جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج15 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


25 سورة الفرقان - 1 - 3

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ تَبَارَك الّذِى نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيراً (1) الّذِى لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُن لّهُ شرِيكٌ فى الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كلّ شىْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَ اتخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لا يخْلُقُونَ شيْئاً وَ هُمْ يخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضرّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَيَوةً وَ لا نُشوراً (3)

بيان

غرض السورة بيان أن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى و كتاب نازل من عنده و فيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفار على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا من جانب الله و كون كتابه نازلا من عنده و رجوع إليه كرة بعد كرة.

و قد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد و نفي الشريك و ذكر بعض أوصاف يوم القيامة و ذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، و الكلام فيها جار على سياق الإنذار و التخويف دون التبشير.

و السورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات و هي قوله تعالى: "و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - غفورا رحيما".

و لعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا و الخمر كانا معروفين بالتحريم في الإسلام من أول ظهور الدعوة الإسلامية.

و من العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها "تبارك الذي" - إلى قوله نشورا".

قوله تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشيء كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض و استقر عليها، و منه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير و في صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، و هو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة.

و الفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل و يؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات:، و الفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق و الباطل، و تقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل فيه و في غيره.

انتهي.

و العالمون جمع عالم و معناه الخلق قال في الصحاح:، العالم الخلق و الجمع العوالم، و العالمون أصناف الخلق انتهى.

و اللفظة و إن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و الجن و الملك لكن سياق الآية - و قد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق و هم الثقلان: الإنس و الجن فيما نعلم.

و بذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار و نظير الآية قوله تعالى: "و اصطفاك على نساء العالمين": آل عمران: 42 و قوله: "و فضلناهم على العالمين": الجاثية: 16.

و النذير بمعنى المنذر على ما قيل، و الإنذار قريب المعنى من التخويف.

فقوله تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" أي ثبت و تحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق و الباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى.

و الجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى و كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا منه نذيرا للعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق و الباطل و توصيف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أعانه على ذلك قوم آخرون، و من طعنهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و سائر ما تفوهوا به - و ما يدفع به مطاعنهم.

فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق و الباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق و الباطل و إنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، و أن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين و يدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق و لو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه و انحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته و أن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.

و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء و بعبده عامة الأنبياء (عليهم السلام)، و لا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.

و قوله تعالى: "ليكون للعالمين نذيرا" اللام للتعليل و تدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذرا لجميع العالمين من الإنس و الجن، و الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، و لا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون.

و الاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأن الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: "الذي له ملك السموات و الأرض" إلى آخر الآية.

الملك بكسر الميم و فتحها قيام شيء بشيء بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالأمر و النهي و أنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته و ما في أيديهم، و يطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم.

فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب الملك بفتح الميم و كسر اللام - هو المتصرف بالأمر و النهي في الجمهور، و ذلك يختص بسياسة الناطقين، و لهذا يقال: ملك الناس و لا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك بالضم - ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، و الملك - بالكسر - كالجنس للملك فكل ملك - بالضم - ملك بالكسر - و ليس كل ملك - بالكسر - ملكا - بالضم - انتهى.

و ربما يخص الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، و الملك بالضم بغيره.

فقوله تعالى: "الذي له ملك السماوات و الأرض" و اللام للاختصاص - يفيد أن السماوات و الأرض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة من جهاتها و لا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم و أن الحكم فيها و إدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الإطلاق.



و بذلك يظهر ترتب قوله: "و لم يتخذ ولدا" على ما تقدمه فإن الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لأحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره و لا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه و الله سبحانه يملك كل شيء و يقوى على ما أراد، و إما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده و الله سبحانه يملك كل شيء سرمدا و لا يعتريه فناء و زوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة و فيه رد على المشركين و النصارى.

و كذا قوله تعالى بعده: "و لم يكن له شريك في الملك" فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الأمور كلها و ملكه تعالى عام لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، و فيه رد على المشركين.

و قوله تعالى: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا" بيان لرجوع تدبير عامة الأمور إليه تعالى وحده بالخلق و التقدير فهو رب العالمين لا رب سواه.

بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدمة على الشيء و المقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شيء و آثار وجوده حسب ما تقدره العلل و العوامل المتقدمة عليه و المقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل و العوامل المتقدمة و المقارنة و إذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للأمر غيره فلا رب يملك الأشياء و يدبر أمرها غيره.

فكونه تعالى له ملك السماوات و الأرض حاكما متصرفا فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، و قيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، و قيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك و التدبير فهو الرب عز شأنه.

و ملكه تعالى للسماوات و الأرض و إن استلزم استناد الخلق و التقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع و ربوبيته للكل لا ينافي ملك آلهتهم و ربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع ألوهيته رب لمربوبيته و الله سبحانه ملك الملوك و رب الأرباب و إله الآلهة.

فلذلك لم يكف قوله: "الذي له ملك السماوات و الأرض" لإثبات اختصاص الربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الإتيان بقوله: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا".

فكأن قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات و الأرض يغنيه عن اتخاذ الولد و الشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له و لما فوضه إليه و هذا هو الذي كانت يراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.

فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه و التقدير يلازمه و إذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شيء فليس مع ملكه ملك و لا مع ربوبيته ربوبية.

فقد تحصل أن قوله: "الذي له ملك السماوات و الأرض و لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك" مسوق لتوحيد الربوبية و نفي الولد و الشريك من طريق إثبات الملك المطلق، و أن قوله: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا" تقرير و بيان لمعنى عموم الملك و أنه ملك متقوم بالخلق و التقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم و تدبير من غير أن يفوض شيئا من الأمر إلى أحد من الخلق.

و في الآية و التي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى.

قوله تعالى: "و اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون" إلخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شيء و مقدره و أن له ملك السماوات و الأرض و هكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم و لا مالكة شيئا لأنفسهم و لا لغيرهم.

و ضمير "و اتخذوا" للمشركين على ما يفيده السياق و إن لم يسبق لهم ذكر و مثل هذا التعبير يفيد التحقير و الاستهانة.

و قوله: "من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون" يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، و توصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: "لا يخلقون شيئا و هم يخلقون" إشارة إلى أن ليس لها من الألوهية إلا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشيء كما قال تعالى: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم": النجم: 23.

و وضع النكرة في قوله: "لا يخلقون شيئا" في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه و هو خالق كل شيء و تعلقوا بأصنام لا يخلقون و لا شيئا من الأشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، و نظير الكلام جار في قوله: "ضرا و لا نفعا" و قوله: "موتا و لا حياة و لا نشورا".

و قوله: "و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا" نفي للملك عنهم و هو ضروري في الإله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر و يجلبوا إليهم النفع و إذ كانوا لا يملكون ضرا و لا نفعا حتى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا و ضلالا.

و بذلك يظهر أن في وقوع "لأنفسهم" في السياق زيادة تقريع و الكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لأنفسهم ضرا حتى يدفعوه و لا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ و قد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع.

و قوله: "و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا" أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاءوا و لا حياة حتى يسلبوها عمن شاءوا أو يفيضوها على من شاءوا و لا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، و ملك هذه الأمور من لوازم الألوهية.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن و الفرقان هما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به و في الاختصاص، للمفيد:، في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قال: و أي كتاب هو، قال: الفرقان: قال و لم سماه ربك فرقانا؟ قال: لأنه متفرق الآيات و السور أنزل في غير الألواح و غيره من الصحف و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلها جملة في الألواح و الأوراق. قال: صدقت يا محمد.

أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين.

25 سورة الفرقان - 4 - 20
وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْترَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَاءُو ظلْماً وَ زُوراً (4) وَ قَالُوا أَسطِيرُ الأَوّلِينَ اكتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكرَةً وَ أَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الّذِى يَعْلَمُ السرّ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ إِنّهُ كانَ غَفُوراً رّحِيماً (6) وَ قَالُوا مَا لِ هَذَا الرّسولِ يَأْكلُ الطعَامَ وَ يَمْشى فى الأَسوَاقِ لَوْ لا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكلُ مِنْهَا وَ قَالَ الظلِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مّسحُوراً (8) انظرْ كيْف ضرَبُوا لَك الأَمْثَلَ فَضلّوا فَلا يَستَطِيعُونَ سبِيلاً (9) تَبَارَك الّذِى إِن شاءَ جَعَلَ لَك خَيراً مِّن ذَلِك جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ وَ يجْعَل لّك قُصورَا (10) بَلْ كَذّبُوا بِالساعَةِ وَ أَعْتَدْنَا لِمَن كذّب بِالساعَةِ سعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مّكانِ بَعِيدٍ سمِعُوا لهََا تَغَيّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذَا أُلْقُوا مِنهَا مَكاناً ضيِّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْا هُنَالِك ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كثِيراً (14) قُلْ أَ ذَلِك خَيرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتى وُعِدَ الْمُتّقُونَ كانَت لهَُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً (15) لهُّمْ فِيهَا مَا يَشاءُونَ خَلِدِينَ كانَ عَلى رَبِّك وَعْداً مّسئُولاً (16) وَ يَوْمَ يَحْشرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ ءَ أَنتُمْ أَضلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضلّوا السبِيلَ (17) قَالُوا سبْحَنَك مَا كانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نّتّخِذَ مِن دُونِك مِنْ أَوْلِيَاءَ وَ لَكِن مّتّعْتَهُمْ وَ ءَابَاءَهُمْ حَتى نَسوا الذِّكرَ وَ كانُوا قَوْمَا بُوراً (18) فَقَدْ كذّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَستَطِيعُونَ صرْفاً وَ لا نَصراً وَ مَن يَظلِم مِّنكمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كبِيراً (19) وَ مَا أَرْسلْنَا قَبْلَك مِنَ الْمُرْسلِينَ إِلا إِنّهُمْ لَيَأْكلُونَ الطعَامَ وَ يَمْشونَ فى الأَسوَاقِ وَ جَعَلْنَا بَعْضكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصبرُونَ وَ كانَ رَبّك بَصِيراً (20)

بيان

تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تجيب عنه.

قوله تعالى: "قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون" إلخ في التعبير بمثل قوله: "و قال الذين كفروا" من غير أن يقال: و قالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله "و اتخذوا من دونه آلهة" تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين.

و المشار إليه بقولهم: "إن هذا" القرآن الكريم، و إنما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشيء من أوصافه إزراء به و حطا لقدره.

و الإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، و مرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نسبه إلى الله سبحانه.

و السياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب و قد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى و يسار مولى العلاء بن الحضرمي و جبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة أسلموا و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتعهدهم فقيل ما قيل.

و قوله: "فقد جاءوا ظلما و زورا" قال في مجمع البيان:، إن جاء و أتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما و كذبا، و قيل إن ظلما منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد جاءوا بظلم، و قيل: حال و التقدير فقد جاءوا ظالمين و هو سخيف.

و فيه، أيضا: و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدم التحدي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى هاهنا بالتنبيه على ذلك انتهى و الظاهر أن الجواب عن قولهم: "إن هذا إلا إفك افتراه" إلخ، و قولهم: "أساطير الأولين اكتتبها" إلخ، جميعا هو قوله تعالى: "قل أنزله الذي يعلم السر" إلخ، على ما سنبين و الجملة أعني قوله: "فقد جاءوا ظلما و زورا" رد مطلق لقولهم و هو في معنى المنع مع السند و سنده الآيات المشتملة على التحدي.

و بالجملة معنى الآية: و قال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نسبه إلى الله - افترى به على الله و أعانه على هذا الكلام قوم آخرون و هم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما و كذبا.

قوله تعالى: "و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا" الأساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب و يغلب استعماله في الأخبار الخرافية و الاكتتاب هو الكتابة و نسبته إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه أميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا و كذا و إنما كتبه كاتبه بأمره، و الدليل على ذلك قوله بعد: "فهي تملى عليه بكرة و أصيلا" إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، و قيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.



و الإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه و يعيه أو إلى الكاتب ليكتبه و المراد به في الآية هو المعنى الأول على ما يعطيه سياق "اكتتبها فهي تملى عليه" إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعة و الإملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتا بعد وقت و هو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه و حفظه.

و البكرة و الأصيل الغداة و العشي، و هو كناية عن الوقت بعد الوقت، و قيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم و آخر النهار بعد دخولهم في منازلهم و هو كناية عن أنها تملى عليه خفية.

و الآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الأولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت بقراءة شيء بعد شيء عليه، و هو يقرؤها على الناس و ينسبها إلى الله سبحانه.

فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا و ربما قيل: إن قوله "اكتتبها فهي تملى عليه" إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، و هو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الأولين و السياق لا يساعد عليه.

قوله تعالى: "قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض إنه كان غفورا رحيما" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برد قولهم و تكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى و أنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت.

و توصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الأمور و بواطنها في السماوات و الأرض للإيذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، و فيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى و أنه من الأساطير و هو مما يعلمه تعالى.

و قوله: "إنه كان غفورا رحيما" تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم و تأخير عقوبتهم على جناياتهم و تكذيبهم للحق و جرأتهم على الله سبحانه.

و المعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى و لا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرارا خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم و لا تحيط بها أحلامكم، و رميكم إياه بالإفك و الأساطير و تكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم و أخر عقوبة جنايتكم لأنه متصف بالمغفرة و الرحمة و ذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.

و فيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى و من الأساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها.

على أن التعليل بقوله: "إنه كان غفورا رحيما" إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال و التأخير و إنما المناسب للإمهال و التأخير من الأسماء هو مثل الحليم و العليم و الحكيم دون الغفور الرحيم.



و الأوفق لمقام المخاصمة و الدفاع بإبانة الحق و التعليل بالمغفرة و الرحمة أن يكون قوله ": إنه كان غفورا رحيما" تعليلا لإنزال الكتاب و قد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا و هذه هي النبوة، و يكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات و الأرض للإيماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة و الرحمة الإلهيتين لحالهم و هو طلبهم بفطرتهم و جبلتهم للسعادة و العاقبة الحسنى التي ليست حقيقتها إلا السعادة الإنسانية بشمول المغفرة و الرحمة و إن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا و زينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، و بطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأولين.

و تقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات و الأرض و هو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة و طلبا و انتزاعا للعاقبة الحسنى و حقيقتها فوز الدنيا و الآخرة، و كان سبحانه غفورا رحيما و مقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم و بلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة.

و هذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله و لا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم و تستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة و الرحمة و إن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله و لو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة و لم يدع إلى محض الحق و لاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم و نفعكم و هو الذي يجلب إليكم المغفرة و الرحمة، و تارة إلى ما هو شر لكم و ضار و هو الذي يثير عليكم السخط الإلهي و يستوجب لكم العقوبة.

قوله تعالى: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها" هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: "و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه" إلخ.

و تعبيرهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: "هذا الرسول" مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم و الاستهزاء.

و قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق" استفهام للتعجيب و الوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب و هو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، و متلوث بقذاراتها، و لذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله و يقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، و ليس للبشر شيء من ذلك.

و من هنا يظهر معنى قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق" و أن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام و المشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، و ليست إلا من شئون الملائكة و لذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: "لو شاء الله لأنزل ملائكة": المؤمنون: 24 أو ما في معناه.

و من هنا يظهر أيضا أن قولهم: "لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا" تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و الرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية فإن، تنزلنا و سلمنا رسالته و هو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الإنذار و تبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك.



و كذا قولهم: "أو يلقى إليه كنز" تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك و استقل بالرسالة و هو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية و لا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، و نزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.

و كذا قولهم: "أو تكون له جنة يأكل منها" تنزل عما قبله في الاقتراح، و المعنى: و إن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها و لا يحتج إلى كسب المعاش و هذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.

قوله تعالى: "و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا" المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر و وصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم و الاجتراء على الله و رسوله.

و قولهم: "إن تتبعون" إلخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم و إغواء عن طريق الحق، و مرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة و الكتاب.

قوله تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" الأمثال الأشباه و ربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن": سورة محمد: 15، و المحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة و لا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش، و كقولهم: إنه رجل مسحور.

و قوله: "فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق و لا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، و ربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، و من سمى كتاب الله بالأساطير و وصف رسوله بالمسحور و لم يزل يزيد تعنتا و لجاجا و استهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه و حاله هذه؟.

قوله تعالى: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار و يجعل لك قصورا" الإشارة في قوله: "من ذلك" إلى ما اقترحوه من قولهم: "أو تكون له جنة يأكل منها" أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز و الجنة.

و القصور جمع قصر و هو البيت المشيد العالي، و تنكير "قصورا" للدلالة على التعظيم و التفخيم.

و الآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا و كذا بل عدل إلى قوله: "تبارك الذي إن شاء جعل لك" إلخ.

و فيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا و لا يصلحون لأن يخاطبوا لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، و لم يدع أن له قدرة غيبية و سلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء، "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا": إسراء: 93.



فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم و عن الجواب عما اقترحوه، و إنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ربه الذي اتخذه رسولا و أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، و يجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف و ذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.

و بهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز و الجنة، و أما نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار و يعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، و قد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: "و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون": الأنعام: 9، و قوله: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا": إسراء: 95، و قوله: "ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين": الحجر: 8، و قد تقدم تقرير حجة كل من الآيات في ضمن تفسيرها.

و من هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات و القصور له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة و رد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت و كيت و هم يريدون تعجيزك و تبكيتك و إن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار إلخ و هي لا محالة في الدنيا و إلا لم ينقطع به الخصام.

و بذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة و قصورها و أفسد منه قول آخرين إن المراد جعل جنات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا و جعل القصور في الآخرة، و ربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: "إن شاء جعل" و هو صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا و في القصور بقوله: "يجعل" و هو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، و الاختلاف في التعبير تفنن فيه و تجديد لصورة الكلام و الله العالم.

قوله تعالى: "بل كذبوا بالساعة و أعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا"، إضراب عن طعنهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و اعتراضهم عليه بأكل الطعام و المشي في الأسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك و ردوا نبوتك لأنك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصلي في إنكارهم نبوتك و طعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة و أنكروا المعاد، و من المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة و لا معنى للدين و الشريعة لو لا المحاسبة و المجازاة.

فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض و الاقتراح و الجواب هاهنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الأصلي في قوله: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا و ما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا.

و ذكر جمع من المفسرين أن قوله: "بل كذبوا بالساعة" حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد و الكتاب و الرسالة في قوله: "و اتخذوا من دونه آلهة" و قوله: "و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك" إلخ، و قوله: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل" إلخ.

ثم تشعبوا في نكتة الإضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، و قال بعضهم: إن إنكاره أعظم، و قال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك.



و الحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: "و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق" إلخ، و ما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول و المجيبة عنه، و هو ظاهر.

و قوله تعالى: "و أعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا" وضع الموصول و الصلة مكان الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم و غيرهم فيه سواء، و على أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة.

و وضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص و أصرح فهو المناسب لمقام التهديد، و السعير النار المشتعلة الملتهبة.

قوله تعالى: "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا" في المفردات،.

الغيظ أشد غضب إلى أن قال و التغيظ هو إظهار الغيظ، و قد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال: "سمعوا لها تغيظا و زفيرا"

انتهي.

و فيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، انتهى.

و الآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.

قوله تعالى: "و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا" "مكانا" منصوب بتقدير في، و الثبور الويل و الهلاك.

و التقرين التصفيد بالأغلال و السلاسل و قيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين و هو بعيد من اللفظ.

و المعنى و إذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار و هم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف و هو قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: "لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا" الاستغاثة بالويل و الثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة و إذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل و لا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا و لذا قال تعالى: "لا تدعوا اليوم" إلخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم.

فهو في معنى قوله تعالى: "اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم": الطور: 16، و قوله حكاية عنهم: "سواء علينا أ جزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص": إبراهيم: 21.

و قيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة.

و هو بعيد.

قوله تعالى: "قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله - "مسئولا" الإشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أيهما أرجح السعير أم جنة الخلد؟ و السؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل و هو دائر في المناظرة و المخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة و الآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما: فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، و إن اختار الباطل افتضح.

و قوله: "أم جنة الخلد" إضافة الجنة إلى الخلد و هو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: "خالدين" للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم.

و قوله: "وعد المتقون" تقديره وعدها المتقون لأن وعد يتعدى لمفعولين و المتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل.



و قوله: "كانت لهم جزاء و مصيرا" أي جزاء لتقواهم و منقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: "إن المتقين في جنات و عيون إلى أن قال - و ما هم منها بمخرجين": الحجر: 48: و هو من الأقضية التي قضاها يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له، و يتعين به جزاء المتقين و مصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر.

و قوله: "لهم فيها ما يشاءون خالدين" أي إنهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، و لا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه و يشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: "و حيل بينهم و بين ما يشتهون": سبأ: 54، و لا يحبون و لا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا و هو الذي يحبه الله لهم و هو ما يستحقونه من الخير و السعادة مما يستكملون به و لا يستضرون به لا هم و لا غيرهم فافهم ذلك.

و بهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشية يعطون ما شاءوا و أرادوا غير أنهم لا يشاءون إلا ما فيه رضا ربهم، و يندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم إطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي و القبائح و الشنائع و اللغو، و أن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، و أن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، و أن يريدوا مقامات الأنبياء و المخلصين من الأولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.

كيف؟ و قد قال تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي": الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله و مرضيون لا يريدون إلا ما يرتضيه فلا يريدون معصية و لا قبيحا و لا شنيعا و لا لغوا و لا كذابا، و لا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، و لا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، و لا يشاءون و لا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأن الذي خصهم بها هو ربهم و قد رضوا بما فعل و أحبوا ما أحبه.

و قوله تعالى: "كان على ربك وعدا مسئولا" أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، و إنما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، و أخبر عن ذلك بمثل قوله: "و إن للمتقين لحسن مآب جنات عدن - إلى أن قال - هذا ما توعدون ليوم الحساب": ص: 53.

و وجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسئولا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم و استعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: "ربنا و أدخلهم جنات عدن إلخ": المؤمن: 8 أو جميع هذه الأسئلة.

و ذكر الطبرسي "ره" في الآية أن قوله: "كانت لهم جزاء و مصيرا" حال من ضمير الجنة المقدر في "وعد المتقون" و أن قوله: "لهم فيها ما يشاءون" حال من "المتقون" و هو أقرب إلى الذهن من قول غيره إن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر.

قوله تعالى: "و يوم يحشرهم و ما يعبدون من دون الله" إلى آخر الآية ضمائر الجمع الأربعة عائدة إلى الكفار، و المراد بما يعبدون الملائكة و المعبودون من البشر و الأصنام إن كان "ما" أعم من غير أولي العقل، و إلا فالأصنام فقط.

و المشار إليهم المعنيون بقوله: "عبادي هؤلاء" الكفار و معنى الآية ظاهر.



قوله تعالى: "قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" إلخ، جواب المعبودين عن قوله: "ء أنتم أضللتم عبادي هؤلاء" إلخ و قد بدءوا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.

و قوله: "ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" أي ما صح و ما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء و هم الذين عبدونا و اتخذونا أولياء من دونك، و قوله: "و لكن متعتهم و آباءهم حتى نسوا الذكر و كانوا قوما بورا" البور جمع بائر و هو الهالك و قيل: الفاسد.

لما نفى المعبودون المسئولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الإضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم و هو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين و قد متعتهم و آباءهم من أمتعة الحياة الدنيا و نعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا و ابتلاء فتمتعوا منها و اشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.

فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا و انهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع و انصراف هممهم إلى الاشتغال بالأسباب و هو السبب لنسيانهم الذكر و العدول عن التوحيد إلى الشرك.

فتبين بذلك أن قوله: "و كانوا قوما بورا" من تمام الجواب و أما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله و استفاد منه أن السبب الأصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، و ليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، و إنما نسب إلى أنفسهم أدبا.

ففيه أولا: أنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لإيراد الاستدراك بقوله: "و لكن متعتهم و آباءهم حتى نسوا الذكر" لكونه فضلا لا حاجة إليه.

و ثانيا: أن نسبة البوار و الشقاء إلى ذوات الأشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم و التربية، و الحس و التجربة يؤيدان ذلك و هو يناقض القول بالاختيار و الجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلأن الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى و ينفيه عن غيره و يناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الأشياء و ماهياتها.

و ثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الإجبار فإن القضاء إنما تعلق بالفعل بحدوده و هو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار.



و رابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله و إنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا و بمثله صرحوا في نسبة المعاصي و الأعمال القبيحة الشنيعة و الفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الأدب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، و بعبارة أخرى ظرافة الفعل، و إذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه و لا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق و كذبا و فرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح و إحياء باطل؟ و أي ظرافة و لطف في الكذب و الفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله؟ و الله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب و الفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، و إذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه؟.

قوله تعالى: "فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا و لا نصرا" إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، و أما كلام المعبودين فقد تم في قوله: "و كانوا قوما بورا".

و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء و ينصرونهم، و إذ كذبوكم و نفوا عن أنفسهم الألوهية و الولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، و لا تستطيعون نصرا لأنفسكم بسببهم.

و الترديد بين الصرف و النصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم و هو الصرف.

و عدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب و هو النصر.

و قرأ غير عاصم من طريق حفص "يستطيعون" بالياء المثناة من تحت و هي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم و يتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا و لا نصرا.

و قوله: "و من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا" المراد بالظلم مطلق الظلم و المعصية و إن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: "و من يظلم منكم" إلخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، و لو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: "و نذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لأنهم كلهم ظالمون ظلم الشرك.

و النكتة فيه الإشارة إلى أن الحكم الإلهي نافذ جار لا مانع منه و لا معقب له كأنه قيل: و إن كذبكم المعبودون و ما استطاعوا صرفا و لا نصرا فالحكم العام الإلهي "من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا على نفوذه و جريانه لا مانع منه و لا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق" إلى آخر الآية.

أجاب تعالى عن قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق" إلخ، أولا بقوله: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" إلخ، مع ما يلحقه من قوله: "بل كذبوا بالساعة" إلخ، و هذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين و قد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق و لم يخلق لهم جنة يأكلون منها و لا ألقي إليهم كنز و لا أنزل معهم ملك، و هذا الرسول إنما هو كأحدهم و لم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره.

فالآية في معنى قوله: "قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي": الأحقاف: 9، و قريبة المعنى من قوله: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي": الكهف: 110.



فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة و توجيهه إلى عامة الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم و قد حكى الله عنهم ذلك قال: قالوا أ بشر يهدوننا: التغابن: 6، و قال: "قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا": إبراهيم: 10، و قال: "ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه و يشرب مما تشربون": المؤمنون: 33.

قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل" إلخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال و أما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: "بل كذبوا بالساعة" إلخ، و قوله قبل ذلك: "قل أنزله الذي يعلم السر" إلخ، على ما تقدم من التقرير.

و من عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التي أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، و أما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال" هذا و هو خطأ.

و قوله تعالى: "و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أ تصبرون" متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية تورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الإلهية كإنزال ملك عليهم أو إلقاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: و السبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان و المتبعون للأهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله و سلوك سبيله.

و بما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه و هي الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند المصائب.

و ثانيا: أن قوله: "و جعلنا بعضكم لبعض فتنة" من وضع الحكم العام موضع الخاص، و المطلوب الإشارة إلى جعل الرسل - و حالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس.

و قوله تعالى: "و كان ربك بصيرا" أي عالما بالصواب في الأمور فيضع كل أمر في الموضع المناسب له و يجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له و يستحقه و لازمه بسط نظام الامتحان بينهم و لازمه ارتفاع التمايز بين الرسل و غيرهم.

و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و النكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: "تبارك الذي إن شاء" إلخ،.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و النضر بن الحارث و أبا البختري و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية و أمية بن خلف و العاصي بن وائل و نبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه و خاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، و إن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، و إن كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، و لا الشرف فيكم، و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك و سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك و سله أن يجعل لك جنانا و قصورا من ذهب و فضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك و منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا. فأنزل الله في قولهم ذلك "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام" إلى قوله و جعلنا بعضكم لبعض فتنة. أ تصبرون و كان ربك بصيرا" أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، و لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت.

و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله و هل لجهنم من عين؟ قال: أ ما سمعتم الله يقول: "إذا رأتهم من مكان بعيد" فهل تراهم إلا بعينين؟: أقول: و رواه أيضا عن رجل من الصحابة، و في حجة الخبر خفاء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي أسيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: "و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين" قال: و الذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.

25 سورة الفرقان - 21 - 31

وَ قَالَ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئكَةُ أَوْ نَرَى رَبّنَا لَقَدِ استَكْبرُوا فى أَنفُسِهِمْ وَ عَتَوْ عُتُوّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئكَةَ لا بُشرَى يَوْمَئذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً محْجُوراً (22) وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَهُ هَبَاءً مّنثُوراً (23) أَصحَب الْجَنّةِ يَوْمَئذٍ خَيرٌ مّستَقَرّا وَ أَحْسنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشقّقُ السمَاءُ بِالْغَمَمِ وَ نُزِّلَ المَْلَئكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْك يَوْمَئذٍ الْحَقّ لِلرّحْمَنِ وَ كانَ يَوْماً عَلى الْكَفِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَض الظالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنى اتخَذْت مَعَ الرّسولِ سبِيلاً (27) يَوَيْلَتى لَيْتَنى لَمْ أَتخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لّقَدْ أَضلّنى عَنِ الذِّكرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنى وَ كانَ الشيْطنُ لِلانسنِ خَذُولاً (29) وَ قَالَ الرّسولُ يَرَب إِنّ قَوْمِى اتخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذَلِك جَعَلْنَا لِكلِّ نَبىٍ عَدُوّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفَى بِرَبِّك هَادِياً وَ نَصِيراً (31)

بيان

تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول و سائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته و يجد من نفسه ما يجده.

و هذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله: "قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا": إبراهيم: 10، و قد مر تقريبه مرارا.

و هذا مع ما تقدم من اعتراضهم بقولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام" إلخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين و محصل تقريره أن الرسالة التي يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية و اتصالا غيبيا لا حظ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، و إن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا؟ فلو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.

و قد أجاب الله سبحانه عن الشق الأول بما تقدم تقريره، و عن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، و الجواب في معنى قوله: "ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين": الحجر: 8 و سيجيء تقريره، و في الآيات إشارة إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.

قوله تعالى: "و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا" قال في مجمع البيان:، الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه و مثله الطمع و الأمل، و اللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل، و العتو الخروج إلى أفحش الظلم.

انتهي.

المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهية كما قال تعالى: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين".

فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد و تكذيبهم بالساعة و لم يعبر عنه بتكذيب الساعة و نحوه كما عبر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة و رؤية الرب تعالى و تقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا و طلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء و زعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم.

فقولهم: "لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" اعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: "لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين": الحجر: 7، و تقرير الحجة كما تقدمت الإشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - و هي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله و نحن بشر أمثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة و لا نرى ربنا؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.



و يؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة و رؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك.

على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا و فيه تصديقه.

و في التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم و الله سبحانه رب الأرباب فكأنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك ترى أن الله ربك و قد حن إليك فخصك بالمشافهة و التكليم، و أنه ربنا، فليحن إلينا و ليشافهنا بالرؤية كما فعل بك.

على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام و هم الملائكة و روحانيات الكواكب و نحوهم إلى عبادة الأصنام و التماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة و التقرب بالقرابين.

و قوله تعالى: "لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا" أي أقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حق و طغوا طغيانا عظيما.

قوله تعالى: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا" في المفردات:، الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: "و قالوا هذه أنعام و حرث حجر" "و يقولون حجرا محجورا" كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا إن ذلك ينفعهم.

انتهي.

و عن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر و عن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه و بينهما ترة.

فقوله: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين" "يوم" على ما قيل ظرف لقوله: "لا بشرى" و قوله: "يومئذ" تأكيد له، و المراد بقوله: "لا بشرى" نفي للجنس، و المراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك و المجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، و قد تقدم ذكرهم و المعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين و هم منهم.

و قوله: "و يقولون حجرا محجورا" فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة و هم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، و قيل: ضمير الجمع للملائكة، و المعنى: و يقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجنة أو حراما محرما عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شيء فلا معاذ لكم هذا، و المعنى: الأول أقرب إلى السياق.

و الآية في موضع الجواب عن قولهم: "لو لا أنزل علينا الملائكة" و قد أعرضت عن جواب قولهم: "أو نرى ربنا" فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم و المادية تعالى عن ذلك، و أما الرؤية بعين اليقين و هي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك و على تقديره ما كانوا يقصدونه.



و أما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة و رؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار و ذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الأخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: "ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين": الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب و هم يحسبون أنهم يعجزون الله و رسوله بالحجة.

و أما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: "يوم يرون الملائكة" فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت و ما بعده كقوله: "و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون" الآية،: الأنعام: 93، و قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها": النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات.

أن المراد به الموت و هو المسمى في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة و يشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، و المتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه و هو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة و قوله لهم: حجرا محجورا، و قد رآهم قبل ذلك و عذب بأيديهم أمدا بعيدا و هو ظاهر.

فالظاهر أن الآية و الآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، و إحباط أعمالهم فيه، و حال أهل الجنة التي فيه.

قوله تعالى: "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" قال الراغب في المفردات:، العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد و قد ينسب إلى الجمادات، و العمل قلما ينسب إلى ذلك، و لم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم: البقر العوامل.

انتهي.

و قال: الهباء دقاق التراب و ما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة.

انتهي.

و النثر التفريق.

و المعنى: و أقبلنا إلى كل عمل عملوه - و العمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، و الكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة و إبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار و هدم الآثار و أحرق المتاع و الأثاث فأفنى منه كل عين و أثر.

و لا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ و بين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم و إجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم و قد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.

قوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا" المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: "قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون"، و المستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار و معناه ظاهر و من القيلولة و هي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - و الجنة لا نوم فيه.



و كلمتا "خير" و "أحسن" منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: "و هو أهون عليه": الروم: 27، و قوله: "ما عند الله خير من اللهو": الجمعة: 11 كذا قيل، و ليس يبعد أن يقال: إن "أفعل" أو ما هو في معناه كخير بناء على ما رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل و العناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك و الإجرام و استحسنوا ذلك و لازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيرية و حسنا فقوبلوا بأن الجنة و ما فيها خير و أحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار و أن يختاروا الإيمان على الكفر على أي حال، و قيل: إن التفضيل مبني على التهكم.

قوله تعالى: "و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا" الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، و المعنى و اذكر يوم كذا و كذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا و هذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: "الملك يومئذ الحق للرحمن"، و قيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها.

و "تشقق" أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم و التشقق التفتح، و الغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر.

و الباء في قوله: "تشقق السماء بالغمام" إما للملابسة و المعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، و إما بمعنى عن و المعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه.

و كيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها و نزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: "و انشقت السماء فهي يومئذ واهية و الملك على أرجائها": الحاقة: 17.

و ليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل و بروز عالم السماء و هو من الغيب و بروز سكانها و هم الملائكة و نزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان.

و قيل: المراد أن السماء يشقها الغمام و هو الذي يذكره في قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر و إلى الله ترجع الأمور": البقرة: 210، و قد مر كلام في تفسير الآية.

و التعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح و ما يماثله للتهويل، و كذا التنوين في قوله: "تنزيلا" للدلالة على التفخيم.

قوله تعالى: "الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا" أي الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمن و ذلك لبطلان الأسباب و زوال ما بينها و بين مسبباتها من الروابط المتنوعة، و قد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك و الحكم لله و الأمر إليه وحده، و أن لا استقلال في شيء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة و رجوع كل شيء إليه تعالى.

و قوله: "و كان يوما على الكافرين عسيرا" الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب و إخلادهم إلى الحياة الأرضية البائدة الداثرة و انقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة و عن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم و لا ملاذ لهم و لا معاذ.

فعلى هذا يكون الملك مبتدأ و الحق خبره عرف لإفادة الحصر، و يومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ، و فائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، و إنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الأشياء فيه و ثبوته لها في غيره.

و قال بعضهم: الملك بمعنى المالكية و يومئذ متعلق به و الحق خبر الملك، و قيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، و قيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، و قيل: يومئذ هو الخبر للملك و الحق صفة للمبتدإ، و هذه أقوال ردية لا جدوى لها.



قوله تعالى: "و يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا" قال الراغب في المفردات:، العض أزم بالأسنان، قال تعالى: "عضوا عليكم الأنامل" و "و يوم يعض الظالم" و ذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك.

انتهي.

و لذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: "يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا".

و الظاهر أن المراد بالظالم جنسه و هو كل من لم يهتد بهدى الرسول، و كذا المراد بالرسول جنسه و إن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الأمة و الرسول على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المعنى: و اذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.

قوله تعالى: "يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا" تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، و فلان كناية عن العلم المذكر و فلانة عن العلم المؤنث قال الراغب: فلان و فلانة كنايتان عن الإنسان و الفلان و الفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات.

انتهي.

و المعنى: يا ويلتى - يا هلاكي - ليتني لم أتخذ فلانا - و هو من اتخذه صديقا يشاوره و يسمع منه و يقلده - خليلا.

و ذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، و كأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أن السياق لا يساعد عليه.

و من لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: "يا ليتني اتخذت" إلخ و في هذه الآية: "يا ويلتى ليتني لم أتخذ" إلخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء و الاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء و ذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شيء قط إلا الهلاك و الفناء، و لذلك نادى الويل.

قوله تعالى: "لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني و كان الشيطان للإنسان خذولا" تعليل للتمني السابق و المراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية و ينطبق بحسب المورد على القرآن.

و قوله: "و كان الشيطان للإنسان خذولا" من كلامه تعالى و يمكن أن يكون تتمة لكلام الظالم ذكره تأسفا و تحسرا.

و الخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصر نصرته، و خذلانه أنه يعد الإنسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالأسباب و نسي ربه فلما تقطعت الأسباب بظهور القهر الإلهي يوم الموت جزئيا و يوم القيامة كليا خذله و سلمه إلى الشقاء، قال تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك": الحشر: 16 و قال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: "ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل": إبراهيم: 22.

و في هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء و أولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.

قوله تعالى: "و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا" المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة ذكر القرآن، و عبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته و إرغاما لأولئك القادحين في رسالته و كتابه و الهجر بالفتح فالسكون الترك.



و ظاهر السياق أن قوله: "و قال الرسول" إلخ معطوف على "يعض الظالم" و القول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث و الشكوى و على هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع و المراد بالقوم عامة العرب بل عامة الأمة باعتبار كفرتهم و عصاتهم.

و أما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: "و قال الذين لا يرجون لقاءنا" و كون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق و عليه فلفظة قال على ظاهر معناها و المراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه.

و نظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان.

و هو ظاهر.

قوله تعالى: "و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين و كفى بربك هاديا و نصيرا" أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء و أممهم فلا يسوأنك ما تلقى من عداوتهم و لا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و معنى: جعل العدو من المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق و أبغضوا الداعي إليه و هو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة.

و قوله: "و كفى بربك هاديا و نصيرا" معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم و عداوتهم و لا تخافنهم على اهتداء الناس و نفوذ دينك فيهم و بينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية و استعد له و إن كفر هؤلاء و عتوا فليس اهتداء الناس منوطا باهتدائهم و كفى به نصيرا ينصرك و ينصر دينك الذي بعثك به و إن هجره هؤلاء و لم ينصروك و لا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم.

فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذيله للاستغناء عن المجرمين من قومه، و في قوله: "و كفى بربك" حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب و لم يقل: و كفى بالله تأييد له.

بحث روائي

في تفسير البرهان، عن كتاب الجنة و النار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه و دبره و قيل: "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق - و كنتم عن آياته تستكبرون" و ذلك قوله: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين - و يقولون حجرا محجورا" فيقولون حراما عليكم الجنة محرما. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء فجعل الله أعمالهم كذلك. و فيه، أخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار. قال سالم: بأبي و أمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون و يصومون و يأخذون سنة من الليل و لكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" قال: أما و الله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي و لكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.

أقول: و هذا المعنى مروي فيه و في غيره عنه و عن أبيه (عليه السلام) بغير واحد من الطرق.

و في الكافي، أيضا بإسناده عن عبد الأعلى و بإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث وضع المؤمن في قبره. ثم يفسحان يعني الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا".

أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، و تشير بقوله: و يقال له: نم "إلخ" إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه.

و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم و كان يكثر مجالسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يعجبه حديثه و غلب عليه الشقاء. فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقال: أطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك و طعم من طعامه. فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال أ صبوت يا عقبة؟. و كان خليله فقال: لا و الله ما صبوت و لكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا و لم يقتل من الأسارى يومئذ غيره.

أقول: و قد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: "يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا"، أن السبيل هو علي (عليه السلام) و هو من بطن القرآن أو من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء.

25 سورة الفرقان - 32 - 40

وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كذَلِك لِنُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَ رَتّلْنَهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَك بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَك بِالْحَقِّ وَ أَحْسنَ تَفْسِيراً (33) الّذِينَ يحْشرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنّمَ أُولَئك شرّ مّكاناً وَ أَضلّ سبِيلاً (34) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكتَب وَ جَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَرُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلى الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا فَدَمّرْنَهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لّمّا كذّبُوا الرّسلَ أَغْرَقْنَهُمْ وَ جَعَلْنَهُمْ لِلنّاسِ ءَايَةً وَ أَعْتَدْنَا لِلظلِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَا وَ أَصحَب الرّس وَ قُرُونَا بَينَ ذَلِك كَثِيراً (38) وَ كلاّ ضرَبْنَا لَهُ الأَمْثَلَ وَ كلاّ تَبرْنَا تَتْبِيراً (39) وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلى الْقَرْيَةِ الّتى أُمْطِرَت مَطرَ السوْءِ أَ فَلَمْ يَكونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشوراً (40)

بيان

نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن و هو أنه لم ينزل جملة واحدة و الجواب عنه.

قوله تعالى: "و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة" المراد بهم مشركو العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: "و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه" إلخ.

و قوله "لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة" قد تقدم أن الإنزال و التنزيل إنما يفترقان في أن الإنزال يفيد الدفعة و التنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لأدائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة و التفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرق كما أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور.

لكن ينبغي أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح و القرآن إنما كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الأمين كما يتلقى السامع الكلام من المتكلم، و الدفعة في إيتاء كتاب مكتوب و تلقيه تستلزم المعية بين أوله و آخره لكنه إذا كان بقراءة و سماع لم يناف التدريج بين أجزائه و أبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارىء و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا.

و هؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تلقي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة بعد سورة و آية بعد آية و يتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحدة و ليتلقه هو مرة واحدة و لو دامت القراءة و التلقي مدة من الزمان، و هذا المعنى أوفق بالتنزيل الدال على التدريج.

و أما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة و كذا الإنجيل و الزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك.

على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة.

و كيف كان فقولهم: "لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة" اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس و قد بعث رسولا يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله و فروعه مجموعة فرائضه و سننه و كان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض.

و ليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة و حوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشيء من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله و يدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه و ليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، و ليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل.

هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض و الجواب.

قوله تعالى: "كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا" الثبات ضد الزوال، و الإثبات و التثبيت بمعنى واحد و الفرق بينهما بالدفعة و التدريج، و الفؤاد القلب و المراد به كما مر غير مرة الأمر المدرك من الإنسان و هو نفسه، و الترتيل - كما قالوا - الترسيل و الإتيان بالشيء عقيب الشيء، و التفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول.

و ظاهر السياق أن قوله: "كذلك" متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: "لنثبت" و يعطف عليه قوله: "و رتلناه" و التقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، و قول بعضهم: إن "كذلك" من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا.

فقوله: "كذلك لنثبت به فؤادك" بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة و بيان ذلك أن تعليم علم من العلوم و خاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله و أبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم و كونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، و أما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها و تترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة و الإشراف على العمل و حضور وقته.

ففرق بين بين أن يلقي الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء فحسب و بين أن يلقيها إليه و عنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء و هو يعالجه فيطابق بين ما يقول و ما يفعل.

و من هنا يظهر أن إلقاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة و حضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه و تربيته أثبت في النفس و أوقع في القلب و أشد استقرارا و أكمل رسوخا في الذهن و خاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول و تتهيأ للإذعان إذا أحست بالحاجة.

ثم إن المعارف التي تتضمنها الدعوة الإسلامية الناطق بها القرآن إنما هي شرائع و أحكام عملية و قوانين فردية و اجتماعية تسعد الحياة الإنسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الإلهية التي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد ينتهي بالتركيب إليها ثم إلى الأخلاق و الأحكام العملية.

فأحسن التعليم و أكمل التربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق و الخلق الفاضل و الحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار و الاتعاظ بين قصص الماضين و عاقبة أمر المسرفين و عتو الطاغين و المستكبرين.

و هذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: "و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا": إسراء:، 106 و هذا هو المراد بقوله تعالى: "كذلك لنثبت به فؤادك" و الله أعلم.

نعم يبقى عليه شيء و هو أن تفرق أجزاء التعليم و إلقاءها إلى المتعلم على التمهل و التؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق و سقوط الهمة و العزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمدادا للذهن و تهيئة للفهم على التفقه و الضبط لا يحصل بدونه البتة.



و قد أجاب تعالى عنه بقوله: "و رتلناه ترتيلا" فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض و نزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط و لا تنقطع آثار الأبعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور و آيات نازلة بعضها إثر بعض مترتبة مرتلة.

على أن هناك أمرا آخر و هو أن القرآن كتاب بيان و احتجاج يحتج على المؤالف و المخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق و الحقيقة بالتشكيك و الاعتراض، و يبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف و الحكم الواقعة في الملل و الأديان السابقة و ما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى و الملائكة و الجن و قديسي البشر و ما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء و ما بثوه من معارف المبدإ و المعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك.

و هذا النوع من الاحتجاج و البيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم و يرد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسائلهم تدريجا، و يورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شيء و حينا بعد حين.

و إلى هذا يشير قوله تعالى: "و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا" - و المثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساءوا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الأحسن يرده إلى مستواه و يقومه.

فتبين بما تقدم أن قوله: "كذلك لنثبت به فؤادك" - إلى قوله - و أحسن تفسيرا" جواب عن قولهم: "لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة" بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي.

و ثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس و هو بيان الحق فيما يوردون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المثل و الوصف الباطل، و التفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه.

و يلحق بهذا الجواب قوله تلوا: "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا" فهو كالمتمم للجواب على ما سيجيء بيانه.

و تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد و هو الجواب عما أوردوه من القدح في القرآن هذا، و المفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: "كذلك لنثبت به فؤادك" جوابا عن قولهم: "لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة"، و قوله: "و رتلناه ترتيلا" خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير ارتباط بما تقدمه.

و جعلوا قوله: "و لا يأتونك بمثل" إلخ، كالبيان لقوله: "كذلك لنثبت به فؤادك" و إيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، و جعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن الله بين الحق فيه و جاء بأحسن التفسير و قيل غير ذلك، و جعلوا قوله: "الذين يحشرون" الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية.

و التأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الأوليين و ما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، و يظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد و هو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي.

و ذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم و اقتراحهم بقوله: "كذلك لنثبت به فؤادك" جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد و أن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، و قد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لأنها أنزلت على أنبياء يكتبون و يقرءون فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة و القرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب و لا يقرأ و لذلك نزل متفرقا.

و منها أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها و دليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، و أما القرآن فبينة صحته و آية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي.

و لا ريب أن مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، و من ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.

و منها: أن في القرآن ناسخا و منسوخا و لا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة و المنافاة، و فيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها و فيه ما هو إنكار لبعض ما كان، و فيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، و فيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالإخبار عن فتح مكة و دخول المسجد الحرام، و الإخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا.

و هذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الأول فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أميا لا يقرأ و لا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، و قد كان معه من يكتبه و يحفظه.

على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان و يحفظ الذكر النازل عليه كما قال: "سنقرئك فلا تنسى": الأعلى: 6، و قال: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون": الحجر: 9، و قال: "إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه": حم السجدة: 42، و قدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء.

و أما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا إن اشتمل عليها الكلام كان بليغا و إلا فلا، كذلك الكلام الجملي و إن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله و أجزائه أحوال لها اقتضاءات إن طابقها كان بليغا و إلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة.

و أما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق و إنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين و المنسوخ و الناسخ بالإشارة إلى أن الحكم الأول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك.

و من الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التي سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال و لو سألوا عن شيء منها أرجعوا إلى سابق البيان، و كذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشيء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر.

على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم و المصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.

فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شيء من هذه الوجوه البتة.



قوله تعالى: "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا" اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروه واصفين له بسوء المكانة و ضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكى من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، و إنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد عليهم بطريق التكنية.

فقوله: "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم" كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما وصفوا، و الكناية أبلغ من التصريح.

فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا و أضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، و لفظتا "شر" و "أضل" منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم و نحوه.

و قد كنى عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم و هو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: "و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا" إلخ: إسراء: 98.

ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان و أليم العذاب و أيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الإنسان على وجهه و هو لا يشعر بما في قدامه، و هذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم ممثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، و لا يبتلي بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا.

و قد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، و ذكر في مجمع البيان، أنهم قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين: إنهم شر خلق الله فقال الله تعالى: "أولئك شر مكانا و أضل سبيلا" و ذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا" و قد عرفت ما يلوح من السياق.

و قد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: و هو على ظاهره و هو الانتقال مكبوبا، و قيل: هو السحب.

و قيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا و هو خلاف المشي على الاستقامة و فيه أن الأولى حينئذ التعبير بالحشر على الرءوس لا على الوجوه، و قد قال تعالى في موضع آخر و هو كتوصيف ما يجري بعد هذا الحشر: "يوم يسحبون في النار على وجوههم": القمر: 48.

و قيل: المراد به فرط الذلة و الهوان و الخزي مجازا.

و فيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة.

و قيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب؟ و فيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه و لا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: "إلى جهنم".

و قيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، و المراد أنهم يحشرون و قلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا و زخارفها متوجهة وجوههم إليها.

و أورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا و تعلق القلوب بها، و لعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم و عليهم.

و فيه أن مقتضى آيات تجسم الأعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا و التوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك.

قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيرا" استشهاد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به و بكتابه برسالة موسى و إيتائه الكتاب و إشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون و إهلاكهم، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا" قال في مجمع البيان، التدمير الإهلاك لأمر عجيب، و منه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه.

انتهي.

و المراد بالآيات آيات الآفاق و الأنفس الدالة على التوحيد التي كذبوا بها، و ذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى (عليه السلام) و لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم.

انتهي.

و هو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى (عليه السلام).

و وجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رسالته بتنظير الأمر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب و أرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا.

و لهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم و تدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون و جنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الإشارة إلى إيتاء الكتاب و الرسالة لموسى و تدمير القوم بالتكذيب.

و قيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: "و كفى بربك هاديا و نصيرا" و هو بعيد.

قوله تعالى: "و قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم و جعلناهم للناس آية و اعتدنا للظالمين عذابا أليما" الظاهر أن قوله: "قوم نوح" منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: "أغرقناهم".

و المراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب للجميع لاتفاقهم على كلمة الحق.

على أن هؤلاء الأمم كانوا أقواما وثنيين و هم ينكرون النبوة و يكذبون الرسالة من رأس.

و قوله: "و جعلناهم للناس آية" أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و عادا و ثمود و أصحاب الرس و قرونا بين ذلك كثيرا" قال في مجمع البيان،: الرس البئر التي لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، و قيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه و في روايات الشيعة ما يؤيد ذلك.

و قوله: "و عادا" إلخ معطوف على "قوم نوح" و التقدير: و دمرنا أو و أهلكنا عادا و ثمود و أصحاب الرس "إلخ".

و قوله: "و قرونا بين ذلك كثيرا" القرن أهل عصر واحد و ربما يطلق على نفس العصر و الإشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الأقوام أولهم قوم نوح و آخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، و المعنى و دمرنا أو و أهلكنا عادا و هم قوم هود، و ثمود و هم قوم صالح، و أصحاب الرس، و قرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم و هم قوم نوح فمن بعدهم.

قوله تعالى: "و كلا ضربنا له الأمثال و كلا تبرنا تتبيرا" كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: "ضربنا له الأمثال" فإن ضرب الأمثال في معنى التذكير و الموعظة و الإنذار، و التتبير التفتيت، و معنى الآية.

قوله تعالى: "و لقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا" هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل و قد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة.

و قوله: "أ فلم يكونوا يرونها" استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام.



و قوله: "بل كانوا لا يرجون نشورا" أي لا يخافون معادا أو كانوا آيسين من المعاد، و هذا كقوله تعالى فيما تقدم: "بل كذبوا بالساعة" و المراد به أن المنشأ الأصيل لتكذيبهم بالكتاب و الرسالة و عدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية و عدم اعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة و لا تقع في قلوبهم حكمة و لا موعظة.

بحث روائي

في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاهدرخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشنآب و كان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أرديبهشت خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، و منها اشتق العجم أسماء شهورهم. و قد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة، و حرموا شرب مائها على أنفسهم و أنعامهم و من شرب منه قتلوه و يقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. و قد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين و يذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها و سطوعه في السماء و يبكون و يتضرعون و الشيطان يكلمهم من الشجرة. و هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم و اسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا و عيدوا اثني عشر يوما، و جاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين و العبادات للشجرة و كلمهم إبليس و هو يعدهم و يمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر. و لما طال منهم الكفر بالله و عبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عبادة الله و ترك الشرك برهة فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلما رأوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، و قال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه و شأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا و ألقوه فيها و شدوا رأسها فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين و أطفئوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبارين.

و في الكافي، بإسناده عن محمد بن أبي حمزة و هشام و حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عز و جل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: و أين هو؟ قال: هن الرس.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي و البيهقي و ابن عساكر عن جعفر بن محمد بن علي: أن امرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، و هن صواحب الرس، و كل نهر و بئر رس. قال: يقطع لهن جلباب من نار، و درع من نار، و نطاق من نار، و تاج من نار، و خفان من نار، و من فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علموا هذا نساءكم.

أقول: و روى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما في معناه.

و في تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و كلا تبرنا تتبيرا" يعني "كسرنا تكسيرا" قال: هي لفظة بالنبطية.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أما القرية التي أمطرت مطر السوء فهي سدوم قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين.

25 سورة الفرقان - 41 - 62

وَ إِذَا رَأَوْك إِن يَتّخِذُونَك إِلا هُزُواً أَ هَذَا الّذِى بَعَث اللّهُ رَسولاً (41) إِن كادَ لَيُضِلّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْ لا أَن صبرْنَا عَلَيْهَا وَ سوْف يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَاب مَنْ أَضلّ سبِيلاً (42) أَ رَءَيْت مَنِ اتخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَ فَأَنت تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلاً (43) أَمْ تحْسب أَنّ أَكثرَهُمْ يَسمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضلّ سبِيلاً (44) أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّك كَيْف مَدّ الظلّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشمْس عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمّ قَبَضنَهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الّذِى جَعَلَ لَكُمُ الّيْلَ لِبَاساً وَ النّوْمَ سبَاتاً وَ جَعَلَ النهَارَ نُشوراً (47) وَ هُوَ الّذِى أَرْسلَ الرِّيَحَ بُشرَا بَينَ يَدَى رَحْمَتِهِ وَ أَنزَلْنَا مِنَ السمَاءِ مَاءً طهُوراً (48) لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً وَ نُسقِيَهُ مِمّا خَلَقْنَا أَنْعَماً وَ أَنَاسىّ كثِيراً (49) وَ لَقَدْ صرّفْنَهُ بَيْنهُمْ لِيَذّكّرُوا فَأَبى أَكثرُ النّاسِ إِلا كفُوراً (50) وَ لَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فى كلِّ قَرْيَةٍ نّذِيراً (51) فَلا تُطِع الْكفِرِينَ وَ جَهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كبِيراً (52) وَ هُوَ الّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً محْجُوراً (53) وَ هُوَ الّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشراً فَجَعَلَهُ نَسباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبّك قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَ لا يَضرّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظهِيراً (55) وَ مَا أَرْسلْنَك إِلا مُبَشراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسئَلُكمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شاءَ أَن يَتّخِذَ إِلى رَبِّهِ سبِيلاً (57) وَ تَوَكلْ عَلى الْحَىِّ الّذِى لا يَمُوت وَ سبِّحْ بحَمْدِهِ وَ كفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ مَا بَيْنَهُمَا فى سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ استَوَى عَلى الْعَرْشِ الرّحْمَنُ فَسئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجُدُوا لِلرّحْمَنِ قَالُوا وَ مَا الرّحْمَنُ أَ نَسجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَ زَادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبَارَك الّذِى جَعَلَ فى السمَاءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيهَا سِرَجاً وَ قَمَراً مّنِيراً (61) وَ هُوَ الّذِى جَعَلَ الّيْلَ وَ النّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكرَ أَوْ أَرَادَ شكوراً (62)

بيان

تذكر الآيات بعض صفات أولئك الكفار القادحين في الكتاب و الرسالة و المنكرين للتوحيد و المعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم و اقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و اتباعهم الهوى و عبادتهم لما لا ينفعهم و لا يضرهم و استكبارهم عن السجود لله سبحانه.

قوله تعالى: "و إذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أ هذا الذي بعث الله رسولا" ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم، و الهزؤ الاستهزاء و السخرية فالمصدر بمعنى المفعول، و المعنى: و إذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوا به.

و قوله: "أ هذا الذي بعث الله رسولا" بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.

قوله تعالى: "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها" إلخ "إن" مخففة من الثقيلة، و الإضلال كأنه مضمن معنى الصرف و لذا عدي بعن، و جواب لو لا محذوف يدل عليه ما تقدمه، و المعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.

و قوله: "و سوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا" توعد و تهديد منه تعالى لهم و تنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب و اليقين بالضلال و الغي.

قوله تعالى: "أ رأيت من اتخذ إلهه هواه أ فأنت تكون عليه وكيلا" الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، و المراد باتخاذ الهوى إلها طاعته و اتباعه من دون الله و قد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى و عد طاعة الشيء عبادة له في قوله: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني": يس: 61.

و قوله: "أ فأنت تكون عليه وكيلا" استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه و بأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك و قد أضله الله و قطع عنه أسباب الهداية و في معناه قوله: "إنك لا تهدي من أحببت": القصص: 56، و قوله: "و ما أنت بمسمع من في القبور": فاطر: 22، و الآية كالإجمال للتفصيل الذي في قوله: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله": الجاثية: 23.

و يظهر مما تقدم من المعنى أن قوله: "اتخذ إلهه هواه" على نظمه الطبيعي أي إن "اتخذ" فعل متعد إلى مفعولين و "إلهه" مفعوله الأول و "هواه" مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق و ذلك أن الكلام حول شرك المشركين و عدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، و إعراضهم عن طاعة الحق التي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك، و هؤلاء يسلمون أن لهم إلها مطاعا و قد أصابوا في ذلك، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعا بدلا من أن يتخذوا الحق مطاعا فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.



و من هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن "هواه" مفعول أول لقوله "اتخذ" و "إلهه" مفعول ثان مقدم، و إنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله: "أ رأيت من اتخذ" إلخ، كما قاله بعضهم، أو إنما قدم للحصر على ما قاله آخرون، و لهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها و فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" أم منقطعة، و الحسبان بمعنى الظن و ضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى.

و الترديد بين السمع و العقل من جهة أن وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله و ينصحه فيتبعه إن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله: "و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير":، الملك: 10.

و المعنى: بل أ تظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.

و قوله: "إن هم إلا كالأنعام" بيان للجملة السابقة فإنه في معنى: أن أكثرهم لا يسمعون و لا يعقلون فتنبه أنهم ليسوا إلا كالأنعام و البهائم في أنها لا تعقل و لا تسمع إلا اللفظ دون المعنى.

و قوله: "بل هم أضل سبيلا" أي من الأنعام و ذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضرها و هؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم، و أيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه و هؤلاء مجهزون و قد ضلوا.

و استدل بعضهم بالآية على أن الأنعام لا علم لها بربها.

و فيه أن الآية لا تنفي عنها و لا عن الكفار أصل العلم بالله و إنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى، و تشبههم في ذلك بالأنعام التي لم تجهز بهذا النوع من الإدراك.

و أما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

قوله تعالى: "أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" هاتان الآيتان و ما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد و إنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله و أما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع و لا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.

فهي تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه و بينات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه و هو على صراط مستقيم، و ذلك كمد الظل و جعل الشمس دليلا عليه تنسخه، و كجعل الليل لباسا و النوم سباتا و النهار نشورا، و كجعل الرياح بشرا و إنزال المطر و إحياء الأرض الميتة و إرواء الأنعام و الأناسي به.

ثم ما مثل المؤمن و الكافر في اهتداء هذا و ضلال ذاك - و هم جميعا عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل الماءين العذب الفرات و الملح الأجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا، و كالماء خلق الله سبحانه منه بشرا ثم جعله نسبا و صهرا فاختلف بذلك المواليد و كان ربك قديرا.



هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات و خصوصيات نظمها و به يظهر وجه اتصالها بما تقدمها، و أما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها و ضلالهم فالسياق لا يساعد عليه و سنزيد ذلك إيضاحا.

فقوله: "أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا" تنظير - كما تقدمت الإشارة إليه - لشمول الجهل و الضلال للناس و رفعه تعالى ذلك بالرسالة و الدعوة الحقة كما يشاء و لازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئا فشيئا من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الأفق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد و هو الليل، و هو في جميع أحواله متحرك و لو شاء الله لجعله ساكنا.

و قوله: "ثم جعلنا الشمس عليه دليلا" و الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أن هناك ظلا و بانبساطه شيئا فشيئا على تمدد الظل شيئا فشيئا و لولاها لم يتنبه لوجود الظل فإن السبب العام لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحول الأحوال المختلفة عليه من فقدان و وجدان فإذا فقد شيئا كان يجده تنبه لوجوده و إذا وجد ما كان يفقده تنبه لعدمه، و أما الأمر الثابت الذي لا تتحول عليه الحال فليس إلى تصوره بالتنبه سبيل.

و قوله: "ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" أي أزلنا الظل بإشراق الشمس و ارتفاعها شيئا فشيئا حتى ينسخ بالكلية، و في التعبير عن الإزالة و النسخ بالقبض، و كونه إليه، و توصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهية و أنها لا يشق عليها فعل، و أن فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام و البطلان بل بالرجوع إليه تعالى.

و ما تقدم من تفسير مد الظل بتمديد الفيء بعد زوال الشمس و إن كان معنى لم يذكره المفسرون لكن السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره مما ذكره المفسرون كقول بعضهم: إن المراد بالظل الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و قول بعض: ما بين غروب الشمس و طلوعها، و قول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، و قول بعض - و هو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء و جعلها كالقبة ثم دحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها.

و في الآية أعني قوله: "أ لم تر إلى ربك" إلخ، التفات من سياق التكلم بالغير في الآيات السابقة إلى الغيبة، و النكتة فيه أن المراد بالآية و ما يتلوها من الآيات بيان أن أمر الهداية إلى الله سبحانه و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأمر شيء و هو تعالى لا يريد هدايتهم و أن الرسالة و الدعوة الحقة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال و نسخها ما تنسخ منه من شعب السنة العامة الإلهية في بسط الرحمة على خلقه نظير إطلاع الشمس على الأرض و نسخ الظل الممدود فيها بها، و من المعلوم أن الخطاب المتضمن لهذه الحقيقة مما ينبغي أن يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) و خاصة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، و أما الكفار المتخذون إلههم هواهم و هم لا يسمعون و لا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

و في قوله: "ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا" رجوع إلى السياق السابق، و في ذلك مع ذلك من إظهار العظمة و الدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.



و الكلام في قوله الآتي: "و هو الذي جعل لكم الليل" إلخ، و قوله: "و هو الذي أرسل الرياح" و قوله: "و هو الذي مرج البحرين"، و قوله: "و هو الذي خلق من الماء بشرا" كالكلام في قوله: "أ لم تر إلى ربك"، و الكلام في قوله: "و أنزلنا من السماء ماء" إلخ، و قوله: "و لقد صرفناه بينهم"، و قوله: "و لو شئنا لبعثنا"، كالكلام في قوله: "ثم جعلنا الشمس".

قوله تعالى: "و هو الذي جعل لكم الليل لباسا و النوم سباتا و جعل النهار نشورا" كون الليل لباسا إنما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.

و قوله: "و النوم سباتا" أي قطعا للعمل، و قوله: "و جعل النهار نشورا" أي جعل فيه الانتشار و طلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.

و حال ستره تعالى الناس بلباس الليل و قطعهم به عن العمل و الحركة ثم نشرهم للعمل و السعي بإظهار النهار و بسط النور كحال مد الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا و قبض الظل بها إليه.

قوله تعالى: "و هو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته و أنزلنا من السماء ماء طهورا" البشر بالضم فالسكون مخفف بشر بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي هو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته و هي المطر.

و قوله: "و أنزلنا من السماء ماء طهورا" أي من جهة العلو و هي جو الأرض ماء طهورا أي بالغا في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يزيل الأوساخ و يذهب بالأرجاس و الأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.

قوله تعالى: "لنحيي به بلدة ميتا و نسقيه مما خلقنا أنعاما و أناسي كثيرا"، البلدة معروفة قيل: و أريد بها المكان كما في قوله: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه": الأعراف: 58، و لذا اتصف بالميت و هو مذكر و المكان الميت ما لا نبات فيه و إحياؤه إنباته، و الأناسي جمع إنسان، و معنى الآية ظاهر.

و حال شمول الموت للأرض و الحاجة إلى الشرب و الري للأنعام و الأناسي ثم إنزاله تعالى من السماء ماء طهورا ليحيي به بلدة ميتا و يسقيه أنعاما و أناسي كثيرا من خلقه كحال مد الظل ثم الدلالة عليه بالشمس و نسخه بها كما تقدم.

قوله تعالى: "و لقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا" ظاهر اتصال الآية بما قبلها أن ضمير "صرفناه" للماء و تصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة و عن غيرهم إليهم أخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا و لا ينقطع عن قوم دائما فيهلكوا بل يدور بينهم حتى ينال كل نصيبه بحسب المصلحة، و قيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.

و قوله: "ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا" تعليل للتصريف أي و أقسم لقد صرفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكروا فيشكروا فأبى و امتنع أكثر الناس إلا كفران النعمة.

قوله تعالى: "و لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا" أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية نذيرا ينذرهم و رسولا يبلغهم رسالاتنا لبعثنا و لكن بعثناك إلى القرى كلها نذيرا و رسولا لعظيم منزلتك عندنا.

هكذا فسرت الآية و لا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، و هذا المعنى لما وجهنا به اتصال الآيات أنسب.

أو أن المراد أنا قادرون على أن نبعث في كل قرية رسولا و إنما اخترناك لمصلحة في اختيارك.



قوله تعالى: "فلا تطع الكافرين و جاهدهم به جهادا كبيرا" متفرع على معنى الآية السابقة، و ضمير "به" للقرآن بشهادة سياق الآيات، و المجاهدة و الجهاد بذل الجهد و الطاقة في مدافعة العدو و إذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم و بيان حقائقه لهم و إتمام حججه عليهم.

فمحصل مضمون الآية أنه إذا كان مثل الرسالة الإلهية في رفع حجاب الجهل و الغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحق لهم و إتمام الحجة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظل الممدود و نسخه بأمر الله، و مثل النهار بالنسبة إلى الليل و سبته، و مثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة و الأنعام و الأناسي الظامئة، و قد بعثناك لتكون نذيرا لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأن طاعتهم تبطل هذا الناموس العام المضروب للهداية.

و ابذل مبلغ جهدك و وسعك في تبليغ رسالتك و إتمام حجتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقة و جاهدهم به مجاهدة كبيرة.

قوله تعالى: "و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا" المرج الخلط و منه أمر مريج أي مختلط، و العذب من الماء ما طاب طعمه، و الفرات منه ما كثر عذوبته، و الملح هو الماء المتغير طعمه.

و الأجاج شديد الملوحة، و البرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين، و حجرا محجورا أي حراما محرما أن يختلط أحد الماءين بالآخر.

و قوله: "و جعل بينهما" إلخ قرينة على أن المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.

و الكلام معطوف على ما عطف عليه قوله: "و هو الذي أرسل الرياح" إلخ، و فيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين و هما مع ذلك غير متمازجين كما تقدمت الإشارة إليه في أول الآيات التسع.

قوله تعالى: "و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا" الصهر على ما نقل عن الخليل الختن و أهل بيت المرأة فالنسب هو التحرم من جهة الرجل و الصهر هو التحرم من جهة المرأة - كما قيل - و يؤيده المقابلة بين النسب و الصهر.

و قد قيل: إن كلا من النسب و الصهر بتقدير مضاف و التقدير فجعله ذا نسب و صهر، و الضمير للبشر، و المراد بالماء النطفة، و ربما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الذي خلق الله منه الأشياء الحية كما قال: "و جعلنا من الماء كل شيء حي": الأنبياء: 30.

و المعنى: و هو الذي خلق من النطفة - و هي ماء واحد - بشرا فقسمه قسمين ذا نسب و ذا صهر يعني الرجل و المرأة و هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة و التفرق في عين الاتحاد و هكذا يحفظ اختلاف النفوس و الآراء بالإيمان و الكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقة.

و قوله: "و كان ربك قديرا" في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدم في قوله: "أ لم تر إلى ربك".

قوله تعالى: "و يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم و لا يضرهم و كان الكافر على ربه ظهيرا" معطوف على قوله: "و إذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا".

و الظهير بمعنى المظاهر على ما قيل و المظاهرة المعاونة.



و المعنى: و يعبدون - هؤلاء الكفار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة و لا يضرهم بإيصال الشر على تقدير ترك العبادة و كان الكافر معاونا للشيطان على ربه.

و كون هؤلاء المعبودين و هم الأصنام ظاهرا لا ينفعون و لا يضرون لا ينافي كون عبادتهم مضرة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شيء نفي الضرر عن عبادتهم المضرة المؤدية للإنسان إلى شقاء لازم و عذاب دائم.

قوله تعالى: "و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا" أي لم نجعل لك في رسالتك إلا التبشير و الإنذار و ليس لك وراء ذلك من الأمر شيء فلا عليك إن كانوا معاندين لربهم مظاهرين لعدوه عليه فليسوا بمعجزين لله و ما يمكرون إلا بأنفسهم، هذا هو الذي يعطيه السياق.

و عليه فقوله: "و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا" هذا الفصل من الكلام نظير قوله: "أ فأنت تكون عليه وكيلا" في الفصل السابق.

و منه يظهر أن أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال و المراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم.

غير سديد.

قوله تعالى: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا" ضمير "عليه" للقرآن بما أن تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا": المزمل: 19، الدهر: 29، و قال: "قل ما أسألكم عليه أجرا و ما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين: ص: 87.

و قوله: "إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا" استثناء منقطع في معنى المتصل فإنه في معنى إلا أن يتخذ إلى ربه سبيلا من شاء ذلك على حد قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم": الشعراء: 89، أي إلا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.

ففيه وضع الفاعل و هو من اتخذ السبيل موضع فعله و هو اتخاذ السبيل شكرا له ففي الكلام عد اتخاذهم سبيلا إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجرا لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر مالي أو جاهي منهم، و أنه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة و اتباعهم للحق شيئا آخر من مال أو جاه أو أي أجر مفروض فليطيبوا نفسا و لا يتهموه في نصيحته.

و قد علق اتخاذ السبيل على مشيتهم للدلالة على حريتهم الكاملة عن قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا إكراه و لا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربه وراء التبشير و الإنذار و ليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.

فقوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ" إلخ بعد ما سجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ليس له إلا الرسالة بالتبشير و الإنذار يأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا أن يستجيبوا له و يتخذوا إلى ربهم سبيلا من غير غرض زائد من الأجر أيا ما كان، و أن لهم الخيرة في أمرهم من غير أي إجبار و إكراه فهم و الدعوة إن شاءوا فليؤمنوا و إن شاءوا فليكفروا.

هذا ما يرجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر و لا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، و أما ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه و ليتوكل عليه كما أشار إليه في الآية التالية: "و توكل على الحي الذي لا يموت".



و ذكر جمهور المفسرين أن الاستثناء منقطع، و المعنى لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة و الإنفاق في سبيل الله فليفعل، و هو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة و لا من جهة السياق.

و قال بعضهم: إنه متصل و الكلام بحذف مضاف و التقدير إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان و الطاعة حسبما أدعو إليهما.

و فيه أخذ استجابتهم له أجرا لنفسه و قطعا لشائبة الطمع بالكلية و تطييبا لأنفسهم، و يرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدمناه و يمتاز منه بتقدير مضاف و التقدير خلاف الأصل.

و قال آخرون: إنه متصل بتقدير مضاف و التقدير لا أسألكم عليه من أجر إلا أجر من شاء "إلخ" أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله.

و فيه أن مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلا من اتخذ إلى ربه سبيلا فلا حاجة إلى تعليق الاتخاذ بالمشية و الأجر إنما يترتب على العمل دون مشيته.

قوله تعالى: "و توكل على الحي الذي لا يموت و سبح بحمده و كفى به بذنوب عباده خبيرا" لما سجل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ليس له من أمرهم شيء إلا الرسالة و أمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا الاستجابة لها و أنهم على خيرة من أمرهم إن شاءوا آمنوا و إن شاءوا كفروا تمم ذلك بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتخذه تعالى وكيلا في أمرهم فهو تعالى عليهم و على كل شيء وكيل و بذنوب عباده خبير.

فقوله: "و توكل على الحي الذي لا يموت" أي اتخذه وكيلا في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء و يفعل بهم ما يريد فإنه الوكيل عليهم و على كل شيء و قد عدل عن تعليق التوكل بالله إلى تعليقه بالحي الذي لا يموت ليفيد التعليل فإن الحي الذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعين لأن يكون وكيلا.

و قوله: "و سبح بحمده" أي نزهه عن العجز و الجهل و كل ما لا يليق بساحة قدسه مقارنا ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم و استدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك و لا عن جهل بذنوبهم و إن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته و باستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه و بحمده.

و قوله: "و كفى به بذنوب عباده خبيرا" مسوق للدلالة على توحيده في فعله و صفته فهو الوكيل المتصرف في أمور عباده وحده و هو خبير بذنوبهم و حاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.

و من هنا يظهر أن الآية التالية: "الذي خلق السماوات و الأرض" متممة لقوله: "و توكل على الحي الذي لا يموت" إلخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه و تصرفه كما يشتمل قوله: "و كفى به" إلخ على علمه و خبرته و بالحياة و الملك و العلم معا يتم معنى الوكالة و سنشير إليه.

قوله تعالى: "الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا" ظاهر السياق أن الموصول صفة لقوله في الآية السابقة: "الحي الذي لا يموت" و بهذه الآية يتم البيان في قوله: "و توكل على الحي الذي لا يموت" فإن الوكالة كما تتوقف على حياة الوكيل تتوقف على العلم، و قد ذكره في قوله: "و كفى به بذنوب عباده خبيرا" و تتوقف على السلطنة على الحكم و التصرف و هو الذي تتضمنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات و الأرض و الاستواء على العرش.



و قد تقدم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، و أما قوله: "الرحمن فاسأل به خبيرا" فالذي يعطيه السياق و يهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبرا لمبتدإ محذوف و التقدير هو الرحمن، و قوله: "فاسأل" متفرعا عليه و الفاء للتفريع، و الباء في قوله: "به" للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء.

و قوله: "خبيرا" حال من الضمير.

و المعنى: هو الرحمن - الذي استوى على عرش الملك و الذي برحمته و إفاضته يقوم الخلق و الأمر و منه يبتدىء كل شيء و إليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنه خبير.

فقوله: "فاسأل به خبيرا" كناية عن أن الذي أخبر به حقيقة الأمر التي لا معدل عنها و هذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني أجبك إن كذا و كذا و من هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.

و لهم في قوله: "الرحمن فاسأل به خبيرا" أقوال أخرى كثيرة: فقيل: إن الرحمن مرفوع على القطع للمدح، و قيل: مبتدأ خبره قوله: "فاسأل به" و قيل: خبر مبتدؤه "الذي" في صدر الآية، و قيل: بدل من الضمير المستكن في "استوى".

و قيل في "فاسأل به" إنه خبر للرحمن كما تقدم و الفاء فصيحة، و قيل: جملة مستقلة متفرعة على ما قبلها و الفاء للتفريع ثم الباء في "به" للصلة أو بمعنى عن و الضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدم من الخلق و الاستواء.

و قيل "خبيرا" حال عن الضمير و هو راجع إليه تعالى، و المعنى فاسأل الله حال كونه خبيرا، و قيل: مفعول فاسأل و الباء بمعنى عن و المعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق و الاستواء خبيرا، و المراد بالخبير هو الله سبحانه، و قيل جبرئيل و قيل: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة و وقف على صفاته و أفعاله تعالى و كيفية الخلق و الإيجاد، و قيل: كل من كان له وقوف على هذه الحقائق.

و هذه الوجوه المتشتتة جلها أو كلها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة و لا موجب للتكلم عليها و الغور فيها.

قوله تعالى: "و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن أ نسجد لما تأمرنا و زادهم نفورا" هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول و دعوته الحقة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه و نفورهم منه و للآية اتصال خاص بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها و قد وصف في الآية السابقة بما وصف و لعل اللام فيه للعهد.

فقوله: "و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن" الضمير للكفار، و القائل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله بعد: "أ نسجد لما تأمرنا" و لم يذكر اسمه ليتوجه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.

و قوله: "قالوا و ما الرحمن" سؤال منهم عن هويته و مائيته مبالغة منهم في التجاهل به استكبارا منهم على الله و لو لا ذلك لقالوا: و من الرحمن، و هذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى رب العالمين: "و ما رب العالمين": الشعراء: 23، و قول إبراهيم لقومه: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون": الأنبياء: 52، و مراد السائل في مثل هذا السؤال أنه لا معرفة له من المسئول عنه بشيء أزيد من اسمه كقول هود لقومه: "أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم": الأعراف: 71.

و قوله حكاية عنهم: "أ نسجد لما تأمرنا" في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، و التعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكم و استهزاء.



و قوله: "و زادهم نفورا" معطوف على جواب إذا و المعنى: و إذا قيل لهم اسجدوا استكبروا و زادهم ذلك نفورا ففاعل زادهم ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.

و قول بعضهم: إن الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزءين ليس بسديد فإن وقوع واقعة ما لا يؤثر في دلالة اللفظ ما لم يتعرض له لفظا.

و لا تعرض في الآية لهذه القصة أصلا.

قوله تعالى: "تبارك الذي جعل في السماء بروجا و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا" الظاهر أن المراد بالبروج منازل الشمس و القمر من السماء أو الكواكب التي عليها كما تقدم في قوله: "و لقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين و حفظناها من كل شيطان رجيم": الحجر: 17، و إنما خصت بالذكر في الآية للإشارة إلى الحفظ و الرجم المذكورين.

و المراد بالسراج الشمس بدليل قوله: "و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا: نوح: 16.

و قد قرروا الآية أنها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي و الأرضي على وحدة المدبر فيجب التوجه بالعبادات إليه و صرف الوجه عن غيره.

و التدبر في اتصال الآيتين بما قبلهما و سياق الآيات لا يساعد عليه لأن مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا أمروا بالسجود له و استهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه و بين الاحتجاج على توحيد الربوبية حتى يعقب به، و إنما المناسب لهذا المعنى إظهار العزة و الغنى و أنهم غير معجزين لله بفعالهم هذا و لا خارجين عن ملكه و سلطانه.

و الذي يعطيه التدبر أن قوله: "تبارك الذي جعل في السماء بروجا" إلخ، مسوق سوق التعزز و الاستغناء، و أنهم غير معجزين باستكبارهم على الله و استهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه و الصعود إلى سماء جواره و المعارف الإلهية مضيئة مع ذلك لأهله و عباده بما نورها الله سبحانه بنور هدايته و هو نور الرسالة.

و على هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة و جعل الشمس المضيئة و القمر المنير فيها لإضاءة العالم المحسوس، و أشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإنساني بنور الهداية من الرسالة ليتبصر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات و دفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.

هذا ما يعطيه السياق و على هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات و التي قبلها كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: "أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل" فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.

قوله تعالى: "و هو الذي جعل الليل و النهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" الخلفة هي الشيء يسد مسد شيء آخر و بالعكس و كأنه بناء نوع أريد به معنى الوصف فكون الليل و النهار خلفة أن كلا منهما يخلف الآخر، و تقييد الخلفة بقوله: "لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" للدلالة على نيابة كل منهما عن الآخر في التذكر و الشكر.



و المقابلة بين التذكر و الشكر يعطي أن المراد بالتذكر الرجوع إلى ما يعرفه الإنسان بفطرته من الحجج الدالة على توحيد ربه و ما يليق به تعالى من الصفات و الأسماء و غايته الإيمان بالله، و بالشكور القول أو الفعل الذي ينبىء عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، و ينطبق على عبادته و ما يلحق بها من صالح العمل.

و على هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل و النهار بحيث يخلف كل صاحبه فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الأخرى منه، و من لم يوفق لعبادة أو لأي عمل صالح في شيء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة: "و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا" ففيه إشارة إلى أن الله سبحانه و إن دفع أولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنه لم يمنع عباده عن التقرب إليه و الاستضاءة بنوره فجعل نهارا ذا شمس طالعة و ليلا ذا قمر منير و هما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

و فسر بعضهم التذكر بصلاة الفريضة و الشكور بالنافلة و الآية تقبل الانطباق على ذلك و إن لم يتعين حملها عليه.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "أ رأيت من اتخذ إلهه هواه": أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل" فقال: الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و في المجمع: في قوله تعالى: "و هو الذي خلق من الماء" الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي بن أبي طالب زوج فاطمة عليا فهو ابن عمه و زوج ابنته فكان نسبا و صهرا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "و كان الكافر على ربه ظهيرا" يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا جهل بن هشام.

أقول: و الروايتان بالجري و التطبيق أشبه.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تبارك و تعالى: "تبارك الذي جعل في السماء بروجا" فالبروج الكواكب و البروج التي للربيع و الصيف الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة، و بروج الخريف و الشتاء: الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و هي اثنا عشر برجا.

و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): كلما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك و تعالى: "و هو الذي جعل الليل و النهار خلفة - لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار و ما فاته بالنهار بالليل.

<<        الفهرس        >>