جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج15 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


24 سورة النور - 27 - 34

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ بُيُوتِكمْ حَتى تَستَأْنِسوا وَ تُسلِّمُوا عَلى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ (27) فَإِن لّمْ تجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتى يُؤْذَنَ لَكمْ وَ إِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لّيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ مَسكُونَةٍ فِيهَا مَتَعٌ لّكمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ (29) قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَ يحْفَظوا فُرُوجَهُمْ ذَلِك أَزْكى لهَُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرُ بِمَا يَصنَعُونَ (30) وَ قُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضضنَ مِنْ أَبْصرِهِنّ وَ يحْفَظنَ فُرُوجَهُنّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلا مَا ظهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضرِبْنَ بخُمُرِهِنّ عَلى جُيُوبهِنّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلا لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ ءَابَائهِنّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَائهِنّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَنِهِنّ أَوْ بَنى إِخْوَنِهِنّ أَوْ بَنى أَخَوَتِهِنّ أَوْ نِسائهِنّ أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَنُهُنّ أَوِ التّبِعِينَ غَيرِ أُولى الارْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظهَرُوا عَلى عَوْرَتِ النِّساءِ وَ لا يَضرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَ تُوبُوا إِلى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ (31) وَ أَنكِحُوا الأَيَمَى مِنكمْ وَ الصلِحِينَ مِنْ عِبَادِكمْ وَ إِمَائكمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ وَ اللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَستَعْفِفِ الّذِينَ لا يجِدُونَ نِكاحاً حَتى يُغْنِيهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ وَ الّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَب مِمّا مَلَكَت أَيْمَنُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيراً وَ ءَاتُوهُم مِّن مّالِ اللّهِ الّذِى ءَاتَاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَيَتِكُمْ عَلى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحَصناً لِّتَبْتَغُوا عَرَض الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ مَن يُكْرِههّنّ فَإِنّ اللّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكمْ ءَايَتٍ مّبَيِّنَتٍ وَ مَثَلاً مِّنَ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكمْ وَ مَوْعِظةً لِّلْمُتّقِينَ (34)

بيان

أحكام و شرائع متناسبة و مناسبة لما تقدم.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها" إلخ، الأنس بالشيء و إليه الألفة و سكون القلب إليه، و الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله و التنحنح و نحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع.

و منه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.

و يؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الأخوة و الألفة و التعاون العام على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله: "ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون" أي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنة الأخوة و تألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية.

و قيل: إن قوله: "لعلكم تذكرون" تعليل لمحذوف و التقدير قيل لكم كذا لعلكم تتذكرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، و لا بأس به.

و قيل: إن في قوله: "حتى تستأنسوا و تسلموا" تقديما و تأخيرا و الأصل حتى تسلموا و تستأنسوا.

و هو كما ترى.

قوله تعالى: "فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم"... إلخ، أي إن علمتم بعدم وجود أحد فيها - و هو الذي يملك الإذن - فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم من قبل من يملك الإذن، و ليس المراد به أن يتطلع على البيت و ينظر فيه فإن لم ير فيه أحدا كف عن الدخول فإن السياق يشهد على أن المنع في الحقيقة عن النظر و الاطلاع على عورات الناس.

و هذه الآية تبين حكم دخول بيت الغير و ليس فيه من يملك الإذن، و الآية السابقة تبين حكم الدخول و فيه من يملك الإذن و لا يمنع، و أما دخوله و فيه من يملك الإذن و يمنع و لا يأذن فيه فيبين حكمه قوله تعالى: "و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم".

قوله تعالى: "ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم" إلخ، ظاهر السياق كون قوله: "فيها متاع لكم" صفة بعد صفة لقوله: "بيوتا" لا جملة مستأنفة معللة لقوله: "ليس عليكم جناح"، و الظاهر أن المتاع بمعنى الاستمتاع.

ففيه تجويز الدخول في بيوت معدة لأنواع الاستمتاع و هي غير مسكونة بالطبع كالخانات و الحمامات و الأرحية و نحوها فإن كونها موضوعة للاستمتاع إذن عام في دخولها.

و ربما قيل: إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي و هو الأثاث و الأشياء الموضوعة للبيع و الشرى كما في بيوت التجارة و الحوانيت فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما و لا يخلو من بعد لقصور اللفظ.



قوله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون" الغض إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أن "من" في "من أبصارهم" لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكل قائل، و المعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم.

فقوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" لما كان "يغضوا" مترتبا على

قوله: "قل" ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، و الآية أمر بغض الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الأجنبي و الأجنبية لمكان الإطلاق.

و قوله: "و يحفظوا فروجهم" أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشق بين الشيئين، و كنى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن المليء أدبا و خلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب.

و المقابلة بين قوله: "يغضوا من أبصارهم" و "يحفظوا فروجهم" يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر.

و على هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.

ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثهم على المراقبة في جنبه بقوله: "ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون".

قوله تعالى: "و قل للمؤمنات يغضضن" إلخ، الكلام في قوله: "و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن" نظير ما مر في قوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم" فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه و يجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي و الأجنبية.

و أما قوله: "و لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" فالإبداء الإظهار، و المراد بزينتهن مواضع الزينة لأن نفس ما يتزين به كالقرط و السوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.

و قد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، و قد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه و الكفان و القدمان كما سيجيء إن شاء الله.

و قوله: "و ليضربن بخمرهن على جيوبهن" الخمر بضمتين جمع خمار و هو ما تغطي به المرأة رأسها و ينسدل على صدرها، و الجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون و هو معروف و المراد بالجيوب الصدور، و المعنى و ليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها.

و قوله: "و لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن - إلى قوله - أو بني أخواتهن" البعولة هم أزواجهن، و الطوائف السبع الأخر محارمهن من جهة النسب و السبب، و أجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم و أبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الأبناء.

و قوله: "أو نسائهن" في الإضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء و قد وردت به الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و قوله: "أو ما ملكت أيمانهن" إطلاقه يشمل العبيد و الإماء، و قد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، و هذا من موارد استعمال "ما" في أولي العقل.



و قوله: "أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال" الإربة هي الحاجة، و المراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، و "من الرجال" بيان للتابعين، و المراد بهم كما تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال و لا شهوة لهم.

و قوله: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" أي جماعة الأطفال - و اللام للاستغراق - الذين لم يقووا و لم يظهروا - من الظهور بمعنى الغلبة - على أمور يسوء التصريح بها من النساء، و هو - كما قيل - كناية عن البلوغ.

و قوله: "و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال و العقد و القرط و السوار.

و قوله: "و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه و بالجملة اتباع سبيله.

قوله تعالى: "و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم" الإنكاح

التزويج، و الأيامى جمع أيم بفتح الهمزة و كسر الياء المشددة و هو الذكر الذي لا أنثى معه و الأنثى التي لا ذكر معها و قد يقال في المرأة أيمة، و المراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الأعمال.

و قوله: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وعد جميل بالغنى و سعة الرزق و قد أكده بقوله: "و الله واسع عليم" و الرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشية من الله سبحانه، و سيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: "فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون": الذاريات: 23 كلام في معنى سعة الرزق.

قوله تعالى: "و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله" الاستعفاف و التعفف قريبا المعنى، و المراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر و النفقة، و معنى الآية الأمر بالتعفف لمن لا يقدر على النكاح و التحرز عن الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله.

قوله تعالى: "و الذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" إلخ المراد بالكتاب المكاتبة، و ابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على إيتائه المولى مالا على أن يعتقه، و في الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيرا و هو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك.

و قوله: "و آتوهم من مال الله الذي آتاكم" إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى: "و في الرقاب": التوبة: 60 أو إسقاط شيء من مال المكاتبة.

و في هذه الآية و الآيات السابقة مباحث فقهية جمة ينبغي أن يراجع فيها كتب الفقه.

قوله تعالى: "و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا الفتيات الإماء و الولائد، و البغاء الزنا و هو مفاعلة من البغي، و التحصن التعفف و الازدواج و ابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، و المعنى ظاهر.

و إنما اشترط النهي عن الإكراه بإرادة التحصن لأن الإكراه لا يتحقق في من لا يريد التحصن، ثم وعدهن المغفرة على تقدير الإكراه بقوله: "و من يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" و معناه ظاهر.



قوله تعالى: "و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين" المثل الصفة و من الممكن أن يكون قوله: "و لقد أنزلنا" إلخ، حالا من فاعل قوله: "توبوا" في الآية السابقة أو استينافا و المعنى و أقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبين لكم من معارف الدين ما تفلحون به، و صفة من السابقين أخيارهم و أشرارهم يتميز بها لكم ما ينبغي أن تأخذوا به مما ينبغي لكم أن تجتنبوا، و موعظة للمتقين منكم.

بحث روائي

في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم - حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها" قال: الاستيناس وقع النعل و التسليم:. أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن محمد بن الحسن مرفوعا عن عبد الرحمن عنه (عليه السلام).

و في المجمع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال يتكلم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح على أهل البيت.

و عن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه مدرى يحك رأسه: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الاستيذان من النظر.

و روي: أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أستأذن على أمي؟ فقال: نعم. قال

إنها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

و روي: أن رجلا استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنحنح فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلميه و قولي له: قل السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: ادخل.

أقول: و روي في الدر المنثور، عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الأولى عن أبي أيوب، و الثانية عن سهل بن سعد و الرابعة عن عمرو بن سعد الثقفي.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن و يسلم فقد عصى الله و لا إذن له.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "فإن لم تجدوا فيها أحدا - فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم" قال: معناه و إن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم.

و فيه،: في قوله تعالى: "ليس عليكم جناح أن تدخلوا - بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم" قال الصادق (عليه السلام): هي الحمامات و الخانات و الأرحية تدخلها بغير إذن.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، و أن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له و هو عمله و هو من الإيمان. فقال تبارك و تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم" فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه و يحفظ فرجه أن ينظر إليه، و قال: "و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن" من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها و تحفظ فرجها من أن ينظر إليه. و قال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فهو من النظر:.

أقول: و روى القمي في تفسيره، ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن أبي العالية و ابن زيد.



و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها و هي مقبلة فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سماه ببني فلان، و جعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لأخبرنه. قال: فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم - ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون":. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب مثله، و ظاهر الحديث أن المراد بالأمر بالغض في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الأجنبية، كما أن ظاهر بعض الروايات السابقة أنه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصة.

و فيه، بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان.

أقول: و رواه في الخصال، عن بعض أصحابنا عنه (عليه السلام) و لفظه: الوجه و الكفين و القدمين.

و في قرب الإسناد، للحميري عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكف و موضع السوار.

و في الكافي، بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و العلوج لأنهم إذا نهوا لا ينتهون.

قال: و المجنونة و المغلوبة على عقلها، و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك.

أقول: كأنه (عليه السلام) يريد بقوله: ما لم يتعمد ذلك، الريبة.

و في الخصال،: و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي أول نظرة لك و الثانية عليك لا لك أقول: و روي مثله في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى و ليست لك الآخرة.

و في جوامع الجامع، عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أبي داود و الترمذي و النسائي و البيهقي عنها.

و في الفقيه، و روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانهن" و قيل: معناه العبيد و الإماء: و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن غير أولي الإربة من الرجال. قال: الأحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء.

و فيه، بإسناده عن محمد بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عز و جل إن الله يقول "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله".

أقول: و في المعاني السابقة روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أرادها فليراجع كتب الحديث.

و في الفقيه، روى العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز

و جل: "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و يكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة.

أقول: و في معناه روايات أخر.



و في الكافي، بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في قوله عز و جل: "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا - و آتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: تضع عنه من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه، و لا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت: كم؟ فقال: وضع أبو جعفر (عليه السلام) عن مملوك ألفا من ستة آلاف.

أقول: و روي في مجمع البيان، و كذا في الدر المنثور، عن علي (عليه السلام) ربع المال، و المستفاد من ظواهر الأخبار عدم تعين مقدار معين ذي نسبة.

و قد تقدمت في ذيل قوله و في الرقاب": التوبة: 60 الجزء التاسع من الكتاب رواية العياشي أن المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا"، قال: كانت العرب و قريش يشترون الإماء و يضعون عليهن الضريبة الثقيلة و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء" إلى قوله غفور رحيم" أي لا يؤاخذهن الله تعالى بذلك إذا أكرهن عليه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "لتبتغوا عرض الحيوة الدنيا" قيل: إن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا، فلما نزل تحريم الزنا أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكون إليه فنزلت الآية.

أقول: أما أنه كان له من الجواري من يكرههن على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدر المنثور، كما روى هذه الرواية، و أما كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعفه أن الزنا لم يحرم في المدينة بل في مكة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريات الإسلام منذ ظهرت الدعوة الحقة، و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن حرمة الفواحش و منها الزنا من الأحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة.

24 سورة النور - 35 - 46

اللّهُ نُورُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَوةٍ فِيهَا مِصبَاحٌ الْمِصبَاحُ فى زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنهَا كَوْكَبٌ دُرِّىّ يُوقَدُ مِن شجَرَةٍ مّبَرَكةٍ زَيْتُونَةٍ لا شرْقِيّةٍ وَ لا غَرْبِيّةٍ يَكادُ زَيْتهَا يُضىءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسسهُ نَارٌ نّورٌ عَلى نُورٍ يهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ وَ يَضرِب اللّهُ الأَمْثَلَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (35) فى بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَ يُذْكرَ فِيهَا اسمُهُ يُسبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الاَصالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجَرَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقَامِ الصلَوةِ وَ إِيتَاءِ الزّكَوةِ يخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّب فِيهِ الْقُلُوب وَ الأَبْصرُ (37) لِيَجْزِيهُمُ اللّهُ أَحْسنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ (38) وَ الّذِينَ كفَرُوا أَعْمَلُهُمْ كَسرَابِ بِقِيعَةٍ يحْسبُهُ الظمْئَانُ مَاءً حَتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يجِدْهُ شيْئاً وَ وَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اللّهُ سرِيعُ الحِْسابِ (39) أَوْ كَظلُمَتٍ فى بحْرٍ لّجِّىٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سحَابٌ ظلُمَت بَعْضهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَن لّمْ يجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نّورٍ (40) أَ لَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسبِّحُ لَهُ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ الطيرُ صفّتٍ كلّ قَدْ عَلِمَ صلاتَهُ وَ تَسبِيحَهُ وَ اللّهُ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَ للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ إِلى اللّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِى سحَاباً ثمّ يُؤَلِّف بَيْنَهُ ثمّ يجْعَلُهُ رُكاماً فَترَى الْوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ وَ يُنزِّلُ مِنَ السمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيب بِهِ مَن يَشاءُ وَ يَصرِفُهُ عَن مّن يَشاءُ يَكادُ سنَا بَرْقِهِ يَذْهَب بِالأَبْصرِ (43) يُقَلِّب اللّهُ الّيْلَ وَ النّهَارَ إِنّ فى ذَلِك لَعِبرَةً لأُولى الأَبْصرِ (44) وَ اللّهُ خَلَقَ كلّ دَابّةٍ مِّن مّاءٍ فَمِنهُم مّن يَمْشى عَلى بَطنِهِ وَ مِنهُم مّن يَمْشى عَلى رِجْلَينِ وَ مِنهُم مّن يَمْشى عَلى أَرْبَعٍ يخْلُقُ اللّهُ مَا يَشاءُ إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (45) لّقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَتٍ مّبَيِّنَتٍ وَ اللّهُ يهْدِى مَن يَشاءُ إِلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (46)

بيان

تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.

و قد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام

الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.

و نورا خاصا يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم و عبادته تجارة و لا بيع.

فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، و حرمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكل من ماء.

و الآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: "و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين" و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.

على أن الآيات قرآن و قد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: "و أنزلنا إليكم نورا مبينا": النساء: 174.

قوله تعالى: "الله نور السماوات و الأرض" إلى آخر الآية.

المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوة غير نافذة و هي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.

و الدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.



و قوله: "الله نور السماوات و الأرض" النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر.

هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشم و الذوق و اللمس.

ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.

و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود و نور يتصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.

فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله: "الله نور السماوات و الأرض" حيث أضيف النور إلى السماوات و الأرض ثم حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدس.

و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: "أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه" إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلون له و يسبحونه فهو نظير قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.

فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: "الله نور السماوات و الأرض" نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء و هو مساو لوجود كل شيء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامة.

و قوله: "مثل نوره" يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - و ظاهره الإضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: "يهدي الله لنوره من يشاء" إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.



و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره": الصف: 8، و قوله: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122 و قوله: "يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد: 28، و قوله: "أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه": الزمر: 22، و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم و هو نور الإيمان و المعرفة.

و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده.

على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: "لهم أجرهم و نورهم": الحديد: 19 و قوله: "يقولون ربنا أتمم لنا نورنا": التحريم: 8، و القرآن ليس وصفا لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.

و قوله: "كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة" المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح "إلخ" لا مجرد المشكاة و إلا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.

و قوله: "الزجاجة كأنها كوكب دري" تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.

و قوله: "يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار" خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقية و لا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي و لا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.

و الدليل على هذا المعنى قوله: "يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار" فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية و لا غربية.

و أما قول بعضهم: إن المراد بقوله: "لا شرقية و لا غربية" أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.

و قوله: "نور على نور" خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.

و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، و لا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.

و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف و دقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدد بتعددهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمد منه.



و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.

فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف و هو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة و الجودة.

فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جو البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.

و قوله: "يهدي الله لنوره من يشاء" استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: "من يشاء" القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله" إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.

و المعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، و ليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.

و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: "و لله ملك السماوات و الأرض" إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.

و قوله: "و يضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم" إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:

"و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون": العنكبوت: 43.

قوله تعالى: "في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه" الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.

و بذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: "أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك".

و قوله: "في بيوت" متعلق بقوله في الآية السابقة: "كمشكوة" أو قوله: "يهدي الله" إلخ، و المال واحد، و من المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، و قد قال تعالى: "و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا": الحج: 40.

قوله تعالى: "يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال" إلى آخر الآية.



تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدو جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه و يهمه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح.

قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.

و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلب القلوب و الأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.

و قوله: "يسبح له فيها بالغدو و الآصال" صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: "و يذكر فيها اسمه"، و كون التسبيح بالغدو و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.

و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم

يبق معه غيره و تمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.

و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.

و قوله: "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع" التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.

و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة و لذلك كررت لفظة "لا" لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.

و قوله: "عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة" الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.

و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كل منها ركنا في بابه.

و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما - و خاصة الصلاة -



من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عملي.

فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: "عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة" أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم و ذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر و لا موقت عن الذكر المستمر و الموقت، فافهم ذلك.

و قوله: "يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار" هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعم قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.

و أما تقلب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22، و قال: "و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون: الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات.

فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور الإيمان و المعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: "و أشرقت الأرض بنور ربها،": الزمر: 69 و قال: "يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم": الحديد: 12، و قال: "و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى": الإسراء: 72، و قال: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": القيامة: 23 و قال: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين: 15.

و قد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى

نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة و يبصر به.

و ثانيا: أن المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.

و ثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: "تتقلب فيه القلوب و الأبصار" لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب و الأبصار، و إنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.

قوله تعالى: "ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله و الله يرزق من يشاء بغير حساب" الظاهر أن لام "ليجزيهم" للغاية، و الذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.



و يؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: "و الله يرزق من يشاء بغير حساب" فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.

و قوله: "و يزيدهم من فضله" الفضل العطاء، و هذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.

و قد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: "أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين": الزمر: 34، و قال: "أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء و مصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين": الفرقان: 16، و قال: "لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين": النحل: 31.

فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشرهم به فأجد التدبر فيه.

و قوله: "و الله يرزق من يشاء بغير حساب" استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: "يهدي الله لنوره من يشاء" على ما مر بيانه.

و محصله أنهم عملوا صالحا و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: "و توفى كل نفس ما عملت": النحل: 111، و ما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى و أرفع من أن تتعلق به مشيتهم و هذه أيضا موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.

غير أنه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله: "فورب السماء و الأرض إنه لحق": الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لأصله و هو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.

قوله تعالى: "و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء" إلى آخر الآية.

السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أن الله الذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.

فقوله: "و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" شبه أعمالهم - و هي التي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من

عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.



و إنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتب عليه قوله: "حتى إذا جاءه لم يجده شيئا"، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

و التعبير بقوله: "جاءه" دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظارا و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله: "و وجد الله عنده فوفاه حسابه" فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلتهم و هو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته و جبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم و الأعمال المقربة إليهم و فيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم و لا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

و قوله: "و الله سريع الحساب" إنما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدم و المتأخر على حد سواء.

و اعلم أن الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل و خاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع و يراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة التي يقدرها له، و إن كان ممن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر و الطبيعة و المادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.

فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثر غيره و يرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلا سرابا لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا و عاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.



قوله تعالى: "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب" تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: "و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات": البقرة: 257، و قوله: "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122، و قوله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين: 15.

و قوله: "أو كظلمات في بحر لجي" معطوف على "سراب" في الآية السابقة، و البحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر و هي تردد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.

و قوله: "يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب" صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر

كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.

و قوله: "ظلمات بعضها فوق بعض" تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، و قد أكد ذلك بقوله: "إذا أخرج يده لم يكد يراها" فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون و لا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

و قوله: "و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور" نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: "أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات" إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدل عليه أن ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء و يدل على منوره بما أشرق عليه من النور و أن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، و الفاقة التي لزمته، و النقص الذي لا ينفك عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه و سلب أي إله و رب يدبر الأمر دونه تعالى.

و إلى ذلك يشير قوله: "أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه" و به يحتج تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره و وجوده.



و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافات و هم العقلاء و بعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده".

و لعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ "من في السماوات و الأرض" من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.

و يظهر من بعضهم أن المراد بقوله: "من في السماوات" إلخ، جميع الأشياء و إنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.

و فيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: "كل قد علم صلاته و تسبيحه".

و منها: تصدير الكلام بقوله: "أ لم تر" و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: "أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض": إبراهيم: 19، و الخطاب فيه عام لكل ذي عقل و إن كان خاصا بحسب اللفظ.

و من الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

و منها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": الإسراء: 44، و ستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

و قول بعضهم: إن الضمير في قوله: "قد علم" راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصة لقوله بعده: "و الله عليم بما يفعلون" و نظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.

و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان و يؤيده قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده" و لعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

و أما قوله: "كل قد علم صلاته و تسبيحه" فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.



و منها: أن الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعم المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذر: "و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين": الأعراف: 172، و قوله: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22 إلى غير ذلك، و نور خاص و هو الذي تذكره الآيات و يختص بأوليائه من المؤمنين.

فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام و خاص و قد قال تعالى: "و رحمتي وسعت كل شيء": الأعراف: 156، و قوله: "فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته": الجاثية: 30، و قد جمع بينهما في قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا": الحديد: 28، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.

و قوله: "و الله عليم بما يفعلون" و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية.

و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسنا، و إيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم.

قوله تعالى: "و لله ملك السماوات و الأرض و إلى الله المصير" سياق الآية و قد وقعت بين قوله: "أ لم تر أن الله يسبح له" إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العام لكل شيء، و بين قوله: "أ لم تر أن الله يزجي" إلخ، و ما يتعقبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شيء و كونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام و تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فقوله: "و لله ملك السماوات و الأرض" يخص الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شيء، و إذ كان لا مليك إلا هو و إليه مرجع كل شيء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و من هنا يظهر أن المراد - و الله أعلم - بقوله: "و إلى الله المصير" مرجعيته تعالى في الأمور دون المعاد نظير قوله: "ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى: 53.

قوله تعالى: "أ لم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله" إلى آخر الآية.

الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.

و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، و المعنى: أ لم تر أنت و كل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.

و قوله: "و ينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" السماء جهة العلو، و قوله: "من جبال فيها" بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله: "من برد" بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالا فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.



و الكلام معطوف على قوله: "يزجي"، و المعنى: أ لم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.

و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أن الأمر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء.

قوله تعالى: "يقلب الله الليل و النهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط.

و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و الله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع" بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسي و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.

و قوله: "يخلق الله ما يشاء" تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الأمر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه

على جميع خلقه كالنور العام، و الرحمة العامة و له أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص و الرحمة الخاصة.

و قوله: "إن الله على كل شيء قدير" تعليل لقوله: "يخلق الله ما يشاء" فإن إطلاق القدرة على كل شيء يستوجب أن لا يتوقف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته و إلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.

و هذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاتضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.

بحث فلسفي

إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيرا منها - و خاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، و إذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا علة تامة وحدها.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره و كذا الصادر الأول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، و أما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدات.

هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الأجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

و هاهنا نظر آخر أدق و هو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معداته يقضي بنوع من الاتحاد و الاتصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبط به متصل الهوية بغيرها.



فالإنسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب

تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولد في زمان كذا و مكان كذا المتقدم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلا و من الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شيء غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيدة، و هو قوله تعالى: "يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.

قوله تعالى: "لقد أنزلنا آيات مبينات و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" يريد آية النور و ما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين": الحمد: 7، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.

و تذييل الآية بقوله: "و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" هو الموجب لعدم تقييد قوله: "لقد أنزلنا آيات مبينات" بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات: "لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين".

إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و الله يهدي.

تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم و أن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الذين في قلوبهم مرض و الله العالم.

بحث روائي

في التوحيد، بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "الله نور السماوات و الأرض" فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.

و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.

أقول إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصة و هي الهداية إلى السعادة الدينية

كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامة و هي إيصال كل شيء إلى كماله انطبق على ما تقدم.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: "زيتونة لا شرقية و لا غربية" ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم.



و في تفسير القمي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية "الله نور السماوات و الأرض" قال: بدأ بنور نفسه "مثل نوره" مثل هداه في قلب المؤمن "كمشكوة فيها مصباح" و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الذي جعله الله في قلبه. "يوقد من شجرة مباركة" قال: الشجرة المؤمن "زيتونة لا شرقية و لا غربية" قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، و لا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها "يكاد زيتها يضيء" يكاد النور الذي في قلبه يضيء و إن لم يتكلم. "نور على نور" فريضة على فريضة، و سنة على سنة "يهدي الله لنوره من يشاء" يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء "و يضرب الله الأمثال للناس" فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: "فلا تضربوا لله الأمثال".

أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، و قد اكتفى (عليه السلام) في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: "يكاد زيتها يضيء" و قوله: "نور على نور".

و أما قوله: "سبحان الله ليس لله مثل فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور

الذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أما الضمير في قوله: "مثل نوره" فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.

و في التوحيد، و قد روي عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله عز و جل: "الله نور السماوات و الأرض - مثل نوره كمشكوة فيها مصباح" فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي و الأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم) من دلالات الله و آياته التي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرون من أهل بيته (عليهم السلام) و إلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) و الأوصياء و الأولياء.

نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله" إلخ.

و قد وردت عدة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته (عليهم السلام) و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و فيها: أن المشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المصباح النور الذي فيه العلم، و الزجاجة علي أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية و لا غربية إبراهيم (عليه السلام) ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و قوله: "يكاد زيتها يضيء" إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة و إن لم ينزل عليهم ملك.

و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الزجاجة صدر علي "يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار" يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل "نور على نور" إمام مؤيد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمد.

و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة فاطمة (عليها السلام)، و المصباح الحسن (عليه السلام)، و الزجاجة الحسين (عليه السلام)،



و الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام)، و لا شرقية و لا غربية ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و نور على نور إمام بعد إمام، و يهدي الله لنوره من يشاء يهدي الله للأئمة (عليهم السلام) من يشاء و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "زيتونة لا شرقية و لا غربية" قال: قلب إبراهيم لا يهودي و لا نصراني.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية "في بيوت أذن الله أن ترفع" فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها:. أقول: و رواه في المجمع، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا، و روى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت علي (عليه السلام) منها.

و هو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم.

و في نهج البلاغة،: من كلام له (عليه السلام) عند تلاوته "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله" و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه. كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع": و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممن لم يتجر.

أقول: أي لم يتجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.

و في الدر المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: "رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله" قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.

أقول: كأن الرواية غير تامة و تمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلوا.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الله سريع الحساب" و سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز و جل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عز و جل يصيب بها من يشاء من عباده.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "فمنهم من يمشي على بطنه - و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع" قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيات، و على أربع البهائم، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.

24 سورة النور - 47 - 57

وَ يَقُولُونَ ءَامَنّا بِاللّهِ وَ بِالرّسولِ وَ أَطعْنَا ثُمّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِّنهُم مِّن بَعْدِ ذَلِك وَ مَا أُولَئك بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذَا دُعُوا إِلى اللّهِ وَ رَسولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم مّعْرِضونَ (48) وَ إِن يَكُن لهُّمُ الحَْقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فى قُلُوبهِم مّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يخَافُونَ أَن يحِيف اللّهُ عَلَيهِمْ وَ رَسولُهُ بَلْ أُولَئك هُمُ الظلِمُونَ (50) إِنّمَا كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللّهِ وَ رَسولِهِ لِيَحْكمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سمِعْنَا وَ أَطعْنَا وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَن يُطِع اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ يخْش اللّهَ وَ يَتّقْهِ فَأُولَئك هُمُ الْفَائزُونَ (52) وَ أَقْسمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَنهِمْ لَئنْ أَمَرْتهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُل لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مّعْرُوفَةٌ إِنّ اللّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرّسولَ فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكم مّا حُمِّلْتُمْ وَ إِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مَا عَلى الرّسولِ إِلا الْبَلَغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا مِنكمْ وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَيَستَخْلِفَنّهُمْ فى الأَرْضِ كمَا استَخْلَف الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنّ لهَُمْ دِينهُمُ الّذِى ارْتَضى لهَُمْ وَ لَيُبَدِّلَنهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنى لا يُشرِكُونَ بى شيْئاً وَ مَن كفَرَ بَعْدَ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ (55) وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزّكَوةَ وَ أَطِيعُوا الرّسولَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تحْسبنّ الّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فى الأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ النّارُ وَ لَبِئْس الْمَصِيرُ (57)

بيان

تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أن الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.

قوله تعالى: "و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك "إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.

فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كله.

فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: "آمنا بالله و بالرسول" فأشير إلى تعدد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: "و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله": النساء: 150.

فقوله: "و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا" أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرعنا به و على أن الرسول لا يخبر إلا بالحق و لا يحكم إلا بالحق.

و قوله: "ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك" أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: "آمنا بالله و بالرسول و أطعنا" عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

و قوله: "و ما أولئك بالمؤمنين أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.

قوله تعالى: "و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون" يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في ذلك نزلت الآيات.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء: 105.

فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم و القضاء.



و بذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أن الظاهر أن ضمير "ليحكم" للرسول، و إنما أفرد الفاعل و لم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.

و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: "و إن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين" الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصة قوله: "يأتوا إليه" أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، و المعنى و إن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنهم يتبعون الهوى و لا يريدون اتباع الحق.

قوله تعالى: "أ في قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله" إلى آخر الآية.

الحيف الجور.

و ظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض": الأحزاب: 32، و قوله: "لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم": الأحزاب: 60، و غير ذلك من الآيات.

و أما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: "و ما أولئك بالمؤمنين" فإنه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: "بل أولئك هم الظالمون".

و قوله: "أم ارتابوا" ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشك أن يكون المراد هو

شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

و قوله: "أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله" أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبنية على الجور و إماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يراعي الحق في قضائه.

و قوله: "بل أولئك هم الظالمون" إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، و أما الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.

و الظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: "و ما أولئك بالمؤمنين" أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم و يدل عليه أيضا الآية التالية.



و قد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم و إما لزواله بالارتياب و إما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحق إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.

و قد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد و الإضراب و لعل فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.

قوله تعالى: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا" إلى آخر الآية سياق قوله: "إنما كان قول المؤمنين" و قد أخذ فيه "كان" و وصف الإيمان في "المؤمنين" يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة

الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الرد.

و على هذا فالمراد بقوله: "إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم" دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدل عليه تصدير الجملة بلفظة "إذا" و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل "دعوا" المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله.

نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.

و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيدا.

و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في "سمعنا و أطعنا" يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله: "بل أولئك هم الظالمون" على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

و قد ختمت الآية بقوله: "و أولئك هم المفلحون" و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: "و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون" ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقا في باطنه خشية الله و في

ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.

و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعو جميعا.

قوله تعالى: "و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة" إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله: "أقسموا بالله جهد أيمانهم" أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.



و الظاهر أن المراد بقوله: "ليخرجن" الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا": التوبة: 47.

و قوله: "قل لا تقسموا" نهي عن الإقسام، و قوله: "طاعة معروفة خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جيء بالفصل، و قوله: "إن الله خبير بما تعملون" من تمام التعليل.

و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.

و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله: "طاعة معروفة" مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.

و فيه أن هذا المعنى و إن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا

تولوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن و هو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل "ليخرجن" على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.

قوله تعالى: "قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم" إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله: "قل" إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، و قد أكده بقوله: "و أطيعوا الرسول" دون أن يقول: و أطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتم الحجة.

و لذلك عقب الكلام: أولا بقوله: "فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم" أي فإن تتولوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف و لا يمسكم منه شيء و عليكم ما حملتم من التكليف و لا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.

و ثانيا بقوله: "و إن تطيعوه تهتدوا" أي و إن كان لكل منكم و منه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.

و ثالثا بقوله و ما على الرسول إلا البلاغ المبين و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ و إذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.



قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنية و لم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها و خاصة ذيلها.

فالآية على هذا وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.

فقوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات من فيه تبعيضية لا بيانية و الخطاب لعامة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاص بالذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضا.

و قوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم و داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة: البقرة - 30 و قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض: ص - 26 و قال و ورث سليمان داود: النمل - 16 فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين: الأعراف - 128 و قال إن الأرض يرثها عبادي الصالحون: الأنبياء - 105 فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين و لنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد: إبراهيم - 14 فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و أما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكنهم فيها كما قال تعالى فيهم

و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض: القصص - 6.

ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.



و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم و هم بنو إسرائيل كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك أمم أشد قوة و أكثر جمعا منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الأولى و ثمود إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح: الأعراف - 69 و قال إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد: الأعراف - 74 و قد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال و هو الذي جعلكم خلائف الأرض: الأنعام - 165 و قال هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره: فاطر - 39.

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله و ليمكنن لهم دينهم إلى آخر الوعد قلت نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به و أن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.

و قوله و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم تمكين الشيء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشيء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم: البقرة - 213.

و المراد بدينهم الذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفا لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.

و قوله و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا هو كقوله و ليمكنن لهم عطف على قوله ليستخلفنهم و أصل المعنى و ليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله من بعد خوفهم و التقدير و ليبدلن خوفهم أو كون أمنا بمعنى آمين.

و المراد بالخوف على أي حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفار و المنافقين.

و قوله يعبدونني لا يشركون بي شيئا الأوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير و ليبدلنهم أي و ليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا.

و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم و تأكيد يعبدونني بقوله لا يشركون بي شيئا و وقوع النكرة شيئا في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الإطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي و بالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا آمنا لا يعبد فيه إلا الله و لا يتخذ فيه رب غيره.

و قوله و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ظاهر السياق كون ذلك إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون كفر من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زي العبودية.

و قد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية.

فقيل إنها واردة في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمنا بما أعز الإسلام بعد رحلة النبي في أيام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الثلاثة الأول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم قتل بنو فلان و إنما قتل بعضهم.

و قيل هي عامة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل



خوفهم أمنا إيراثهم الأرض كما أورثها الله الأمم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على اختلاف التقرير و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخروا الأقطار.

و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحققه و لم يكن مرجوا ذلك يومئذ.

و قيل إنها في المهدي الموعود (عليه السلام) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا و أن المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).

و الذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الأمة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصة منهم و هم الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نص في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي و أئمة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أن المراد بالذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الأمة و إنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه.

و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الذين من قبلهم من الأمم الماضين أولي القوة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم و أما إرادة الخلافة الإلهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسف (عليهما السلام) و هي السلطنة الإلهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ الذين من قبلهم و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ رسل من قبلك أو رسل من قبلي أو نحوها بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقه بحيث لا

يزلزله اختلافهم في أصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.

و المراد من تبديل خوفهم أمنا انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم.

و قول بعضهم إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.

تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعى على أن الآية في مقام الامتنان و أي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمته البلية لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرية فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.

و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى.



و المتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامة و لا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكم المتحكمين.

و هذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقق و لم ينعقد منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدي (عليه السلام) على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له (عليه السلام) وحده.

فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهدي (عليه السلام) أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟ قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية و الاجتماعية أعني الخطاب المتوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأول لا يتعدى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك

يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدى إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف و يسري إليه ما تضمنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم.

و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين و الكفار، و منه الخطابات الذامة لأهل الكتاب و خاصة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.

و من هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: "فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم": الإسراء: 7 فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: "فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا": الكهف: 98، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: "ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة": الأعراف: 187، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة.

فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي (عليه السلام) و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الأمة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالأمة المسلمة و عدهم الإسلام دينا لهم و إن تفرقوا فيه ثلاثا و سبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله و لا يشركون به شيئا عزة الأمة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حج و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودعهم الحق و الحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الأمة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلامية.



و أما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الأول أو خصوص علي

(عليه السلام) فلا سبيل إليه البتة.

قوله تعالى: "و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الرسول لعلكم ترحمون" مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها.

فقوله: "و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله: "و أطيعوا الرسول" إنفاذ لولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) في القضاء و الحكومة.

و قوله: "لعلكم ترحمون" تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فينجز لكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير.

قوله تعالى: "لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض و مأواهم النار و لبئس المصير" من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمنا.

يخاطب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الوعد - بخطاب مؤكد - أن لا يظن أن الكفار معجزين لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أكرم به أمته و أن أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات.

و لكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله: "و مأواهم النار" إلخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: "و يقولون آمنا بالله" الآيات قيل: نزلت الآيات في

رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. و حكى البلخي أنه كانت بين علي و عثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات:، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو قريب منه: أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحاك: أن النزاع كان بين علي و المغيرة بن وائل و ذكر قريبا من القصة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "إنما كان قول المؤمنين" الآية: و روي عن أبي جعفر: أن المعني بالآية أمير المؤمنين (عليه السلام).



و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "فإن تولوا فإنما عليه ما حمل - و عليكم ما حملتم" الآية:، أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا و يمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم.

أقول: و في معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الإسلام بما فيه من روح إحياء الحق و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلا و قد اتضح بالأبحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم و اتباعهم لأهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا و أخبث أثرا من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق و العدل.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم" الآية: و اختلف في الآية و المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد.

قال: و روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أنه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا و هو مهدي هذه الأمة،

و هو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا: و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك.

و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى.

و قد عرفت أن المراد به عام و الرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال (عليه السلام): هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء: في قوله: "وعد الله الذين آمنوا منكم" الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.

أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.

و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح و لا يصبحون إلا فيه فقالوا: أ ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات" الآية.

أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول و أما أن المراد بالذين آمنوا من هم؟ و أن الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرض له به.

و نظيرته روايته الأخرى: لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات" الآية قال: بشر هذه الأمة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.



فإن تبشير الأمة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الأمة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.

و في نهج البلاغة،: في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلة، و هو دين الله الذي أظهره، و جنده الذي أعزه و أيده حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق و رب متفرق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك. فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة.

أقول: و قد استدل به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الإلهي لم يتم أمر إنجازه بعد و أنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أن الدين لم يمكن بعد و لا الخوف بدل أمنا و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات" إلى آخر الآية.

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلته (صلى الله عليه وآله وسلم) أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر و تقليبهم الأمور؟.

24 سورة النور - 58 - 64

يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لِيَستَئْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَت أَيْمَنُكمْ وَ الّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُْلُمَ مِنكمْ ثَلَث مَرّتٍ مِّن قَبْلِ صلَوةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظهِيرَةِ وَ مِن بَعْدِ صلَوةِ الْعِشاءِ ثَلَث عَوْرَتٍ لّكُمْ لَيْس عَلَيْكمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُنَاحُ بَعْدَهُنّ طوّفُونَ عَلَيْكم بَعْضكمْ عَلى بَعْضٍ كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَتِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذَا بَلَغَ الأَطفَلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَستَئْذِنُوا كمَا استَئْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكمْ ءَايَتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ (59) وَ الْقَوَعِدُ مِنَ النِّساءِ الّتى لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْس عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيرَ مُتَبرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَ أَن يَستَعْفِفْنَ خَيرٌ لّهُنّ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لّيْس عَلى الأَعْمَى حَرَجٌ وَ لا عَلى الأَعْرَج حَرَجٌ وَ لا عَلى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنفُسِكمْ أَن تَأْكلُوا مِن بُيُوتِكمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَائكمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَنِكمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَتِكمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَمِكمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّتِكمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَلَتِكمْ أَوْ مَا مَلَكتُم مّفَاتحَهُ أَوْ صدِيقِكمْ لَيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسلِّمُوا عَلى أَنفُسِكُمْ تحِيّةً مِّنْ عِندِ اللّهِ مُبَرَكةً طيِّبَةً كذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكمُ الاَيَتِ لَعَلّكمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ إِذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُوا حَتى يَستَئْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَستَئْذِنُونَك أُولَئك الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسولِهِ فَإِذَا استَئْذَنُوك لِبَعْضِ شأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْت مِنْهُمْ وَ استَغْفِرْ لهَُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (62) لا تجْعَلُوا دُعَاءَ الرّسولِ بَيْنَكمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنّ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمُ (64)

بيان

بقية الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرع ما يشرع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخر الآية.

وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الأجنبي.

و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سميت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كان المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.

فقوله: "يا أيها الذين آمنوا" إلخ، تعقيب لقوله سابقا: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا" إلخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم.

و قوله: "ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجيء.

و قوله: "و الذين لم يبلغوا الحلم منكم" يعني المميزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيدهم بالتمييز قوله بعد: "ثلاث عورات لكم".

و قوله: "ثلاث مرات" أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: "من قبل صلاة الفجر و حين تضعون ثيابكم من الظهيرة - أي وقت الظهر - و من بعد صلاة العشاء"، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله: "ثلاث عورات لكم" أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم.

و قوله: "ليس عليكم و لا عليهم جناح بعدهن" أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: "طوافون عليكم بعضكم على بعض" أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.

ثم قال: "كذلك يبين الله لكم الآيات" أي أحكام دينه التي هي آيات دالة عليه "و الله عليم" يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم "حكيم" يراعي مصالحكم في أحكامه.

قوله تعالى: "و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا" إلخ، بيان أن حكم

الاستيذان ثلاث مرات في الأطفال مغيى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار "كذلك يبين الله لكم آياته و الله عليم حكيم".

قوله تعالى: "و القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا" إلى آخر الآية.

القواعد جمع قاعدة و هي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: "اللاتي لا يرجون نكاحا" وصف توضيحي، و قيل: هي التي يئست من الحيض، و الوصف احترازي.

و في المجمع:، التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.



و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنة من النساء فلا بأس عليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرجات بزينة.

و قوله: "و أن يستعففن خير لهن" كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، و قوله: "و الله سميع عليم" تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.

قوله تعالى: "ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج و لا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - أو صديقكم" ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي اؤتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.

فقوله: "ليس على الأعمى حرج - إلى قوله - و لا على أنفسكم" في عطف على أنفسكم" على ما تقدمه دلالة على أن عد المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحيانا و إلا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.

و قوله: "من بيوتكم أو بيوت آبائكم" إلخ، في عد "بيوتكم" مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم

أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.

على أن "بيوتكم" يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله: "أو ما ملكتم مفاتحه" المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الذي ملكتم أي تسلطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيما على بيت أو وكيلا أو سلم إليه مفتاحه.

و قوله: "أو صديقكم" معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.

قوله تعالى: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا" الأشتات جمع شت و هو مصدر بمعنى التفرق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرقين، و الآية عامة و إن كان نزولها لسبب خاص كما روي.

و للمفسرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما.

قوله تعالى: "فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة" إلخ، لما تقدم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: "فإذا دخلتم بيوتا".

فقوله: "فسلموا على أنفسكم" المراد فسلموا على من كان فيها من أهلها و قد بدل من قوله: "على أنفسكم" للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و أنثى على أنهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحدهم أقوى من الرحم و أي شيء آخر.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: فسلموا على أنفسكم" أن يسلم الداخل على أهل البيت و يرد السلام عليه.

و قوله: "تحية من عند الله مباركة طيبة" أي حال كون السلام تحية من عند الله شرعها الله و أنزل حكمها ليحيي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيب



يلائم النفس فإن حقيقة هذه التحية بسط الأمن و السلامة على المسلم عليه و هو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" و قد مر تفسيره "لعلكم تعقلون" أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.

قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه" ذكر قوله "الذين آمنوا بالله و رسوله" بيانا للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتصافهم بحقيقة المعنى أي إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله بحقيقة الإيمان و أيقنوا بتوحده تعالى و اطمأنت نفوسهم و تعلقت قلوبهم برسوله.

و لذلك عقبه بقوله: "و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه" و الأمر الجامع هو الذي يجمع الناس للتدبر في أطرافه و التشاور و العزم عليه كالحرب و نحوها.

و المعنى: و إذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الأمور العامة لم يذهبوا و لم ينصرفوا من عند الرسول حتى يستأذنوه للذهاب.

و لذلك أيضا عقبه بقوله: "إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله و رسوله" و هو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة و عدم الانفكاك.

و قوله: "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم" تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء و لا يأذن لمن لم يشأ.

و قوله: "و استغفر لهم الله إن الله غفور رحيم" أمر له بالاستغفار لهم تطييبا لنفوسهم و رحمة بهم.

قوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الأمور كدعوتهم إلى الإيمان و العمل الصالح، و دعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، و دعوتهم إلى الصلاة جامعة، و أمرهم بشيء في أمر دنياهم أو أخراهم فكل ذلك دعاء و دعوة منه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و يشهد بهذا المعنى قوله ذيلا: "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" و ما

يتلوه من تهديد مخالفي أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) كما لا يخفى.

و هو أنسب لسياق الآية السابقة فإنها تمدح الذين يلبون دعوته و يحضرون عنده و لا يفارقونه حتى يستأذنوه و هذه تذم و تهدد الذين يدعوهم فيتسللون عنه لواذا غير مهتمين بدعائه و لا معتنين.

و من هنا يعلم عدم استقامة ما قيل إن المراد بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابه فيجب أن يفخم و لا يساوى بينه و بين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمد و يا ابن عبد الله، بل: يا رسول الله.

و كذا ما قيل: إن المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرض لدعائه عليهم بإسخاطه فإن الله تعالى لا يرد دعاءه هذا، و ذلك لأن ذيل الآية لا يساعد على شيء من الوجهين.

و قوله: "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" التسلل: الخروج من البين برفق و احتيال من سل السيف من غمده، و - اللواذ: الملاوذة و هو أن يلوذ الإنسان و يلتجىء إلى غيره فيستتر به، و المعنى: أن الله يعلم منكم الذين يخرجون من بين الناس و الحال أنهم يلوذون بغيرهم و يستترون به فينصرفون فلا يهتمون بدعاء الرسول و لا يعتنون به.



و قوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" ظاهر سياق الآية بما تقدم من المعنى أن ضمير "عن أمره" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعوته من أن تصيبهم فتنة و هي البلية أو يصيبهم عذاب أليم.

و قيل: ضمير "عن أمره" راجع إلى الله سبحانه، و الآية و إن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله: "لا تجعلوا دعاء الرسول" إلخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، و هو أمر، و أول الوجهين أوجه.

قوله تعالى: "ألا إن لله ما في السماوات و الأرض قد يعلم ما أنتم عليه" اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها: "سورة أنزلناها و فرضناها و أنزلنا فيها آيات بينات" فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها.

فقوله: "ألا إن لله ما في السماوات و الأرض" بيان لعموم الملك و أن كل شيء

مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، و الناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله و ما يحتاج إليه فالذي يشرعه لهم من الدين مما يحتاجون إليه في حياتهم كما أن ما يرزقهم من المعيشة مما يحتاجون إليه في بقائهم.

فقوله: "قد يعلم ما أنتم عليه" - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتبة على الحجة أي ملكه لكم و لكل شيء يستلزم علمه بحالكم و بما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرعه لكم و يفرضه عليكم.

و قوله: "و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا و الله بكل شيء عليم" معطوف على قوله: "ما أنتم عليه" أي و يعلم يوما يرجعون إليه و هو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا و الله بكل شيء عليم.

و في هذا الذيل حث على الطاعة و الانقياد لما شرعه و فرضه من الأحكام و العمل به من جهة أنه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أن في الصدر حثا على القبول من جهة أن الله إنما شرعها لعلمه بحاجتهم إليها و أنها التي ترفع بها حاجتهم.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم" الآية:، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و أبو داود و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، و إني لآمر جاريتي هذه لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي.

و في تفسير القمي،: في الآية قال: إن الله تبارك و تعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات على أحد لا أب و لا أخت و لا أم و لا خادم إلا بإذن، و الأوقات بعد طلوع الفجر و نصف النهار و بعد العشاء الآخرة. ثم أطلق بعد هذه الثلاثة الأوقات فقال: "ليس عليكم و لا عليهم جناح بعدهن" يعني بعد هذه الثلاثة الأوقات "طوافون عليكم بعضكم على بعض".

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل:

"ملكت أيمانكم" قال: هي خاصة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن "و الذين لم يبلغوا الحلم منكم" قال: من أنفسكم، قال عليكم استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات.

أقول: و روي فيه روايات أخرى غيرها في كون المراد بالذين ملكت أيمانكم الذكور دون الإناث عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).



و في المجمع،: في الآية: معناه مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عباس و قيل: أراد العبيد خاصة عن ابن عمر: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و بهذه الأخبار و بظهور الآية يضعف ما رواه الحاكم عن علي (عليه السلام) في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله العشاء و إنما يعتم بحلاب الإبل.

أقول: و روي مثله عن عبد الرحمن بن عوف و لفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله: "و من بعد صلاة العشاء" و إنما العتمة عتمة الإبل.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قرأ "أن يضعن من ثيابهن" قال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنة.

أقول: و في معناه أخبار أخر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخالطهم في طعامهم أعمى و لا مريض و لا أعرج لأن الأعمى لا يبصر طيب الطعام، و المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، و الأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.

و فيه، أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: خرج الحارث غازيا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و خلف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه و كان مجهودا فنزلت.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل و هو جائع حتى يجد من يؤاكله و يشاربه فأنزل الله: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا".

أقول: و في معنى هذه الروايات روايات أخر.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم" قال: هؤلاء الذين سمى الله عز و جل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا. و فيه، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): و ما أحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بد له منه إن الله لا يحب الفساد. و فيه، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب قال: يأكل منه فأما الأم فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها.

و فيه، بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للمرأة أن تأكل و أن تصدق و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدق.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "أو ما ملكتم مفاتحه" قال: الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه.



و في المجمع،: في قوله تعالى: "أن تأكلوا من بيوتكم"، و قيل معناه من بيوت أولادكم و يدل عليه قوله (عليه السلام) أنت و مالك لأبيك و قوله (عليه السلام): إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إن ولده من كسبه.

أقول: و في هذه المعاني روايات كثيرة أخرى.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم" الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.

أقول: و قد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إلى قوله - حتى يستأذنوه" فإنها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنهاهم الله عز و جل عن ذلك.

و فيه،: في قوله تعالى: "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم - فأذن لمن شئت منهم" قال: نزلت في حنظلة بن أبي عياش و ذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عند أهله فأنزل الله عز و جل هذه الآية "فأذن لمن شئت منهم" فأقام عند أهله ثم أصبح و هو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض فكان يسمى غسيل الملائكة.

و فيه،: في قوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" قال: لا تدعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدعو بعضكم بعضا، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز و جل: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا"، يقول: لا تقولوا: يا محمد و لا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبي الله و يا رسول الله: أقول: و روي مثله عن ابن عباس، و قد تقدم أن ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.
<<        الفهرس        >>