جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 3 ص : 363
فَأَثَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّت تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِك جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كذَّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب الجَْحِيمِ(86)

اللغة

أثابهم أي جازاهم و أصل الثواب الرجوع و الإحسان إيصال النفع الحسن إلى الغير و ضده الإساءة و هو إيصال الضرر القبيح إليه و ليس كل من كان من جهته إحسان فهو محسن مطلقا فالمحسن فاعل الإحسان بشرط أن يكون خاليا من وجود القبح و الجحيم النار الشديدة الإيقاد و هو هنا اسم من أسماء جهنم و جحم فلان النار إذا شدد إيقادها و يقال لعين الأسد جحمة لشدة إيقادها قال :
و الحرب لا يبقى لجاحمها التخيل و المراح .

المعنى

« فأثابهم » أي جازاهم « الله بما قالوا » أي بالتوحيد عن الكلبي و على هذا فإنما علق الثواب بمجرد القول لأنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوه و هو المعرفة في قوله مما عرفوا من الحق و البكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص و استكانة القلب و معرفته و القول إذا اقترن به المعرفة و الإخلاص فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه الثواب و قيل إن المراد بما قالوا ما سألوا يعني قوله فاكتبنا مع الشاهدين و نطمع أن يدخلنا الآية عن عطاء عن ابن عباس و على هذا فيكون القول معناه المسألة للجنة « جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » مر تفسيره « و ذلك جزاء المحسنين » أي المؤمنين عن الكلبي و الموحدين عن ابن عباس « و الذين كفروا و كذبوا ب آياتنا أولئك أصحاب الجحيم » لما ذكر سبحانه الوعد لمؤمنيهم ذكر الوعيد لمن كفر منهم و كذب و أطلق اللفظ به ليكون لهم و لمن جرى مجراهم في الكفر و إنما شرط في الوعيد على الكفر التكذيب بالآيات و إن كان كل منهما يستحق به العقاب لأن صفة الكفار من أهل الكتاب أنهم يكذبون بالآيات فلم يصح هاهنا أو كذبوا لأنهم جمعوا الأمرين و ليس من شرط المكذب أن يكون عالما بأن ما كذب به صحيح بل إذا اعتقد أن الخبر كذب سمي مكذبا و إن لم يعلم أنه كذب و إنما يستحق به الذم لأنه جعل له طريق إلى أن يعلم صحة ما كذب به .

مجمع البيان ج : 3 ص : 364
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تحَرِّمُوا طيِّبَتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يحِب الْمُعْتَدِينَ(87) وَ كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ(88)

النزول و القصة

قال المفسرون جلس رسول الله يوما فذكر الناس و وصف القيامة فرق الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي و هم علي و أبو بكر و عبد الله بن مسعود و أبو ذر الغفاري و سالم مولى أبي حذيفة و عبد الله بن عمر و المقداد بن الأسود الكندي و سلمان الفارسي و معقل بن مقرن و اتفقوا على أن يصوموا النهار و يقوموا الليل و لا يناموا على الفرش و لا يأكلوا اللحم و لا الودك و لا يقربوا النساء و الطيب و يلبسوا المسوح و يرفضوا الدنيا و يسيحوا في الأرض و هم بعضهم أن يجب مذاكيره فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية و اسمها حولاء و كانت عطارة أ حق ما بلغني عن زوجك و أصحابه فكرهت أن تكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو و أصحابه فقال لهم رسول الله أ لم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا و كذا قالوا بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله إني لم أومر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء و من رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس و خطبهم و قال ما بال أقوام حرموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتخاذ الصوامع و إن سياحة أمتي الصوم و رهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و حجوا و اعتمروا و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان و استقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نزلت في علي و بلال و عثمان ابن مظعون فأما علي (عليه السلام) فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا .

المعنى

لما تقدم ذكر الرهبان و كانوا قد حرموا على أنفسهم الطيبات نهى الله
مجمع البيان ج : 3 ص : 365
المؤمنين عن ذلك فقال « يا أيها الذين آمنوا » أي يا أيها المؤمنون « لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » و هو يحتمل وجوها منها أن يريد لا تعتقدوا تحريمها و منها أن يريد لا تظهروا تحريمها و منها أن يريد لا تحرموها على غيركم بالفتوى و الحكم و منها أن يريد لا تجروها مجرى المحرمات في شدة الاجتناب و منها أن يريد لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين فوجب حمل الآية على جميع هذه الوجوه و الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس و تميل إليها القلوب و قد يقال الطيب بمعنى الحلال كما يقال يطيب له كذا أي يحل له و لا يليق ذلك بهذا الموضع « و لا تعتدوا » أي لا تتعدوا حدود الله و أحكامه و قيل معناه لا تجبوا أنفسكم فسمي الخصاء اعتداء عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الأول أعم فائدة « إن الله لا يحب المعتدين » معناه يبغضهم و يريد الانتقام منهم « و كلوا مما رزقكم الله » لفظه أمر و المراد به الإباحة « حلالا طيبا » أي مباحا لذيذا و يسأل هنا فيقال إذا كان الرزق كله حلالا فلم قيد هاهنا فقال حلالا و الجواب أنه إنما ذكر حلالا على وجه التأكيد كما قال و كلم الله موسى تكليما و قد أطلق الله تعالى في موضع آخر على وجه المدح و هو قوله و مما رزقناهم ينفقون و قال ابن عباس يريد من طيبات الرزق اللحم و غيره « و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون » هذا استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه و تقديره أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى فيكون عليكم الحسرة العظمى و اتقوا في تحريم ما أحل الله لكم و في جميع معاصيه من يؤمنون و هو الله تعالى و في هاتين الآيتين دلالة على كراهة التخلي و التفرد و التوحش و الخروج عما عليه الجمهور في الفاعل و طلب الولد و عمارة الأرض و قد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يأكل الدجاج و الفالوذج و كان يعجبه الحلواء الحلال و قال إن المؤمن حلو يحب الحلاوة و قال إن في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلا الحلواء و روي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال يا فرقد ما تقول في هذا فقال فرقد لا آكله و لا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب و قال لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم .

مجمع البيان ج : 3 ص : 366
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فى أَيْمَنِكُمْ وَ لَكِن يُؤَاخِذُكم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَنَ فَكَفَّرَتُهُ إِطعَامُ عَشرَةِ مَسكِينَ مِنْ أَوْسطِ مَا تُطعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسوَتُهُمْ أَوْ تحْرِيرُ رَقَبَة فَمَن لَّمْ يجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّام ذَلِك كَفَّرَةُ أَيْمَنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظوا أَيْمَنَكُمْ كَذَلِك يُبَينُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكمْ تَشكُرُونَ(89)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده عاقدتم برواية ابن ذكوان و قرأ أهل الكوفة غير حفص عقدتم بالتخفيف و الباقون بالتشديد و روي أن قراءة جعفر بن محمد (عليهماالسلام) تطعمون أهاليكم .

الحجة

قال أبو علي من قرأ « عقدتم » مشددة القاف احتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون لتكثير الفعل ( و الآخر ) أن لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل الاثنين و من قرأ عقدتم خفيفة جاز أن يراد به الكثير من الفعل و القليل إلا أن فعل يختص بالكثير كما أن الركبة يختص الحال التي يكون عليها الركوب و من قرأ عاقدتم احتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون يراد به عقدتم كما أن عافاه الله و عاقبت اللص و طارقت النعل بمنزلة فعلت فيكون على هذا قراءته كقراءة من خفف و يحتمل أن يراد بعاقدتم فاعلت الذي يقتضي فاعلين فصاعدا كأنه قال يؤاخذكم بما عقدتم عليه اليمين و لما كان عاقد في المعنى قريبا من عاهد عداه بعلى كما يعدى عاهد بها قال و من أوفى بما عاهد عليه الله و اتسع فحذف الجار و وصل الفعل إلى المفعول ثم حذف من الصلة الضمير الذي كان يعود إلى الموصول كما حذفه من قوله فاصدع بما تؤمر و مثله قول الشاعر :
كأنه واضح الأقراب في لقح
أسمى بهن و عزته الأناصيل إنما هو عزت عليه فاتسع و التقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه الأيمان ثم عاقدتموه الأيمان فحذف الراجع و يجوز أن يجعل ما التي مع الفعل بمعنى المصدر فيمن قرأ عقدتم و عقدتم فلا يقتضي راجعا كما لا يقتضيه في قوله و لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون و قوله فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا و ما كانوا ب آياتنا يجحدون و أما قوله أهاليكم فإن أهالي كليالي كان واحدها أهلاة و ليلاة و أنشد ابن الأعرابي :
في كل يوم ما و كل ليلاه
يا ويحه من جمل ما أشقاه و من قال أهالي جمع أهلون فقد أبعد لأن هذا الجمع لا يكسر .

مجمع البيان ج : 3 ص : 367

اللغة

اللغو في اللغة ما لا يعتد به قال الشاعر :
أو مائة تجعل أولادها
لغوا و عرض المائة الجلمد أي الذي يعارضها في قوة الجلمد يعني بالمائة نوقا أي لا يعتد بأولادها و لغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد مثل قول القائل لا و الله و بلى و الله على سبق اللسان هذا هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) يقال عقدت الحبل و العهد و اليمين عقدا قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم البيت و قال في بيت آخر :
و إن عاهدوا أوفوا و إن عاقدوا شدوا و أعقدت العسل فهو معقد و عقيد و التحرير من الحرية قال الفرزدق :
أ بني غدانة إنني حررتكم
فوهبتكم لعطية بن جعال يريد أعتقتكم من ذل الهجا و لزوم العار .

النزول

قيل لما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا فأنزل الله هذه الآية و قيل نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاه فحلف لا يأكل من الطعام و حلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل و حلف الضيف لا يأكل أن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة و أكلا معه فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فقال له أحسنت عن ابن زيد .

المعنى

« لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » مضى الكلام في لغو اليمين و حكمه في سورة البقرة و لا كفارة فيه عند أكثر المفسرين و الفقهاء إلا ما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيها الكفارة « و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » إن جعلت ما موصولة فمعناه بالذي عقدتم و إن جعلته مصدرية فمعناه بعقدكم أو بتعقيدكم الأيمان أو بمعاقدتكم الأيمان و تفسيره أن يضمر الأمر ثم يحلف بالله فيعقد عليه اليمين عن عطاء و قيل هو ما عقدت عليه قلبك و تعمدته عن مجاهد « فكفارته » أي كفارة ما عقدتم إذا حنثتم و استغني عن ذكره لأنه مدلول عليه لأن الأمة قد اجتمعت على أن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث « طعام عشرة مساكين » و اختلف في مقدار ما يعطى كل مسكين فقال الشافعي مد من طعام و هو ثلثا من و قال أبو حنيفة نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر و كذلك سائر الكفارات و قال أصحابنا يعطى كل واحد مدين أو مدا و المد رطلان و ربع و يجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوه
مجمع البيان ج : 3 ص : 368
و لا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة فإن كان المساكين ذكورا و إناثا جاز ذلك و لكن وقع بلفظ التذكير لأنه يغلب في كلام العرب « من أوسط ما تطعمون أهليكم » قيل فيه قولان ( أحدهما ) الخبز و الأدم لأن أفضله الخبز و اللحم و أدونه الخبز و الملح و أوسطه الخبز و السمن و الزيت ( و الآخر ) أنه الأوسط في المقدار أي تعطيهم كما تعطي أهلك في العسر و اليسر عن ابن عباس « أو كسوتهم » قيل لكل واحد منهم ثوب عن الحسن و مجاهد و عطاء و طاووس و هو مذهب الشافعي و قال أبو حنيفة ما يقع عليه اسم الكسوة و الذي رواه أصحابنا أن لكل واحد ثوبين مئزرا و قميصا و عند الضرورة يجزي قميص واحد « أو تحرير رقبة » معناه عتق رقبة عبد أو أمة و الرقبة يعبر بها عن جملة الشخص و هو كل رقبة سليمة من العاهات صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة لأن اللفظة مطلقة مبهمة إلا أن المؤمن أفضل و هذه الثلاثة واجبة على التخيير و قيل إن الواجب منها واحد لا بعينه و فائدة هذا الخلاف و الكلام في شرحها و في الأدلة على صحة المذهب الأول مذكور في أصول الفقه « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام » معناه فكفارته صيام ثلاثة أيام فيكون صيام مرفوعا بأنه خبر المبتدأ أو فعليه صيام ثلاثة أيام فيكون صيام مرفوعا بالابتداء أو بالظرف و حد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليلته و به قال الشافعي و يجب التتابع في صوم هذه الأيام الثلاثة و به قال أبي و ابن عباس و مجاهد و قتادة و أكثر الفقهاء و في قراءة ابن مسعود و أبي ثلاثة أيام متتابعات و اليمين على ثلاثة أقسام ( أحدها ) ما يكون عقدها طاعة و حلها معصية و هذه تتعلق بحنثها الكفارة بلا خلاف و هو كما لو قيل و الله لا شربت خمرا ( و الثاني ) أن يكون عقدها معصية و حلها طاعة كما يقال و الله لا صليت و هذا لا كفارة في حنثه عند أصحابنا و خالف سائر الفقهاء في ذلك ( و الثالث ) أن يكون عقدها مباحا و حلها مباحا كما يقول و الله لا لبست هذا الثوب و هذه تتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف أيضا « ذلك » إشارة إلى ما تقدم ذكره من الكفارة « كفارة أيمانكم إذا حلفتم » يعني إذا حلفتم و حنثتم لأن الكفارة لا تجب بنفس اليمين و إنما تجب باليمين و الحنث و قيل تجب بالحنث بشرط تقدم اليمين و اختلف فيمن كفر بعد اليمين قبل الحنث فقال أبو حنيفة لا تجزي و قال الشافعي تجزي « و احفظوا أيمانكم » قيل في معناه قولان قال ابن عباس يريد لا تحلفوا و قال غيره احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا و هو اختيار الجبائي و هذا هو الأقوى لأن الحلف مباح إلا في معصية بلا خلاف و إنما الواجب ترك الحنث و فيه دلالة على أن اليمين في المعصية لا تنعقد لأنها لو انعقدت للزم حفظها و إذا كانت لا تنعقد فلا يلزم فيها الكفارة « كذلك يبين الله
مجمع البيان ج : 3 ص : 369
لكم آياته لعلكم تشكرون » معناه كما بين أمر الكفارة و جميع الأحكام يبين لكم آياته و فروضه لتشكروه على تبيينه لكم أموركم و نعمه عليكم .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الخَْمْرُ وَ الْمَيْسرُ وَ الأَنصاب وَ الأَزْلَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيْطنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشيْطنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فى الخَْمْرِ وَ الْمَيْسرِ وَ يَصدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصلَوةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتهُونَ(91)

اللغة

الخمر عصير العنب المشتد و هو العصير الذي يسكر كثيره و سمي خمرا لأنها بالسكر تغطي على العقل و أصله في الباب التغطية من قولهم خمرت الإناء إذا غطيته و دخل في خمار الناس إذا خفي فيما بينهم و الميسر القمار كله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه و أصله من اليسر خلاف العسر و سميت اليد اليسرى تفاؤلا بتيسير العمل بها و قيل لأنها تعين اليد اليمني فيكون العمل أيسر و الأنصاب الأصنام واحدها نصب و سمي ذلك لأنها كانت تنصب للعبادة لها و الانتصاب القيام و منه النصب التعب عن العمل الذي ينتصب له و نصاب السكين لأنه ينصب فيه و مناصبة العدو الانتصاب لعداوته قال الأعشى :
و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه
و لا تعبد الشيطان و الله فاعبدا و الأزلام القداح و هي سهام كانوا يجيلونها للقمار و قد ذكرنا ما قيل فيها في أول السورة و الرجز بالزاي هو العذاب و أصل الرجز تتابع الحركات يقال ناقة رجزاء إذا كانت ترتعد قوائمها في ناحية قال الزجاج الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل يقال رجس يرجس و رجس يرجس إذا عمل عملا قبيحا و الرجس بفتح الراء شدة الصوت يقال رعد رجاس شديد الصوت فكان الرجس الذي يقبح ذكره و يرتفع في القبح .

المعنى

ثم عطف الله تعالى على ما بين من الأحكام بالنهي عن أفعال أهل
مجمع البيان ج : 3 ص : 370
الجاهلية و النقل عنها إلى شريعة الإسلام فقال « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر » مر معناهما في سورة البقرة قال ابن عباس يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الخمر من تسع من البتع و هو العسل و من العنب و من الزبيب و من التمر و من الحنطة و من الذرة و من الشعير و السلت و قال في الميسر يريد القمار و هو في أشياء كثيرة انتهى كلامه « و الأنصاب و الأزلام » ذكرناهما في أول السورة « رجس من عمل الشيطان » لا بد من أن يكون في الكلام حذف و المعنى شرب الخمر و تناوله أو التصرف فيه و عبادة الأنصاب و الاستقسام بالأزلام رجس أي خبيث من عمل الشيطان و إنما نسبها إلى الشيطان و هي أجسام من فعل الله لما يأمر به الشيطان فيها من الفساد فيأمر بشرب المسكر ليزيل العقل و يأمر بالقمار ليستعمل فيه الأخلاق الدنية و يأمر بعبادة الأصنام لما فيها من الشرك بالله و يأمر بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي و الاتكال على الاتفاق و قال الباقر (عليه السلام) يدخل في الميسر اللعب بالشطرنج و النرد و غير ذلك من أنواع القمار حتى أن لعب الصبيان بالجوز من القمار « فاجتنبوه » أي كونوا على جانب منه أي في ناحية « لعلكم تفلحون » معناه لكي تفوزوا بالثواب و في هذه الآية دلالة على تحريم الخمر و هذه الأشياء من أربعة أوجه ( أحدها ) أنه سبحانه وصفها بالرجس و هو النجس و النجس محرم بلا خلاف ( و الثاني ) أنه نسبها إلى عمل الشيطان و ذلك يوجب تحريمها ( و الثالث ) أنه أمر باجتنابها و الأمر يقتضي الإيجاب ( و الرابع ) أنه جعل الفوز و الفلاح في اجتنابها و الهاء في قوله « فاجتنبوه » راجعة إلى عمل الشيطان و تقديره فاجتنبوا عمل الشيطان و كل واحد من شرب الخمر و تعاطي القمار و اتخاذ الأنصاب و الأزلام من عمل الشيطان و يجوز أن تكون الهاء عائدة إلى الرجس و الرجس واقع على الخمر و ما ذكره بعدها و قد قرن الله تعالى الخمر بعبادة الأوثان تغليظا في تحريمها و لذلك قال الباقر (عليه السلام) مدمن الخمر كعابد الوثن و في هذا دلالة على تحريم سائر التصرفات في الخمر من الشرب و البيع و الشراء و الاستعمال على جميع الوجوه ثم بين تعالى أنه إنما نهى عن الخمر لما يعلم في اجتنابه من الصلاح و خير الدارين فقال « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر » قال ابن عباس يريد سعد بن أبي وقاص و رجلا من الأنصار كان مواخيا لسعد فدعاه إلى الطعام فأكلوا و شربوا نبيذا مسكرا فوقع بين الأنصاري و سعد مراء و مفاخرة فأخذ الأنصاري لحي جمل فضرب به سعدا ففزر أنفه فأنزل
مجمع البيان ج : 3 ص : 371
الله تعالى ذلك فيهما و المعنى يريد الشيطان إيقاع العداوة بينكم بالإغواء المزين لكم ذلك حتى إذا سكرتم زالت عقولكم و أقدمتم من القبائح على ما كان يمنعه منه عقولكم قال قتادة إن الرجل كان يقامر في ماله و أهله فيقمر و يبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة و البغضاء « و يصدكم عن ذكر الله » أي يمنعكم عن الذكر لله بالتعظيم و الشكر على آلائه « و عن الصلاة » التي هي قوام دينكم « فهل أنتم منتهون » صيغته الاستفهام و معناه النهي و إنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي لأن الله ذم هذه الأفعال و أظهر قبحها و إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ثم استفهم عن تركه لم يسعه إلا الإقرار بالترك فكأنه قيل له أ تفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر فصار المنتهي بقوله « فهل أنتم منتهون » في محل من عقد عليه ذلك بإقراره و كان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال انتهوا و لا تشربوا .
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسولَ وَ احْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلى رَسولِنَا الْبَلَغُ الْمُبِينُ(92)

المعنى

لما أمر الله تعالى باجتناب الخمر و ما بعدها عقبه بالأمر بالطاعة له فيه و في غيره فقال « و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول » و الطاعة هي امتثال الأمر و الانتهاء عن المنهي عنه و لذلك يصح أن يكون الطاعة طاعة الاثنين بأن يوافق أمرهما و إرادتهما « و احذروا » هذا أمر منه تعالى بالحذر من المحارم و المناهي قال عطاء يريد و احذروا سخطي و الحذر هو امتناع القادر من الشيء لما فيه من الضرر « فإن توليتم » أي فإن أعرضتم و لم تعملوا بما آمركم به « فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين » معناه الوعيد و التهديد كأنه قال فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتوليكم عما أدى رسولنا إليكم من البلاغ المبين يعني الأداء الظاهر الواضح فوضع كلام موضع كلام للإيجاز و لو كان الكلام على صيغة من غير هذا التقدير لا يصح لأن عليهم أن يعلموا ذلك تولوا أو لم يتولوا و ما في قوله « أنما » كافة لأن عن عملها .
لَيْس عَلى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَّ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّ ءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّ أَحْسنُوا وَ اللَّهُ يحِب المُْحْسِنِينَ(93)

مجمع البيان ج : 3 ص : 372

النزول

لما نزل تحريم الخمر و الميسر قالت الصحابة يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر فأنزل الله هذه الآية عن ابن عباس و أنس بن مالك و البراء بن عازب و مجاهد و قتادة و الضحاك و قيل إنها نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم و سلكوا طريق الترهيب كعثمان بن مظعون و غيره فبين الله لهم أنه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات .

المعنى

« ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح » أي إثم و حرج « فيما طعموا » من الخمر و الميسر قبل نزول التحريم و في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) فيما طعموا من الحلال و هذه اللفظة صالحة للأكل و الشرب جميعا « إذا ما اتقوا » شربها بعد التحريم « و آمنوا » بالله « و عملوا الصالحات » أي الطاعات « ثم اتقوا » أي داموا على الاتقاء « و آمنوا » أي داموا على الإيمان « ثم اتقوا » بفعل الفرائض « و أحسنوا » بفعل النوافل و على هذا يكون الاتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم و الاتقاء الثاني هو الدوام على ذلك و الاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي و ضم الإحسان إليه و قيل إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تختص المكلف و لا تتعداه و الإيمان الأول هو الإيمان بالله تعالى و بما أوجب الله تعالى الإيمان به و الإيمان بقبح هذه المعاصي و وجوب تجنبها و الاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها و الاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد و بما يتعدى إلى الغير من الظلم و الفساد و قال أبو علي الجبائي إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي و الشرط الثاني يتعلق بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله و الشرط الثالث يختص بمظالم العباد ثم استدل على أن هذا الاتقاء يختص بمظالم العباد بقوله « أحسنوا » فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية و هذا ضعيف لأنه لا تصريح في الآية بأن المراد به الإحسان المتعدي و لا يمتنع أن يريد بالإحسان فعل الحسن و المبالغة فيه و إن اختص الفاعل و لا يتعداه كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت و أجملت ثم لو سلم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى و لو صرح تعالى فقال و اتقوا القبائح كلها و أحسنوا إلى غيرهم لم يمتنع و لعل أبا علي إنما عدل في الشرط الثالث عن ذكر الأحوال لما ظن أنه لا يمكن فيه ما أمكن في الأول و الثاني و هذا ممكن غير ممتنع بأن يحمل الشرط الأول على الماضي و الثاني على الحال و الثالث على المنتظر المستقبل و متى قيل أن المتكلمين عندهم لا واسطة بين
مجمع البيان ج : 3 ص : 373
الماضي و المستقبل فإن الفعل إما أن يكون موجودا فيكون ماضيا و إما أن يكون معدوما فيكون مستقبلا و إنما ذكر الأحوال الثلاثة النحويون فجوابه أن الصحيح أنه لا واسطة في الوجود بين المعدوم و الموجود كما ذكرت غير أن الموجود في أقرب الزمان لا يمتنع أن نسميه حالا و نفرق بينه و بين الغابر السالف و الغابر المنتظر و وجدت السيد الأجل المرتضى علي بن الحسين الموسوي ذكر في بعض مسائله أن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية و ظنوا أنه المشكل فيها و تركوا ما هو أشد إشكالا من التكرار و هو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء و الإيمان و عمل الصالحات و الإيمان و عمل الصالحات ليس بشرط في نفي الجناح فإن المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه و لا وزر قال و لنا في حل هذه الشبهة طريقان ( أحدهما ) أن يضم إلى المشروط المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتقوا و آمنوا و عملوا الصالحات لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح و قد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه و لما ولي ذكر الاتقاء الإيمان و عمل الصالحات و لا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط و يطابق المشروط لأن من اتقى المحارم فيما لا يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه و لكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب أو ضيعه من فرض فإذا شرطنا أنه وقع اتقاء القبيح ممن آمن بالله و عمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كل وجه و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى و تكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به و مثله قول الشاعر :
تراه كان الله يجدع أنفه
و عينيه إن مولاه ثاب له وفر لما كان الجدع لا يليق بالعين و كانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص و ما يجري مجراه و الطريق الثاني هو أن يجعل الإيمان و عمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقي و إن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان و عمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم
مجمع البيان ج : 3 ص : 374
لاشتراكهما في الوجوب و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم و هذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا و استغرابا انتهى كلامه و قد قيل أيضا في الجواب عن ذلك أن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه و الكافر مستحق للعقاب مغمور فلا يطلق عليه هذا اللفظ و أيضا فإن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خص المؤمن بالذكر و قوله « و الله يحب المحسنين » أي يريد ثوابهم أو إجلالهم و إكرامهم و تبجيلهم و يروى أن قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيام عمر بن الخطاب فأراد أن يقيم عليه الحد فقال « ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية فأراد عمر أن يدرأ عنه الحد فقال علي أديروه على الصحابة فإن لم يسمع أحدا منهم قرأ عليه آية التحريم فادرءوا عنه الحد و إن كان قد سمع فاستتيبوه و أقيموا عليه الحد فإن لم يتب وجب عليه القتل .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشىْء مِّنَ الصيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94) يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْتُلُوا الصيْدَ وَ أَنتُمْ حُرُمٌ وَ مَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ هَدْيَا بَلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّرَةٌ طعَامُ مَسكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سلَف وَ مَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام(95)

القراءة

قرأ أهل الكوفة و يعقوب « فجزاء » منونا « مثل » بالرفع و الباقون فجزاء مثل ما قتل بالإضافة و قرأ أهل المدينة و ابن عامر أو كفارة بغير تنوين طعام على الإضافة و الباقون « أو كفارة » بالتنوين « طعام » بالرفع و لم يختلفوا في « مساكين » أنه جمع و روي في الشواذ قراءة
مجمع البيان ج : 3 ص : 375
أبي عبد الرحمن « فجزاء » منون مثل منصوب و قراءة محمد بن علي الباقر (عليهماالسلام) و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يحكم به ذو عدل منكم .

الحجة

قال أبو علي حجة من رفع المثل أنه صفة الجزاء و المعنى فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول و التقدير فعليه جزاء أي فاللازم له أو فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد و قوله « من النعم » على هذه القراءة صفة للنكرة التي هي جزاء و فيه ذكر له و لا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله و لا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله و لا يجوز أن يكون قوله « من النعم » على هذه القراءة متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به كما في قوله « جزاء سيئة سيئة مثلها » لأنك قد وصفت الموصول و إذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا كما أنك إذا عطفت عليه أو أكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه و التأكيد له فأما في قراءة من أضاف الجزاء إلى مثل فإن قوله « من النعم » يكون صفة الجزاء كما كان في قول من نون و لم يصف صفة له و يجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نون و وصف و هو أن تقدره متعلقا بالمصدر و لا يجوز على هذا القول أن يكون فيه ذكر كما يتضمن الذكر لما كان صفة و إنما جاز تعلقا بالمصدر و لا يجوز على قول من أضاف لأنك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نون فيمتنع تعلقه به و أما من أضاف الجزاء إلى مثل فإنه و إن كان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم قد يقولون أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك فكذلك إذا قال « فجزاء مثل ما قتل » فالمراد جزاء ما قتل و إذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير الإضافة و لو قدرت الجزاء تقدير المصدر فأضفته إلى المثل كما تضيف المصدر إلى المفعول به لكان جائزا في قول من جر مثلا على الاتساع الذي ذكرناه أ لا ترى أن المعنى فجزاء مثل ما قتل على ما قرأه أبو عبد الرحمن أي يجازى مثل ما قتل و مثله قول الشاعر :
بضرب بالسيوف رءوس قوم
أزلنا هامهن على المقيل لما نون المصدر أعمله و أما الوجه في قراءة من رفع « طعام مساكين » أنه جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة و لم يضف الكفارة إلى الطعام و من أضاف الكفارة
مجمع البيان ج : 3 ص : 376
إلى الطعام فلأنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء الهدي و الطعام و الصيام استجاز الإضافة لذلك فكأنه قال كفارة طعام لا كفارة هدي و لا صوم فاستقامت الإضافة و أما ذو عدل فقد قال أبو الفتح فيه أنه لم يوحد ذو لأن الواحد يكفي لكنه أراد معنى من أي يحكم به من يعدل و من يكون للاثنين كما يكون للواحد كقوله :
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان و أقول إن هذا الوجه الذي ذكره ابن جني بعيد غير مفهوم و قد وجدت في تفسير أهل البيت منقولا عن السيدين (عليهماالسلام) أن المراد بذي العدل رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أولي الأمر من بعده و كفى بصاحب القراءة خبرا بمعنى قراءته .

اللغة

البلاء الاختبار و الامتحان و أصله إظهار باطن الحال و منه البلاء النعمة لأنه يظهر به باطن حال المنعم عليه في الشكر أو الكفر و البلى الخلوقة لظهور تقادم العهد فيه و الغيب ما غاب عن الحواس و منه الغيبة و هو الذكر بظهر الغيب بالقبيح و حرم جمع حرام و رجل حرام و محرم بمعنى و حلال و محل كذلك و أحرم الرجل دخل في الشهر الحرام و أحرم أيضا دخل في الحرم و أحرم أهل بالحج و الحرم الإحرام و منه الحديث كنت أطيب النبي لحرمة و أصل الباب المنع و سميت النساء حرما لأنها تمنع و المحروم الممنوع الرزق و المثل و المثل و الشبه و الشبه واحد و النعم في اللغة هي الإبل و البقر و الغنم و إن انفردت الإبل قيل لها نعم و إن انفردت البقر و الغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج قال الفراء العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه و العدل بالكسر المثل تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت فقلت عدل و قال البصريون العدل و العدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس و الوبال ثقل الشيء في المكروه و منه قولهم طعام وبيل و ماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال و منه قوله « فأخذناه أخذا وبيلا » أي ثقيلا شديدا و يقال لخشبة القصار وبيل من هذا قال طرفة بن العبد :
فمرت كهاة ذات خيف جلالة
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد .

الإعراب

« ليبلونكم » هذه اللام لام القسم و من في قوله « من الصيد » للتبعيض
مجمع البيان ج : 3 ص : 377
و يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون عنى صيد البر دون البحر ( و الآخر ) أن يكون لما عنى الصيد ما داموا في الإحرام كان ذلك بعض الصيد و يجوز أن تكون من لتبيين الجنس كما تقول لأمتحننك بشيء من الورق أي لأمتحننك بالجنس الذي هو ورق كقوله « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » و الأوثان كلها رجس فالمعنى اجتنبوا الرجس الذي هو وثن و أراد بالصيد المصيد بدلالة قوله « تناله أيديكم و رماحكم » و لو كان الصيد مصدرا يكون حدثا فلا يوصف بنيل اليد و الرمح و إنما يوصف بذلك ما لو كان عينا و قوله « بالغيب » في محل النصب على الحال و المعنى من يخافه غائبا كما في قوله « من خشي الرحمن بالغيب و يخشون ربهم بالغيب » و قوله « و أنتم حرم » في موضع النصب على الحال « هديا بالغ الكعبة » منصوب على الحال و المعنى مقدرا أن يهدي قاله الزجاج قال و بالغ الكعبة لفظه لفظ معرفة و معناه النكرة أي بالغا الكعبة و حذف التنوين استخفافا و أقول يعني بذلك أن هذه الإضافة لفظية غير محضة فيكون في تقدير الانفصال و المضاف إليه و إن كان مجرورا في اللفظ فهو منصوب في المعنى لكن لما حذف التنوين من الأول طلبا للخفة انجر الثاني في اللفظ و قوله « صياما » منصوب على التمييز و المعنى و مثل ذلك من الصيام و قوله « فينتقم الله منه » فيه إضمار مقدر كأنه قال و من عاد فهو ينتقم الله منه لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط على الفعل إذا كان مستغنى عنه مع الفعل و يكون موضع الفاء مع ما بعدها جزما .

المعنى

لما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا بين سبحانه ذلك هنا فقال « يا أيها الذين آمنوا » خص المؤمنين بالذكر و إن كان الكفار أيضا مخاطبين بالشرائع لأنهم القابلون لذلك المنتفعون به و قيل لأنه لم يعتد بالكفار « ليبلونكم الله » أي ليختبرن الله طاعتكم عن معصيتكم « بشيء من الصيد » أي بتحريم شيء من الصيد و إنما بعض لأنه عنى صيد البر خاصة عن الكلبي و قد ذكرناه قبل مفسرا و معنى الاختبار من الله أن يأمر و ينهى ليظهر المعلوم و يصح الجزاء قال أصحاب المعاني امتحن الله أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بصيد البر كما امتحن أمة موسى (عليه السلام) بصيد البحر « تناله أيديكم و رماحكم » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن المراد به تحريم صيد البر و الذي تناله الأيدي فراخ الطير و صغار الوحش و البيض و الذي تناله الرماح الكبار من الصيد عن ابن عباس و مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ( و ثانيها ) أن المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي و الرماح لأنه يأنس بالناس و لا ينفر منهم فيه كما ينفر في الحل و ذلك آية من آيات الله عن أبي علي الجبائي ( و ثالثها ) أن
مجمع البيان ج : 3 ص : 378
المراد به ما قرب من الصيد و ما بعد « ليعلم الله من يخافه بالغيب » معناه ليعاملكم معاملة من يطلب منكم أن يعلم مظاهرة في العدل و وجه آخر ليظهر المعلوم و هو أن يخاف بظهر الغيب فينتهي عن صيد الحرم طاعة له تعالى و قيل ليعلم وجود خوف من يخافه بالوجود لأنه لم يزل عالما بأنه سيخاف فإذا وجد الخوف علم ذلك موجودا و هما معلوم واحد و إن اختلفت العبارة عنه فالحدوث إنما يدخل على الخوف لا على العلم و قوله « بالغيب » معناه في حال الخلوة و التفرد و قيل معناه أن يخشى عقابه إذا توارى بحيث لا يقع عليه الحس عن الحسن و قال أبو القاسم البلخي أن الله تعالى و إن كان عالما بما يفعلونه فيما لم يزل فإنه لا يجوز أن يثيبهم و لا يعاقبهم على ما يعلمه منهم و إنما يستحقون ذلك إذا علمه واقعا منهم على الوجه الذي كلفهم عليه فإذا لا بد من التكليف و الابتلاء « فمن اعتدى بعد ذلك » أي من تجاوز حد الله و خالف أمره بالصيد في الحرم و في حال الإحرام « فله عذاب أليم » أي مؤلم ثم ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على ذلك الاعتداء من الجزاء فقال « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد » اختلف في المعني بالصيد فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل و هو قول أهل العراق و استدلوا بقول علي (عليه السلام) :
صيد الملوك أرانب و ثعالب
فإذا ركبت فصيدي الأبطال و هو مذهب أصحابنا رضي الله عنهم و قيل هو كل ما يؤكل لحمه و هو قول الشافعي « و أنتم حرم » أي و أنتم محرمون بحج أو عمرة و قيل معناه و أنتم في الحرم قال الجبائي الآية تدل على تحريم قتل الصيد على الوجهين معا و هو الصحيح و قال علي بن عيسى تدل على الإحرام بالحج أو العمرة فقط « و من قتله منكم متعمدا » قيل هو أن يتعمد القتل ناسيا لإحرامه عن الحسن و مجاهد و ابن زيد و ابن جريج و إبراهيم قالوا فأما إذا تعمد القتل ذاكرا لإحرامه فلا جزاء فيه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة و قيل هو أن يتعمد القتل و إن كان ذاكرا لإحرامه عن ابن عباس و عطاء و الزهري و هو قول أكثر الفقهاء فأما إذا قتل الصيد خطأ أو ناسيا فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عليه و هو مذهب عامة أهل التفسير و العلم و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) قال الزهري نزل القرآن بالعمد و جرت السنة في الخطإ « فجزاء مثل ما قتل من النعم » قد ذكرنا معناه في القراءتين قال الزجاج و يجوز أن يكون المعنى فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل فيكون جزاء مبتدأ و مثل خبره و اختلف في هذه المماثلة أ هي في القيمة أو الخلقة فالذي عليه معظم أهل العلم أن المماثلة معتبرة في الخلقة ففي النعامة بدنة و في حمار
مجمع البيان ج : 3 ص : 379
الوحش و شبهه بقرة و في الظبي و الأرنب شاة و هو المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) و هو قول ابن عباس و الحسن و مجاهد و السدي و عطاء و الضحاك و غيرهم و قال إبراهيم النخعي يقوم الصيد قيمة عادلة ثم يشتري بثمنه مثله من النعم فاعتبر المماثلة بالقيمة و الصحيح القول الأول « يحكم به ذوا عدل منكم » قال ابن عباس يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم أي من أهل ملتكم و دينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به « هديا بالغ الكعبة » أي يهديه هديا يبلغ الكعبة قال ابن عباس يريد إذا أتى مكة ذبحه و تصدق به و قال أصحابنا إن كان أصاب الصيد و هو محرم بالعمرة ذبح جزاءه أو نحره بمكة قبالة الكعبة و إن كان محرما بالحج ذبحه أو نحره بمنى « أو كفارة طعام مساكين » قيل في معناه قولان ( أحدهما ) أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما و يتصدق به عن عطاء و هو الصحيح ( و الآخر ) أن يقوم الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما عن قتادة « أو عدل ذلك صياما » و فيه أيضا قولان ( أحدهما ) أن يصوم عن كل مد يقوم من الطعام يوما عن عطاء و هو مذهب الشافعي ( و الآخر ) أن يصوم عن كل مدين يوما و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و هو مذهب أبي حنيفة و اختلفوا في هذه الكفارات الثلاث فقيل إنها مرتبة عن ابن عباس و الشعبي و السدي قالوا و إنما دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث و قيل أنها على التخيير عن ابن عباس في رواية أخرى و عطاء و الحسن و إبراهيم و هو مذهب أبي حنيفة و الشافعي و كلا القولين رواه أصحابنا « ليذوق وبال أمره » أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب و قيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره و ثقله بما يلزمه من الجزاء فإن سأل سائل فقال كيف يسمى الجزاء وبالا و إنما هي عبادة فإذا كانت عبادة فهي نعمة و مصلحة فالجواب أن الله سبحانه شدد عليه التكليف بعد أن عصاه فثقل ذلك عليه كما حرم الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل ذلك عليهم و إن كان مصلحة لهم « عفا الله عما سلف » من أمر الجاهلية عن الحسن و قيل عفا الله عما سلف من الدفعة الأولى في الإسلام أي قبل التحريم « و من عاد فينتقم الله منه » أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله سبحانه يكافيه عقوبة بما صنع و اختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة فقيل أنه لا جزاء عليه عن ابن عباس و الحسن و هو الظاهر في روايات أصحابنا و قيل أنه يلزمه الجزاء عن عطاء و سعيد بن جبير و إبراهيم و به قال بعض أصحابنا « و الله عزيز ذو انتقام » معناه قادر لا يغلب
مجمع البيان ج : 3 ص : 380
ذو انتقام ينتقم ممن يتعدى أمره و يرتكب نهيه .
أُحِلَّ لَكُمْ صيْدُ الْبَحْرِ وَ طعَامُهُ مَتَعاً لَّكُمْ وَ لِلسيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صيْدُ الْبرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تحْشرُونَ(96)

اللغة

عنى بالبحر جميع المياه و العرب تسمي النهر بحرا و منه قوله ظهر الفساد في البر و البحر و الأغلب في البحر أن يكون ماؤه ملحا و لكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار و السيارة المسافرون .

الإعراب

« متاعا » نصب على المصدر لأن قوله « أحل لكم » يدل على أنه قد متعهم به كما أنه لما قال « حرمت عليكم أمهاتكم » كان دليلا على أنه كتب عليهم فقال كتاب الله عليكم .

المعنى

ثم بين سبحانه ما يحل من الصيد و ما لا يحل فقال « أحل لكم صيد البحر » أي أبيح لكم صيد الماء و إنما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر لأن العتيق لا خلاف في كونه حلالا عن ابن عباس و زيد بن ثابت و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيب و قتادة و مجاهد « و طعامه » يعني طعام البحر ثم اختلف فيه فقيل يريد به ما قذفه البحر ميتا عن ابن عباس و ابن عمر و قتادة و قيل يريد به المملوح عن ابن عباس في رواية أخرى و سعيد ابن المسيب و سعيد بن جبير و مجاهد و هو الذي يليق بمذهبنا و إنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات من الأغذية فيكون المراد بصيد البحر الطري و بطعامه المملوح لأن عندنا لا يجوز أكل ما يقذف به البحر ميتا للمحرم و غير المحرم و قيل المراد بطعامه ما ينبت بمائة من الزرع و الثمار « متاعا لكم و للسيارة » قيل معناه منفعة للمقيم و المسافر عن قتادة و ابن عباس و الحسن و قيل لأهل الأمصار و أهل القرى و قيل للمحل و المحرم « و حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » هذا يقتضي تحريم الاصطياد في حال الإحرام و تحريم أكل ما صاده الغير و به قال علي و ابن عباس و ابن عمر و سعيد بن جبير و قيل أن لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره عن عمر و عثمان و الحسن و الصيد قد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدرا و يكون عبارة عن المصيد فيكون اسما و يجب حمل الآية على الأمرين و تحريم الجميع « و اتقوا الله الذي إليه تحشرون » هذا أمر منه تعالى بأن يتقي جميع
مجمع البيان ج : 3 ص : 381
معاصيه و يجتنب جميع محارمه لأن إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد فيه الضر و النفع سواه و هو يوم القيامة فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته .
* جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْت الْحَرَامَ قِيَماً لِّلنَّاسِ وَ الشهْرَ الْحَرَامَ وَ الهَْدْى وَ الْقَلَئدَ ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكلِّ شىْء عَلِيمٌ(97)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده قيما للناس بغير ألف و الباقون « قياما » بالألف .

الحجة

القيام مصدر كالصيام و العياذ و أما القيم فيجوز أن يكون مصدرا كالشبع و يجوز أن يكون حذف الألف من القيام كما يقصر الممدود و هذا إنما يجوز في الشعر دون حال السعة و إذا كان مصدرا فإنما أعل و لم يصحح كما صحح العوض و الحول لأن المصدر يعل إذا اعتل فعله لأن المصدر يجري على فعله فإذا صح حرف العلة في الفعل صح في مصدره نحو اللواذ و الجوار فإذا اعتل في العقل اعتل في مصدره نحو الصيام و القيام .

اللغة

سميت الكعبة كعبة لتربيعها و إنما قيل للمربع كعبة لنتوء زواياه الأربع و الكعوبة النتوء و منه كعب الإنسان لنتوئه و كعبت المرأة إذا نتا ثديها و كعبت بمعناه و العرب تسمي كل بيت مربع كعبة و قيل سميت كعبة لانفرادها عن البنيان و هذا أيضا يرجع إلى الأول لأن المتفرد من البنيان كعبة لنتوئه من الأرض قال الرماني و البيت الحرام سمي بذلك لأن الله حرم أن يصاد صيده و أن يعضد شجرة و أن يختلى خلاه و لأنه عظم حرمته و في الحديث مكتوب في أسفل المقام إني أنا الله ذو بكة حرمتها يوم خلقت السموات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين و حففتهما بسبعة أملاك حنفاء من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقه مذعنا لي بالربوبية حرمت جسده على النار .

المعنى

لما ذكر سبحانه حرمة الحرم عقبه بذكر البيت الحرام و الشهر الحرام فقال « جعل الله الكعبة البيت الحرام » أي جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة « قياما
مجمع البيان ج : 3 ص : 382
للناس » أي لمعايش الناس و مكاسبهم لأنه مصدر قاموا كان المعنى قاموا بنصبه ذلك لهم فاستتبت معايشهم بذلك و استقامت أحوالهم به لما يحصل لهم في زيارتها من التجارة و أنواع البركة و لهذا قال سعيد بن جبير من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا و الآخرة أصابه و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قال ابن عباس معناه جعل الله الكعبة أمنا للناس بها يقومون أي يأمنون و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا و كان أهل الجاهلية يأمنون به فلو لقي الرجل قاتل أبيه و ابنه في الحرم ما قتله و قيل أن معنى قوله « قياما للناس » أنهم لو تركوه عاما واحدا لا يحجونه ما نوظروا أن يهلكوا عن عطاء و رواه علي بن إبراهيم عنهم (عليهم السلام) قال ما دامت الكعبة يحج الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت و تركوا الحج هلكوا « و الشهر الحرام » يعني الأشهر الحرم الأربعة واحد فرد و ثلاثة سرد أي متتابعة فالفرد رجب و السرد ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و إنما خرج مخرج الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس و هو عطف على المفعول الأول لجعل كما يقال ظننت زيدا منطلقا و عمرا « و الهدي و القلائد » مر ذكرهما في أول السورة و إنما ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت لأنها من أسباب حج البيت فدخلت في جملته فذكرت معه و كان أهل الجاهلية لا يغزون في أشهر الحرم و كانوا ينصلون فيها الأسنة و يتفرغ الناس فيها إلى معايشهم و كان الرجل يقلد بغيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف و كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل (عليه السلام) فبقوا عليه رحمة من الله لخلقه إلى أن قام الإسلام فحجزهم عن البغي و الظلم و قال أبو بكر الأنباري فقد حصل في الآية طريقان ( أحدهما ) أن الله تعالى من على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحا لدينهم و دنياهم و قياما لهم ( و الثاني ) أنه أخبر عما فعله من أمر الكعبة في الجاهلية « ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات و ما في الأرض و أن الله بكل شيء عليم » قد اعترض على هذا فقيل أي تعلق لهذا بقوله « جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس » و الجواب عنه من وجوه ( أحدها ) أن فيما جعله الله تعالى في البلد الحرام و الشهر الحرام من الآيات و الأعاجيب دلالة على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء و ذلك أنه جعل الحرم أمنا يسكن فيه كل شيء فالظبي يأنس فيه بالسبع و الذئب ما دام في الحرم فإذا خرج من الحرم خاف و طلبه السبع و هرب منه الظبي حتى يرجع إلى الحرم فإذا رجع إليه كف السبع عنه و كذلك الطير و الحمام يأنس بالإنسان فإذا خرج من الحرم خافه مع أمور كثيرة و عجائب شهيرة ذكرنا بعضها في أول سورة آل عمران عند قوله « فيه آيات بينات » فيكون ما دبره الله من ذلك دالا على أنه عالم بمصالح الخلق و بكل شيء ( و ثانيها ) أنه تعالى علم أن العرب يكونون أصحاب عداوات و طوائل
مجمع البيان ج : 3 ص : 383
و أنهم يكونون حوالي الكعبة فلما خلق السموات و الأرض جعل الكعبة موضع أمن و عظم حرمتها في القلوب و بقيت تلك الحرمة إلى يومنا هذا فلو لا كونه سبحانه عالما بالأشياء قبل كونها لما كان هذا التدبير وفقا للصلاح ( و ثالثها ) أنه تعالى لما أخبر في هذه السورة بقصة موسى و عيسى (عليهماالسلام) و التوراة و الإنجيل و ما فيهما من الأحكام و الأخبار و ذلك كله مما لم يشاهده نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لا أحد في عصره قال فيما بعد « ذلك لتعلموا أن الله يعلم » و معناه لو لا أنه سبحانه بكل شيء عليم لما جاز أن يخبركم عنهم فقوله « ذلك » إشارة إلى ما أنبأهم به من علم الغيب و العلم بالكائنات .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شدِيدُ الْعِقَابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(98) مَّا عَلى الرَّسولِ إِلا الْبَلَغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ(99)

اللغة

العلم ما اقتضى سكون النفس فإن شئت قلت هو اعتقاد الشيء على ما هو به عليه مع سكون النفس إلى ما اعتقده و الأول أوجز و لا يجوز أن يحد العلم بالمعرفة لأن المعرفة هي العلم فكيف يحد الشيء بنفسه و العلم يتناول الشيء على ما هو به و كذلك الرؤية و الفرق بينهما أن العلم يتعلق بالمعلوم على وجوه و الرؤية لا تتعلق بالمرئي إلا على وجه واحد و العلم معنى يحل القلب و الرؤية ليست معنى على الحقيقة لكن للرائي صفة بكونه رائيا و العقاب هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف و الإهانة و لو اقتصرت على أن تقول هو الضرر المستحق لكان كافيا و كذلك لو قلت هو الضرر الذي يقارنه استخفاف و إهانة لكفى و إنما سمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب الواقع من صاحبه و المغفرة هي ستر الخطيئة برفع عقابها و أصل الرسول من الإرسال و هو الإطلاق يقال أرسل الطير إذا أطلقه و ترسل في القراءة إذا تثبت و استرسل الشيء إذا تسلس و الرسل اللبن لاسترساله من الضرع و الفرق بين الإرسال و الإنباء أن الإنباء عن الشيء قد يكون من غير تحميل النبإ و الإرسال لا يكون إلا بتحميل الرسالة و البلاغ وصول المعنى إلى غيره و هو هاهنا وصول الإنذار إلى نفوس المكلفين و أصل البلاغ البلوغ و منه البلاغة و هي إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ و البلاغ الكفاية لأنه يبلغ مقدار الحاجة .

مجمع البيان ج : 3 ص : 384

المعنى

لما تقدم بيان الأحكام عقبه سبحانه بذكر الوعد و الوعيد فقال « اعلموا أن الله شديد العقاب » لمن عصاه « و أن الله غفور رحيم » لمن تاب و أناب و أطاع و جمع بين المغفرة و الرحمة ليعلم أنه لا يقتصر على وضع العقاب عنه بل ينعم عليه بفضله و لما أنذر و بشر في هذه الآية عقبها بقوله « ما على الرسول إلا البلاغ » أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة و بيان الشريعة فأما القبول و الامتثال فإنه يتعلق بالمكلفين المبعوث إليهم « و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون » أي لا يخفى عليه شيء من أحوالكم التي تظهرونها و تخفونها و فيه غاية الزجر و التهديد و في قوله سبحانه « اعلموا أن الله شديد العقاب » الآية دلالة على وجوب معرفة العقاب و الثواب لكونهما لطفا في باب التكليف .
قُل لا يَستَوِى الْخَبِيث وَ الطيِّب وَ لَوْ أَعْجَبَك كَثرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَأُولى الأَلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)

اللغة

الاستواء على أربعة أقسام استواء في المقدار و استواء في المكان و استواء في الذهاب و استواء في الإنفاق و الاستواء بمعنى الاستيلاء راجع إلى الاستواء في المكان لأنه تمكن و اقتدار و الخبيث أصله الرديء مأخوذ من خبث الحديد و هو ردية بعد ما يخلص بالنار جيده ففي الحديد امتزاج جيد بردي و الإعجاب سرور بما يتعجب منه و العجب و الإعجاب و التعجب من أصل واحد و العجب مذموم لأنه كبر يدخل على النفس بحال يتعجب منها و عجب الذنب أصله و عجوب الرمل أواخره لانفراده عن جملته كانفراد ما يتعجب به .

المعنى

لما بين سبحانه الحلال و الحرام بين أنهما لا يستويان فقال « قل » يا محمد « لا يستوي » أي لا يتساوى « الخبيث و الطيب » أي الحرام و الحلال عن الحسن و الجبائي و قيل الكافر و المؤمن عن السدي « و لو أعجبك » أيها السامع أو أيها الإنسان « كثرة الخبيث » أي كثرة ما تراه من الحرام لأنه لا يكون في الكثير من الحرام بركة و يكون في القليل من الحلال بركة و قيل إن الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد أمته « فاتقوا الله » أي فاجتنبوا ما حرم الله عليكم « يا أولي الألباب » يا ذوي العقول « لعلكم تفلحون » أي لتفلحوا و تفوزوا بالثواب العظيم و النعيم المقيم .

مجمع البيان ج : 3 ص : 385
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسئَلُوا عَنْ أَشيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسؤْكُمْ وَ إِن تَسئَلُوا عَنهَا حِينَ يُنزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنهَا وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)

اللغة

أبدى الشيء إذا أظهره و بدا يبدو بدوا إذا ظهر و بدا له رأيه بداء إذا تغير رأيه لأنه ظهر له و البادية خلاف الحاضرة و البدو خلاف الحضر من الظهور و منه قوله تعالى « و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق » الآية و لم يجيء في أقوال العرب البداء بمعنى الندامة و تغير الرأي و إذا كان لفظ البداء يطلق على الله فالمراد به الإرادة و الظهور دون ما يظن قوم من الجهال و عليه تشهد أقوال العرب و أشعارهم فمن ذلك :
قل ما بدا لك من زور و من كذب
حلمي أصم و أذني غير صماء و أمثال ذلك و الله أعلم .

الإعراب

« أشياء » في موضع جر إلا أنها فتحت لأنها لا تنصرف قال الكسائي أشياء أشياء آخرها آخر حمراء و كثر استعمالها فلم تصرف و قد أجمع البصريون على أن قوله هذا خطأ و ألزموه أن لا يصرف أبناء و أسماء و قال الخليل أن أشياء اسم للجمع كان أصله شياء على فعلاء مثل الطرفاء و القصباء و الحلفاء في أنها على لفظ الآحاد و المراد الجمع فاستثقلت الهمزتان بينهما ألف و ليس بحاجز قوي لأجل أنه ساكن و من جنس الهمزة أ لا تراه يعود إليها إذا تحركت و استثقلت فقدموا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فقالوا أشياء و وزنها لفعاء كما قالوا في أنوق أينق و في أقوس قسي و هو مذهب سيبويه و المازني و جميع البصريين قالوا و الدلالة على أن أشياء اسم مفرد ما روي من تكسيرها على أشاوي كما كسروا صحراء على صحاري حيث كانت مثلها في الأفراد و قال الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة و الفراء أصل أشياء أشيياء على أفعلاء فحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولهم سوائية حيث قالوا سواية و لزم حذفها في أفعلاء لأمرين ( أحدهما ) تقارب الهمزة و إذا كانوا قد حذفوا الهمزة منفردة فإذا تكررت لزم الحذف ( و الآخر ) أن الكلمة جمع و قد يستثقل في
مجمع البيان ج : 3 ص : 386
الجمع ما لا يستثقل في الآحاد و وزن أشياء على هذا القول أفعاء و ذكروا أن المازني ناظر الأخفش في هذا الباب فسأله كيف تصغر أشياء فقال أشياء فقال له لو كانت أفعلاء لردت في التصغير إلى واحدها فقال شييات كما قالوا في تصغير أصدقاء صديقات فقطع الأخفش فأجاب عنه أبو علي الفارسي فقال أن أفعلاء في هذا الموضع جاز تحقيرها و إن لم تحقر في غير هذا الموضع لأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد القليل إليها كما أضيف إلى أفعال و يدل على كونها بدلا من أفعال تذكيرهم العدد المضاف إليها نحو ثلاثة أشياء فجاز تصغيرها كما يجوز تصغير أفعال و قوله « إن تبد لكم تسؤكم » جملة شرطية في موضع جر بكونها صفة لأشياء .

النزول

اختلف في نزولها فقيل سأل الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى أحفوه بالمسالة فقام مغضبا خطيبا فقال سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فقام رجل من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة و كان يطعن في نسبه فقال يا نبي الله من أبي فقال أبوك حذافة بن قيس فقام إليه رجل آخر فقال يا رسول الله أين أبي فقال في النار فقام عمر بن الخطاب و قبل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية و شرك فاعف عنا عفا الله عنك فسكن غضبه فقال أما و الذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة و النار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير و الشر عن الزهري و قتادة عن أنس و قيل كان قوم يسألون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) استهزاء مرة و امتحانا مرة فيقول له بعضهم من أبي و يقول الآخر أين أبي و يقول الآخر إذا ضلت ناقته أين ناقتي فأنزل الله عز و جل هذه الآية عن ابن عباس و قيل خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن و قيل سراقة بن مالك فقال أ في كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله ويحك و ما يؤمنك أن أقول نعم و الله لو قلت نعم لوجبت و لو وجبت ما استطعتم و لو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أبي أمامة الباهلي و قيل نزلت حين سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحامي عن مجاهد .

المعنى

« يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » خاطب الله المؤمنين و نهاهم عن المسألة عن أشياء لا يحتاجون إليها في الدين إذا أبديت و أظهرت
مجمع البيان ج : 3 ص : 387
ساءت و حزنت و ذلك نحو ما مضى ذكره من الرجل الذي سأل عن أبيه و أشباه ذلك من أمور الجاهلية و قيل أن تقديره لا تسألوه عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم فقدم و أخر فعلى هذا يكون قوله « عفا الله عنها » صفة لأشياء أيضا و معناه كف الله عن ذكرها و لم يوجب فيها حكما و كلام الزجاج يدل على هذا لأنه قال أعلم الله إن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع فإنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك و خاصة في وقت سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على جهة تبيين الآيات فنهى الله عز و جل عن ذلك و اعلم أنه قد عفا عنها و لا وجه لمسألة ما عفا الله عنه و لعل فيه فضيحة على السائل إن ظهر و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها و حد لكم حدودا فلا تعتدوها و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها و قال مجاهد كان ابن عباس إذا سئل عن الشيء لم يجيء فيه أثر يقول هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية « و إن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم » معناه و إن ألححتم و سألتم عنها عند نزول القرآن أظهر لكم جوابها إذا لم تقصدوا التعنت على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلا تتكلفوا السؤال عنها في الحال و قيل معناه و إن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن تحتاجون إليها في الدين من بيان محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و نحو ذلك تكشف لكم و هذه الأشياء غير الأشياء الأولى إلا أنه قال « و إن تسئلوا عنها » لأنه كان قد سبق ذكر الأشياء و قيل إن الهاء راجعة إلى الأشياء الأولى فبين لهم أنكم إن سألتم عنها عند نزول القرآن في الوقت الذي يأتيه الملك بالقرآن يظهر لكم ما تسألون عنه في ذلك الوقت فلا تسألوه و دعوه مستورا ثم قال « عفا الله عنها » أي عفا الله عن تبعة سؤالكم و يكون تقديره عفا الله عن مسألتكم التي سلفت منكم مما كرهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و الله غفور حليم » فلا تعودوا إلى مثلها و هذا قول ابن عباس في رواية عطا و أما على ما ذكرنا من أن قوله « عفا الله » على التقديم فيكون تقدير الآية لا تسألوا عن أشياء ترك الله ذكرها و بيانها لأنكم لا تحتاجون إليها في التكليف أن تظهر لكم تحزنكم و تغمكم و قال بعضهم أنها نزلت فيما سألت الأمم أنبياءها من الآيات و يؤيده الآية التي بعدها .

النظم

قيل في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه ( أحدها ) أنه تتصل بقوله « تفلحون » لأن من الفلاح ترك السؤال عما لا يحتاج إليه ( و ثانيها ) أنه تتصل بقوله « ما على الرسول إلا البلاغ » فإنه يبلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم ( و ثالثها ) أنها تتصل بقوله « و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون » أي لا تسألوه فيظهر سرائركم .

مجمع البيان ج : 3 ص : 388
قَدْ سأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكمْ ثُمَّ أَصبَحُوا بهَا كَفِرِينَ(102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بحِيرَة وَ لا سائبَة وَ لا وَصِيلَة وَ لا حَام وَ لَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْترُونَ عَلى اللَّهِ الْكَذِب وَ أَكْثرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(103)

اللغة

البحر الشق و بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا إذا شققتها شقا واسعا و الناقة بحيرة و هي فعيلة بمعنى المفعول مثل النطيحة و الذبيحة و أصل الباب السعة و سمي البحر بحرا لسعته و فرس بحر واسع الجري و في الحديث أنه (عليه السلام) قال لفرس له وجدته بحرا و السائبة فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض و يقال سيبت الدابة أي تركتها تسيب حيث شاءت و يقال للعبد يعتق و لا ولاء عليه لمعتقه سائبة لأنه يضع ماله حيث شاء و أصله المخلاة و هي المسيبة و أخذت من قولهم سابت الحية و انسابت إذا مضت مستمرة و الوصل نقيض الفصل و لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الواصلة و هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها و يجوز أن يكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها و هذا أظهر في الآية و أنشد أهل اللغة في البحيرة :
محرمة لا يأكل الناس لحمها
و لا نحن في شيء كذاك البحائر و أنشدوا في السائبة :
و سائبة لله ما لي تشكرا
إن الله عافى عامرا و مجاشعا و أنشدوا في الوصيلة لتأبط شرا :
أ جدك أما كنت في الناس ناعقا
تراعي بأعلى ذي المجاز الوصائلا و أنشد في الحامي :
حماها أبو قابوس في غير كنهه
كما قد حمى أولاد أولاده الفحلا .

المعنى

ثم أخبر سبحانه أن قوما سألوا مثل سؤالهم فلما أجيبوا إلى ما سألوا كفروا فقال « قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين » و فيه أقوال ( أحدها ) أنهم قوم عيسى (عليه السلام) سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها عن ابن عباس ( و ثانيها ) أنهم قوم صالح سألوه
مجمع البيان ج : 3 ص : 389
الناقة ثم عقروها و كفروا بها ( و ثالثها ) أنهم قريش حين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يحول الصفا ذهبا عن السدي ( و رابعها ) أنهم كانوا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مثل هذه الأشياء يعني من أبى و نحوه فلما أخبرهم بذلك قالوا ليس الأمر كذلك فكفروا به فيكون على هذا نهيا عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أنساب الجاهلية لأنهم لو سألوا عنها ربما ظهر الأمر فيها على خلاف حكمهم فيحملهم ذلك على تكذيبه عن أبي علي الجبائي فإن قيل ما الذي يجوز أن يسأل عنه و ما الذي لا يجوز فالجواب إن الذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينية أو الدنيوية و ما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين و الدنيا لا يجوز السؤال عنه فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي لأن المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كل من ولد على فراش إنسان بأنه ولده و إن لم يكن مخلوقا من مائه فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز ثم ذكر سبحانه الجواب عما سألوه عنه و قيل إنه لما تقدم ذكر الحلال و الحرام بين حال ما يعتقده أهل الجاهلية من ذلك فقال « ما جعل الله من بحيرة » يريد ما حرمها على ما حرمها أهل الجاهلية من ذلك و لا أمر بها و البحيرة هي الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن و كان آخرها ذكرا بحروا أذنها و امتنعوا من ركوبها و نحرها و لا تطرد عن ماء و لا تمنع من مرعى فإذا لقيها المعيي لم يركبها عن الزجاج و قيل إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء جميعا و إن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر و لا يذكر عليها اسم الله إن ذكيت و لا حمل عليها و حرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا و لا أن ينتفعن بها و كان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال و النساء في أكلها عن ابن عباس و قيل إن البحيرة بنت السائبة عن محمد بن إسحاق « و لا سائبة » و هي ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها و أن لا تخلى عن ماء و لا تمنع من مرعى عن الزجاج و هو قول علقمة و قيل هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها و كان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة و هم خدمة آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم يركبوها و لم يجزوا وبرها و لم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلي سبيلها مع أمها و هي البحيرة عن محمد بن إسحاق « و لا وصيلة » و هي في الغنم كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم و إذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا و أنثى قالوا وصلت أخاها فلم
مجمع البيان ج : 3 ص : 390
يذبحوا الذكر لآلهتهم عن الزجاج و قيل كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء و إن كان عناقا استحيوها و كانت من عرض الغنم و إن ولدت في البطن السابع جديا و عناقا قالوا إن الأخت وصلت أخاها فحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة و اللبن للرجال دون النساء عن ابن مسعود و مقاتل و قيل الوصيلة الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمد بن إسحاق « و لا حام » و هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يحمل عليه و لا يمنع من ماء و لا من مرعى عن ابن عباس و ابن مسعود و هو قول أبي عبيدة و الزجاج و قيل إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل حمي ظهره فلا يركب عن الفراء أعلم الله أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا و قال المفسرون و روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن عمرو ابن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة و كان أول من غير دين إسماعيل و اتخذ الأصنام و نصب الأوثان و بحر البحيرة و سيب السائبة و وصل الوصيلة و حمى الحامي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه و يروى يجر قصبه في النار « و لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب » هذا إخبار منه تعالى إن الكفار يكذبون على الله بادعائهم إن هذه الأشياء من فعل الله أوامره « و أكثرهم لا يعقلون » خص الأكثر بأنهم لا يعقلون لأنهم أتباع فهم لا يعقلون أن ذلك كذب و افتراء كما يعقله الرؤساء عن قتادة و الشعبي و قيل إن معناه أن أكثرهم لا يعقلون ما حرم عليهم و ما حلل لهم يعني أن المعاند هو الأقل منهم عن أبي علي الجبائي و في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه نفي أن يكون جعل البحيرة و غيرها و عندهم أنه سبحانه هو الجاعل و الخالق له ثم بين أن هؤلاء قد كفروا بهذا القول و افتروا على الله الكذب بأن نسبوا إليه ما ليس بفعل له و هذا واضح .
وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَ إِلى الرَّسولِ قَالُوا حَسبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَ وَ لَوْ كانَ ءَابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شيْئاً وَ لا يهْتَدُونَ(104)
 

<<        الفهرس        >>