جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 110

النظم

و أما نظم هذه السورة فأقول فيه أن العاقل المميز إذ عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة و كان له من نفسه بذلك أعدل شاهد و أصدق رائد ابتدأ ب آية التسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا إلى ذكر فضله و رحمته و لما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد فقال الحمد لله و لما رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال رب العالمين و لما رأى شمول فضله للمربوبين و عموم رزقه للمرزوقين قال الرحمن و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و تعذيرهم في الانزجار عند زجره و اجتناب نهيه و امتثال أمره و أنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران و لا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان و لا يسلبهم نعمه بالكفران قال الرحيم و لما رأى ما بين العباد من التباغي و التظالم و التكالم و التلاكم و أن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال مالك يوم الدين و إذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقا رازقا رحيما يحيي و يميت و يبديء و يعيد و هو الحي لا يشبهه شيء و الإله الذي لا يستحق العبادة سواه و لما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال إياك نعبد و هذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب و لما رأى اعتراض الأهواء و الشبهات و تعاور الآراء المختلفات و لم يجد معينا غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها و الوصلات فقال و إياك نستعين و لما عرف هذه الجملة و تبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى و استقام على منهج الهدى و لم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه و الثبات و العصمة من الزلات فقال اهدنا الصراط المستقيم و هذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام و التوفيق لإقامة شرائع الإسلام و الاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام و اجتناب المحارم و الآثام و إذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عبادا خصهم بنعمته و اصطفاهم على بريته و جعلهم حججا على خليقته فسأله أن يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم و أن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين و الضالين المضلين ممن عاند الحق و عمي عن طريق الرشد و خالف سبيل القصد فغضب الله عليه و لعنه و أعد له الخزي المقيم و العذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضل عن سواء السبيل فقال صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين .

مجمع البيان ج : 1 ص : 111
( 2 ) سورة البقرة مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان ( 286 )
مدنية كلها إلا آية واحدة منها و هي قوله و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى عدد آيها مائتان و ست و ثمانون آية في العدد الكوفي و هو العدد المروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و سبع في العدد البصري و خمس حجازي و أربع شامي خلافها إحدى عشر آية عد الكوفي الم آية و عد البصري إلا خائفين آية و قولا معروفا بصري عذاب أليم شامي مصلحون غيرهم يا أولي الألباب عراقي و المدني الأخير من خلاف الثاني غير المدني الأخير يسألونك ما ذا ينفقون مكي و المدني الأول تتفكرون كوفي و شامي و المدني الأخير الحي القيوم مكي بصري و المدني الأخير من الظلمات إلى النور .
المدني الأول و روي عن أهل مكة و لا يضار كاتب و لا شهيد .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأها فصلوات الله عليه و رحمته و أعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته و قال لي يا أبي مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة قلت يا رسول الله ما البطلة قال السحرة و روى سهل بن سعد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن لكل شيء سناما و سنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعث بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم فجاء إنسان منهم فقال ما ذا معك من القرآن حتى أتى على أحدثهم سنا فقال له ما ذا معك من القرآن قال كذا و كذا و سورة البقرة فقال أخرجوا و هذا عليكم أمير قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو أحدثنا سنا قال معه سورة البقرة و سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي سور القرآن أفضل قال البقرة قيل أي آي البقرة أفضل قال آية الكرسي فقال الصادق (عليه السلام) من قرأ البقرة و آل عمران جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين
مجمع البيان ج : 1 ص : 112

تفسيرها

سورة البقرة
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم(1)
( كوفي ) اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها و لا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و روت العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال إن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي و عن الشعبي قال : لله في كل كتاب سر و سره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور و فسرها الآخرون على وجوه .
( أحدها ) إنها أسماء السور و مفاتحها عن الحسن و زيد بن أسلم ( و ثانيها ) أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله تعالى « الم » معناه أنا الله أعلم و « المر » معناه أنا الله أعلم و أرى و « المص » معناه أنا الله أعلم و أفصل و الكاف في كهيعص من كاف و الهاء من هاد و الياء من حكيم و العين من عليم و الصاد من صادق عن ابن عباس و عنه أيضا أن « الم » الألف منه تدل على اسم الله و اللام تدل على اسم جبرائيل و الميم تدل على اسم محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا (عليهماالسلام) قال سئل جعفر بن محمد الصادق عن قوله « الم » فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى ( الابتداء ) فإن الله ابتدأ جميع الخلق و الألف ابتداء الحروف و ( الاستواء ) فهو عادل غير جائر و الألف مستو في ذاته و ( الانفراد ) فالله فرد و الألف فرد و ( اتصال الخلق بالله ) و الله لا يتصل بالخلق و كلهم محتاجون إلى الله و الله غني عنهم و كذلك الألف لا يتصل بالحروف و الحروف متصلة به و هو منقطع من غيره و الله عز و جل بائن بجميع صفاته من خلقه و معناه من الألفة فكما أن الله عز و جل سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف و هو سبب ألفتها ( و ثالثها ) أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول الر و حم و ن فيكون الرحمن و كذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها و الجمع بينها عن سعيد بن جبير ( و رابعها ) أنها أسماء القرآن عن قتادة ( و خامسها ) أنها أقسام أقسم الله تعالى بها و هي من أسمائه عن ابن عباس و عكرمة قال الأخفش و إنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة
مجمع البيان ج : 1 ص : 113
لشرفها و فضلها و لأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة و أسمائه الحسنى و صفاته العليا و أصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون و يذكرون الله عز اسمه و يوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه و كلامه ( و سادسها ) أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى و ليس فيها حرف إلا و هو في آلائه و بلائه و ليس فيها حرف إلا و هو في مدة قوم و آجال آخرين عن أبي العالية و قد ورد أيضا مثل ذلك في أخبارنا ( و سابعها ) أن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور بإسقاط المكرر فبلغت سبع مائة و أربعا و أربعين سنة و هي بقية مدة هذه الأمة قال علي بن فضال المجاشعي النحوي و حسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف و خمسا و ستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة و ثلاث و تسعون و الله أعلم بما فيها و أقول قد حسبتها أنا أيضا فوجدتها كذلك و يروى أن اليهود لما سمعوا « الم » قالوا مدة ملك محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قصيرة إنما تبلغ إحدى و سبعين سنة فلما نزلت الر المر و المص و كهيعص اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير ( و ثامنها ) أن المراد بها حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية و العشرين حرفا كما يستغني بذكر قفانبك عن ذكر باقي القصيدة و كما يقال أب في أبجد و في أ ب ت ث و لم يذكروا باقي الحروف قال الراجز :
لما رأيت أنها في حطي
أخذت منها بقرون شمط و إنما أراد الخبر عن المرأة بأنها في أبجد فأقام قوله حطي مقامه لدلالة الكلام عليه ( و تاسعها ) أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن و أن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قوله « لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه » الآية فربما صفروا و ربما صفقوا و ربما لغطوا ليغلطوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه و تفكروا و اشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم و يكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم ( و عاشرها ) أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم و إنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة و هو المحكي عن قطرب و اختاره أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني .

اللغة

أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام
مجمع البيان ج : 1 ص : 114
منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية و لهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي و لا خلاف بين النحويين أنه يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تابط شرا و برق نحره و كل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولا إلى العلمية و كذلك أشباهه و لو سميت بالم لحكيت جميع ذلك و أما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تمامها فنحوه قول الشاعر :
نادوهم أن ألجموا ألاتا
قالوا جميعا كلهم ألافا يريد أ لا تركبون قالوا ألا فاركبوا و قول الآخر :
قلنا لها قفي قالت قاف
لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف يريد قالت أنا واقفة .

الإعراب

أما موضع « الم » من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب أما على مذهب الحسن فموضعها رفع على إضمار مبتدإ محذوف كأنه قال هذه الم و أجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ و ذلك الكتاب خبره و تقديره حروف المعجم ذلك الكتاب و هذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى و لم يكن الكتاب هو حروف المعجم و يجوز أن يكون الم في موضع نصب على إضمار فعل تقديره اتل الم و أما على مذهب من جعلها قسما فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإن معنى قولك بالله أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلن و أما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام أو حروفا مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لا حظ له في الإعراب و إنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم و إن زيدا أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم و إن زيدا قائم و هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني
مجمع البيان ج : 1 ص : 115
على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم و تقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين و ألف اثنين ألف وصل و تذكر الهاء في ثلاثة و أربعة و لو لا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء و يدل عليه قول الشاعر :
أقبلت من عند زياد كالخرف
تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام ألف كأنه قال لام ألف و لكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها و إذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالإخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة و أخرجتها بذلك من حيز الأصوات كما قال الشاعر
كما بينت كاف تلوح و ميمها ) و قال آخر :
إذا اجتمعوا على ألف و باء
و واو هاج بينهم جدال و تقول هذا كاف حسن و هذه كاف حسنة من ذكره فعلى معنى الحرف و من أنثه فعلى معنى الكلمة .
ذَلِك الْكتَب لا رَيْب فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)

القراءة

قرأ ابن كثير فيهي هدى يوصل الهاء بياء في اللفظ و كذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو و وافقه حفص في قوله فيهي مهانا و قتيبة في قوله فملاقيه و سأصليه و الباقون لا يشبعون و إذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه .

الحجة

اعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه فيهو و فيهي و فيه و فيه و الأصل فيهو كما قيل لهو مال فمن كسر الهاء من فيه و نحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء أو الكسرة قبل الهاء و الهاء تشبه الألف لكونها من حروف الحلق و لما فيها من الخفاء فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان و من ترك الإشباع فلكراهة اجتماع المشابهة فإن الهاء حرف خفي فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كان الساكنين التقيا لخفاء الهاء فإنهم لم يعتدوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 116
بها حاجزا في نحو فيهي و خذ و هو كما لم يعتد بها في نحو رد من أتبع الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال ردها بالفتح لا غير و لم يتبع الضم الضم و جعل الدال كأنها لازقة بالألف و أما من أشبع و أتبعها الياء قال الهاء و إن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها فإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها .

اللغة

ذلك لفظة يشار بها إلى ما بعد و هذا إلى ما قرب و الاسم من ذلك ذا و الكاف زيدت للخطاب و لا حظ لها من الإعراب و اللام تزاد للتأكيد و كسرت لالتقاء الساكنين و تسقط معها هاء تقول ذاك و ذلك و هذاك و لا تقول هذالك و الكتاب مصدر و هو بمعنى المكتوب كالحساب قال الشاعر :
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة
أتتك من الحجاج يتلى كتابها أي مكتوبها و أصله الجمع من قولهم كتبت القربة إذا خرزتها و الكتبة الخرزة و كتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة و منه قيل للجند كتيبة لانضمام بعضهم إلى بعض و الريب الشك و قيل هو أسوء الشك و هو مصدر رابني الشيء من فلان يريبني إذا كانت مستيقنا منه بالريبة فإذا أسأت به الظن و لم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة و أراب الرجل إذا صار صاحب ريبة كما قيل ألام أي استحق أن يلام و الهدى الدلالة مصدر هديته و فعل قليل في المصادر قال أبو علي يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل و إن لم يكن في المصادر كما كان كينونة و نحوه لا يكون في الصحيح و الفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى أو اللام كقوله « و اهدنا إلى سواء الصراط و الحمد لله الذي هدانا لهذا » و قد يحذف منه حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول نحو اهدنا الصراط المستقيم أي دلنا عليه و اسلك بنا فيه و كأنه استنجاز لما وعدوا به في قوله « يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام » أي سبل دار السلام و الأصل في المتقين الموتقين مفتعلين من الوقاية فقلبت الواو تاء و أدغمتها في التاء التي بعدها و حذفت الكسرة من الياء استثقالا لها ثم حذفتها لالتقاء الساكنين فبقي متقين و التقوى أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث و أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين يقال اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه و بينه قال الشاعر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 117

فألقت قناعا دونها الشمس و اتقت
بأحسن موصولين كف و معصم و منه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر .

الإعراب

ذلك في موضع رفع من وجوه ( أحدها ) أن تجعله خبرا عن الم كما مضى القول فيه ( و ثانيها ) أن يكون مبتدأ و الكتاب خبره ( و ثالثها ) أن يكون مبتدأ و الكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه و لا ريب فيه جملة في موضع الخبر ( و رابعها ) أن يكون مبتدأ و خبره هدى و يكون لا ريب في موضع الحال و العامل في الحال معنى الإشارة ( و خامسها ) أن يكون لا ريب فيه و هدى جميعا خبرا بعد خبر كقولك هذا حلو حامض أي جمع الطعمين و منه قول الشاعر :
من يك ذا بت فهذا بتي
مقيظ مصيف مشتي ( و سادسها ) أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا ذلك الكتاب و إن حملت على هذا الوجه أو على أنه مبتدأ و لا ريب فيه الخبر أو على أنه خبر الم أو على أن الكتاب خبر عنه كان قوله « هدى » في موضع نصب على الحال أي هاديا للمتقين و العامل فيه معنى الإشارة و الاستقرار الذي يتعلق به فيه و قوله « لا ريب » قال سيبويه لا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين و قال غيره من حذاق النحويين جعل لا مع النكرة الشائعة مركبا فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف لأنه جعل جزءا من الاسم بدلالة أنك تضيف إليه مجموعا و تدخل عليه حرف الجر فتقول جئتك بلا مال و لا زاد فلما صار كذلك بني على الفتح و هما جميعا في موضع الرفع على الابتداء فموضع خبره موضع خبر المبتدأ و على هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر و يجوز أن تجعله صفة فإن جعلته صفة أضمرت الخبر و إن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ و على قول أبي الحسن الأخفش موضعه رفع و الموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل أ لا ترى أن الضمير قد صار في الظرف و أما قوله « هدى » فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل و هو أن يكون خبرا عن ذلك أحدها أن يكون مبتدأ و فيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبرا كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى و الوقف على هذا الوجه على قوله « لا ريب فيه » و يبتدىء هدى للمتقين و الوجه الثاني أن يكون خبرا عن الم على قول من جعله اسما
مجمع البيان ج : 1 ص : 118
للسورة و الوجه الثالث أن يكون خبرا لمبتدء محذوف تقديره هو هدى .

المعنى

المراد بالكتاب القرآن و قال الأخفش ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضرا و أنشد لخفاف بن ندبة
أقول له و الرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا أي أنا هذا و هذا البيت يمكن إجراؤه على ظاهره أي إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته و إذا جرى للشيء ذكر يجوز أن يقول السامع هذا كما قلت و ذلك كما قلت و تقول أنفقت ثلاثة و ثلاثة فهذا ستة أو فذلك ستة و إنما تقول هذا لقربه بالإخبار عنه و تقول ذلك لكونه ماضيا و قيل إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك عن الفراء و أبي علي الجبائي و قيل معناه هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة عن المبرد و من قال إن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل فقوله فاسد لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه و أنه هدى و وصف ما في أيدي اليهود و النصارى بأنه محرف بقوله يحرفون الكلم عن مواضعه و معنى قوله « لا ريب فيه » أي أنه بيان و هدى و حق و معجز فمن هاهنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الإخبار بنفي شك الشاكين و قيل أنه على الحذف كأنه قال لا سبب شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس و التعقيد و التناقض و الدعاوي العارية من البرهان و هذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى و قيل إن معناه النهي و إن كان لفظه الخبر أي لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه كقوله تعالى « لا رفث و لا فسوق » و أما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم و إن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به و اهتدوا بهداه كما قال إنما أنت منذر من يخشاها و إن كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) منذرا لكل مكلف لأنه إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم و بين في آية أخرى أنه هدى للناس .

] فصل في التقوى و المتقي [


روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال جماع التقوى في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل و الإحسان الآية و قيل المتقي الذي اتقى ما حرم عليه و فعل ما أوجب عليه
مجمع البيان ج : 1 ص : 119
و قيل هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك فقال نعم قال فما عملت فيه قال حذرت و تشمرت فقال كعب ذلك التقوى و نظمه بعض الناس فقال .

خل الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى
و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة أن الجبال من الحصى و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس و قال عمر بن عبد العزيز التقي ملجم كالمجرم في الحرم و قال بعضهم التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصلَوةَ وَ ممَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ(3)

القراءة

قرأ أبو جعفر و عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل يؤمنون و يأكلون و يؤتون و بئس و نحوها و يتركان كثيرا من المتحركة مثل يؤده و لا يؤاخذكم و يؤيد بنصره و مذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره و أما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل ننسئها و تسؤكم و يهيىء لكم و من يشأ و ينبئهم و اقرأ كتابك و نحوها فإنه لا يترك الهمزة فيها و روي عنه الهمزة أيضا في الساكنة و أما نافع فيترك كل همزة ساكنة و متحركة إذا كانت فاء من الفعل نحو يؤمنون و لا يؤاخذكم و اختلفت قراءة الكسائي و حمزة و لكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره فالهمز على الأصل و تركه للتخفيف .

اللغة و الإعراب

الذين جمع الذي و اللائي و اللاتي جمع التي و تثنيتهما اللذان و اللتان في حال الرفع و اللذين و اللتين في حال الجر و النصب و هي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من و ما و أي و صلاتها لا تكون إلا جملا خبرية يصح فيها الصدق و الكذب و لا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول فإذا استوفت الموصولات صلاتها كانت في تأويل اسم مفرد مثل زيد و عمرو و يحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة فقوله « الذين » موصول و يؤمنون صلته و يحتمل أن يكون محله نصبا و جرا و رفعا فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون و أما الجر فعلى أنه صفة للمتقين و أما الرفع فعلى المدح أيضا كأنه لما قيل هدى للمتقين قيل من هم قيل هم الذين يؤمنون بالغيب فيكون خبر مبتدإ محذوف و يؤمنون
مجمع البيان ج : 1 ص : 120
معناه يصدقون و الواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين و النون علامة الرفع و الأصل في يفعل يؤفعل و لكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية فقيل أفعل ثم حذفت من الصيغ الآخر نفعل و تفعل و يفعل كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء و كسرة إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد و أعد و نعد ليجري الباب على سنن واحد قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى و ما أنت بمؤمن لنا أي ما أنت بمصدق لنا قال أبو زيد و قالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فالإيمان هو الثقة و التصديق قال الله تعالى « الذين آمنوا ب آياتنا » أي صدقوا و وثقوا بها و قال الشاعر أنشده ابن الأنباري :
و من قبل آمنا و قد كان قومنا
يصلون للأوثان قبل محمدا و معناه آمنا محمدا أي صدقناه و يجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل تقول أمنته ف آمن مثل كببته فأكب و الأمن خلاف الخوف و الأمانة خلاف الخيانة و الأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها و كلالها و يجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا آمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب و أعاه و أصح و أسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جربا هذا في أصل اللغة أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى و أنبيائه و ملائكته و كتبه و البعث و النشور و الجنة و النار و أما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن فإنه يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين فصار من أمن زيد العذاب و آمنته العذاب فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه و من هذا وصفه سبحانه بالعدل كقوله قائما بالقسط و هذا الوجه مروي في أخبارنا و الآخر أن يكون معناه المصدق أي يصدق الموحدين على توحيدهم إياه يدل عليه قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو لأن الشاهد مصدق لما يشهد به كما أنه مصدق من يشهد له فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين و أما الغيب فهو كلما غاب عنك و لم تشهده و قوله « بالغيب » كأنه إجمال لما فصل في قوله « كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله » أي يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله و إنزال كتبه و إرسال رسله فكل هذا غيب فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول به و فيه وجه آخر و هو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم و لم يكونوا كالمنافقين و مثله قوله و خشي الرحمن بالغيب فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع الحال أي يؤمنون غائبين عن مراءة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد و لكن يخلصونه لله و « يقيمون الصلوة » يؤدونها بحدودها و فرائضها يقال
مجمع البيان ج : 1 ص : 121
أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع و الشراء و قال الشاعر .

أقامت غزالة سوق الضراب

لأهل العراقين حولا قميطا و قال أبو مسلم « يقيمون الصلاة » أي يديمون أداء فرائضها يقال للشيء الراتب قائم و يقال فلان يقيم أرزاق الجند و الصلوة في اللغة الدعاء قال الأعشى :
و أقبلها الريح في ظلها
و صلى على دنها و ارتسم أي دعا لها و منه الحديث إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب و إن كان صائما فليصل أي فليدع له بالبركة و الخير و قيل أصله رفع الصلا في الركوع و هو عظم في العجز و قوله « و مما رزقناهم ينفقون » ما هذه حرف موصول و رزقناهم صلته و هما جميعا بمعنى المصدر تقديره و من رزقنا إياهم ينفقون أو اسم موصول و العائد من الصلة إلى الموصول محذوف و التقدير و من الذي رزقناهموه ينفقون فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون و الرزق هو العطاء الجاري و هو نقيض الحرمان و الإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله أي أخرجه عن ملكه و نفقت الدابة إذا خرج روحها و النافقاء جحر اليربوع لأنه يخرج منها و منه النفاق لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان و إلى الكافر بالكفر .

المعنى

لما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين بين صفة المتقين فقال « الذين يؤمنون بالغيب » أي يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه و قيل يصدقون بالقيامة و الجنة و النار عن الحسن و قيل بما جاء من عند الله عن ابن عباس و قيل بما غاب عن العباد علمه عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة و هذا أولى لعمومه و يدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (عليه السلام) و وقت خروجه و قيل الغيب هو القرآن عن زر بن حبيش و قال الرماني الغيب خفاء الشيء عن الحسن قرب أو بعد إلا أنه كثرت صفة غايب على البعيد الذي لا يظهر للحس و قال البلخي الغيب كل ما أدرك بالدلائل و الآيات مما يلزم معرفته و قالت المعتزلة بأجمعها الإيمان هو فعل الطاعة ثم اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض و النوافل و منهم من اعتبر الفرائض حسب و اعتبروا اجتناب الكبائر كلها و قد روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا (عليهماالسلام) أن الإيمان هو التصديق بالقلب
مجمع البيان ج : 1 ص : 122
و الإقرار باللسان و العمل بالأركان و قد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضا الإيمان قول مقول و عمل معمول و عرفان بالعقول و اتباع الرسول و أقول أن أصل الإيمان هو المعرفة بالله و برسله و بجميع ما جاءت به رسله و كل عارف بشيء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق للمخبر به من الغيب على معرفة و ثقة ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية و المالية و عطفهما عليه فقال « و يقيمون الصلوة و مما رزقناهم ينفقون » و الشيء لا يعطف على نفسه و إنما يعطف على غيره و يدل عليه أيضا أنه تعالى حيث ذكر الإيمان إضافة إلى القلب فقال و قلبه مطمئن بالإيمان و قال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الإيمان سر و أشار إلى صدره و الإسلام علانية و قد يسمى الإقرار إيمانا كما يسمى تصديقا إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل كان إيمانا لفظيا لا حقيقيا و قد تسمى أعمال الجوارح أيضا إيمانا استعارة و تلويحا كما تسمى تصديقا كذلك فيقال فلان تصدق أفعاله مقاله و لا خير في قول لا يصدقه الفعل و الفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة و إنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه فقد آل الأمر تسليم صحة الخبر و قبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب و التصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة و لا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان و العمل بالأركان مجازا و اتساعا و بالله التوفيق و قد ذكرنا في قوله « و يقيمون الصلوة » وجهين اقتضاهما اللغة و قيل أيضا إنه مشتق من القيام في الصلوة و لذلك قيل قد قامت الصلاة و إنما ذكر القيام لأنه أول أركان الصلاة و أمدها و إن كان المراد به هو و غيره و الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة و هذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع و قيل إن هذا ليس بنقل بل هو تخصيص لأنه يطلق على الذكر و الدعاء في مواضع مخصوصة و قوله تعالى « و مما رزقناهم ينفقون » يريد و مما أعطيناهم و ملكناهم يخرجون على وجه الطاعة و حكي عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة و عن ابن مسعود أنه نفقة الرجل على أهله لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة و عن الضحاك هو التطوع بالنفقة و روي محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) أن معناه و مما علمناهم يبثون و الأولى حمل الآية على عمومها و حقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع و ليس لأحد منعه منه و هذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقا لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم و المنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالاتفاق فلا يكون رزقا .

النزول

قال بعضهم هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة بدلالة قوله فيما بعد « و الذين يؤمنون بما أنزل إليك » الآية فهذا في مؤمني أهل الكتاب إذ لم يكن للعرب كتاب
مجمع البيان ج : 1 ص : 123
قبل القرآن و هذا غير صحيح لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين و إن كانت الثانية خاصة في قوم منهم و يجوز أن يكون المراد بالآيات قوما واحدا وصفوا بجميع ذلك بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف كقول الشاعر .

إلى الملك القرم و ابن الهمام
و ليث الكتيبة في المزدحم .
وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَ مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِك وَ بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)

القراءة

أهل الحجاز غير ورش و أهل البصرة لا يمدون حرفا لحرف و هو أن تكون المدة من كلمة و الهمزة من أخرى نحو « بما أنزل إليك » و نحوه و أما أهل الكوفة و ابن عامر و ورش عن نافع فإنهم يمدون ذلك و ورش أطولهم مدا ثم حمزة ثم عاصم برواية الأعشى و الباقون يمدون مدا وسطا من غير إفراط فالمد للتحقيق و حذفه للتخفيف و أما السكتة بين المدة و الهمزة فعن حمزة و وافقه عاصم و الكسائي على اختلاف عنهما و كان يقف حمزة قبل الهمزة أيضا فيسكت على اللام شيئا من قوله بالآخرة ثم يبتدىء بالهمزة و كذلك يقطع على الياء من شيء كأنه يقف ثم يهمز و الباقون بغير سكتة .

الإعراب

إليك و لديك و عليك الأصل فيها إلاك و علاك و لداك إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء ليفصل بين الألف في آخر الاسم المتمكن و بينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له أ لا ترى أن إلى و على و لدى لا تنفرد من الإضافة فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير لأنها لا تنفرد و لا تكون كلاما إلا بالإضافة و ما موصول و أنزل صلته و فيه ضمير يعود إلى ما و الموصول مع صلته في موضع جر بالباء و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول يؤمنون و يؤمنون صلة للذين و « الذين يؤمنون » في موضع جر بالعطف و العطف فيه على وجهين أحدهما أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر و الآخر أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد .

المعنى

ثم بين تعالى تمام صفة المتقين فقال « و الذين يؤمنون بما أنزل إليك » يعني القرآن « و ما أنزل من قبلك » يعني الكتب المتقدمة و قوله « و بالآخرة » أي بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف و قيل أراد به الكرة الآخرة و إنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق و قيل لدناءتها « هم يوقنون » يعلمون و سمي
مجمع البيان ج : 1 ص : 124
العلم يقينا لحصول القطع عليه و سكون النفس إليه فكل يقين علم و ليس كل علم يقينا و ذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الاستدلال و النظر لغموض المعلوم المنظور فيه أو لإشكال ذلك على الناظر و لهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء و إنما خصهم بالإيقان بالآخرة و إن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها و جحدهم إياها في نحو ما حكي عنهم في قوله و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم .
أُولَئك عَلى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)

اللغة

« أولئك » اسم مبهم يصلح لكل حاضر تعرفه الإشارة و هو جمع ذلك في المعنى و أولاء جمع ذا في المعنى و من قصر قال أولا و ألاك و أولالك و إذا مد لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الزيادة و ثقل الهمزة قال الشاعر :
ألالك قوم لم يكونوا أشابة
و هل يعظ الضليل إلا أولالكا و « المفلحون » المنجحون الفائزون و الفلاح النجاح قال الشاعر :
اعقلي إن كنت لما تعقلي
فلقد أفلح من كان عقل أي ظفر بحاجته و الفلاح أيضا البقاء قال لبيد :
نحل بلادا كلها حل قبلنا
و نرجو الفلاح بعد عاد و تبعا و أصل الفلح القطع و منه قيل الفلاح للأكار ] الحراث [ لأنه يشق الأرض و في المثل الحديد بالحديد يفلح فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير .

الإعراب

موضع أولئك رفع بالابتداء و الخبر « على هدى من ربهم » و هو اسم مبني و الكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب و كسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين و كذلك قوله « و أولئك هم المفلحون » إلا أن قوله « هم » فيه وجهان ( أحدهما ) أنه فصل يدخل بين المبتدأ أو الخبر و ما كان في الأصل مبتدأ و خبرا للتأكيد و لا موضع له من الإعراب و الكوفيون يسمونه عمادا و إنما يدخل ليؤذن أن الاسم بعده خبر و ليس بصفة و إنما يدخل أيضا إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة نحو قوله تعالى « تجدوه عند الله هو خيرا »
مجمع البيان ج : 1 ص : 125
و الوجه الآخر أن يكون هم مبتدأ ثانيا و المفلحون خبره و الجملة في موضع رفع بكونها خبر أولئك .

المعنى

لما وصف المتقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده تعالى فقال « أولئك » إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة و هم جملة المؤمنين « على هدى من ربهم » أي من دين ربهم و قيل على دلالة و بيان من ربهم و إنما قال « من ربهم » لأن كل خير و هدى فمن الله تعالى أما لأنه فعله و أما لأنه عرض له بالدلالة عليه و الدعاء إليه و الإثابة على فعله و على هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى و إن كان من فعل العبد ثم كرر تفخيما فقال « و أولئك هم المفلحون » أي الظافرون بالغيبة و الباقون في الجنة .

النزول

قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين و آيتان بعدها نزلت في الكافرين و ثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6)

القراءة

قوله تعالى : « ء أنذرتهم » فيه ثلاث قراءات قرأ عاصم و حمزة و الكسائي إذا حقق بهمزتين و قرأ أهل الحجاز و أبو عمر بالهمزة و المد و تليين الهمزة الثانية و الباقون يجعلونها بين بين و كذلك قراءة الكسائي إذا خففت و أبو عمرو أطول مدا من ابن كثير و اختلف في المد عن نافع و قرأ ابن عامر بألف بين همزتين و يجوز في العربية ثلاثة أوجه غيرها « أ أنذرتهم » بتحقيق الهمزة الأولى و تخفيف الثانية بجعلها بين بين و أنذرتهم بهمزة واحدة و عليهم أنذرتهم على إلقاء حركة الهمزة على الميم نحو قد أفلح فيما روي عن نافع .

الحجة

أما وجه الهمزتين فهو أنه الأصل لأن الأولى همزة الاستفهام و الثانية همزة أفعل و أما إدخال الألف بين الهمزتين فمن قرأه أراد أن يفصل بين الهمزتين استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو أضربنان استثقالا لاجتماع النونات و منه قول ذي الرمة :
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل
و بين النقاء أنت أم أم سالم و أما من فصل بين الهمزتين و لين الثانية فوجهه التخفيف من جهتين الفصل و التليين لأنك إذا لينتها فقد أمتها و صار اللفظ كأنه لا استفهام فيه ففي المد توكيد الدلالة على
مجمع البيان ج : 1 ص : 126
الاستفهام كما في تحقيق الهمزة و أما من حقق الأولى و لين الثانية من غير فصل بالألف فهو القياس لأنه جعل التليين عوضا عن الفصل و أما من اكتفى بهمزة واحدة فإنه طرح همزة الاستفهام و هو ضعيف و قد جاء في الشعر قال عمر بن أبي ربيعة :
لعمرك ما أدري و إن كنت داريا
بسبع رمين الجمر أم بثمان و أما من ألقى حركة الهمزة على الميم فإنه على تليين الأولى و تحقيق الثانية و العرب إذا لينوا الهمزة المتحركة و قبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها قالوا من بوك و من مك و كم بلك .

اللغة

الكفر خلاف الشكر كما أن الحمد خلاف الذم فالكفر ستر النعمة و إخفاؤها و الشكر نشرها و إظهارها و الشكر نشرها و إظهارها و كل ما ستر شيئا فقد كفره قال لبيد
في ليلة كفر النجوم غمامها ) أي سترها و سواء مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور و صوم و معناه مستو و الاستواء الاعتدال و السواء العدل قال زهير :
أروني خطة لا خسف فيها
يسوي بيننا فيها السواء و قالوا سي بمعنى سواء كما قالوا قي و قواء و سيان أي مثلان و الإنذار إعلام معه تخويف فكل منذر معلم و ليس كل معلم منذرا و يوصف القديم تعالى بأنه منذر لأن الإعلام يجوز وصفه به و التخويف أيضا كذلك لقوله ذلك يخوف الله به عباده فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما و أنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله « إنا أنذرناكم عذابا قريبا » و قد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قوله قل إنما أنذركم بالوحي و قيل الإنذار هو التحذير من مخوف يتسع زمانه للاحتراز منه فإن لم يتسع فهو أشعار .

الإعراب

إن حرف توكيد و هي تنصب الاسم و ترفع الخبر و إنما نصبت و رفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه و لأنها توكيد و التوكيد من معاني الفعل و تشبهه في اتصال ضمير المتكلم نحو إنني و هي مبنية على الفتح كالفعل الماضي و إنما ألزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه فجعلت كفعل قدم مفعوله على فاعله و « الذين كفروا » في موضع نصب لكونه اسم إن و كفروا صلة الذين و أما خبرها ففيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون الجملة التي هي « سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم » فعلى هذا يكون سواء يرتفع بالابتداء و كما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر و الجملة في موضع رفع بأنها خبر إن و يكون قوله « لا يؤمنون » حالا من الضمير المنصوب
مجمع البيان ج : 1 ص : 127
على حد معه صقر صائدا به و بالغ الكعبة و يستقيم أن يكون أيضا استئنافا و الوجه الثاني أن يكون لا يؤمنون خبر إن و يكون قوله « سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم » اعتراضا بين الخبر و الاسم فلا يكون له موضع من الإعراب كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول فأما إذا قدرت هذا الكلام على ما عليه المعنى فقلت سواء عليهم الإنذار و تركه كان سواء خبر المبتدأ لأنه يكون تقديره الإنذار و تركه مستويان عليهم و إنما قلنا أنه مرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة لأنه لا يجوز أن يكون خبرا فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه و إذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا فإذا فسد ذلك ثبت أنه مبتدأ و أيضا فإنه قبل الاستفهام و ما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام فلا يجوز إذا أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام و نظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ و لا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد :
فإن حراما لا أرى الدهر باكيا
على شجوة إلا بكيت على عمرو و قوله « ء أنذرتهم أم لم تنذرهم » لفظه لفظ الاستفهام و معناه الخبر و هذه الهمزة تسمى ألف التسوية و التسوية آلتها همزة الاستفهام و أم تقول أ زيد عندك أم عمرو تريد أيهما عندك و لا يجوز في مكانها أو لأن أو لا يكون معادلة الهمزة و تفسير المعادلة أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإذا قلت أ زيد عندك أو عمرو كان معناه أحد هذين عندك و يدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين و مع أ زيد أو عمرو يقع بنعم أو لا و إنما جرى عليه لفظ الاستفهام و إن كان خبرا لأن فيه التسوية التي في الاستفهام أ لا ترى أنك إذا قلت سواء علي أ قمت أم قعدت فقد سويت الأمرين عليك كما إنك إذا استفهمت فقلت أ قام زيد أم قعد فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام و عدم علم أحدهما بعينه فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته له في الإبهام فكل استفهام تسوية و إن لم يكن كل تسوية استفهاما و قال النحويون إن نظير سواء في هذا قولك ما أبالي أقبلت أم أدبرت لأنه وقع موقع أي فكأنك قلت ما أبالي أي هذين كان منك و ما أدري أحسنت أم أسأت و ليت شعري أ قام أم قعد و قال حسان :
ما أبالي أنب بالحزن تيس
أم لحاني بظهر غيب لئيم و مثله في أنه في صورة الاستفهام و هو خبر قول جرير :
أ لستم خير من ركب المطايا
و أندى العالمين بطون راح
مجمع البيان ج : 1 ص : 128
و لو كان استفهاما لم يكن مدحا و قول الآخر :
سواء عليه أي حين أتيته
أ ساعة نحس تتقي أم بأسعد .

النزول

قيل نزلت في أبي جهل و خمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر عن الربيع بن أنس و اختاره البلخي و قيل نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عنادا و كتم أمره حسدا عن ابن عباس و قيل نزلت في أهل الختم و الطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون عن أبي علي الجبائي و قيل نزلت في مشركي العرب عن الأصم و قيل هي عامة في جميع الكفار أخبر تعالى بأن جميعهم لا يؤمنون و يكون كقول القائل لا يقدم جميع إخوتك اليوم فلا ينكر أن يقدم بعضهم و اختار الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه أن يكون على الاختصاص و تجويز كل واحد من الأقوال الآخر و هذا أظهر و أسبق إلى الفهم .

المعنى

لما بين تعالى حال المؤمنين وصله بذكر الكافرين و الكفر في الشرع عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده و عدله و معرفة نبيه و ما جاء به من أركان الشرع فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا و هذه الآية تدل على أن في المكلفين من لا لطف له لأنه لو كان لفعل و لآمنوا فلما أخبر أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا لطف لهم و تدل على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون فكان كما أخبر و تدل أيضا على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام و المراد به الخاص في قول من قال الآية عامة لأنا نعلم أن في الكفار من آمن و انتفع بالإنذار .

سؤال

إن قال قائل إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون و كانوا قادرين على الإيمان عندكم فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون .

الجواب

أنه لا يجب ذلك كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة و الصحيح أن نقول إن العلم يتناول الشيء على ما هو به و لا يجعله على ما هو به فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه و إن كان غيره مقدورا .

مجمع البيان ج : 1 ص : 129
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصرِهِمْ غِشوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)

القراءة

القراءة الظاهرة « غشاوة » بكسر الغين و رفع الهاء و روي عن عاصم في الشواذ غشاوة بالنصب و عن الحسن بضم الغين و عن بعضهم بفتح الغين و عن بعضهم غشوة بغير ألف و قرأ أبو عمرو و الكسائي على أبصارهم بالإمالة و الباقون بالتفخيم و للقراء في الإمالة مذاهب يطول شرحها .

الحجة

حجة من رفع غشاوة أنه لم يحمله على ختم كما في الآية الأخرى و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة فإذا لم يحملها عليه قطعها عنه فكانت مرفوعة إما بالظرف و إما بالابتداء و كذلك قوله « و لهم عذاب عظيم » فإن عند سيبويه ترتفع غشاوة و عذاب بأنه مبتدأ فكأنه قال غشاوة على أبصارهم و عذاب لهم و عند الأخفش يرتفع بالظرف لأن الظرف يضمر فيه فعل و ستعرف فائدة اختلافهما في هذه المسألة بعد إن شاء الله تعالى و من نصب غشاوة فأما أن يحملها على ختم كأنه قال و ختم على أبصارهم بغشاوة فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إليها فنصبها و هذا لا يحسن لأنه فصل بين حرف العطف و المعطوف به و ذلك إنما يجوز في الشعر و إما أن يحملها على فعل مضمر كأنه قال و جعل على أبصارهم غشاوة نحو قول الشاعر
علفتها تبنا و ماء باردا ) أي و سقيتها و قول الآخر :
يا ليت بعلك قد غزا
متقلدا سيفا و رمحا أي و حاملا رمحا و هذا أيضا لا يوجد في حال الاختيار فقد صح أن الرفع أولى و تكون الواو عاطفة جملة على جملة و الغشاوة فيها ثلاث لغات فتح الغين و ضمها و كسرها و كذلك الغشوة فيها ثلاث لغات .

اللغة

الختم نظير الطبع يقال طبع عليه بمعنى ختم عليه و يقال طبعه أيضا بغير حرف و لا يمتنع في ختم ذلك قال :
كان قرادى زورة طبعتهما
بطين من الجولان كتاب أعجم و قوله ختامه مسك أي آخره و منه ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه و قوله « على سمعهم » يريد على أسماعهم و السمع مصدر تقول يعجبني ضربكم أي ضروبكم فيوحد لأنه مصدر و يجوز أن يريد على مواضع سمعهم فحذفت مواضع و دل السمع عليها كما يقال
مجمع البيان ج : 1 ص : 130
أصحابك عدل أي ذوو عدل و يجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى إسماعهم قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض و أما جلدها فصليب و قال الآخر
في حلقكم عظم و قد شجينا ) أي في حلوقكم و الغشاوة الغطاء و كل ما اشتمل على الشيء بني على فعالة نحو العمامة و القلادة و العصابة و كذلك أسماء الصناعات كالخياطة و القصارة و الصياغة لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها و كذلك كل من استولى على شيء فاسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة و الخلافة و غير ذلك و سمي القلب قلبا لتقلبه بالخواطر قال الشاعر :
ما سمي القلب إلا من تقلبه
و الرأي يعزب و الإنسان أطوار و الفؤاد محل القلب و الصدر محل الفؤاد و قد يعبر عن القلب بمحله كقوله « لنثبت به فؤادك » و قال « أ لم نشرح لك صدرك » يعني به القلب في الموضعين و العذاب استمرار الألم يقال عذبته تعذيبا و عذابا و يقال عذب الماء إذا استمر في الحلق و حمار عاذب و عذوب إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش و فرس عذوب مثل ذلك و أعذبته عن الشيء بمعنى فطمته و العظيم الكبير يقال هو عظيم الجثة و عظيم الشأن سمي سبحانه عظيما و عظمته كبرياؤه .

المعنى

قيل في معنى الختم وجوه ( أحدها ) أن المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يعلم على قلبه علامة و قيل هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه و يدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان و يعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه و يستغفرون له و كما طبع على قلب الكافر و ختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها و قد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين و الشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة و المناول بالشمال من أهل النار و قوله تعالى « بل طبع الله عليها بكفرهم » يحتمل أمرين أحدهما أنه طبع عليها جزاء للكفر و عقوبة عليه و الآخر أنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين و ختم عليه بالشمع ( و ثانيها ) أن المراد بالختم على القلوب إن الله شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي تشهد
 

<<        الفهرس        >>