جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 2 ص : 543
بينهم » نصب على أنها مفعول له أي لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي و يجوز أن يكون مصدرا وقع موقع الحال و ما اسم موصول و اختلفوا صلته و اللام يتعلق بهدى و من الحق في موضع الحال من الموصول و العامل فيه هدى و الباء في بإذنه يتعلق بهدى أيضا .

المعنى

ثم بين سبحانه أحوال من تقدم من الكفار تسلية للنبي فقال « كان الناس أمة واحدة » أي ذوي أمة واحدة أي أهل ملة واحدة و على دين واحد فحذف المضاف و اختلف في أنهم على أي دين كانوا فقال قوم أنهم كانوا على الكفر و هو المروي عن ابن عباس في إحدى الروايتين و الحسن و اختاره الجبائي ثم اختلفوا في أي وقت كانوا كفارا فقال الحسن كانوا كفارا بين آدم و نوح و قال بعضهم كانوا كفارا بعد نوح إلى أن بعث الله إبراهيم و النبيين بعده و قال بعضهم كانوا كفارا عند مبعث كل نبي و هذا غير صحيح لأن الله بعث كثيرا من الأنبياء إلى المؤمنين فإن قيل كيف يجوز أن يكون الناس كلهم كفارا و الله تعالى لا يجوز أن يخلي الأرض من حجة له على خلقه قلنا يجوز أن يكون الحق هناك في واحد أو جماعة قليلة لم يمكنهم إظهار الدين خوفا و تقية فلم يعتد بهم إذا كانت الغلبة للكفار و قال آخرون إنهم كانوا على الحق و هو المروي عن قتادة و مجاهد و عكرمة و الضحاك و ابن عباس في الرواية الأخرى ثم اختلفوا فقال ابن عباس و قتادة هم كانوا بين آدم و نوح و هم عشر فرق كانوا على شريعة من الحق فاختلفوا بعد ذلك و قال الواقدي و الكلبي هم أهل سفينة نوح حين غرق الله الخلق ثم اختلفوا بعد ذلك فالتقدير على قول هؤلاء « كان الناس أمة واحدة » فاختلفوا « فبعث الله النبيين » و قال مجاهد المراد به آدم كان على الحق إماما لذريته فبعث الله النبيين في ولده و روى أصحابنا عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين و لا ضلالا فبعث الله النبيين و على هذا فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين إلى نبوة و لا شريعة ثم بعث الله النبيين بالشرائع لما علم أن مصالحهم فيها « فبعث الله » أي أرسل الله « النبيين مبشرين » لمن أطاعهم بالجنة « و منذرين » لمن عصاهم بالنار « و أنزل معهم الكتاب » أي أنزل مع كل واحد منهم الكتاب و قيل معناه و أنزل مع بعثهم الكتاب إذ الأنبياء لم يكونوا منزلين حتى ينزل الكتاب معهم و أراد به مع بعضهم لأنه لم ينزل مع كل نبي كتاب و قيل المراد به الكتب لأن الكتاب اسم جنس فمعناه الجمع قوله « بالحق » أي بالصدق و العدل و قيل معناه و أنزل الكتاب بأنه حق و أنه من عند الله و قيل معناه و أنزل الكتاب بما فيه من بيان الحق و قوله « ليحكم بين الناس » الضمير في يحكم يرجع إلى
مجمع البيان ج : 2 ص : 544
الله أي ليحكم الله منزل الكتاب و قيل يرجع إلى الكتاب أي ليحكم الكتاب فأضاف الحكم إلى الكتاب و إن كان الله هو الذي يحكم على جهة التفخيم لأمر الكتاب « فيما اختلفوا فيه » من الحق قبل إنزال الكتاب و متى سئل عن هذا فقيل إذا كانوا مختلفين في الحق فكيف عمهم الكفر في قول من قال أنهم كانوا كلهم كفارا فجوابه أنه لا يمتنع أن يكونوا كفارا و بعضهم يكفر من جهة الغلو و بعضهم يكفر من جهة التقصير كما كفرت اليهود و النصارى في المسيح فقالت النصارى هو رب و قالت اليهود هو كاذب و قوله « و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه » معناه و ما اختلف في الحق إلا الذين أعطوا العلم به كاليهود فإنهم كتموا صفة النبي بعد ما أعطوا العلم به « من بعد ما جاءتهم البينات » أي الأدلة و الحجج الواضحة و قيل التوراة و الإنجيل و قيل معجزات محمد « بغيا بينهم » أي ظلما و حسدا و طلبا للرئاسة و قوله « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه » معناه فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه بعلمه و الأذن بمعنى العلم مشهور في اللغة قال الحارث بن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء أي أعلمتنا و إنما خص المؤمنين لأنهم اختصوا بالاهتداء و قيل إن معنى بإذنه بلطفه فعلى هذا يكون في الكلام محذوف أي فاهتدوا بإذنه و إنما قال هداهم لما اختلفوا فيه من الحق و لم يقل هداهم للحق فيما اختلفوا فيه لأنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف كان أولى بالتقديم فقدمه ثم فسره بمن « و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » فيه أقوال ( أحدها ) أن المراد به البيان و الدلالة و الصراط المستقيم هو الإسلام و خص به المكلفين دون غيرهم ممن لا يحتمل التكليف عن الجبائي ( و ثانيها ) أن المراد به يهديهم باللطف فيكون خاصا بمن علم من حاله أنه يصلح به عن البلخي و ابن الإخشيد ( و ثالثها ) أن المراد به يهديهم إلى صراط الجنة و يأخذ بهم على طريقها فتكون مخصوصا بالمؤمنين .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّستهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتى يَقُولَ الرَّسولُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)

القراءة

قرأ نافع وحده حتى يقول بالرفع و الباقون بالنصب .

الحجة

من نصب فالمعنى و زلزلوا إلى أن قال الرسول و ما ينصب بعد حتى جاء
مجمع البيان ج : 2 ص : 545
من الأفعال على ضربين ( أحدهما ) أن يكون بمعنى إلى كما في الآية و الآخر أن يكون بمعنى كي كما تقول أسلمت حتى أدخل الجنة فهذا تقديره أسلمت كي أدخل الجنة فالإسلام قد كان و الدخول لم يكن و في الوجه الأول كلا الفعلين السبب و المسبب قد مضى و أما من قرأ بالرفع فالفعل الواقع بعد حتى لا يكون إلا فعل حال و يجيء أيضا على ضربين ( أحدهما ) أن يكون الفعل الأول الذي هو السبب قد مضى و الفعل الثاني المسبب لم يمض كما تقول مرض حتى لا يرجونه و تتجه الآية على هذا الوجه لأن المعنى زلزلوا فيما مضى حتى أن الرسول يقول الآن « متى نصر الله » و حكيت الحال التي كانوا عليها كما حكيت الحال في قوله هذا من شيعته و هذا من عدوه ( و الثاني ) أن يكون الفعلان جميعا قد مضيا نحو سرت حتى أدخلها فالدخول متصل بالسير بلا فصل بينهما و الحال محكية كما كانت في الوجه الأول أ لا ترى أن ما مضى لا يكون حالا و حتى إذا رفع الفعل بعدها حرف يستأنف الكلام بعدها و ليست العاطفة و لا الجارة و إذا نصب الفعل بعدها فهي الجارة و ينصب الفعل بعدها بإضمار أن كما ينصب بعد اللام و الفعل و أن المضمرة معها في موضع جر .

اللغة

الزلزلة شدة الحركة و الزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة و الجمع زلازل و أصله من قولك زل الشيء عن مكانه ضوعف لفظه لمضاعفة معناه نحو صر و صرصر و صل و صلصل فإذا قلت زلزلته فتأويله كررت تحريكه عن مكانه .

الإعراب

أم هذه هي المنقطعة و معناه بل أ حسبتم و الفرق بين أ حسبتم و أم حسبتم أن أم لا تكون إلا متصلة بكلام و الألف تكون مستأنفة .
أن تدخلوا صلة و موصول في موضع نصب بأنه مفعول حسبتم و قد سدا مسد مفعوليه و قيل مفعوله الثاني محذوف و تقديره أم حسبتم دخولكم الجنة ثابتا و الجنة نصب لأنها ظرف مكان لتدخلوا و لما أصلها لم زيد عليها ما فغيرت معناها كما غيرت معنى لو إذا قلت لو ما فصيرته بمعنى هلا و الفرق بين لم و لما إن لما يصح أن يوقف عليها مثل قولك في جواب من يقول أ قدم الأمير ؟ لما و لا يجوز أن يقول لم و في لما توقع لأنها عقيبة قد إذا انتظر قوم ركوب الأمير قلت قد ركب فإن نفيت هذا قلت لما يركب و ليس كذلك لم و يجمعهما نفي الماضي مثل مرفوع بأنه صفة محذوف مرفوع بياتي تقديره و لما يأتكم نصب مثل الذي أصاب الذين خلوا من قبلكم و إضافة مثل غير حقيقية لأنه في تقدير الانفصال فالمجرور في تقدير المنصوب لأنه مفعول و لما مع الجملة في موضع نصب على الحال و الواو واو الحال و تقديره أن تدخلوا
مجمع البيان ج : 2 ص : 546
الجنة غير مصابين و مستهم البأساء في موضع الحال أيضا بإضمار قد و العامل فيه خلوا و زلزلوا معطوفة على مستهم و نصر الله مبتدأ و إضافته غير حقيقية و متى في موضع خبر المبتدأ .

النزول

قيل نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة و حوصر المسلمون في المدينة فدعاهم الله إلى الصبر و وعدهم بالنصر عن قتادة و السدي و قيل نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب النبي إلى متى تقتلون أنفسكم لو كان محمد نبيا ما سلط الله عليه الأسر و القتل و قيل نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة إذ تركوا ديارهم و أموالهم و مسهم الضر عن عطا .

المعنى

ثم ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية تسلية لنبيه و لأصحابه فيما لهم من المشركين و أمثالهم لأن سماع أخبار الخيار الصالحين يرغب في مثل أحوالهم فقال « أم حسبتم » معناه بل أ ظننتم و خلتم أيها المؤمنون « أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » معناه و لما تمتحنوا و تبتلوا بمثل ما امتحنوا به فتصبروا كما صبروا و هذه استدعاء إلى الصبر و بعده الوعد بالنصر و المثل مثل الشبه و الشبه أي لم يصبكم شبه الذين خلوا أي مضوا قبلكم من النبيين و المؤمنين و في الكلام حذف و تقديره مثل محنة الذين أو مصيبة الذين مضوا ثم ذكر سبحانه ما أصاب أولئك فقال « مستهم البأساء و الضراء » و المس و اللمس واحد و البأساء نقيض النعماء و الضراء نقيض السراء و قيل البأساء القتل و الضراء الفقر و قيل هو ما يتعلق بمضار الدين من حرب و خروج من الأهل و المال و إخراج فمدحوا بذلك إذ توقعوا الفرج بالصبر « و زلزلوا » أي حركوا بأنواع البلايا و قيل معناه هنا أزعجوا بالمخافة من العدو و ذلك لفرط الحيرة « حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله » قيل هذا استعجال للموعود كما يفعله الممتحن و إنما قاله الرسول استبطاء للنصر على جهة التمني و قيل إن معناه الدعاء لله بالنصر و لا يجوز أن يكون على جهة الاستبطاء لنصر الله لأن الرسول يعلم أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة ثم أخبر الله سبحانه أنه ناصر أوليائه لا محالة فقال « ألا إن نصر الله قريب » و قيل إن هذا من كلامهم بأنهم قالوا عند الإياس « متى نصر الله » ثم تفكروا فعلموا أن الله منجز وعده فقالوا « ألا أن نصر الله قريب » و قيل أنه ذكر كلام الرسول و المؤمنين جملة و تفصيلا و قال المؤمنون « متى نصر الله » و قال الرسول « أ لا إن نصر الله قريب » كقوله جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله أي لتسكنوا بالليل و لتبتغوا من فضله بالنهار .

مجمع البيان ج : 2 ص : 547
يَسئَلُونَك مَا ذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَير فَلِلْوَلِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينِ وَ ابْنِ السبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَير فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)

اللغة

النفقة إخراج الشيء من الملك ببيع أو هبة أو صلة أو نحو ذلك و قد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال من عين أو ورق و السؤال طلب الجواب بصيغة مخصوصة من الكلام .

الإعراب

موضع ما من قوله « ما ذا ينفقون » يحتمل أن يكون مرفوعا أو منصوبا فأما الرفع فيكون على تقدير ما الذي ينفقون أي أي شيء الذي ينفقونه و العائد من الصلة محذوف و يكون ذا موصولا بمنزلة الذي و ينفقون صلته و النصب على تقدير أي شيء ينفقون فيكون ما و ذا بمنزلة شيء واحد و يكون ذا لغوا لأن ما مفيدة للمعنى و ما من قوله « ما أنفقتم » اسم للشرط في محل الرفع بالابتداء و أنفقتم في محل الجزم بما من خير جار و مجرور في موضع الحال و من للتبيين و تقديره ما أنفقتم كائنا من خير فذو الحال الضمير المحذوف من الصلة فللوالدين الجار و المجرور خبر مبتدإ محذوف و المبتدأ و الخبر في محل الرفع لوقوعهما بعد الفاء و الفاء مع ما بعده جواب للشرط و معنى حرف الشرط الذي تضمنه ما مع الشرط و الجزاء في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ الأول « و ما تفعلوا » ما اسم شرط في محل النصب بتفعلوا و يجوز أن يكون ما في أنفقتم أيضا منصوب الموضع بأنفقتم فيكون مفعولا له .

النزول

نزلت في عمرو بن الجموح و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال يا رسول الله بما ذا أتصدق و على من أتصدق فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

« يسألونك » يا محمد « ما ذا » إلى أي شيء ينفقون و السؤال عن الإنفاق يتضمن السؤال عن المنفق عليه فإنهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة و على من ينفق فقال قل يا محمد « ما أنفقتم من خير » أي مال فدل على أن له مقدارا و أنه مما ينتفع به لأن ما لا ينتفع به لا يسمى خيرا « فللوالدين
مجمع البيان ج : 2 ص : 548
و الأقربين » و المراد بالوالدين الأب و الأم و الجد و الجدة و إن علوا لأنهم يدخلون في اسم الوالدين و المراد بالأقربين أقارب المعطي « و اليتامى » أي كل من لا أب له مع صغره « و المساكين » الفقراء « و ابن السبيل » المنقطع به و اختلفوا في هذه النفقة فقال الحسن المراد به نفقة التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده و الزكاة لمن يجوز وضع الزكاة عنده فهي عامة في الزكاة المفروضة و في التطوع و قال السدي الآية واردة في الزكاة ثم نسخت ببيان مصارف الزكاة و الأول أظهر لأنه لا دليل على نسخها و اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الأب و الأم و الجد و الجدة و إلى الأولاد فأما النفقة فلا خلاف أن النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين واجبة و أما النفقة على ذي الرحم فلا يجب عندنا و عند الشافعي و يجب عند أبي حنيفة و قوله « و ما تفعلوا من خير » أي من عمل صالح يقربكم إلى الله « فإن الله به عليم » يجازيكم به من غير أن يضيع منه شيء لأنه تعالى لا يخفى عليه شيء .

النظم

و وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الآية الأولى فيها دعاء إلى الصبر على الجهاد في سبيل الله و في هذه الآية بيان لوجه النفقة في سبيل الله و كل ذلك دعاء إلى فعل البر و الطاعة .
كُتِب عَلَيْكمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَ عَسى أَن تَكْرَهُوا شيْئاً وَ هُوَ خَيرٌ لَّكمْ وَ عَسى أَن تُحِبُّوا شيْئاً وَ هُوَ شرُّ لَّكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216)

اللغة

الكره بالفتح المشقة التي تحمل على النفس و الكره بالضم المشقة حمل على النفس أو لم يحمل و قيل الكره الكراهة و الكره المشقة و قد يكره الإنسان ما لا يشق عليه و قد يشق عليه ما لا يكرهه و قيل الكره و الكره لغتان مثل الضعف و الضعف و الخير نقيض الشر و الخير النفع الحسن و الشر الضرر القبيح و هذا هو الأصل ثم يستعملان في غير ذلك توسعا يقال شر يشر شرارة و شرار النار و شررها لهبها و شرة الشباب نشاطه و تشرير اللحم أو الثوب أن تبسطه ليجف و الأشرار الإظهار .

الإعراب

« و هو كره لكم » فيه حذف و تقديره و هو ذو كره لكم و يجوز أن يكون
مجمع البيان ج : 2 ص : 549
معناه و هو مكروه لكم فوقع المصدر موقع المفعول و مثله رجل رضا أي ذو رضا و يجوز أن يكون بمعنى مرضي « و عسى أن تكرهوا » موضع أن تكرهوا رفع بأنه فاعل عسى و عسى هذه تامة لأنها تمت بالفاعل و لم تحتج إلى خبر .

المعنى

هذه الآية بيان لكون الجهاد مصلحة لمن أمر به قال سبحانه « كتب عليكم القتال » أي فرض عليكم الجهاد في سبيل الله « و هو كره لكم » أي شاق عليكم تكرهونه كراهة طباع لا على وجه السخط و قد يكون الشيء مكروها عند الإنسان في طبعه و من حيث تنفر نفسه عنه و إن كان يريده لأن الله تعالى أمره بذلك كالصوم في الصيف و قيل معناه أنه مكروه لكم قبل أن يكتب عليكم لأن المؤمنين لا يكرهون ما كتب الله عليهم « و عسى أن تكرهوا شيئا » معناه و قد تكرهون شيئا في الحال و هو خير لكم في عاقبة أموركم كما تكرهون القتال لما فيه من المخاطرة بالروح « و هو خير لكم » لأن لكم في الجهاد إحدى الحسنيين إما الظفر و الغنيمة و إما الشهادة و الجنة « و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم » أي و قد تحبون ما هو شر لكم و هو القعود عن الجهاد لمحبة الحياة و هو شر لما فيه من الذل و الفقر في الدنيا و حرمان الغنيمة و الأجر في العقبي « و الله يعلم » أي يعلم ما فيه مصالحكم و منافعكم و ما هو خير لكم في عاقبة أمركم « و أنتم لا تعلمون » ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به و إن شق عليكم و أجمع المفسرون إلا عطاء إن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد و فرضه غير أنه فرض على الكفاية حتى أن لو قعد جميع الناس عنه أثموا به و إن قام به من في قيامه كفاية و غناء سقط عن الباقين و قال عطاء إن ذلك كان واجبا على الصحابة و لم يجب على غيرهم و قوله شاذ عن الإجماع .

مجمع البيان ج : 2 ص : 550
يَسئَلُونَك عَنِ الشهْرِ الْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صدُّ عَن سبِيلِ اللَّهِ وَ كفْرُ بِهِ وَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبرُ عِندَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكمْ إِنِ استَطعُوا وَ مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولَئك حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى الدُّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ أُولَئك أَصحَب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(217)

اللغة

الصد و المنع و الصرف نظائر يقال صد عن الشيء يصد صدودا و صدا إذا أعرض و عدل عنه و صد غيره يصده صدا إذا عدل به عنه و منعه و الصدد ما استقبلك و صار في قبالتك لأنه يعدل إلى مواجهتك و الصدان ناحيتا الشعب و الوادي و الصداد ضرب من الجرذان يعد لك لشدة تحرزه و الصداد الوزغ لأنه يعدل عنه استقذارا له و أصل الباب العدو .
لا يزال أصله من الزوال و هو العدول و معنى لا يزال يدوم موجودا و ما زال أي دام .
و حبط عمل الرجل حبطا و حبوطا و أحبطه الله إحباطا و الحبط فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط و هو ضرب من الكلأ يقال حبطت الإبل تحبط حبطا إذا أصابها ذلك ثم سمي الهلاك حبطا و في الحديث أن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم .

الإعراب

قتال فيه مجرور على البدل من الشهر و هو بدل الاشتمال لأن الزمان يشتمل على ما يقع فيه و مثله في المكان قوله « قتل أصحاب الأخدود » النار و قال الأعشى :
لقد كان في حول ثواء ثوبته
تقضي لبانات و يسأم سائم و قال الكوفيون هو مجرور على إضمار عن و قال بعضهم هو على التكرير و هذه ألفاظ متقاربة في المعنى و إن اختلف في العبارة عنه و قوله « قتال » مرفوع بالابتداء و كبير خبره « و صد عن سبيل الله » مبتدأ « و كفر به » معطوف عليه « و إخراج أهله منه » معطوف عليه أيضا و خبره « أكبر عند الله » أي هذه الأشياء أكبر عند الله أي أعظم إثما و أجاز الفراء رفعه على وجهين ( أحدهما ) أنه مردود على كبير أي « قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به » أي القتال قد جمع أنه كبير و أنه صد عن سبيل الله و كفر به ( و الآخر ) أن يجعل الصد الكبير أي القتال فيه كبير و الصد عن سبيل الله كبير فيكون مرتفعا بالابتداء و خبره محذوف و خطأه العلماء بالنحو قالوا لأنه يصير المعنى في التقدير الأول قل القتال في الشهر الحرام كفر بالله و هذا خطأ بالإجماع و يصير التقدير في الثاني و إخراج أهله منه أكبر عند الله من الكفر و هذا أيضا خطأ بالإجماع و للفراء أن يقول في هذه : المعنى و إخراج أهله منه أكبر من
مجمع البيان ج : 2 ص : 551
القتل فيه لا من الكفر به لأن المعنى في إخراج أهله منه إخراج النبي و المؤمنين بعده فأما الوجه الأول فلا مخلص للفراء منه و المسجد الحرام مجرور عطف على سبيل الله كأنه قال و صد عن سبيل الله و عن المسجد الحرام و هو قول المبرد و قيل أنه عطف على الشهر الحرام كأنه قال يسألونك عن القتال في الشهر الحرام و المسجد الحرام و هو قول الفراء و لا يجوز حمله على الباء في قوله « و كفر به » لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار إلا في ضرورة الشعر و من يرتدد على إظهار التضعيف لسكون الثاني و يجوز يرتد بفتح الدال على التحريك لالتقاء الساكنين بأخف الحركات و يجوز بكسر الدال على أصل التحريك لالتقاء الساكنين و الفتح أجود .

النزول

قال المفسرون بعث رسول الله سرية من المسلمين و أمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي و هو ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ذلك قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة فانطلقوا حتى هبطوا نخلة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في آخر يوم من جمادى الآخرة و كانوا يرون أنه من جمادى و هو رجب فاختصم المسلمون فقال قائل منهم هذه غرة من عدو و غنم رزقتموه و لا ندري أ من الشهر الحرام هذا اليوم أم لا و قال قائل منهم لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام و لا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه فغلب على الأمر الذي يريدون عرض الحياة الدنيا فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه و غنموا عيره فبلغ ذلك كفار قريش و كان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المشركين و المسلمين و ذلك أول فيء أصابه المسلمون فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا أ يحل القتال في الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

« يسألونك » يا محمد و السائلون أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام عن الحسن و أكثر المفسرين و قيل السائلون أهل الإسلام سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه « عن الشهر الحرام قتال فيه » يعني عن قتال في الشهر الحرام و هو رجب سمي بذلك لتحريم القتال فيه و لعظم حرمته و لذلك كان يسمى في الجاهلية منزع الأسنة و منصل الأل لأنهم كانوا ينزعون الأسنة و النصال عند دخول رجب انطواء على ترك القتال فيه و كان يدعى الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه كما قيل ليل نائم و سر كاتم فكان الناس لا يخاف بعضهم بعضا و تأمن
مجمع البيان ج : 2 ص : 552
السبل إلى أن ينقضي الشهر « قل » يا محمد « قتال فيه » أي في الشهر الحرام « كبير » أي ذنب عظيم ثم استأنفه و قال « و صد عن سبيل الله و كفر به » أي و الصد عن سبيل الله و الكفر بالله « و المسجد الحرام » أي و الصد عن المسجد الحرام و على القول الآخر معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام و عند المسجد الحرام و قيل معناه و الكفر و المسجد الحرام عن الجبائي فحمله عن الباء في قوله « و كفر به » « و إخراج أهله » يعني أهل المسجد و هم المسلمون و « منه » أي من المسجد « أكبر » أي أعظم وزرا « عند الله » يعني إخراجهم المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة و الظاهر يدل على أن القتال في الشهر الحرام كان محرما لقوله « قل قتال فيه كبير » و ذلك لا يقال إلا فيما هو محرم محظور و قيل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عقل ابن الحضرمي و قوله « و الفتنة أكبر من القتل » معناه الفتنة في الدين و هو الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام يعني قتل ابن الحضرمي و قال قتادة و غيره أن تحريم القتال في الشهر الحرام و عند المسجد الحرام منسوخ بقوله « و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة » و بقوله « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » و قال عطاء هو باق على التحريم و عندنا أنه باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة و لا يبتدئون فيها بالقتال و كذلك في الحرم و إنما أباح الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قتال أهل مكة عام الفتح فقال (عليه السلام) إن الله أحلها لي في هذه الساعة و لا يحلها لأحد من بعدي إلى يوم القيامة و من لا يرى منهم حرمة الحرم و حرمة هذه الأشهر جاز قتاله أي وقت كان و التحريم منسوخ في حقه و قوله تعالى : « و لا يزالون يقاتلونكم » يعني أهل مكة يقاتلونكم يا معشر المسلمين « حتى يردوكم عن دينكم » أي يصرفوكم عن دين الإسلام و يلجئوكم إلى الارتداد « إن استطاعوا » أي إن قدروا على ذلك « و من يرتدد منكم عن دينه » هذا تحذير عن الارتداد ببيان استحقاق العذاب عليه « فيمت و هو كافر » يعني مات على كفره « فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة » معناه أنها صارت بمنزلة ما لم يكن لإيقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به لأن إحباط العمل و إبطاله عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب و ليس المراد أنهم استحقوا على أعمالهم الثواب ثم انحبط لأنه قد دل الدليل على أن الإحباط على هذا الوجه لا يجوز « و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » أي دائمون .

النظم

نظم الآية و تقديرها يسألونك عن القتال في الشهر الحرام و عند المسجد الحرام فقل ذلك كبير و لكن الكفر بالله و صد المسلمين عن بيت الله و دينه و إخراجهم عن أوطانهم أعظم عند الله و أكبر وزرا و هؤلاء الكفار مع هذه الأفعال يقاتلونكم ليردوكم عن
مجمع البيان ج : 2 ص : 553
الدين فكل واحد من هذا أعظم مما سألوا عنه .
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَهَدُوا فى سبِيلِ اللَّهِ أُولَئك يَرْجُونَ رَحْمَت اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(218)

اللغة

الهجر ضد الوصل يقال هجره يهجره هجرانا و هجرا و هجرة إذا قطع مواصلته و هجر المريض يهجر هجرا إذا قال ما ينبغي أن يهجر من الكلام و سموا المهاجرين لهجرتهم قومهم و أرضهم و إنما أطلق على هؤلاء اللفظ الذي يقع على الاثنين لأن كل واحد من هؤلاء فعل مثل فعل صاحبه و ترك ما تركه اختيارا لصحبة النبي و جاهدت العدو مجاهدة و جهادا إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله و الرجاء الأمل و قوله ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تخافون و قال أبو ذؤيب :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
و خالفها في بيت نوب عوامل أي لم يخف و ذلك أن الرجاء للشيء معه الخوف من أن لا يكون فلذلك سمي الخوف باسم الرجاء .

النزول

نزلت الآية في قصة عبد الله بن جحش و أصحابه لما قاتلوا في رجب و قتل واقد السهمي ابن الخضرمي فظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر فأنزل الله الآية فيهم بالوعد .

المعنى

« إن الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله « و الذين هاجروا » أي قطعوا عشائرهم و فارقوا منازلهم و تركوا أموالهم « و جاهدوا في سبيل الله » أي قاتلوا الكفار في طاعة الله التي هي سبيله المشروعة لعباده و إنما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلها و الترغيب فيها لا لأن الثواب لا يستحق على واحد منها على الانفراد « أولئك يرجون رحمة الله » أي يأملون نعمة الله في الدنيا و العقبي و هي النصرة في الدنيا و المثوبة في العقبي « و الله غفور » يغفر ذنوبهم « رحيم » يرحمهم و إنما ذكر لفظ الرجاء للمؤمنين و إن كانوا يستحقون الثواب قطعا و يقينا لأنهم لا يدرون ما يكون منهم في
مجمع البيان ج : 2 ص : 554
المستقبل الإقامة على طاعة الله أو الانقلاب عنها إلى معصية الله و وجه آخر و هو الصحيح و هو أن يرجوا رحمة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة منها و اخترموا دونها فهم يرجون أن يسقط الله عقابها عنهم تفضلا فأما الوجه الأول فإنما يصح على مذهب من يجوز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه أو يفعل في المستقبل كبيرة تحبط ثواب إيمانه و هذا لا يصح على مذهبنا في الموافاة و قال الحسن أراد به إيجاب الرجاء و الطمع على المؤمنين لأن رجاء رحمة الله من أركان الدين و اليأس من رحمته كفر كما قال « و لا ييأس من روح الله » الآية و الأمن من عذابه خسران كما قال « و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون » فمن الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته و أن لا يأمن من عقوبته و يؤيده قوله تعالى « يحذر الآخرة و يرجوا رحمة ربه » و قوله « يدعون ربهم خوفا و طمعا » و ليس في الآية دلالة على أن من مات مصرا على كبيرة لا يرجو رحمة الله لأمرين ( أحدهما ) أن الدليل المفهوم غير صحيح عند أكثر المحصلين ( و الآخر ) أنه قد يجتمع عندنا الإيمان و الهجرة و الجهاد مع ارتكاب الكبيرة و لا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية له .

النظم

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما ذكر في الأولى العذاب ذكر بعدها الثواب ليكون العبد بين الخوف و الرجاء إذ ذاك أحق بتدبير الحكماء و أوكد في الاستدعاء .
* يَسئَلُونَك عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كبِيرٌ وَ مَنَفِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكبرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَ يَسئَلُونَك مَا ذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِك يُبَينُ اللَّهُ لَكُمُ الاَيَتِ لَعَلَّكمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فى الدُّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ يَسئَلُونَك عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصلاحٌ لَّهُمْ خَيرٌ وَ إِن تخَالِطوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصلِح وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220)

مجمع البيان ج : 2 ص : 555
آيتان في الكوفي و آية واحدة فيما عد الكوفي تتفكرون آية و تركها غيره .

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم إثم كثير بالثاء و الباقون بالباء و قرأ أبو عمرو وحده قل العفو بالرفع و الباقون بالنصب .

الحجة

قال أبو علي حجة من قرأ بالباء أن يقول الباء أولى لأن الكبر مثل العظم و مقابلة الصغر و الكبير العظيم قال تعالى : « و كل صغير و كبير مستطر » و قد استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبيرة كقوله « كبائر ما تنهون عنه » و « كبائر الإثم » فلذلك ينبغي أن يكون قوله « قل فيهما إثم كبير » بالباء لأن شرب الخمر و الميسر من الكبيرة و قالوا في غير الموبق صغير و صغيرة و لم يقولوا قليل و مقابل الكثير القليل كما أن مقابل الكبير الصغير و يدل على ذلك أيضا قوله « و إثمهما أكبر من نفعهما » و اتفاقهم هنا على أكبر و رفضهم لأكثر و وجه من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهم إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة و في الحديث لعن الرسول في الخمر عشرة مشتريها و المشتراة له و عاصرها و المعصورة له و ساقيها و المستقي لها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها فهذا يقوي قراءة من قرأ كثير و أما وجه قول من نصب العفو فهو أن قولهم ما ذا يستعمل على ضربين ( أحدهما ) أن يكون ما مع ذا اسما واحدا ( و الآخر ) أن يكون ذا بمعنى الذي فالأول قول العرب عما ذا تسأل أثبتوا الألف في ما لما كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد فإن الحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخرا و من ذلك قول الشاعر :
يا خزر تغلب ما ذا بال نسوتكم
لا يستفقن إلى الديرين تحتانا أي ما بال نسوتكم فإذا كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد كان قوله « ما ذا ينفقون » في موضع نصب بمنزلة ما ينفقون أي أيا ما ينفقون فجواب هذا العفو بالنصب و أما وجه قول من رفع فهو أن يجعل ما ذا على الضرب الآخر فيكون تقديره ما الذي ينفقون فجوابه العفو على أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي الذي ينفقون العفو و مثله في التنزيل و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين و اعلم أن سيبويه لا يجوز أن يكون ذا بمنزلة الذي إلا في هذا الموضع لما قامت الدلالة على ذلك و الكوفيون يجيزون في غير هذا الموضع
مجمع البيان ج : 2 ص : 556
و يحتجون بقول الشاعر :
عدس ما لعباد عليك إمارة
نجوت و هذا تحملين طليق و بقوله سبحانه و ما تلك بيمينك يا موسى و لا دلالة لهم في الآية فإن قوله بيمينك يجوز أن يكون ظرفا في موضع الحال فلا يكون صلة و كذلك تحملين في البيت و العامل في الحال في الموضعين ما في المبهم من معنى الفعل .

اللغة

الخمر أصله الستر و الخمر ما واراك من الشجر و غيره و منه الخمار للمقنعة و دخل في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم و يقال خامره الداء إذا خالطه قال كثير :
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت و خمرت الإناء أي غطيته و في الحديث كان النبي يسجد على الخمرة و هي السجادة الصغيرة من الحصير سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض قال الزجاج و قد لبس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له أن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له ثم رده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد فقال له :
دع الخمر تشربها الغواة فإنني
رأيت أخاها مجزيا بمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه
أخوها غذته أمه بلبانها و أصل الباب الستر و الميسر القمار اشتق من اليسر و هو وجوب الشيء لصاحبه من قولك يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا و ميسرا إذا وجب لك و الياسر الواجب بقداح وجب لك أو غيره و قيل للمقامر ياسر و يسر قال النابغة :
أو ياسر ذهب القداح بوفره
أسف تأكله الصديق مخلع أي قامر و قيل أخذ من التجزئة لأن كل شيء جزأته فقد يسرته و الياسر الجازر و الميسر الجزور و قيل أخذ من اليسر و هو السهولة لأنهم كانوا يشتركون في الجزور ليسهل
مجمع البيان ج : 2 ص : 557
أمرها إلا أنه على جهة القمار و العفو مأخوذ من الزيادة و منه قيل حتى عفوا أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال الشاعر :
و لكنا يعض السيف منا
بأسوق عافيات الشحم كوم أي زائدات الشحم و قيل هو مأخوذ من الترك من قوله فمن عفي له من أخيه شيء أي ترك و منه قوله عفوت لكم عن صدقة الخيل أي تركتها فيكون العفو المتروك غني عنه و المخالطة مجامعة يتعذر معها التمييز كمخالطة الخل للماء و ما أشبهه و الخليطان الشريكان لاختلاط أموالهما و الخليط : القوم أمرهم واحد و الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا و عنت العظم عنتا أصابه وهن أو كسر بعد جبر و عنت عنتا إذا اكتسب مأثما و تعنته تعنتا إذا لبس عليه في سؤاله له و الأكمه العنوت الطويلة و أصل الباب المشقة و الشدة .

الإعراب

العامل في الظرف من قوله « في الدنيا و الآخرة » قوله « يبين » أي مبين لكم الآيات في أمر الدنيا و الآخرة و يجوز أن يكون تتفكرون أيضا أي تتفكرون في أمر الدنيا و أمر الآخرة و قوله « فإخوانكم » رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف و تقديره فهم إخوانكم و يجوز في العربية فإخوانكم على النصب على تقدير فإخوانكم يخالطون و الوجه الرفع .

النزول

نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا أفتنا في الخمر و الميسر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت الآية .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلى بيان الشرائع و الأحكام فقال « يسألونك » يا محمد « عن الخمر » و هي كل شراب مسكر مخالط للعقل مغط عليه و ما أسكر كثيره فقليله خمر هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا و هو مذهب الشافعي و قيل الخمر عصير العنب إذا اشتد و غلى و هو مذهب أبي حنيفة « و الميسر » و هو القمار كله عن ابن عباس و ابن مسعود و مجاهد و قتادة و الحسن و هو المروي عن أئمتنا حتى قالوا أن لعب الصبيان بالجوز هو القمار « قل فيهما » أي في الخمر و الميسر « إثم كبير » أي وزر عظيم و كثير من الكثرة « و منافع للناس » منفعة الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها و ما يحصل من اللذة و الطرب و القوة بشربها و منفعة القمار هو أن يفوز الرجل بمال صاحبه من غير كد و لا مشقة و يرتفق به الفقراء « و إثمهما أكبر من نفعهما » أي ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع لأن نفعهما في الدنيا و ما يحصل من الإثم بهما يوجب سخط الله في الآخرة فلا
مجمع البيان ج : 2 ص : 558
يظهر في جنبه إلا نفع قليل لا بقاء له قال الحسن في الآية تحريم الخمر من وجهين ( أحدهما ) قوله « و إثمهما أكبر » فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه ( و الثاني ) أنه بين أن فيهما الإثم و قد حرم في آية أخرى الإثم فقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و قيل إن الخمر يسمى إثما في اللغة قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يصنع بالعقول على أنه قد وصف الإثم بأنه كبير و الكبير محرم بلا خلاف و قال الضحاك معناه و إثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما و قال سعيد بن جبير كلاهما قبل التحريم يعني أن الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما و قال قتادة هذه الآية لا تدل على تحريمهما و إنما تدل الآية التي في المائدة من قوله إنما الخمر و الميسر إلى آخرها و قوله « و يسألونك ما ذا ينفقون » أي أي شيء ينفقون و السائل عمرو بن الجموح سأل عن النفقة في الجهاد و قيل في الصدقات « قل العفو » فيه أقوال ( أحدها ) أنه ما فضل عن الأهل و العيال أو الفضل عن الغنى عن ابن عباس و قتادة ( و ثانيها ) أن العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار عن الحسن و عطا و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ( و ثالثها ) أن العفو ما فضل عن قوت السنة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال و نسخ ذلك ب آية الزكاة و به قال السدي ( و رابعها ) أن العفو أطيب المال و أفضله و قوله « كذلك » إنما وحد الكاف لأن الخطاب للنبي و يدخل فيه الأمة و قيل أن تقديره كذلك أيها القبيل « يبين الله لكم الآيات » أي الحجج في أمر النفقة و الخمر و الميسر و قيل في سائر شرائع الإسلام « لعلكم تتفكرون » أي لكي تتفكروا « في الدنيا و الآخرة » أي في أمر الدنيا و أمر الآخرة فتعلمون أن الدنيا دار بلاء و عناء و فناء و الآخرة دار جزاء و بقاء فتزهدوا في هذه و ترغبوا في تلك و قيل أنه من صلة يبين أي كما يبين لكم الآيات في الخمر و الميسر يبين لكم الآيات في أمور الدنيا و الآخرة لكي تتفكروا في ذلك دلالة على أن الله أراد منهم التفكر سواء تفكروا أو لم يتفكروا « و يسألونك عن اليتامى » قال ابن عباس لما أنزل الله و لا تقربوا مال اليتيم الآية و أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه و اشتد ذلك عليهم فسألوا عنه فنزلت هذه الآية و لا بد من إضمار في الكلام لأن السؤال لم يقع عن أشخاص اليتامى و لا ورد الجواب عنها فالمعنى يسألونك عن القيام على اليتامى أو التصرف في أموال اليتامى قل يا
مجمع البيان ج : 2 ص : 559
محمد « إصلاح لهم خير » يعني إصلاح لأموالهم من غير أجرة و لا أخذ عوض منهم خير و أعظم أجرا « و إن تخالطوهم » أي تشاركوهم في أموالهم و تخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم « فإخوانكم » أي فهم إخوانكم و الإخوان يعين بعضهم بعضا و يصيب بعضهم من مال بعض و هذا إذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل و المشرب و المسكن و نحو ذلك و رخصة لهم في ذلك إذا تحروا الصلاح بالتوفير على الأيتام عن الحسن و غيره و هو المروي في أخبارنا « و الله يعلم المفسد من المصلح » معناه و الله يعلم من كان غرضه من مخالطة اليتامى إفساد مالهم أو إصلاح مالهم « و لو شاء الله لأعنتكم » أي لضيق عليكم في أمر اليتامى و مخالطتهم و ألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم و قال الزجاج معناه لكلفكم ما يشق عليكم فتعنتون و لكنه لم يفعل و في هذا دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه إذا لم يشأ إعناتهم و لو أعنتهم لكان جائزا حسنا لكنه وسع عليهم لما في التوسعة من النعمة فكيف يصح أن يشاء تكليف ما لا يطاق و كيف يكلف ما لا سبيل للمكلف إليه و يأمره بما لا يتصور إحداثه من جهته و أي عنت أعظم من هذا قال البلخي و فيه أيضا دلالة على فساد مذهب من قال أنه تعالى لا يقدر على الظلم لأن الإعنات بتكليف ما لا يجوز في الحكمة مقدور و لو شاء لفعله « إن الله عزيز » يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه دافع « حكيم » في تدبيره و أفعاله ليس له عما توجبه الحكمة مانع .
وَ لا تَنكِحُوا الْمُشرِكَتِ حَتى يُؤْمِنَّ وَ لأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكَة وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنكِحُوا الْمُشرِكِينَ حَتى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِك وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئك يَدْعُونَ إِلى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَينُ ءَايَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)

اللغة

النكاح اسم يقع على العقد و الوطء و قيل أن أصله الوطء ثم كثر حتى قيل للعقد نكاح كما أن الحدث يسمى عذرة و هي اسم للفناء و يسمى غائطا و هو اسم للمكان
مجمع البيان ج : 2 ص : 560
المطمئن يقال نكح ينكح نكاحا إذا تزوج و أنكحه غيره زوجه و الأمة المملوكة يقال أمة بينة الأموة و أميت فلانة و تأميتها إذا جعلتها أمة و أصل أمة فعلة بدلالة قولهم في جمعها إماء و آم نحو أكمة و إكام و آكم .

الإعراب

يؤمن في محل النصب بأن مضمرة و أن يؤمن في موضع جر بحتى و حتى يتعلق بتنكح و من مشركة من يتعلق بخير و الجار و المجرور في محل النصب بأنه مفعول به و لو أعجبتكم جواب لو محذوف تقديره و لو أعجبتكم أمة مشركة لأمة مؤمنة خير منها و لا تنكحوا المشركين المفعول الثاني محذوف تقديره و لا تنكحوا المشركين الأزواج حتى يؤمنوا و إعراب قوله « حتى يؤمنوا » و قوله « و لو أعجبكم » مثل ما قلناه في حتى يؤمن و لو أعجبتكم .

النزول

نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين و كان قويا شجاعا فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها فأبى و كانت خلة في الجاهلية فقالت هل لك أن تتزوج بي فقال حتى أستأذن رسول الله فلما رجع استأذن في التزوج بها فنزلت الآية .

المعنى

لما تقدم ذكر المخالطة بين تعالى من يجوز مخالطته بالنكاح فقال « و لا تنكحوا المشركات » أي لا تتزوجوا النساء الكافرات « حتى يؤمن » أي يصدقن بالله و رسوله و هي عامة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار من أهل الكتاب و غيرهم و ليست بمنسوخة و لا مخصوصة و اختلفوا فيه فقال بعضهم لا يقع اسم المشركات على أهل الكتاب و قد فصل الله بينهما فقال لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين و ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين و عطف أحدهما على الآخر فلا نسخ في الآية و لا تخصيص و قال بعضهم الآية متناولة جميع الكفار و الشرك يطلق على الكل و من جحد نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقد أنكر معجزه و أضافه إلى غير الله و هذا هو الشرك بعينه لأن المعجز شهادة من الله له بالنبوة ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال أن الآية منسوخة في الكتاب بالآية التي في المائدة و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و منهم من قال أنها مخصوصة بغير الكتابيات عن قتادة و سعيد بن جبير و منهم من قال أنها على ظاهرها في تحريم نكاح كل كافرة كتابية كانت أو مشركة عن ابن عمر
مجمع البيان ج : 2 ص : 561
و بعض الزيدية و هو مذهبنا و سيأتي بيان آية المائدة في موضعها إن شاء الله « و لأمة مؤمنة خير من مشركة » معناه مملوكة مصدقة مسلمة خير من حرة مشركة « و لو أعجبتكم » و لو أعجبتكم بمالها أو حسبها أو جمالها و ظاهر هذا يدل على أنه يجوز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول فأما قوله فمن لم يستطع منكم طولا الآية فإنما هي على التنزيه دون التحريم « و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا » معناه و لا تنكحوا النساء المسلمات جميع الكفار من أهل الكتاب و غيرهم حتى يؤمنوا و هذا يؤيد قول من يقول أن قوله « و لا تنكحوا المشركات » يتناول جميع الكافرات و قوله « و لعبد مؤمن خير من مشرك » أي عبد مصدق مسلم خير من حر مشرك و لو أعجبكم ماله أو حاله أو جماله و الفرق بين و لو أعجبكم و بين و إن أعجبكم أن لو للماضي و إن للمستقبل و كلاهما يصح في معنى الآية و هو من العجب الذي هو بمعنى الاستعظام و ليس من التعجب « أولئك » يعني المشركين « يدعون إلى النار » يعني إلى الكفر و المعاصي التي هي سبب دخول النار و هذا مثل التعليل لأن الغالب أن الزوج يدعو زوجته إلى دينه « و الله يدعو إلى الجنة » أي إلى فعل ما يوجب الجنة « و المغفرة » من الإيمان و الطاعة « بإذنه » أي بأمره يعني بما يأمر و يأذن فيه من الشرائع و الأحكام عن الحسن و الجبائي و قيل بإعلامه و قوله « و يبين آياته للناس » أي حججه و قيل أوامره و نواهيه و ما يحظره و يبيحه للناس « لعلهم يتذكرون » أي لكي يتذكروا أو يتعظوا .
وَ يَسئَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فى الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتى يَطهُرْنَ فَإِذَا تَطهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْث أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يحِب التَّوَّبِينَ وَ يحِب الْمُتَطهِّرِينَ(222)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص حتى يطهرن بتشديد الطاء و الهاء و الباقون بالتخفيف .

الحجة

من قرأ « يطهرن » فإنه من طهرت المرأة و طهرت طهرا و طهارة و طهرت بالفتح أقيس لأنه خلاف طمثت فينبغي أن يكون على بنائه و أيضا فقولهم طاهر يدل على أنه مثل قعد فهو قاعد و من قرأ يطهرن فإنه يتطهرن فأدغم التاء في الطاء .

اللغة

حاضت المرأة تحيض حيضا و محيضا و محاضا و المصدر من هذا الباب
مجمع البيان ج : 2 ص : 562
المفعل و المفعل جائز فيه قال الراعي :
بنيت مرافقهن فوق مزلة
لا يستطيع بها القراد مقيلا أي قيلولة و امرأة حائض و نساء حيض و الاعتزال التنحي عن الشيء و كل شيء نحيته عن موضع فقد عزلته عنه و منه عزل الوالي و أنت عن هذا بمعزل أي متنحي و عزلاء المزادة مخرج الماء من إحدى جانبيها و الجمع عزال و المعزال من الناس الذي لا ينزل مع القوم في السفر لكنه ينزل ناحية و الطهر خلاف الدنس و الطهور يكون اسما و يكون صفة فإذا كان اسما كان على ضربين ( أحدهما ) أن يكون مصدرا كما حكاه سيبويه تطهرت طهورا حسنا و توضأت وضوءا ( و الآخر ) أن يكون اسما ليس بمصدر كما جاء في قوله ( طهورا ناء أحدكم ) كذا و هو اسم لما يطهر كالفطور و الوجور و السعوط و السحور و أما كونه صفة فهو في قوله « و أنزلنا من السماء ماء طهورا » فهذا كالرسول و العجوز و نحو ذلك من الصفات التي جاءت على فعول و لا دلالة فيه على التكرير لما لم يكن متعديا نحو ضروب أ لا ترى أن فعله غير متعد كما يتعدى ضربت و من الصفة قوله هو الطهور ماؤه لأنه ارتفع به الماء كما يرتفع الاسم بالصفة المتقدمة .

الإعراب

من حيث جار و مجرور و لكن حيث مبني لا يظهر فيه الإعراب و إنما بني لمشابهة الحرف لأنه لا يفيد إلا مع غيره كالحرف و من يتعلق بقول « فأتوهن من حيث أمركم الله » جملة في محل الجر بإضافة حيث إليه .

النزول

قيل كانوا في الجاهلية يتجنبون مؤاكلة الحائض و مشاربتها و مجالستها فسألوا عن ذلك فنزلت الآية عن الحسن و قتادة و الربيع و قيل كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض فلما سألوا عنه بين لهم تحريمه عن مجاهد و الأول عندنا أقوى .

المعنى

ثم بين سبحانه شريعة أخرى فقال « و يسألونك » يا محمد و السائل أبو الدحداح فيما قيل « عن المحيض » أي عن الحيض و أحواله « قل » يا محمد « هو أذى » معناه قذر و نجس عن قتادة و السدي و قيل دم عن مجاهد و قيل هو أذى لهن و عليهن لما فيه من المشقة قاله القاضي « فاعتزلوا النساء في المحيض » أي اجتنبوا مجامعتهن
مجمع البيان ج : 2 ص : 563
في الفرج عن ابن عباس و عائشة و الحسن و قتادة و مجاهد و هو قول محمد بن الحسن و يوافق مذهبنا أنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط و قيل يحرم ما دون الإزار و يحل ما فوقه عن شريح و سعيد بن المسيب و هو قول أبي حنيفة و الشافعي « و لا تقربوهن » بالجماع أو ما دون الإزار على الخلاف فيه « حتى يطهرن » بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن و بالتشديد معناه يغتسلن عن الحسن و يتوضأن عن مجاهد و طاووس و هو مذهبنا « فإذا تطهرن » أي اغتسلن و قيل توضأن و قيل غسلن الفرج « فأتوهن » فجامعوهن و هو إباحة و إن كان صورته صورة الأمر كقوله و إذا حللتم فاصطادوا « من حيث أمركم الله » معناه من حيث أمركم الله تجنبه في حال الحيض و هو الفرج عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الربيع و قيل من قبل الطهر دون الحيض عن السدي و الضحاك و قيل من قبل النكاح دون الفجور عن ابن الحنفية و الأول أليق بالظاهر قال الزجاج معناه من الجهات التي تحل فيها أن تقرب المرأة و لا تقربوهن من حيث لا يحب أي لا تقربوهن و هن صائمات أو محرمات أو معتكفات و قال الفراء و لو أراد الفرج لقال في حيث فلما قال من حيث علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها و قال غيره إنما قال من حيث لأن من لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك أنت زيدا من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه « إن الله يحب التوابين » من الذنوب « و يحب المتطهرين » قيل معناه المتطهرين بالماء عن عطا و قد رواه أصحابنا أيضا في سبب نزول الآية و قيل يحب المتطهرين من الذنوب عن سعيد بن جبير و لم يذكر المتطهرات لأن المؤنث يدخل في المذكر و قيل التوابين من الكبائر و المتطهرين من الصغائر و في هذه الآية دلالة على وجوب اعتزال المرأة في حال الحيض و فيها ذكر غاية التحريم و يشتمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض و أقله و أكثره و عندنا أقله ثلاثة أيام و أكثره عشرة أيام و هو قول أهل العراق و عند الشافعي و أكثر أهل المدينة أقله يوم و ليلة و أكثره خمسة عشر يوما و ثانيها حكم الوطء في حال الحيض فإن عندنا إن كان في أوله يلزمه دينار و إن كان في وسطه فنصف دينار و إن كان في آخره فربع دينار و قال ابن عباس عليه دينار و لم يفصل و قال الحسن يلزمه بدنة أو رقبة أو عشرون صاعا و ثالثها غاية تحريم الوطء و اختلف فيه فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدم و منهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها عن عطا و طاووس و هو مذهبنا و إن كان المستحب أن لا يقربها إلا بعد الغسل و منهم من قال إذا انقطع دمها فاغتسلت حل وطؤها عن الشافعي و منهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج و إن كان دون العشرة فلا يحل وطؤها
مجمع البيان ج : 2 ص : 564
إلا بعد الغسل أو التيمم أو مضي وقت الصلاة عليها عن أبي حنيفة .
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لأَنفُسِكمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكم مُّلَقُوهُ وَ بَشرِ الْمُؤْمِنِينَ(223)

الإعراب

أنى في محل النصب لأنه ظرف مكان إذا كان بمعنى حيث أو أين أو ظرف زمان إذا كان بمعنى متى و العامل فيه فأتوا و شئتم جملة فعلية في موضع الجر بإضافة الظرف إليها و إذا كان أنى بمعنى كيف فهو في محل النصب على المصدر و لا محل لشئتم و تقديره فأتوا حرثكم أي نوع شئتم .

النزول

قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا أن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول فكذبهم الله عن ابن عباس و جابر و قيل أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة و باركة فأنزل الله إباحته عن الحسن .

المعنى

لما بين تعالى أحوال النساء في الطهر و الحيض عقب ذلك بقوله « نساؤكم حرث لكم » و فيه وجهان - أحدهما - أن معناه مزدرع لكم و محترث لكم عن ابن عباس و السدي - ( و الثاني ) - إن معناه ذوات حرث لكم منهن تحرثون الولد و اللذة فحذف المضاف و هذا في المعنى مثل الأول عن الزجاج و قال أبو عبيدة كنى بالحرث عن الجماع و الثالث معناه كحرث لكم فحذف كاف التشبيه كما قال الشاعر :
النشر مسك و الوجوه دنا
نير و أطراف الأكف عنم و قد سمى العرب النساء حرثا قال المفضل بن سلمة أنشدني أبي :
إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثي همه أكل الجراد يريد امرأتي « فأتوا حرثكم » أي موضع حرثكم يعني نساءكم « أنى شئتم » معناه من أين شئتم عن قتادة و الربيع قيل كيف شئتم عن مجاهد و قيل متى شئتم عن الضحاك و هذا خطأ عند أهل اللغة لأن أنى لا يكون إلا بمعنى من أي كما قال أنى لك هذا و قيل معناه من أي وجه و استشهد بقول الكميت :
أنى و من أين آبك الطرب
من حيث لا صبوة و لا ريب
مجمع البيان ج : 2 ص : 565
و ليس في البيت شاهد لهم لأنه لا يجوز أن يكون أتى به لاختلاف اللفظين كما يقولون متى كان هذا و أي وقت كان و يجوز أن يكون بمعنى كيف و استدل مالك بقوله « أنى شئتم » على جواز إتيان المرأة في دبرها و رواه عن نافع عن ابن عمر و حكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر و به قال كثير من أصحابنا و خالف في ذلك جميع الفقهاء و قالوا أن الحرث لا يكون إلا بحيث النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل فأجيبوا عن ذلك بأن النساء و إن كن لنا حرثا فقد أبيح لنا وطؤهن بلا خلاف في غير موضع الحرث كالوطء فيما دون الفرج و ما أشبهه و قوله « و قدموا لأنفسكم » معناه قدموا الأعمال الصالحة التي أمرتم بها و رغبتم فيها لتكون ذخرا لكم عند الله و وجه اتصاله بما قبله أنه لما تقدم الأمر بعدة أشياء قال بعدها و قدموا لأنفسكم بالطاعة فيما أمرتم به « و اتقوا الله » و اتقوا عقاب الله بترك مجاوزة الحد فيما بين لكم و في ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه و التحذير من مخالفة ما ألزموه و قيل معنى التقديم هنا طلب الولد فإن في اقتناء الولد الصالح يكون تقديما عظيما لقوله إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث ولد صالح يدعو له و صدقة جارية و علم به ينتفع بعد موته و قيل هو تقديم الإفراط لقوله من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم فقيل يا رسول الله و اثنان قال و اثنان و قيل هو التسمية عند الجماع عن عطاء و قيل هو الدعاء عند الجماع عن مجاهد و يؤيده ما روي عن ابن عباس قال قال النبي إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل بسم الله اللهم جنبني الشيطان و جنب الشيطان ما رزقتنا فإن قدر بينهما ولد لم يضره شيطان و قيل هو التزوج بالعفائف ليكون الولد طاهرا صالحا « و اعلموا أنكم ملاقوه » أي ملاقوا جزائه يعني ثوابه إن أطعتموه و عقابه إن عصيتموه و إنما أضافه إليه على ضرب من المجاز « و بشر المؤمنين » بالثواب و الجنة و لا يصح حمل اللقاء على الرؤية لأن لفظ اللقاء يقع على معان مختلفة يقال لقي جهده و لقي حمامه و لأن في الآية إثبات اللقاء لجميع العباد و هذا خلاف ما ذهب إليه أهل التشبيه .
وَ لا تجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضةً لأَيْمَنِكمْ أَن تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصلِحُوا بَينَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ(224)

مجمع البيان ج : 2 ص : 566

اللغة

يقال لكل من يصلح للشيء هو عرضة له و المرأة عرضة للنكاح و الدابة المعدة للسفر عرضة له و قال الشاعر :
فهذي لأيام الحروب و هذه
للهوي و هذي عرضة لارتحالنا أي عدة و قال أبو العباس العرضة الاعتراض في الخير و الشر و اليمين و القسم و الحلف واحد و قيل أخذ من القوة لأنه يتقوى به على ما يحلف عليه و منه قوله تلقاها عرابة باليمين و قيل أخذ من الجراحة لأنهم كانوا عند الأيمان يضربون أيديهم على أيديهم فسمي الحلف بذلك و قيل أخذ من اليمن الذي هو البركة لأنه عقد خير يتبرك بذكره للتأكيد .

الإعراب

قوله « أن تبروا » في موضعه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أن موضعه جر بحذف اللام عن الخليل قال أبو علي جاز أن يكون المصدر الذي هو أن مع الفعل في موضع جر و إن لم يجز ذلك في غير أن لأمرين ( أحدهما ) أن الكلام قد طال بالصلة فحسن الحذف ( و الآخر ) أن أن حرف و إذا حذف اللام صار كان حرفا كان قد أقيم مقام حرف فعاقبه فلهذا حسن حذف اللام مع أن دون المصدر غير الموصول في اللفظ بالفعل و أقول عنى بذلك أنك إذا قلت جئتك لضرب زيد لم يجز أن تحذف اللام فتقول جئتك ضرب زيد و إذا قلت جئتك لأن تضرب زيدا جاز أن تحذف اللام فتقول جئتك أن تضرب زيدا ( و الثاني ) أن موضعه النصب لأنه لما حذف الجار وصل الفعل و هو قول سيبويه و هو القياس و أقول على القولين جميعا فيكون تقديره لأن لا تبروا على النفي أو لأن تبروا على الإثبات فعلى القول الأول و هو النفي يكون في موضع النصب بأنه مفعول له و على القول الثاني و هو الإثبات يجوز أن يكون مفعولا له و يجوز أن يكون في محل النصب على الحال و العامل فيه ما في قوله « لأيمانكم » من معنى الفعل تقديره لا تجعلوا الله عرضه لأيمانكم كائنة لأن تبروا أي لبركم و ذو الحال الإيمان ( و الثالث ) ما قاله قوم أن موضعه رفع تقديره أن تبروا و تتقوا أولى فحذف الخبر الذي هو أولى لأنه معلوم المعنى .

النزول

نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه و لا يكلمه و لا يصلح بينه و بين امرأته فكان يقول إني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله فنزلت الآية .

المعنى

لما بين سبحانه أحوال النساء و ما يحل منهن عقبه بذكر الإيلاء و هو
مجمع البيان ج : 2 ص : 567
اليمين التي تحرم الزوجة فابتدأ بذكر الأيمان أولا تأسيسا لحكم الإيلاء فقال « و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » و في معناه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أن معناه لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة لكم من البر و التقوى من حيث تعتمدونها لتعتلوا بها و تقولوا حلفنا بالله و لم تحلفوا به عن الحسن و طاووس و قتادة و أصله في هذا الوجه الاعتراض الذي هو المانع بينكم و بين البر و التقوى لأن المعترض بين الشيئين يكون مانعا من وصول أحدهما إلى الآخر فالعلة مانعة كهذا المعترض ( و الثاني ) أن عرضة معناه حجة فكأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع من البر و التقوى فإن كان قد سلف منكم يمين ثم ظهر أن غيرها خير منها فافعلوا الذي هو خير و لا تحتجوا بما قد سلف من اليمين عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و أصله في هذا القول و الأول واحد لأنه منع من جهة الاعتراض لعلة أو حجة ( و الثالث ) أن معناه لا تجعلوا اليمين بالله عدة مبتذلة في كل حق و باطل لأن تبروا في الحلف بها و تتقوا المأثم فيها عن عائشة لأنها قالت لا تحلفوا به و إن بررتم و به قال الجبائي و أبو مسلم و هو المروي عن أئمتنا نحو ما رواه عثمان بن عيسى عن أبي أيوب الخزاز قال سمعت أبا عبد الله يقول لا تحلفوا بالله صادقين و لا كاذبين فإنه سبحانه يقول « و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » قال أبو مسلم و من أكثر ذكر شيء في معنى فقد جعله عرضة له و تقول جعلتني عرضة لقومك قال الشاعر :
و لا تجعليني عرضة للوائم و تقديره على الوجه الأول و الثاني لا تجعلوا الله مانعا من البر و التقوى باعتراضك به حالفا و على الوجه الثالث لا تجعلوا الله مما تحلف به دائما باعتراضك بالحلف به في كل حق و باطل و قوله « أن تبروا » قيل في معناه أقوال ( الأول ) لأن تبروا على معنى الإثبات أي لأن تكونوا بررة أتقياء فإن من قلت يمينه كان أقرب إلى البر ممن كثرت يمينه و قيل لأن تبروا في اليمين ( و الثاني ) أن المعنى لدفع أن تبروا أو لترك أن تبروا فحذف المضاف عن المبرد ( و الثالث ) أن معناه أن لا تبروا فحذف لا عن أبي عبيدة قال و قد حذف لا لأنه في معنى القسم كقول امرىء القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا أي لا أبرح و أنكر المبرد هذا لأنه لما كان معه أن بطل أن يكون جوابا للقسم و إنما يجوز و الله أقوم في القسم بمعنى لا أقوم لأنه لو كان إثباتا لقال لأقومن باللام و النون و المعنى في قول أبي العباس و أبي عبيدة واحد و التقدير مختلف « و تتقوا » أي تتقوا الإثم و المعاصي في الأيمان « و تصلحوا بين الناس » في الإيمان و تصلحوا بين الناس عطف على ما سبق و معناه و لا تجعلوا الحلف
مجمع البيان ج : 2 ص : 568
بالله علة أو حجة في أن لا تبروا و لا تتقوا و لا تصلحوا لكي تكونوا من البررة و الأتقياء و المصلحين بين الناس أو لدفع أن تبروا و تتقوا و تصلحوا و على الوجه الثالث لا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة لأن تبروا و تتقوا و تصلحوا أي بين الناس فإن من كثرت يمينه لا يوثق بحلفه و من قلت يمينه فهو أقرب إلى التقوى و الإصلاح بين الناس « و الله سميع » لأقوالكم « عليم » بما في ضمائركم لا يخفى عليه من ذلك خافية و في هذه الآية دلالة على أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فله أن ينقض يمينه و يفعل الذي هو خير و هل يجب عليه الكفارة فيه خلاف فعند أكثر الفقهاء يجب عليه الكفارة و لا كفارة عليه عندنا و من أقسم على غيره ليفعل فعلا أو ليمتنع عن فعل و لا يبالي بذلك قال بعضهم أن المقسم عليه لا يأثم بذلك و الصحيح أن المقسم عليه يأثم لقول النبي من سألكم بالله فأعطوه و من استعاذكم بالله فأعيذوه .
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فى أَيْمَنِكُمْ وَ لَكِن يُؤَاخِذُكُم بمَا كَسبَت قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225)

اللغة

أصل اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه يقال لغا يلغو لغوا إذا أتى بكلام لا فائدة فيه و ألغى الكلمة إذا طرحها لأنه لا فائدة فيها و اللاغية الكلمة القبيحة الفاحشة و منه اشتقاق اللغة لأنها كلام لا فائدة فيه عند غير أهله و لغو الطائر منطقه قال ثعلبة بن صعير المازني :
باكرتهم بسباء جون ذارع
قبل الصباح و قبل لغو الطائر و اللغا الذكر بالكلام القبيح لغي يلغى لغى و أصل الحلم الأناة و هو في صفته تعالى الإمهال بتأخير العقاب على الذنب .

الإعراب

« في أيمانكم » في موضع الحال و العامل فيه يؤاخذ و ذو الحال اللغو « بما كسبت » يجوز أن يكون ما اسما موصولا و يجوز أن يكون حرفا موصولا .

المعنى

ثم بين سبحانه أقسام اليمين فقال « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » اختلفوا في يمين اللغو فقيل هو ما يجري على عادة الناس من قول لا و الله و بلى و الله من غير عقد على يمين يقتطع بها مال و لا يظلم بها أحد عن ابن عباس و عائشة
مجمع البيان ج : 2 ص : 569
و الشعبي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله و هو قول الشافعي و قيل هو أن يحلف و هو يرى أنه صادق ثم تبين أنه كاذب فلا إثم عليه و لا كفارة عن الحسن و مجاهد و قتادة و غيرهم و هو قول أبي حنيفة و أصحابه و قيل هو يمين الغضبان لا يؤاخذكم بالحنث فيها عن ابن عباس أيضا و طاووس و به قال سعيد بن جبير إلا أنه أوجب فيها الكفارة و قال مسروق كل يمين ليس له الوفاء فهي لغو و لا يجب فيها كفارة « و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » أي بما عزمتم و قصدتم لأن كسب القلب العقد و النية و فيه حذف أي من أيمانكم و قيل بأن تحلفوا كاذبين أو على باطل عن إبراهيم « و الله غفور » يغفر الذنوب « حليم » يمهل العقوبة على الذنب و لا يعجل بها .
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسائهِمْ تَرَبُّص أَرْبَعَةِ أَشهُر فَإِن فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطلَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سمِيعٌ عَلِيمٌ(227)

اللغة

آلى الرجل من امرأته يؤلي إيلاء من الألية و الألوة و هي الحلف قال الشاعر :
كفينا من تغيب من نزار
و أحنثنا إليه مقسمينا و ائتلى و تألى بمعناه و في التنزيل « و لا يأتل أولوا الفضل منكم » و قرأ و لا يتأل و جمع الألية ألايا و أليات كعشية و عشايا و عشيات و جمع الألوة الأييي كركوبة و ركائب و التربص الانتظار و يقال تربصت به قال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوما أو يموت حليلها و الفيء الرجوع يقال فاء يفيء فيئا إذا رجع و فاء الفيء إذا تحول عن جهة الغداة برجوع الشمس عنه و الفرق بين الفيء و الظل ما قال المبرد أن الفيء ما نسخ الشمس لأنه هو الراجع و الظل ما لا شمس فيه و كل فيء ظل و ليس كل ظل فيئا و أهل الجنة في ظل لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 570
في فيء لأن الجنة لا شمس فيها و في التنزيل و ظل ممدود و جمع الفيء أفياء و الفيء غنائم المشركين أفاء الله علينا منهم و هو من رجوع الشيء إلى حقه و فلان سريع الفيء من غضبه أي الرجوع و العزم هو العقد على فعل شيء في مستقبل الأوقات و هو إرادة متقدمة للفعل بأكثر من وقت واحد يتعلق بفعل اللازم يقال عزم على الشيء يعزم عزما و اعتزم و عزمت عليك لتفعلن أي أقسمت و عزم الراقي كأنه أقسم على الداء و ما لفلان عزيمة أي ما يثبت على شيء لتلونه و عزائم القرآن التي تقرأ على ذوي الآفات لما يرجى من البرء بها و الطلاق حل عقد النكاح بسبب من جهة الرجل و امرأة طالق زعم قوم أن تاء التأنيث إنما حذفت لأنه لا حظ فيه للمذكر و هذا ليس بشيء لأن في الكلام أشياء كثيرة يشترك فيها المذكر و المؤنث لا يثبت فيها الهاء في المؤنث يقال بعير ضامر و ناقة ضامر و أمثاله كثيرة و قال سيبويه أنه وقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث لأن المعنى شيء طالق و حقيقته أنه على جهة النسب نحو قولهم امرأة مطفل أي ذات طفل و طالق أي ذات طلاق فإذا أجريته على الفعل قلت طالقة قال الأعشى :
أيا جارتي بيني فإنك طالقة
كذاك أمور الناس غاد و طارقة و أصل الطلاق من الانطلاق و طلقت المرأة عند الولادة فهي مطلوقة إذا تمخضت و الطلق الشوط من الجري و الطلق الحبل الشديد الفتل و السميع من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المسموعات إذا وجدت و هي ترجع إلى كونه حيا لا آفة به و السامع المدرك و يوصف القديم سبحانه في الأزل بأنه سميع و لا يوصف في الأزل بأنه سامع إنما يوصف به إذا وجدت المسموعات .


الإعراب

يجوز في « أربعة أشهر » ثلاثة أوجه الجر على الإضافة و عليه القراءة و هذه الإضافة غير حقيقية فإن الأربعة في محل النصب و إن كان مجرور اللفظ و يجوز في العربية الرفع و النصب « تربص أربعة أشهر » كقوله فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله و مثله فجزاء مثل ما قتل من النعم و تربص أربعة أشهر كقوله « أ لم نجعل الأرض كفاتا أحياء و أمواتا » أي تكفتكم أحياء و أمواتا .

المعنى

ثم بين تعالى حكم الإيلاء لأنه من جملة الأيمان و الأقسام و شريعة من شرائع الإسلام فقال « للذين يؤلون » أي يحلفون و فيه حذف أي أن يعتزلوا عن وطء
مجمع البيان ج : 2 ص : 571
نسائهم على وجه الإضرار بهن « تربص أربعة أشهر » أي التوقف و التثبت في أربعة أشهر و اليمين التي يكون الرجل بها موليا هي اليمين بالله عز و جل أو بشيء من صفاته التي لا يشاركه فيها أحد غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه و يكون الحلف على الامتناع من الجماع على وجه الغضب و الضرار و هو المروي عن علي و ابن عباس و الحسن و قيل في الغضب و الرضا عن إبراهيم و الشعبي و جماعة من الفقهاء و قيل هو في الجماع و غيره من الضرار نحو أن يحلف لا يكلمها عن سعيد بن المسيب « فإن فاءوا » أي رجعوا إلى أمر الله بأن يجامعوا عند القدرة عليه أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع عن ابن عباس و مسروق و سعيد بن المسيب و هو مذهبنا و به قال أبو حنيفة و أصحابه و قيل يكون فائيا بالعزم في حال العذر إلا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه عن الحسن و إبراهيم و علقمة و هذا يكون عندنا للعاجز عن الجماع و يجب على الفائي عندنا كفارة و لا عقوبة عليه و به قال ابن عباس و سعيد بن المسيب و قتادة و قال الحسن و إبراهيم لا كفارة عليه و لا عقوبة لقوله « فإن الله غفور رحيم » و معنى غفور عندنا أنه لا يتبعه بعقوبة و من حلف أن لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا و من حلف أن لا يقربها و هي مرضعة مخافة أن تحبل فيضر ذلك بولدها لا يلزمه حكم الإيلاء و إذا مضت أربعة أشهر و لم يجامع ألزمه الحاكم إما الرجوع و الكفارة و إما الطلاق فإن امتنع حبسه حتى يفيء أو يطلق « و إن عزموا الطلاق » عزيمة الطلاق عندنا أن يعزم ثم يتلفظ بالطلاق و متى لم يتلفظ بالطلاق على الوجه المشروع فإن المرأة لا تبين منه إلا أن تستعدي فإن استعدت و أنظره الحاكم أربعة أشهر فإنه يوقف عند الأشهر الأربعة و يقال له فيء أو طلق فإن لم يفعل حبسه حتى يطلق و به قال الشافعي إلا أنه قال متى امتنع من الطلاق و الفئة طلق عنه الحاكم طلقة رجعية و قال أبو حنيفة و أصحابه إذا مضت أربعة أشهر و لم يفيء بانت منه بتطليقة و لا رجعة له عليها و عليها العدة يخطبها في العدة و لا يخطبها غيره « فإن الله سميع عليم » يسمع قوله و يعلم ضميره و قيل يسمع إيلاءه و يعلم نيته و إنما ذكر عقيب الأول « فإن الله غفور رحيم » لأنه لما أخبر عن المولى أنه يلزمه الفيء أو الطلاق بين أنه إن فاء فإن الله غفور رحيم بأن يقبل رجوعه و لا يتبعه بعقاب ما ارتكبه و ذكرها هنا أنه سميع عليم لما أخبر عنه بإيقاع الطلاق و كان ذلك مما يسمع أخبر بأنه لا يخفى عليه و أنه يسمعه فكل لا يليق إلا بموضعه و ذلك من عظيم فصاحة القرآن .

مجمع البيان ج : 2 ص : 572
وَ الْمُطلَّقَت يَترَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء وَ لا يحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ بُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فى ذَلِك إِنْ أَرَادُوا إِصلَحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيهِنَّ بِالمَْعْرُوفِ وَ لِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228)

اللغة

القروء جمع قرء و جمعه القليل أقرؤ و الكثير أقراء و قروء و صار بناء الكثير فيه أغلب في الاستعمال يقال ثلاثة قروء مثل ثلاثة شسوع استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل و وجه آخر و هو أنه لما كانت كل مطلقة يلزمها هذا دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة للإشعار بذلك فالقروء كثيرة إلا أنها ثلاثة في ثلاثة في القسمة و هذا الحرف من الأضداد و أصله في اللغة يحتمل وجهين ( أحدهما ) الاجتماع و منه قرأت القرآن لاجتماع حروفه و ما قرأت الناقة سلا قط أي لم يجتمع رحمها على ولد قط قال عمرو بن كلثوم :
ذراعي عيطل أدماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا فعلى هذا يقال أقرأت المرأة فهي مقرىء إذا حاضت و أنشد :
له قروء كقروء الحائض و ذلك لاجتماع الدم في الرحم و يجيء على هذا أن يكون القرء الطهر لاجتماع الدم في جملة البدن ( و الوجه الثاني ) أن أصل القرء الوقت الجاري في الفعل على عادة و هو يصلح للحيض و الطهر يقال هذا قارىء الرياح أي وقت هبوبها قال الشاعر :
شنئت العقر عقر بني شليل
إذا هبت لقاريها الرياح أي لوقت هبوبها و شدة بردها و الذي يدل على أن القرء الطهر قول الأعشى :
و في كل عام أنت جاشم غزوة
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا و في الأرض رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا فالذي ضاع هاهنا الأطهار لا الحيض و البعولة جمع بعل و يقال بعل يبعل بعولة و هو
مجمع البيان ج : 2 ص : 573
بعل و سمي الزوج بعلا لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها و قوله « أ تدعون بعلا » أي ربا و قيل أنه صنم و البعل النخل يشرب بعروقه لأنه مستعل على شربه و بعل الرجل بأمره إذا ضاق به ذرعا لأنه علاه منه ما ضاق به ذرعه و بعل الرجل بطر لأنه استعلى تكبرا و امرأة بعلة لا تحسن لبس الثياب لأن الحيرة تستعلي عليها فتدهشها و الرجال جمع رجل يقال رجل بين الرجلة أي القوة و هو أرجلهما أي أقواهما و فرس رجيل قوي على المشي و سميت الرجل رجلا لقوتها على المشي و رجل من جراد أي قطعة منه تشبيها بالرجل لأنها قطعة من الجملة و الراجل الذي يمشي على رجله و ارتجل الكلام ارتجالا لأنه قوي عليه من غير ركوب فكرة و ترجل النهار لأنه قوي ضياءه بنزول الشمس إلى الأرض و رجل شعره إذا طوله و أصل الباب القوة و الدرجة المنزلة .

الأعراب

« إن كن يؤمن بالله » جواب الشرط محذوف و تقديره إن كن يؤمن بالله لا يكتمن و كذلك جواب الشرط من قوله تعالى « إن أرادوا إصلاحا » محذوف و تقديره إن أرادوا إصلاحا فبعولتهن أحق بردهن « مثل الذي عليهن » إضافة مثل غير حقيقية لأن الذي عليهن مفعوله .

المعنى

ثم بين سبحانه حكم المطلقات و الطلاق فقال « و المطلقات » أي المخليات عن حبال الأزواج بالطلاق و إنما يعني المطلقات المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل لأن في الآية بيان عدتهن « يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » معناه ينتظرن بأنفسهن انقضاء ثلاثة قروء فلا يتزوجن لفظه خبر و معناه أمر و المراد بالقروء الأطهار عندنا و به قال زيد بن ثابت و عائشة و ابن عمر و مالك و الشافعي و أهل المدينة قال ابن شهاب ما رأيت أحدا من أهل بلدنا إلا و هو يقول الأقراء الأطهار إلا سعيد بن المسيب و المروي عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و مجاهد و رووه أيضا عن علي أن القرء الحيض و المراد بثلاثة قروء ثلاثة حيض و هو مذهب أبي حنيفة و أصحابه و استشهدوا بقوله (عليه السلام) للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك و الصلاة إنما تترك في أيام الحيض و استشهد من ذهب إلى أن القرء الطهر بقوله تعالى : « فطلقوهن لعدتهن » أي في طهر لم تجامع فيه كما يقال لغرة الشهر .
و يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما طلق ابن عمر زوجته و هي حائض مرة فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك و تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن لقبل عدتهن فأخبر أن العدة الأطهار دون الحيض لأنها حينئذ تستقبل عدتها و لو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة
مجمع البيان ج : 2 ص : 574
عدتها إلا بعد الحيض و روى أصحابنا عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي يقول أن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن إنما هي الطهر فيما بين الحيضين و ليست بالحيض قال فدخلت على أبي جعفر فحدثته بما قال ربيعة فقال كذب لم يقل برأيه و إنما بلغه عن علي (عليه السلام) فقلت أصلحك الله أ كان علي يقول ذلك قال نعم كان يقول إنما القرء الطهر تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض قذفته قلت أصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرة من غير جماع بشهادة عدلين قال إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج قال قلت إن أهل العراق يروون عن علي (عليه السلام) أنه كان يقول هو أحق بردها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة فقال كذبوا « و لا يحل لهن » أي للمطلقات اللاتي تجب عليهن العدة « أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قيل أراد به الحيض عن إبراهيم و عكرمة و قيل أراد به الحبل عن ابن عباس و قتادة و قيل أراد به الحيض و الحبل عن ابن عمر و الحسن و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) قال قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء الحيض و الطهر و الحمل و هذا القول أعم فالأخذ به أولى و إنما لم يحل لهن الكتمان لئلا يظلمن الزوج بمنع المراجعة عن ابن عباس و قيل بنسبة الولد إلى غيره كفعل الجاهلية عن قتادة و قوله « إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر » يعني من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فهذه صفته و حليته و ليس هذا بشرط حتى أنها إذا لم تكن مؤمنة يحل لها الكتمان و لكن المراد أن الإيمان يمنع من ارتكاب هذه المعصية كما يقول الرجل لصاحبه إن كنت مؤمنا فلا تظلم و هذا على وجه الوعيد « و بعولتهن أحق بردهن في ذلك » يعني أن أزواجهن أولى بمراجعتهن و هي ردهن إلى الحالة الأولى في ذلك الأجل الذي قدر لهن في مدة العدة فإنه ما دامت تلك المدة باقية كان للزوج حق المراجعة و يفوت بانقضائها و في هذا ما يدل على أن الزوج ينفرد بالمراجعة و لا يحتاج في ذلك إلى رضاء المرأة و لا إلى عقد جديد و إشهاد و هذا يختص بالرجعيات و إن كان أول الآية عاما في جميع المطلقات الرجعية و البائنة « إن أرادوا إصلاحا » لا إضرارا و ذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة و تركها حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى و تركها مدة كما فعل في الأولى ثم راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى فجعل الله الزوج أحق بالمراجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار و إنما شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها لإجماع الأمة على أن مع إرادة الإضرار يثبت أحكام الرجعة و قوله
مجمع البيان ج : 2 ص : 575
« و لهن » أي للنساء على أزواجهن « مثل الذي لهم عليهن » من الحق « بالمعروف » و هذا من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة و إنما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة و ترك المضارة و التسوية في القسم و النفقة و الكسوة كما أن للزوج حقوقا عليها مثل الطاعة التي أوجبها الله عليها له و أن لا تدخل فراشه غيره و أن تحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه و روي أن امرأة معاذ قالت يا رسول الله ما حق الزوجة على زوجها قال أن لا يضرب وجهها و لا يقبحها و أن يطعمها مما يأكل و يلبسها مما يلبس و لا يهجرها و روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله و من حقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف و قوله « و للرجال عليهن درجة » قيل معناه فضيلة منها الطاعة و منها أن يملك التخلية و منها زيادة الميراث على قسم المرأة و الجهاد هذا قول مجاهد و قتادة و قيل معناه منزلة في الأخذ عليها بالفضل في المعاملة حتى يقول ما أحب أن أستوفي منها جميع حقي ليكون لي عليها الفضيلة عن ابن عباس و قيل معناه أن المرأة تنال اللذة من الرجل كما ينال الرجل منها و له الفضل بنفقته و قيامه عليها عن الزجاج و في تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم قال حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال و في كتاب من لا يحضره الفقيه روي عن الباقر (عليه السلام) قال جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالت يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة فقال لها أن تطيعه و لا تعصيه و لا تتصدق من بيتها بشيء إلا بإذنه و لا تصوم تطوعا إلا بإذنه و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها فقالت يا رسول الله من أعظم الناس حقا على المرأة قال زوجها قالت فما لي من الحق عليه مثل ما له من الحق علي قال لا و لا من كل مائة واحدة فقالت و الذي بعثك بالحق لا يملك رقبتي رجل أبدا و قال (عليه السلام) لو كنت آمرا أحدا يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها « و الله عزيز حكيم » أي قادر على ما يشاء يمنع و لا يمنع و يقهر و لا يقهر فاعل ما تدعو إليه الحكمة و قد قيل في الآية إن المطلقة قبل الدخول و المطلقة الحاملة نسختا من هذه الآية بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن و قيل إنهما مخصوصتان من الآية كما ذكرناه في أول الآية .

مجمع البيان ج : 2 ص : 576
الطلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْساك بمَعْرُوف أَوْ تَسرِيحُ بِإِحْسن وَ لا يحِلُّ لَكمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شيْئاً إِلا أَن يخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَت بِهِ تِلْك حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَ مَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ(229)

القراءة

قرأ أبو جعفر و حمزة إلا أن يخافا بضم الياء و الباقون بفتحها .

الحجة

خاف فعل يتعدى إلى مفعول واحد و ذلك المفعول يكون أن و صلتها نحو قوله تخافون أن يتخطفكم الناس و يكون غيرها نحو قوله تخافونهم فوجه قراءة حمزة إلا أن يخافا أنه لما بني الفعل للمفعول به أسند الفعل إليه فلم يبق شيء يتعدى إليه فأما أن من قوله « ألا يقيما » فإن الفعل يتعدى إليه بالجار كما تعدى بالجار في قوله :
و لو خافك الله عليه حرمه و موضع أن في الآية جر بالجار المقدر على قول الخليل و الكسائي و نصب في قول سيبويه و أصحابه إلا أنه لما حذف الجار وصل الفعل إلى المفعول الثاني مثل أستغفر الله ذنبا و أمرتك الخير فقراءته مستقيمة على ما رأيت فإن قال قائل لو كان يخافا كما قرأ لكان ينبغي أن يكون فإن خيفا قيل لا يلزمه هذا السؤال لمن خالفه في القراءة لأنهم قد قرءوا إلا أن يخافا و لم يقولوا فإن خافا و ليس يلزم هذا السؤال جميعهم لأمرين ( أحدهما ) أنه انصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال الحمد لله ثم قال إياك نعبد و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون و هذا النحو كثير في التنزيل و غيره ( و الآخر ) أن يكون الخطاب في قوله « فإن خفتم » مصروفا إلى الولاة و الفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة و جاز أن يكون الخطاب للكثرة فيمن جعله انصرافا من الغيبة إلى الخطاب لأن ضمير الاثنين في يخافا ليس يراد به اثنان مخصوصان إنما يراد به أن كل من كان هذا شأنه فهذا حكمه فأما من قرأ « يخافا » بفتح الياء فالمعنى أنه إذا خاف كل واحد من الزوج و المرأة أن لا يقيما حدود الله حل الافتداء .

مجمع البيان ج : 2 ص : 577

اللغة

المرة و المرتان كالكرة و الكرتين و أصل المرة المرور خلاف الوقوف و المرة شدة الفتل لاستمراره على الأحكام و الإمساك خلاف الإطلاق و ما بفلان مسكة و تماسك إذا لم يكن فيه خير و الممسك البخيل و المسك الإهاب لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه و المسك السوار لاستمساكه في اليد و التسريح مأخوذ من السرح و هو الإطلاق و سرح الماشية في المرعى سرحا إذا أطلقها ترعى و سرحت الماشية انطلقت في المرعى و السرحان الذئب لاتباعه السرح و السرحة الشجرة المرتفعة لانطلاقها في جهة الطول و المسرح المشط لإطلاق الشعر به و السرياح الجراد لانطلاقه في البلاد و « أن يخافا » معناه أن يظنا قال الشاعر :
أتاني كلام عن نصيب يقوله
و ما خفت يا سلام إنك عائبي يعني ما ظننت و أنشد الفراء :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
و لا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها .

الإعراب

الطلاق رفع بالابتداء و مرتان الخبر و قوله « فإمساك » خبر مبتدإ محذوف تقديره فالواجب عليكن إمساك و لو كان في الكلام فإمساكا بالنصب لكان جايزا على فأمسكوهن إمساكا بمعروف كما قال فأمسكوهن بمعروف و « أن يخافا » موصول و صلة موضعهما نصب بأنه مفعول له تقديره لمخافتهما و « أن لا يقيما » في موضع نصب بأنه مفعول يخافا تقديره يخافا ترك إقامة حدود الله .

النزول

روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أن زوجها يطلقها و يسترجعها يضارها بذلك و كان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك و إن طلقها ألف مرة لم يكن للطلاق عندهم حد فذكرت ذلك لرسول الله فنزلت « الطلاق مرتان » فجعل حد الطلاق ثلاثا و الطلاق الثالث قوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره و روي أيضا أنه قيل للنبي الطلاق مرتان فأين الثالثة قال « إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » و قوله « إلا أن يخافا » فأنزل في ثابت بن قيس بن شماس و زوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي و كان يحبها و تبغضه فقال لها أ تردين عليه حديقته قالت نعم و أزيده قال لا حديقته فقط فردت عليه حديقته فقال يا ثابت خذ منها ما أعطيتها و خل سبيلها ففعل فكان أول خلع في الإسلام .

<<        الفهرس        >>