآية في موضع جزم بأنه جزاء لقوله « إما يأتينكم » و هذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة و ذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه .

المعنى

ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض فقال « اهبطوا » أي انزلوا و الخطاب لآدم و حواء على ما ذكرناه من الاختلاف فيه فيما تقدم و اختلف في تكرار الهبوط فقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي و قيل إنما كرر للتأكيد و قيل إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله « و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو » إن الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض و بين بقوله « قلنا اهبطوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 204
منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى » أن الإهباط إنما كان للابتلاء و التكليف كما يقال اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا و إن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين « فإما يأتينكم مني هدى » أي بيان و دلالة و قيل أنبياء و رسل و على هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله اهبطوا لآدم و حواء و ذريتهما كقوله تعالى « فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين » أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين « فمن تبع هداي » أي اقتدى برسلي و احتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب و لا هم يحزنون على فوات الثواب فأما الخوف و الحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه و في هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت و لا اهتداء و أن الاهتداء إنما يقع بالإتباع و القبول .
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(39)

اللغة

الكفر و التكذيب قد مضى معناهما فيما تقدم ذكره و الآيات جمع آية و معنى الآية في اللغة العلامة و منه قوله تعالى « عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك » أي علامة لإجابتك دعاءنا و كل آية من كتاب الله علامة و دلالة على المضمون فيها و قال أبو عبيدة معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها و انقطاعه من الذي بعدها و قيل إن الآية القصة و الرسالة قال كعب بن زهير :
أ لا أبلغا هذا المعرض آية
أ يقظان قال القول إذ قال أم حلم أي رسالة فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي قصة تتلو قصة و قال ابن السكيت خرج القوم بأيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا و على هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص و الأصحاب جمع الصاحب و هو القرين و أصل الصحبة المقارنة فالصاحب هو الحاصل مع آخر مدة لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له لكن يقال صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه .

الإعراب

موضع أولئك يحتمل ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن يكون بدلا من الذين أو عطف بيان و أصحاب النار بيان عن أولئك مجراه مجرى الوصف و الخبر هم فيها خالدون و الثاني أن يكون ابتداء و خبرا في موضع الخبر الأول و الثالث أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد كقولك هذا حلو حامض فإن قيل فلم دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله
مجمع البيان ج : 1 ص : 205
« فأولئك لهم عذاب مهين » و لم يدخل هاهنا قلنا لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي و أخواته مشبه بالجزاء و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر و إذا قلت ما لي فهو لك أن أردت ما بمعنى الذي جاز و إن أردت به المال لم يجز .

المعنى

« الذين كفروا » أي جحدوا « و كذبوا ب آياتنا » أي دلالاتنا و ما أنزلناه على الأنبياء ف « أولئك أصحاب النار » أي الملازمون للنار « هم فيها خالدون » أي دائمون و في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه و كذب ب آيات ربه فهو مخلد في نار جهنم و آيات الله دلائله و كتبه المنزلة على رسله و الآية مثل الحجة و الدلالة و إن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا و لا يقال آيته و من استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله « و كذبوا ب آياتنا » فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه و إن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس و غيره .
يَبَنى إِسرءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتىَ الَّتى أَنْعَمْت عَلَيْكمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّىَ فَارْهَبُونِ(40)

القراءة

القراءة المشهورة « إسرائيل » مهموز ممدود مشبع و هو الفصيح و روي في الشواذ عن الحسن و الزهري إسرايل بلا همز و لا مد و عن الأعمش و عيسى بن عمر كذلك و حكي عن الأخفش إسرائل بكسر الهمزة من غير ياء و حكى قطرب إسرال من غير همز و لا ياء و إسرئين بالنون قال أبو علي العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و أنشد :
هل تعرف الدار لأم الخزرج
منها فظلت اليوم كالمزرج يريد المزرجن و هو الخمر من الزرجون قال و النون في زرجون أصل كالسين في قربوس فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها فكيف فيما ليس من لغتها و اختير تحريك الياء في قوله « نعمتي التي أنعمت » لأنه لقيها ألف الوصل و اللام فلم يكن بد من إسقاطها أو تحريكها فكان التحريك أولى لأنه أدل على الأصل و أشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل و إسكان الياء من قوله « يا عبادي الذين أسرفوا » أي الإسقاط هاهنا أجود لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء و إذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها و الاختيار
مجمع البيان ج : 1 ص : 206
في قوله « فبشر عباد الذين يستمعون القول » حذف الياء لأنه رأس آية و رءوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله « فارهبون » إلا ابن كثير فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء .

اللغة

الابن و الولد و النسل و الذرية متقاربة المعاني إلا أن الابن للذكر و الولد يقع على الذكر و الأنثى و النسل و الذرية يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشيء على الشيء فالابن مبني على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع و البنوة مصدر الابن و إن كان من الياء كالفتوة مصدر الفتى و تثنيته فتيان و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و قيل أصله مضاف لأن إسر معناه عبد وايل هو الله بالعبرانية فصار مثل عبد الله و كذلك جبرائيل و ميكائيل و الذكر الحفظ للشيء بذكره و ضده النسيان و الذكر جري الشيء على لسانك و الذكر الشرف في قوله « و إنه لذكر لك و لقومك » و الذكر الكتاب الذي فيه تفصيل الدين و كل كتاب من كتب الأنبياء ذكر و الذكر الصلاة و الدعاء و في الأثر كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي إلى الصلاة و أصل الباب التنبيه على الشيء قال صاحب العين تقول وفيت بعهدك وفاء و أوفيت لغة تهامة قال الشاعر في الجمع بين اللغتين :
أما ابن عوف فقد أوفى بذمته
كما وفى بقلاص النجر حاديها يعني به الدبران و هو التالي و العهد الوصية و الرهبة الخوف و ضدها الرغبة و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم .

الإعراب

يا حرف النداء و هي في موضع نصب لأنه منادى مضاف و إسرائيل في موضع جر لأنه مضاف إليه و فتح لأنه غير منصرف و فيه سببان العجمة و التعريف و قوله « و إياي » ضمير منصوب و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله « فارهبون » لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك زيدا فاضربه منصوب باضربه و لكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ و تقديره و إياي ارهبوا فارهبون و لا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره و إن صح تقديره و لا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر فارهبون إلا
مجمع البيان ج : 1 ص : 207
على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه :
و قائلة خولان فانكح فتاتهم
و أكرومة الحيين خلو كما هيأ تقديره هؤلاء خولان فانكح فتاتهم و على ذلك حمل قوله تعالى « و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما » و « الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة » و تقديره و فيما يتلى عليكم السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما و فيما فرض عليكم الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما .

المعنى

لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده و ذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم (عليه السلام) خص بني إسرائيل بالحجج و ذكرهم ما أسدى إليهم و إلى آبائهم من النعم فقال « يا بني إسرائيل » يعني يا بني يعقوب نسبهم إلى الأب الأعلى كما قال يا بني آدم و الخطاب لليهود و النصارى و قيل هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة و ما حولها عن ابن عباس « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم و الكتب و إنجائهم من فرعون و من الغرق على أعجب الوجوه و إنزال المن و السلوى عليهم و كون الملك فيهم في زمن سليمان (عليه السلام) و غير ذلك و عد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء و هذا كما يقال في المفاخرة قتلناكم يوم الفخار و هزمناكم يوم ذي قار و غلبناكم يوم النسار و ذكر النعمة بلفظ الواحد و المراد بها الجنس كقوله تعالى « و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » و الواحد لا يمكن عده و قيل المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم و اشتركوا فيه مع آبائهم فكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم و من ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده و الوصول إلى معرفته فيشكروا نعمه و يستحقوا ثوابه و من ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق و يدفع عنهم من المكاره و الأسواء و ما يسبغ عليهم من نعم الدين و الدنيا فعلى القول الأول تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم و على القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم ، و من النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله « و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » و قال ابن الأنباري أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة و بينت لكم من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ألزمتكم من تصديقه و اتباعه فلما بعث و لم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة و قوله « و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم » قيل فيه
مجمع البيان ج : 1 ص : 208
وجوه ( أحدها ) أن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد فمن تبعه كان له أجران اثنان أجر باتباعه موسى و إيمانه بالتوراة و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه فقال « أوفوا بعهدي » في محمد « أوف بعهدكم » أدخلكم الجنة عن ابن عباس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق و قيل إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين كما قال سبحانه « و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه » ( و ثانيها ) أنه العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال « خذوا ما آتيناكم بقوة » أي بجد « و اذكروا ما فيه » أي ما في الكتاب عن الحسن ( و ثالثها ) أنه ما عهد إليهم في سورة المائدة حيث قال « و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا و قال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و آمنتم برسلي » الآية عن قتادة ( و رابعها ) أنه أراد جميع الأوامر و النواهي ( و خامسها ) أنه جعل تعريفه إياهم نعمة عهدا عليهم و ميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم كما يلزمهم الوفاء بالعهد و الميثاق الذي يؤخذ عليهم و الأول أقوى لأن عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن و قوله « و إياي فارهبون » أي خافوني في نقض العهد و في هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة و في الحديث التحدث بالنعم شكر و فيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم و كفرانها و لحوق الوعيد الشديد بكتمانها و يدل أيضا على ثبوت أفعال العباد إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و لأدى إلى بطلان الرسل و الكتب .
وَ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْت مُصدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرِ بِهِ وَ لا تَشترُوا بِئَايَتى ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّىَ فَاتَّقُونِ(41)

اللغة

قوله « أول كافر » قال الزجاج يعني أول الكافرين و فيه قولان قال الأخفش معناه أول من كفر به و قال غيره من البصريين معناه أول فريق كافر به أي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال و كلا القولين صواب حسن و نظير قوله « أول كافر به » قال الشاعر :
و إذا هم طعموا فالأم طاعم
و إذا هم جاعوا فشر جياع و الثمن و العوض و البدل نظائر و بينها فروق فالثمن هو البدل في البيع من العين أو الورق و إذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما و مجازا و العوض هو البدل الذي ينتفع به
مجمع البيان ج : 1 ص : 209
كائنا ما كان و البدل هو الشيء الذي يجعل مكان غيره و ثوب ثمين كثير الثمن و الثمين الثمن و الفرق بين الثمن و القيمة أن الثمن قد يكون وفقا و قد يكون بخسا و قد يكون زائدا و القيمة لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن من غير نقصان و لا زيادة .

الإعراب

مصدقا نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من أنزلت كأنه قال أنزلته مصدقا و يصلح أن ينتصب ب آمنوا كأنه قال آمنوا بالقرآن مصدقا و معكم صلة لما و العامل فيه الاستقرار أي الذي استقر معكم و الهاء في به عائد إلى ما في قوله « بما أنزلت » إلى ما في قوله « لما معكم » و نصب « أول كافر » لأنه خبر كان .

المعنى

ثم قال مخاطبا لليهود « و آمنوا » أي صدقوا « بما أنزلت » على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن لأنه منزل من السماء إلى الأرض « مصدقا لما معكم » من التوراة أمرهم بالتصديق بالقرآن و أخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تصديقه نظير الذي في التوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة لأن فيه الدلالة على أنه حق و أنه من عند الله و الأول أوجه لأنه يكون حجة عليهم بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى و عيسى (عليهماالسلام) و قوله « و لا تكونوا أول كافر به » أي بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشا قد كانت قد كفرت به بمكة قبل اليهود و قيل المعنى و لا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به عن أبي العالية و قيل المعنى و لا تكونوا أول جاحدين صفة النبي في كتابكم فعلى هذا تعود الهاء في به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن جريج و قيل المعنى و لا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقد كفرتم به قال الزجاج و قواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم « و لا تكونوا أول كافر به » قال و لو كان الهاء في به للقرآن فلا فائدة فيه لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن و قال علي بن عيسى يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم و إنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم و قدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم نحو ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة و ليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه
مجمع البيان ج : 1 ص : 210
يجوز أن يكونوا آخر كافر لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال و خص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر
من أناس ليس في أخلاقهم
عاجل الفحش و لا سوء الجزع و ليس يريد أن فيهم فحشا آجلا و قوله « و لا تشتروا ب آياتي ثمنا قليلا » روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية قال كان حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية قال الفراء إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن في سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله « و شروه بثمن بخس دراهم معدودة » لأن العروض كلها أنت مخير فيها إن شئت قلت اشتريت الثوب بكساء و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله « و شروه بثمن بخس دراهم » لأن الدراهم ثمن أبدا و المعنى لا تستبدلوا ب آياتي أي بما في التوراة من بيان صفة محمد و نعته ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا « و إياي فاتقون » فاخشوني في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا ما يفوتكم من المأكل و الرئاسة و تقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به لأن المقصود أن أي شيء باعوا به آيات الله كان قليلا و أنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه كقوله « و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به » و إنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال و أنه لا يجوز أن يكون عليه برهان و مثله قوله « و يقتلون النبيين بغير حق » و إنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق و نظائر ذلك كثيرة و منه قول امرىء القيس :
على لأحب لا يهتدى بمنارة
إذا سافه العود الديافي جرجرا و إنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدي به و في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام و هذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين فتدخل فيه الشهادات و القضايا و الفتاوى و غير ذلك .
وَ لا تَلْبِسوا الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ(42)
 
<<        الفهرس        >>