جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 1 ص : 450
عندهم مشمولا .

المعنى

لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له قالوا ما الدلالة على ذلك فقال الله سبحانه « إن في خلق السموات و الأرض » أي في إنشائهما مقدرين على سبيل الاختراع « و اختلاف الليل و النهار » كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة أو اختلافهما في الجنس و اللون و الطول و القصر « و الفلك التي تجري في البحر » أي السفن التي تحمل الأحمال « بما ينفع الناس » خص النفع بالذكر و إن كان فيه نفع و ضر لأن المراد هنا عد النعم و لأن الضار غيره إنما يقصد منفعة نفسه و النفع بها يكون بركوبها و الحمل عليها في التجارات و المكاسب « و ما أنزل الله من السماء » أي من نحو السماء عند جميع المفسرين و قيل يريد به السحاب « من ماء » يعني المطر « فأحيا به الأرض بعد موتها » أي فعمر به الأرض بعد خرابها لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت و إذا لم يصبها مطر لم تنبت و لم يتم نباتها فكانت من هذا الوجه كالميت و قيل أراد به إحياء أهل الأرض بإحياء الأقوات و غيرها مما تحيى به نفوسهم « و بث فيها من كل دابة » أي فرق في الأرض من كل حيوان يدب و أراد بذلك خلقها في مواضع متفرقة « و تصريف الرياح » أي تقليبها بأن جعل بعضها صباء و بعضها دبورا و بعضها شمالا و بعضها جنوبا و قيل تصريفها بأن جعل بعضها يأتي بالرحمة و بعضها يأتي بالعذاب عن قتادة و روي أن الريح هاجت على عهد ابن عباس فجعل بعضهم يسب الريح فقال لا تسبوا الريح و لكن قولوا اللهم اجعلها رحمة و لا تجعلها عذابا « و السحاب المسخر » أي المذلل « بين السماء و الأرض » يصرفها كما يشاء من بلد إلى بلد و من موضع إلى موضع « لآيات » أي حججا و دلالات « لقوم يعقلون » قيل أنه عام في العقلاء من استدل منهم و من لم يستدل و قيل أنه خاص بمن استدل به لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات و لم يستدل بها صار كأنه لا عقل له فيكون مثل قوله إنما أنت منذر من يخشاها و قوله هدى للمتقين و ذكر سبحانه الآيات و الدلالات و لم يذكر على ما ذا تدل فحذف لدلالة الكلام عليه و قد بين العلماء تفصيل ما تدل عليه فقالوا أما السماوات و الأرض فيدل تغير أجزائهما و احتمالهما الزيادة و النقصان و إنهما من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما ثم إن حدوثهما و خلقهما يدل على أن لهما خالقا لا يشبههما و لا يشبهانه لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم و لا عرض إذ جميع ما هو بصفة
مجمع البيان ج : 1 ص : 451
الأجسام و الأعراض محدث و لا بد له من محدث ليس بمحدث لاستحالة التسلسل و يدل كونهما على وجه الإتقان و الإحكام و الاتساق و الانتظام على كون فاعلهما عالما حكيما و أما اختلاف الليل و النهار و جريهما على وتيرة واحدة و أخذ أحدهما من صاحبه الزيادة و النقصان و تعلق ذلك بمجاري الشمس و القمر فيدل على عالم مدبر يدبرهما على هذا الحد لا يسهو و لا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة واقعة على نظام و ترتيب لا يدخلها تفاوت و لا اختلال و أما الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس فيدل حصول الماء على ما تراه من الرقة و اللطافة التي لولاها لما أمكن جري السفن عليه و تسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه على منعم منهم دبر ذلك لمنافع خلقه ليس من جنس البشر و لا من قبيل الأجسام لأن الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك و أما الماء الذي ينزل من السماء فيدل إنشاؤه و إنزاله قطرة قطرة لا تلتقي أجزاؤه و لا تتألف في الجو فينزل مثل السيل فيخرب البلاد و الديار ثم إمساكه في الهواء مع أن من طبع الماء الانحدار إلى وقت نزوله بقدر الحاجة و في أوقاتها على أن مدبره قادر على ما يشاء من الأمور عالم حكيم خبير و أما إحياء الأرض بعد موتها فيدل بظهور الثمار و أنواع النبات و ما يحصل به من أقوات الخلق و أرزاق الحيوانات و اختلاف طعومها و ألوانها و روائحها و اختلاف مضارها و منافعها في الأغذية و الأدوية على كمال قدرته و بدائع حكمته سبحانه من عليم حكيم ما أعظم شأنه و أما بث كل دابة فيها فيدل على أن لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوعة من اللحم و العظم و الأعصاب و العروق و غير ذلك من الأعضاء و الأجزاء المتضمنة لبدائع الفطرة و غرائب الحكمة الدالة على عظيم قدرته و جسيم نعمته و أما الرياح فيدل تصريفها بتحريكها و تفريقها في الجهات مرة حارة و مرة باردة و تارة لينة و أخرى عاصفة و طورا عقيما و طورا لاقحة على أن مصرفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه إذ لو أجمع الخلق كلهم على أن يجعلوا الصبا دبورا أو الشمال جنوبا لما أمكنهم ذلك و أما السحاب المسخر فيدل على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له و لا نظير لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة و لا دعامة إلا الله سبحانه و تعالى القادر لذاته الذي لا نهاية لمقدوراته فهذه هي الآيات الدالة على أن الله سبحانه صانع غير مصنوع قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء حي لا تلحقه الآفات و لا تغيره الحادثات و لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و هو السميع البصير استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه و أزليته و بما وسمها به من العجز و التسخير على كمال قدرته و بما ضمنها من البدائع على عجائب خلقته و فيها أيضا أوضح
مجمع البيان ج : 1 ص : 452
دلالة على أنه سبحانه المنان على عباده بفوائد النعم المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم فيعلم بذلك أنه سبحانه الآلة الذي لا يستحق العبادة سواه و في هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر و الاستدلال و أن ذلك هو الطريق إلى معرفته و فيها البيان لما يجب فيه النظر و إبطال التقليد .
وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يحِبُّونهُمْ كَحُب اللَّهِ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَشدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَاب أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شدِيدُ الْعَذَابِ(165)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و لو ترى الذين ظلموا بالتاء على الخطاب و قرأ الباقون بالياء و كلهم قرءوا « إذ يرون العذاب » بفتح الياء إلا ابن عامر فإنه قرأ إذ يرون بالضم و قرأ أبو جعفر و يعقوب أن القوة لله و إن الله بكسر الهمزة فيهما و الباقون بفتحها .

الحجة

قال أبو علي حجة من قرأ « و لو يرى الذين ظلموا » بالياء أن لفظ الغيبة أولى من لفظ الخطاب من حيث أنه يكون أشبه بما قبله من قوله « و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا » و هو أيضا أشبه بما بعده من قوله كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات و حجة من قرأ و لو ترى فجعل الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكثرة ما جاء في التنزيل من قوله و لو ترى و يكون الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد به الكافة و أما فتح أن القوة فيمن قرأ بالتاء فلا يخلو من أن يكون ترى من رؤية البصر أو المتعدية إلى مفعولين فإن جعلته من رؤية البصر لم يجز أن يتعدى إلى أن لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه و هو الذين ظلموا و لا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى و قوله « أن القوة لله » لا يكون « الذين ظلموا » فإذا يجب أن يكون منتصبا بفعل آخر غير ترى و ذلك الفعل هو الذي يقدر جوابا للو كأنه قال و لو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا أن القوة لله جميعا و المعنى أنهم شاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز و أن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك أو شكهم فيه و مذهب من قرأ بالياء أبين لأنهم ينصبون أن بالفعل الظاهر دون المضمر و الجواب في هذا النحو يجيء محذوفا فإذا أعمل الجواب في شيء صار بمنزلة الأشياء المذكورة في اللفظ فحمل المفعول عليه
مجمع البيان ج : 1 ص : 453
يخالف ما عليه سائر هذا النحو من الآي التي حذفت الأجوبة معها لتكون أبلغ في باب التوعيد هذا كلام أبي علي الفارسي و نحن نذكر ما قاله غيره في كسر إن القوة و فتحها في الإعراب و حجة من قرأ « إذ يرون العذاب » قوله و رأوا العذاب و قوله « و إذا رءا الذين ظلموا العذاب » و حجة ابن عامر قوله « كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات » لأنك إذا بنيت هذا الفعل للمفعول به قلت يرون أعمالهم حسرات .

اللغة

الأنداد و الأشباه و الأمثال نظائر واحدها ند و قيل هي الأضداد و أصل الند المثل المناوىء و الحب خلاف البغض و المحبة هي الإرادة إلا أن فيها حذفا لا يكون في الإرادة فإذا قلت أحب زيدا فالمعنى إني أريد منافعه أو مدحه و إذا قلت أحب الله زيدا فالمعنى أنه يريد ثوابه و تعظيمه و إذا قلت أحب الله فالمعنى أريد طاعته و اتباع أوامره و لا يقال أريد زيدا و لا أن الله يريد المؤمن و لا أني أريد الله فاعتيد الحذف في المحبة و لم يعتد في الإرادة و قيل إن المحبة ليست من جنس الإرادة بل هي من جنس ميل الطبع كما تقول أحب ولدي أي يميل طبعي إليه و هذا من المجاز بدلالة أنهم يقولون أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أ و يقال أحبه أحبابا و حبه حبا و محبة و أحب البعير أحبابا إذا برك فلا يثور و هو كالحران في الخيل قال أبو عبيدة و منه قوله أحببت حب الخير عن ذكر ربي أي لصقت بالأرض لحب الخيل حتى فاتتني الصلاة و يرى قال أبو علي الفارسي هو من رؤية العين يدل على ذلك تعديه إلى مفعول واحد تقديره و لو يرون أن القوة لله أي لو يرى الكفار ذلك و يدل عليه قوله « إذ يرون العذاب » و الشدة قوة العقد و هو ضد الرخاوة و القوة و القدرة واحدة .

الإعراب

يجوز فتح أن من ثلاثة أوجه و كسرها من ثلاثة أوجه مع القراءة بالياء فأما الفتح ( فالأول ) أن يفتح بإيقاع الفعل عليها بمعنى المصدر و تقديره و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب قوة الله و شدة عذابه ( و الثاني ) أن يفتح على حذف اللام كقولك لأن القوة لله ( و الثالث ) على تقدير لرأوا أن القوة لله و أن الله شديد العذاب على الاتصال بما حذف من الجواب و أما الوجه الأول في الكسر فعلى الاستئناف و الثاني على الحكاية مما حذف من الجواب كأنه قيل لقالوا إن القوة لله و الثالث على الاتصال بما حذف من الحال كأنه قيل يقولون إن القوة لله فأما مع القراءة بالتاء فيجوز أيضا كسر أن من ثلاثة أوجه و فتحها من
مجمع البيان ج : 1 ص : 454
ثلاثة أوجه فأما الفتح ( فأولها ) أن يكون على البدل كقولك و لو ترى الذين ظلموا إن القوة لله عليهم عن الفراء و قال أبو علي و هذا لا يجوز لأن قوله إن القوة ليس الذين ظلموا و لا بعضهم و لا مشتملا عليهم ( و الثاني ) أن يفتح على حذف اللام كقولك لأن القوة ( و الثالث ) لرأيت أن القوة لله و أما الكسر مع التاء فكالكسر مع الياء قال الفراء و الاختيار مع الياء الفتح و مع التاء الكسر لأن الرؤية قد وقعت على الذين و جواب لو محذوف كأنه قيل لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد و لرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالأوهام و حذف الجواب يدل على المبالغة كقولك لو رأيت السياط تأخذ فلانا لأن المحذوف يحتمل كل أمر و من قرأ « و لو يرى » بالياء فالذين ظلموا في موضع رفع بأنهم الفاعلون و من قرأ بالتاء فالذين ظلموا في موضع نصب و قوله « جميعا » نصب على الحال كأنه قيل إن القوة ثابتة لله في حال اجتماعها و هو صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به علموا أن الله سبحانه قادر لا يعجزه شيء و قوله « يحبونهم » في موضع نصب على الحال من الضمير في يتخذ و إن كان الضمير في يتخذ على التوحيد لأنه يعود إلى من و يجوز أن يعود إليه الضمير على اللفظ مرة و على المعنى أخرى و يجوز أن يكون يحبونهم صفة لقوله « أندادا » قال أبو علي لو قلت كيف جاء إذ في قوله « إذ يرون العذاب » و هذا أمر مستقبل فالقول أنه جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك كما جاء و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب و إن الساعة قريب و على هذا قوله و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار و من هذا الضرب ما جاء في التنزيل من قوله و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و لو ترى إذ وقفوا على النار و لو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم .

المعنى

« و من الناس » من للتبعيض هاهنا أي بعض الناس « من يتخذ من دون الله أندادا » يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها عن قتادة و مجاهد و أكثر المفسرين و قيل رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال عن السدي و على هذا المعنى ما روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال هم أئمة الظلمة و أشياعهم و قوله « يحبونهم كحب الله » على هذا القول الأخير أدل لأنه يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع و لا تضر و يدل أيضا عليه قوله إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و معنى يحبونهم يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم أو الانقياد لهم أو جميع ذلك كحب الله فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) كحبكم الله أي كحب المؤمنين الله عن ابن عباس و الحسن ( و الثاني ) كحبهم الله
مجمع البيان ج : 1 ص : 455
يعني الذين اتخذوا الأنداد فيكون المعني به من يعرف الله من المشركين و يعبد معه الأوثان و يسوي بينهما في المحبة عن أبي علي و أبي مسلم ( و الثالث ) « كحب الله » أي كالحب الواجب عليهم اللازم لهم لا الواقع « و الذين آمنوا أشد حبا لله » يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء و حبهم أشد من وجوه ( أحدها ) إخلاصهم العبادة و التعظيم له و الثناء عليه من الإشراك ( و ثانيها ) أنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء و أنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير و قد أنعم عليهم بالكثير فيعبدونه عبادة الشاكرين و يرجون رحمته على يقين فلا بد أن يكون حبهم له أشد ( و ثالثها ) أنهم يعلمون أن له الصفات العلى و الأسماء الحسنى و أنه الحكيم الخبير الذي لا مثل له و لا نظير يملك النفع و الضر و الثواب و العقاب و إليه المرجع و الم آب فهم أشد حبا لله بذلك ممن عبد الأوثان و اختلف في معنى قوله « أشد حبا » فقيل أثبت و أدوم لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم عن ابن عباس و قيل لأن المؤمن يعبده بلا واسطة و المشرك يعبده بواسطة عن الحسن و قوله « و لو يرى الذين ظلموا » تقديره و لو يرى الظالمون أي يبصرون و قيل لو يعلم هؤلاء الظالمون « إذ يرون العذاب » و الصحيح الأول كما تقدم بيانه هذا على قراءة من قرأ بالياء و من قرأ بالتاء فمعناه و لو ترى يا محمد عن الحسن و الخطاب له و المراد غيره و قيل معناه لو ترى أيها السامع أو أيها الإنسان الظالمين إذ يرون العذاب و قوله « أن القوة لله » فيه حذف أي لرأيت أن القوة لله « جميعا » فعلى هذا يكون متصلا بجواب لو و من قرأ بالياء فمعناه و لو يرى الظالمون أن القوة لله جميعا لرأوا مضرة فعلهم و سوء عاقبتهم و معنى قوله « أن القوة لله جميعا » أن الله سبحانه قادر على أخذهم و عقوبتهم و في هذا وعيد و إشارة إلى أن هؤلاء الجبابرة مع تعززهم إذا حشروا ذلوا و تخاذلوا و قد بينا الوجوه في فتح أن و كسرها فالمعنى تابع لها و دائر عليها و جواب لو محذوف على جميع الوجوه « و أن الله شديد العذاب » وصف العذاب بالشدة توسعا و مبالغة في الوصف فإن الشدة من صفات الأجسام .

النظم

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله سبحانه أخبر أن مع وضوح هذه الآيات و الدلالات التي سبق ذكرها أقام قوم على الباطل و إنكار الحق فكأنه قال أ بعد هذا البيان و ظهور البرهان يتخذون من دون الله أندادا .

مجمع البيان ج : 1 ص : 456
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذَاب وَ تَقَطعَت بِهِمُ الأَسبَاب(166) وَ قَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِك يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسرَت عَلَيهِمْ وَ مَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ(167)

اللغة

التبرؤ في اللغة و التفصي و التنزيل نظائر و أصل التبرؤ التولي و التباعد للعداوة و إذا قيل تبرأ الله من المشركين فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بالمعصية و أصله من الانفصال و منه برأ من مرضه و برىء يبرأ برءا و براء و بريء من الدين براءة و الاتباع طلب الاتفاق في مقال أو فعال أو مكان فإذا قيل اتبعه ليلحقه فالمراد ليتفق معه في المكان و التقطع التباعد بعد اتصال و السبب الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب و الأسباب الوصلات واحدها سبب و منه يسمى الحبل سببا لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره و مضت سبة من الدهر أي ملاوة و الكرة الرجعة قال الأخطل :
و لقد عطفن على فزارة عطفة
كر المنيح وجلن ثم مجالا و الكر نقيض الفر قال صاحب العين الكر الرجوع عن الشيء و الكر الحبل الغليظ و قيل الشديد الفتل و الحسرات جمع الحسرة و هي أشد الندامة و الفرق بينها و بين الإرادة أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة و الإرادة تتعلق بالمستقبل لأن الحسرة إنما هي على ما فأت بوقوعه أو ينقضي وقته و الحسرة و الندامة من النظائر يقال حسر يحسر حسرا و حسرة إذا كمد على الشيء الفائت و تلهف عليه و أصل الحسر الكشف تقول حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها و حسر عن ذراعيه حسرا و الحاسر الذي لا درع عليه و لا مغفر .

الإعراب

العامل في إذ قوله شديد العذاب أي وقت التبرؤ و انتصب فمتبرأ على أنه جواب التمني بالفاء كأنه قال ليت لنا كرورا فبرأ ، و كلما عطف الفعل على ما تأويله
مجمع البيان ج : 1 ص : 457
تأويل المصدر نصب بإضمار أن و لا يجوز إظهارها فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه لأنه لما حمل الأول على التأويل حمل الثاني على التأويل أيضا و يجوز فيه الرفع على الاستئناف أي فنحن نتبرأ منهم على كل حال و أما قوله « لو أن لنا كرة » ففي موضع الرفع لفعل محذوف تقديره لو صح أن لنا كرة لأن لو في التمني و في غيره تطلب الفعل و إن شئت قلت تقديره لو ثبت أن لنا كرة و أقول إن جواب لو هنا أيضا في التقدير محذوف و لذلك أفاد لو في الكلام معنى التمني فيكون تقديره لو ثبت أن لنا كرة فنتبرأ منهم لتشفينا بذلك و جازيناهم صاعا بصاع و هذا شيء أخرجه لي الاعتبار و لم أره في الأصول و هو الصحيح الذي لا غبار عليه و بالله التوفيق و أما العامل في الكاف من كذلك فقوله « يريهم الله » أي يريهم الله أعمالهم حسرات كذلك أي مثل تبرؤ بعضهم من بعض و ذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما و قيل تقديره يريهم أعمالهم حسرات كما أراهم العذاب و ذلك لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما .

المعنى

لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد ذكر سوء حالهم في المعاد فقال سبحانه « إذ تبرأ الذين اتبعوا » و هم القادة و الرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة و الربيع و عطاء و قيل هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن عن السدي و قيل هم شياطين الجن و الإنس و الأظهر هو الأول « من الذين اتبعوا » أي من اتباع السفل « و رأوا » أي رأى التابعون و المتبوعون « العذاب » أي عاينوه حين دخلوا النار « و تقطعت بهم الأسباب » فيه وجوه ( أحدها ) الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها عن مجاهد و قتادة و الربيع ( و الثاني ) الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس ( و الثالث ) العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس أيضا ( و الرابع ) تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها عن ابن زيد و السدي ( و الخامس ) تقطعت بهم أسباب النجاة عن أبي علي و ظاهر الآية يحتمل الكل فينبغي أن يحمل على عمومه فكأنه قيل قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا و ذلك نهاية في الإياس « و قال الذين اتبعوا » يعني الأتباع « لو أن لنا كرة » أي عودة إلى دار الدنيا و حال التكليف « فنتبرأ منهم » أي من القادة في الدنيا « كما تبرأوا منا » في الآخرة « كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ( أحدها ) أن المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها عن الربيع و ابن زيد و هو اختيار الجبائي و البلخي ( و الثاني ) المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها و ضيعوها عن السدي
مجمع البيان ج : 1 ص : 458
( و الثالث ) ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال هو الرجل يكتسب المال و لا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره ( و الرابع ) أن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه و الآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم « و ما هم بخارجين من النار » أي يخلدون فيها بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة و ذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة و أكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار كابن عباس و غيره و في هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة و المعصية لأن ليس في المعقول أن يتحسر الإنسان على ترك ما كان لا يمكنه الانفكاك عنه أو على فعل ما كان لا يمكنه الإتيان به أ لا ترى أنه لا يتحسر الإنسان على أنه لم يصعد السماء لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء .
يَأَيُّهَا النَّاس كلُوا مِمَّا فى الأَرْضِ حَلَلاً طيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطوَتِ الشيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوُّ مُّبِينٌ(168)

القراءة

قرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و أبو بكر إلا البرجمي خطوات بسكون الطاء حيث وقع و الباقون بضمها و روي في الشواذ عن علي (عليه السلام) خطؤات بضمتين و همزة و عن أبي السماك خطوات بفتح الخاء و الطاء .

الحجة

ما كان على فعلة من الأسماء فالأصل في جمعه التثقيل نحو غرفة و غرفات و حجرة و حجرات لأن التحريك فاصل بين الاسم و الصفة و من أسكنه قال خطوات فإنه نوى الضمة و أسكن الكلمة عنها طلبا للخفة و من ضم الخاء و الطاء مع الهمزة فكأنه ذهب بها مذهب الخطيئة فجعل ذلك على مثال فعله من الخطإ هذا قول الأخفش و قال أبو حاتم أرادوا إشباع الفتحة في الواو فانقلبت همزة و من فتح الخاء و الطاء فهو جمع خطوة فيكون مثل تمرة و تمرات .

اللغة

الأكل هو البلع عن مضغ و بلع الذهب و اللؤلؤ و ما أشبهه ليس بأكل في الحقيقة و قد قيل النعام تأكل الجمر فأجروه مجرى أكل الطعام و الحلال هو الجائز من
مجمع البيان ج : 1 ص : 459
أفعال العباد و نظيره المباح و أصله الحل نقيض العقد و إنما سمي المباح حلالا لانحلال عقد الحظر عنه و لا يسمى كل حسن حلالا لأنه أفعاله تعالى حسنة و لا يقال إنها حلال إذ الحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع يقال حل يحل حلالا و حل يحل حلولا و حل العقد يحله حلا و أحل من إحرامه و حل فهو محل و حلال و حلت عليه العقوبة وجبت و الطيب هو الخالص من شائب ينغص و هو على ثلاثة أقسام الطيب المستلذ و الطيب الجائز و الطيب الطاهر و الأصل هو المستلذ إلا أنه وصف به الطاهر و الجائز تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه و ما تدعو إليه بخلاف ذلك و الطيب الحلال و الطيب النظيف و أصل الباب الطيب خلاف الخبيث و الخطوة بعد ما بين قدمي الماشي و الخطوة المرة من الخطو يقال خطوت خطوة واحدة و جمع الخطوة خطى و أصل الخطو نقل القدم و « خطوات الشيطان » آثاره و العدو المباعد عن الخير إلى الشر و الولي نقيضه .

الإعراب

حلالا صفة مصدر محذوف أي كلوا شيئا حلالا و من في قوله « مما في الأرض » يتعلق بكلوا أو بمحذوف يكون معه في محل النصب على الحال و العامل فيه كلوا و ذو الحال قوله « حلالا » و قوله « طيبا » صفة بعد صفة .

النزول

عن ابن عباس إنها نزلت في ثقيف و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج لما حرموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة فنهاهم الله عن ذلك .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر التوحيد و أهله و الشرك و أهله أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم و الإحسان ثم نهاهم عن اتباع الشيطان لما في ذلك من الجحود لنعمه و الكفران فقال « يا أيها الناس » و هذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم « كلوا » لفظه لفظ الأمر و معناه الإباحة « مما في الأرض حلالا طيبا » لما أباح الأكل بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة لأن في المأكول ما يحرم و فيه ما يحل فالحرام يعقب الهلكة و الحلال يقوي على العبادة و إنما يكون حلالا بأن لا يكون مما تناوله الحظر و لا يكون لغير الآكل فيه حق و هو يتناول جميع المحللات و أما الطيب فقيل هو الحلال أيضا فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا و قيل معناه ما يستطيبونه و يستلذونه في العاجل و الآجل « و لا تتبعوا خطوات الشيطان » اختلف في معناه فقيل أعماله عن ابن عباس و قيل خطاياه عن مجاهد و قتادة و قيل طاعتكم إياه عن السدي و قيل آثاره عن الخليل و روي عن
مجمع البيان ج : 1 ص : 460
أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق و النذور في المعاصي و كل يمين بغير الله تعالى و قال القاضي يريد وساوس الشيطان و خواطره و قال الماوردي هو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية حتى يستوعبوا جميع المعاصي مأخوذ من خطو القدم في نقلها من مكان إلى مكان حتى يبلغ مقصده « إنه لكم عدو مبين » أي مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى و اختلف الناس في المأكل و المنافع التي لا ضرر على أحد فيها فمنهم من ذهب إلى أنها الحظر و منهم من ذهب إلى أنها على الإباحة و اختاره المرتضى قدس الله روحه و منهم من وقف بين الأمرين و جوز كل واحد منهما و هذه الآية دالة على إباحة المأكل إلا ما دل الدليل على حظره فجاءت مؤكدة لما في العقل .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَن تَقُولُوا عَلى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(169)

اللغة

الأمر من الشيطان هو دعاؤه إلى الفعل فأما الأمر في اللغة فهو قول القائل لمن دونه افعل إذا كان الآمر مريدا للمأمور به و قيل هو الدعاء إلى الفعل بصيغة أفعل و السوء كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع و يسمى أيضا ما تنفر عنه النفس سوء تقول ساءني كذا يسوؤني سوءا و قيل إنما سمي القبيح سوءا لسوء عاقبته لأنه قد يلتذ به في العاجل و الفحشاء و الفاحشة و القبيحة و السيئة نظائر و هي مصدر نحو السراء و الضراء يقال فحش فحشا و فحشاء و كل من تجاوز قدره فهو فاحش و أفحش الرجل إذا أتى بالفحشاء و كل ما لا يوافق الحق فهو فاحشة و قوله « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » معناه خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها و القول كلام له عبارة تنبىء عن الحكاية و ذلك ككلام زيد يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه ينبىء عن الحكاية له فيقول قال زيد كذا و كذا فيكون قوله قال زيد يؤذن بأنه يحكي بعده كلام و ليس كذلك إذا قال تكلم زيد لأنه لا يؤذن بالحكاية و العلم ما اقتضى سكون النفس و قيل هو تبين الشيء على ما هو به للمدرك له .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر الشيطان عقبة ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين فقال « إنما يأمركم بالسوء » أي المعاصي عن السدي و قتادة و قيل بما يسوء فاعله أي يضره و هو في المعنى مثل الأول « و الفحشاء » قيل المراد به الزنا و قيل السوء ما لا حد فيه و الفحشاء ما فيه حد عن ابن عباس « و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون » قيل هو دعواهم له الأنداد و الأولاد و نسبتهم إليه الفواحش عن أبي مسلم و قيل أراد به جميع المذاهب
مجمع البيان ج : 1 ص : 461
الفاسدة و الاعتقادات الباطلة و مما يسأل على هذا أن يقال كيف يأمرنا الشيطان و نحن لا نشاهده و لا نسمع كلامه فالجواب أن معنى أمره هو دعاؤه إليه كما تقول نفسي تأمرني بكذا أي تدعوني إليه و قيل أنه يأمر بالمعاصي حقيقة و قد يعرف ذلك الإنسان من نفسه فيجد ثقل بعض الطاعات عليه و ميل نفسه إلى بعض المعاصي و الوسوسة هي الصوت الخفي و منه وسواس الحلي فيلقي إليه الشيطان أشياء بصوت خفي في أذنه و متى قيل كيف يميز الإنسان بين ما يلقي إليه الشيطان و ما تدعو إليه النفس فالقول أنه لا ضير عليه إذا لم يميز بينهما فإنه إذا ثبت عنده أن الشيطان قد يأمره بالمعاصي جوز في كل ما كان من هذا الجنس أن يكون من قبل الشيطان الذي ثبت له عداوته فيكون أرغب في فعل الطاعة مع ثقلها عليه و في ترك المعاصي مع ميل النفس إليها مخالفة للشيطان الذي هو عدوه .
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَ وَ لَوْ كانَ ءَابَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ(170)

اللغة

ألفينا أي صادفنا و وجدنا و الأب و الوالد واحد و الاهتداء الإصابة لطريق الحق بالعلم .

الإعراب

« أ و لو » هنا واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام و المراد به التوبيخ و التقريع و مثل هذه الواو أ ثم إذا ما وقع آمنتم به أ فلم يسيروا و إنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ لأنه يقتضي ما الإقرار به فضيحة عليه كما يقتضي الاستفهام الإخبار بما يحتاج إليه و إنما دخلت الواو في مثل هذا الكلام لأنك إذا قلت اتبعه و لو ضرك فمعناه اتبعه على كل حال و ليس كذلك أتتبعه لو ضرك لأن هذا خاص و ذاك عام فدخلت الواو لهذا المعنى .

النزول

ابن عباس قال دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اليهود إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم منا فنزلت هذه الآية و في رواية الضحاك عنه أنها نزلت في كفار قريش .

المعنى

لما تقدم ذكر الكفار بين سبحانه حالهم في التقليد و ترك الإجابة إلى
مجمع البيان ج : 1 ص : 462
الإقرار بصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء به من الكتاب المجيد فقال « و إذا قيل لهم » اختلف في الضمير فقيل يعود إلى من من قوله « من يتخذ من دون الله أندادا » و هم مشركو العرب و قيل يعود إلى الناس من قوله « يا أيها الناس » فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة كما قال « حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة » و قيل يعود إلى الكفار إذ قد جرى ذكرهم و يصلح أيضا أن يعود إليهم و إن لم يجر ذكرهم لأن الضمير يعود إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور و القائل لهم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المسلمون « اتبعوا ما أنزل الله » أي من القرآن و شرائع الإسلام و قيل في التحريم و التحليل « قالوا » أي الكفار « بل نتبع ما ألفينا » أي وجدنا « عليه آباءنا » من عبادة الأصنام إذا كان الخطاب للمشركين أو في التمسك باليهودية إذا كان الخطاب لليهود « أ و لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا » أي لا يعلمون شيئا من أمور الدين « و لا يهتدون » أي لا يصيبون طريق الحق و معناه لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئا مما لزمهم معرفته أ كنتم تتبعونهم أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم فإذا صح أنه يجب الانصراف عن اتباعهم فقد تبين أن الواجب اتباع الدليل دون اتباع هؤلاء .
وَ مَثَلُ الَّذِينَ كفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بمَا لا يَسمَعُ إِلا دُعَاءً وَ نِدَاءً صمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ(171)

اللغة

المثل قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا قال الأخطل :
فانعق بضانك يا جرير فإنما
منتك نفسك في الخلاء ضلالا و نعق الغراب نعاقا و نعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه و يحركها و نغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه و حركها ثم صاح قيل نعب و الناعقان كوكبان من كواكب الجوزاء و رجلها اليسرى و منكبها الأيمن و هو الذي يسمى الهنعة و هما أضوأ كواكب الجوزاء و الدعاء طلب الفعل من المدعو و نظيره الأمر و الفرق بينهما يظهر بالرتبة و النداء مصدر نادى مناداة و نداء و الدعاء و السؤال بمعناه و الندى له وجوه في المعنى يقال ندى الماء و ندى
مجمع البيان ج : 1 ص : 463
الخير و الشر و ندى الصوت و ندى الحضر فالندى هو البلل و ندى الخير هو المعروف يقال أندى فلان علينا ندى كثيرا و يده ندية بالمعروف و ندى الصوت بعد مذهبه و ندى الحضر صحة جريه و اشتق النداء من ندى الصوت ناداه أي دعاه بأرفع صوته .

المعنى

ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد و ركونهم إلى التقليد فقال « و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق » أي يصوت « بما لا يسمع » من البهائم « إلا دعاء و نداء » و اختلف في تقدير الكلام و تأويله على وجوه ( أولها ) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إياهم أي مثل الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الإيمان إلا السماع دون تفهم المعنى لأنهم يعرضون عن قبول قولك و ينصرفون عن تأمله فيكونون بمنزلة من لم يعقله و لم يفهمه و هذا كما تقول العرب فلان يخافك كخوف الأسد و المعنى كخوفه من الأسد فأضاف الخوف إلى الأسد و هو في المعنى مضاف إلى الرجل قال الشاعر :
فلست مسلما ما دمت حيا
على زيد بتسليم الأمير أراد بتسليمي على الأمير و هذا معنى قول ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و هو اختيار الجبائي و الرماني و الطبري ( و ثانيها ) أن يكون المعنى مثل الذين كفروا و مثلنا أو مثل الذين كفروا و مثلك يا محمد كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء أي كمثل الأنعام المنعوق بها و الناعق الراعي الذي يكلمها و هي لا تعقل فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول و مثله قوله سبحانه « و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر » و أراد الحر و البرد و قال أبو ذؤيب :
عصيت إليها القلب إني لأمرها
مطيع فما أدري أ رشد طلابها أراد أ رشد أم غي فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر و هو قول الأخفش و الزجاج و هذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي و تشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام فحذف ما حذف للإيجاز و أبقي في الأول ذكر المدعو و في الثاني ذكر الداعي و فيما أبقي دليل على ما ألقى ( و ثالثها ) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال و ما جرى مجراه من الكلام فكما أن من دعا
مجمع البيان ج : 1 ص : 464
البهائم يعد جاهلا فداعي الحجارة أشد جهلا منه لأن البهائم تسمع الدعاء و إن لم تفهم معناه و الأصنام لا يحصل لها السماع أيضا عن أبي القاسم البلخي و غيره ( و رابعها ) أن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام و هي لا تعقل و لا تفهم كمثل الذي ينعق دعاء و نداء بما لا يسمع صوته جملة و يكون المثل مصروفا إلى غير الغنم و ما أشبهها مما يسمع و إن لم يفهم و على هذا الوجه ينتصب دعاء و نداء بينعق و إلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق :
هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم
و ضحوا بلحم من محل و محرم و المعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم ( و خامسها ) أن يكون المعنى و مثل الذين كفروا كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق و هو في المعنى مضاف إلى المنعوق به على مذهب العرب في القلب نحو قولهم طلعت الشعري و انتصب العود على الحرباء و المعنى انتصب الحرباء على العود و أنشد

الفراء :

إن سراجا لكريم مفخره
تجلى به العين إذا ما تجمره أي تجلى بالعين و أنشد أيضا :
كانت فريضة ما تقول كما
كان الزنا فريضة الرجم و المعنى كما كان الرجم فريضة الزنا و أنشد :
و قد خفت حتى ما تزيد مخافتي
على وعل في ذي المطارة عاقل أي ما تزيد مخافة وعل على مخافتي و قال العباس بن مرداس :
فديت بنفسه نفسي و مالي
و ما آلوك إلا ما أطيق أراد بنفسي نفسه ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين و التوبيخ فقال « صم بكم عمي » أي صم عن استماع الحجة بكم عن التكلم بها عمي عن الأبصار لها و هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و قد مر بيانه في أول السورة أبسط من هذا « فهم لا يعقلون » أي هم بمنزلة من لا عقل له إذ لم ينتفعوا بعقولهم .

مجمع البيان ج : 1 ص : 465
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كلُوا مِن طيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَ اشكُرُوا للَّهِ إِن كنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)

اللغة

الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم و يكون على وجهين ( أحدهما ) الاعتراف بالنعمة متى ذكرها المنعم عليه بالاعتقاد لها ( و الثاني ) الطاعة بحسب جلالة النعمة فالأول لازم في كل حال من أحوال الذكر و الثاني أنه يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق و أما العبادة فهي ضرب من الشكر إلا أنها غاية فيه ليس وراءها شكر و يقترن به ضرب من الخضوع و لا يستحق العبادة غير الله سبحانه لأنها إنما تستحق بأصول النعم التي هي الحياة و القدرة و الشهوة و أنواع المنافع و بقدر من النفع لا يوازيه نعمة منعم فلذلك اختص الله سبحانه باستحقاقها .

الإعراب

« ما رزقناكم » موصول و صلة و العائد من الصلة إلى الموصول محذوف و تقديره ما رزقناكموه و جواب الشرط محذوف تقديره إن كنتم إياه تعبدون فكلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله .

المعنى

ثم خاطب سبحانه المؤمنين و ذكر نعمه الظاهرة عليهم و إحسانه المبين إليهم فقال « يا أيها الذين آمنوا كلوا » ظاهره الأمر و المراد به الإباحة لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد و قيل أنه أمر من وجهين .
( أحدهما ) بأكل الحلال ( و الآخر ) بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس قال القاضي و هذا مما يعرض في بعض الأوقات و الآية غير مقصورة عليه فيحمل على الإباحة « من طيبات ما رزقناكم » أي مما تستلذونه و تستطيبونه من الرزق و فيه دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول البلخي و غيره كأنه قيل كلوا من الطيب غير الخبيث كما أنه لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام و هذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده لأن قول القائل كل من مال زيد لا يدل على أنه أراد تحريم ما عداه لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة و ما عداه موقوف على بيان آخر و ليس كذلك ما ضده قبيح لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده « و اشكروا لله » لما نبه سبحانه على إنعامه علينا بما جعله لنا من لذيذ الرزق أمرنا بالشكر لأن الإنعام يقتضي الشكر و قوله « إن كنتم إياه تعبدون » أي إن كنتم تعبدونه عن علم بكونه منعما عليكم و قيل إن كنتم مخلصين له في العبادة و ذكر الشرط هنا إنما هو على وجه المظاهرة في الحجاج و لما فيه من حسن البيان و تلخيص
مجمع البيان ج : 1 ص : 466
الكلام أن كانت العبادة لله سبحانه واجبة عليكم بأنه إلهكم فالشكر له واجب عليكم بأنه منعم محسن إليكم .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ فَمَنِ اضطرَّ غَيرَ بَاغ وَ لا عَاد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(173)

القراءة

قرأ أبو جعفر الميتة مشددة كل القرآن و قرأ أهل الحجاز و الشام و الكسائي فمن اضطر غير باغ بضم النون و أبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر و الباقون بكسر النون .

الحجة

الميتة أصلها المييتة فحذفت الياء الثانية استخفافا لثقل الياءين و الكسرة و الأجود في القراءة الميتة بالتخفيف و قوله فمن اضطر بالضم فهو للاتباع كما ضمت همزة الوصل في انصروا و أما الكسرة فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين و أما قراءة أبي جعفر فمن اضطر فلأن الأصل اضطرر فسكنت الراء الأولى للإدغام و نقلت حركتها إلى الحرف الذي قبلها فصار اضطر و الأصل أن لا تنقل حركة الراء عند إسكانها لأن الطاء على حركتها الأصلية .

اللغة

الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية و كان المشركون يسمون الأوثان و المسلمون يسمون الله و انهلال المطر شدة انصبابه و الهلال غرة القمر لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير و المحرم يهل بالإحرام و هو أن يرفع صوته بالتلبية و استهل الصبي إذا بكى وقت الولادة و الاضطرار كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه و ذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان فلا يمكنه الامتناع منه و الفرق بين الاضطرار و الإلجاء أن الإلجاء قد تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضرر و النفع و ليس كذلك الاضطرار قال صاحب العين رجل لحم إذا كان أكولا للحم و بيت لحم يكثر فيه اللحم و ألحمت القوم إذا قتلتهم و صاروا لحما و الملحمة الحرب ذات القتل الشديد و استلحم الطريد إذا اتسع و اللحمة قرابة النسب و أصل الباب اللزوم و منه اللحم للزوم بعضه بعضا و أصل البغي الطلب من قولهم بغى الرجل حاجته يبغي بغاء قال الشاعر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 467

لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم
إن الأشائم كالأيامن و الأيامن كالأشائم و البغاء طلب الزنا و العادي المعتدي : .

الإعراب

إنما تفيد إثبات الشيء الذي يذكر بعدها و نفي ما عداه كقول الشاعر :
و إنما عن أحسابهم أنا أو مثلي ) و إنما كانت لإثبات الشيء و نفي ما سواه من قبل أن إن كانت للتوكيد و انضاف إليها ما للتوكيد أيضا أكدت أن من جهة التحقيق للشيء و أكدت ما من جهة نفي ما عداه فإذا قلت إنما أنا بشر فكأنك قلت ما أنا إلا بشر و لو كانت ما بمعنى الذي لكتبت ما مفصولة و مثله قوله تعالى : « إنما الله إله واحد » أي لا إله إلا الله إلا إله واحد و مثله إنما أنت نذير أي لا نذير إلا أنت فإذا ثبت ذلك فلا يجوز في الميتة إلا النصب لأن ما كافة و لو كانت ما بمعنى الذي لجاز في الميتة الرفع و غير باغ منصوب على الحال و تقديره لا باغيا و لا عاديا و لا يجوز أن يقع إلا هاهنا في موضع غير لما قلناه أنه بمعنى النفي و لذلك عطف عليه بلا فأما إلا فمعناه في الأصل الاختصاص لبعض من كل و ليس هاهنا كل يصلح أن يخص منه .

المعنى

لما ذكر سبحانه إباحة الطيبات عقبه بتحريم المحرمات فقال « إنما حرم عليكم الميتة » و هو ما يموت من الحيوان « و الدم و لحم الخنزير » خص اللحم لأنه المعظم و المقصود و إلا فجملته محرمة « و ما أهل به لغير الله » قيل فيه قولان .
( أحدهما ) أنه ما ذكر غير اسم الله عليه عن الربيع و جماعة من المفسرين و الآخر أنه ما ذبح لغير الله عن مجاهد و قتادة و الأول أوجه « فمن اضطر » إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة عن أكثر المفسرين و قيل ضرورة إكراه عن مجاهد و تقديره فمن خاف على النفس من الجوع و لا يجد مأكولا يسد به الرمق و قوله « غير باغ » قيل فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) غير باغ اللذة « و لا عاد » سد الجوعة عن الحسن و قتادة و مجاهد ( و ثانيها ) غير باغ في الإفراط و لا عاد في التقصير عن الزجاج ( و ثالثها ) غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله و عن مجاهد و سعيد بن جبير و اعترض علي بن عيسى على هذا القول بأن قال أن الله لم يبح لأحد قتل نفسه و التعرض للقتل قتل في حكم الدين و لأن الرخصة لأجل المجاعة لا لأجل سفر الطاعة و هذا فاسد لأن الباغي على الإمام معرض نفسه للقتل فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين و قوله أن الرخصة لأجل المجاعة
مجمع البيان ج : 1 ص : 468

غير مسلم على الإطلاق بل هو مخصوص بمن لم يعرض نفسه لها « فلا إثم عليه » أي لا حرج عليه و إنما ذكر هذا اللفظ ليبين أنه ليس بمباح في الأصل و إنما رفع الحرج لأجل الضرورة « إن الله غفور رحيم » و إنما ذكر المغفرة لأحد الأمرين أما ليبين أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يؤاخذ بما رخص فيه و أما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله مما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة و غيرها .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكتَبِ وَ يَشترُونَ بِهِ ثمَناً قَلِيلاً أُولَئك مَا يَأْكلُونَ فى بُطونِهِمْ إِلا النَّارَ وَ لا يُكلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ لا يُزَكيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174)

اللغة

البطن خلاف الظهر و البطن الغامض من الأرض و البطن من العرب دون القبيلة .

الأعراب

الذين مع صلته منصوب بأن و أولئك رفع بالابتداء و خبره « ما يأكلون في بطونهم إلا النار » و المبتدأ و خبره جملة في موضع الرفع بكونها خبر إن و النار نصب بيأكلون .

النزول

المعني في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين إلا أنها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود و هم علماؤهم ككعب بن الأشرف و حيي بن أخطب و كعب بن أسد و كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا و يرجون كون النبي منهم فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيروا صفته فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

ثم عاد الكلام إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم فقال تعالى : « إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب » أي صفة محمد و البشارة به عن ابن عباس و قتادة و السدي و قيل كتموا الأحكام عن الحسن و الكتاب على القول الأول هو التوراة و على الثاني يجوز أن يحمل على القرآن و على سائر الكتب « و يشترون به ثمنا قليلا » أي يستبدلون به عرضا قليلا و ليس المراد أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا بل الفائدة فيه أن كل ما يأخذونه في مقابلة ذلك من حطام الدنيا فهو قليل و للعرب في ذلك عادة معروفة و مذهب مشهور و مثله في القرآن كثير قال « و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به » و يقتلون النبيين بغير حق و فيه دلالة على أن من ادعى أن مع الله إلها آخر لا يقوم له على
مجمع البيان ج : 1 ص : 469

قوله برهان و إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق و ذلك بأن وصف الشيء بما لا بد أن يكون عليه من الصفة و مثله في الشعر قول النابغة :
يحفه جانبا نيق و يتبعه
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد أي ليس بها رمد فيكتحل له و قول الآخر :
لا يغمز الساق من أين و من وصب
و لا يعض على شرسوفه الصفر أي ليس بساقه أين و لا وصب فيغمزها من أجلهما و قول سويد بن أبي الكاهل :
من أناس ليس في أخلاقهم
عاجل الفحش و لا سوء الجزع و لم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا أو جزعا غير سيء بل نفي الفحش و الجزع عن أخلاقهم و في أمثال هذا كثيرة « أولئك » يعني الذين كتموا ذلك و أخذوا الأجر على الكتمان « ما يأكلون في بطونهم إلا النار » و معناه أن أكلهم في الدنيا و إن كان طيبا في الحال فكأنهم لم يأكلوا إلا النار لأن ذلك يؤديهم إلى النار كقوله سبحانه في أكل مال اليتيم : « إنما يأكلون في بطونهم نارا » عن الحسن و الربيع و أكثر المفسرين و قيل إنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم عقوبة لهم على كتمانهم فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة فسماه في الحال بما يصير إليه في المال و إنما ذكر البطون و إن كان الأكل لا يكون إلا في البطن لوجهين ( أحدهما ) أن العرب تقول جعت في غير بطني و شبعت في غير بطني إذا جاع من يجري جوعة مجرى جوعة و شبعه مجرى شبعه فذكر ذلك لإزالة اللبس ( و الآخر ) أنه لما استعمل المجاز بأن أجري على الرشوة اسم النار حقق بذكر البطن ليدل على أن النار تدخل أجوافهم « و لا يكلمهم الله يوم القيامة » فيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا يكلمهم بما يحبون و في ذلك دليل على غضبه عليهم و إن كان يكلمهم بالسؤال بالتوبيخ و بما يغمهم كما قال « فلنسألن الذين أرسل إليهم » و قال اخسئوا فيها و لا تكلمون و هذا قول الحسن و الجبائي ( و الثاني ) أنه لا يكلمهم أصلا فتحمل آيات المسألة على أن الملائكة تسألهم عن الله و بأمره و يتأول قوله اخسئوا فيها على دلالة الحال و إنما يدل نفي الكلام على الغضب في الوجه الأول من حيث أن الكلام وضع في
مجمع البيان ج : 1 ص : 470
الأصل للفائدة فلما انتفى الفائدة على وجه الحرمان دل على الغضب فأما الكلام على وجه الغم و الإيلام فخارج عن ذلك « و لا يزكيهم » معناه لا يثني عليهم و لا يصفهم بأنهم أزكياء و من لا يثني الله عليه فهو معذب و قيل لا تقبل أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء و قيل معناه لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة « و لهم عذاب أليم » أي موجع مؤلم .
أُولَئك الَّذِينَ اشترَوُا الضلَلَةَ بِالْهُدَى وَ الْعَذَاب بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصبرَهُمْ عَلى النَّارِ(175)

الإعراب

« ما أصبرهم » قيل إن ما للتعجب كالتي في قوله « قتل الإنسان ما أكفره » أي قد حل محل ما يتعجب منه و حكي عن بعض العرب أنه قال لخصمه ما أصبرك على عذاب الله و قيل أنه للاستفهام على معنى أي شيء أصبرهم يقال أصبرت السبع أو الرجل و نحوه إذا نصبته لما يكره قال الحطيئة :
قلت لها أصبرها دائبا
ويحك أمثال طريف قليل أي ألزمها و اضطرها .

المعنى

« أولئك » إشارة إلى من تقدم ذكرهم « الذين اشتروا الضلالة بالهدى » أي استبدلوا الكفر بالنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بالإيمان به فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن و قيل المراد بالضلالة كتمان أمره مع علمهم به و بالهدى إظهاره و قيل المراد بالضلالة العذاب و بالهدى الثواب و طريق الجنة أي استبدلوا النار بالجنة و قوله « و العذاب بالمغفرة » قيل أنه تأكيد لما تقدم عن أبي مسلم و قيل أنهم كانوا اشتروا العذاب بالمغفرة لما عرفوا ما أعد الله لمن عصاه من العذاب و لمن أطاعه من الثواب ثم أقاموا على ما هم عليه من المعصية مصرين عن القاضي و هذا أولى لأنه إذا أمكن حمل الكلام على زيادة فائدة كان أولى فكان اشتراؤهم الضلالة يرجع إلى عدولهم عن طريق العلم إلى طريق الجهل و اشتراؤهم العذاب بالمغفرة يرجع إلى عدولهم عما يوجب الجنة إلى ما يوجب النار و قوله « فما أصبرهم على النار » فيه أقوال ( أحدها ) إن معناه ما أجرأهم على النار ذهب إليه الحسن و قتادة و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ( و الثاني )
مجمع البيان ج : 1 ص : 471
ما أعملهم بأعمال أهل النار عن مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ( و الثالث ) ما أبقاهم على النار كما يقال ما أصبر فلانا على الحبس عن الزجاج ( و الرابع ) ما أدومهم على النار أي ما أدومهم على عمل أهل النار كما يقال ما أشبه سخاءك بحاتم عن الكسائي و قطرب و على هذه الوجوه فظاهر الكلام التعجب و التعجب لا يجوز على القديم سبحانه لأنه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء و التعجب إنما يكون مما لا يعرف سببه و إذا ثبت ذلك فالغرض أن يدلنا على أن الكفار حلوا محل من يتعجب منه فهو تعجيب لنا منهم ( و الخامس ) ما روي عن ابن عباس أن المراد أي شيء أصبرهم على النار أي حبسهم عليها فتكون للاستفهام و يمكن حمل الوجوه الثلاثة المتقدمة على الاستفهام أيضا فيكون المعنى أي شيء أجرأهم على النار و أعملهم بأعمال أهل النار و أبقاهم على النار و قال الكسائي هو استفهام على وجه التعجب و قال المبرد هذا حسن لأنه كالتوبيخ لهم و التعجيب لنا كما يقال لمن وقع في ورطة ما اضطرك إلى هذا إذا كان غنيا عن التعرض للوقوع في مثلها و المراد به الإنكار و التقريع على اكتساب سبب الهلاك و تعجيب الغير منه و من قال معناه ما أجرأهم على النار فإنه عنده من الصبر الذي هو الحبس أيضا لأن بالجرأة يصبر على الشدة .
ذَلِك بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكتَب بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فى الْكِتَبِ لَفِى شِقَاقِ بَعِيد(176)

اللغة

الاختلاف الذهاب على جهة التفرق في الجهات و أصله من اختلاف الطريق تقول اختلفنا الطريق فجاء هذا من هنا و جاء ذاك من هناك ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب تشبيها بالاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد و أما اختلاف الأجناس فهو ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالسواد و البياض و الشقاق و المشاقة انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له و هو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر لأجل العداوة .

الإعراب

قال الزجاج ذلك مرفوع بالابتداء و الخبر محذوف أي ذلك الأمر و يجوز أن يكون مرفوعا بخبر الابتداء أي الأمر ذلك و يحتمل أن يكون موضع ذلك نصبا على
مجمع البيان ج : 1 ص : 472
تقدير فعلنا ذلك لأن في الكلام ما يدل على فعلنا .

المعنى

« ذلك » إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء ( أولها ) ذلك الحكم بالنار عن الحسن ( و ثانيها ) ذلك العذاب ( و ثالثها ) ذلك الضلال و في تقدير خبره ثلاثة وجوه ( أحدها ) ما ذكرناه من قول الزجاج ( و ثانيها ) إن تقديره ذلك الحكم الذي حكم فيهم أو حل بهم من العذاب أو ذلك الضلال معلوم بأن الله نزل الكتاب بالحق فحذف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه ( و الثالث ) ذلك العذاب لهم « بأن الله نزل الكتاب بالحق » و يكون الباء مع ما بعده في موضع الخبر و من ذهب إلى أن المعنى ذلك الحكم بدلالة أن الله نزل الكتاب بالحق فالكلام على صورته و من ذهب إلى أن المعنى ذلك العذاب أو الضلال بأن الله نزل الكتاب بالحق ففي الكلام محذوف و تقديره فكفروا به و المراد بالكتاب هاهنا التوراة و قال الجبائي هو القرآن و غيره و قال بعضهم المراد بالأول التوراة و بالثاني القرآن « و إن الذين اختلفوا في الكتاب » قيل هم الكفار أجمع عند أكثر المفسرين اختلفوا في القرآن على أقوال فمنهم من قال هو كلام السحرة و منهم من قال كلام تعلمه و منهم من قال كلام تقوله و قيل هم أهل الكتاب من اليهود و النصارى عن السدي اختلفوا في التأويل و التنزيل من التوراة و الإنجيل لأنهم حرفوا الكتاب و كتموا صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و جحدت اليهود الإنجيل و القرآن و قوله « لفي شقاق بعيد » أي بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب و قيل بعيد في الشقاق لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال و كلاهما عادل عن الحق و السداد و قيل في اختلاف شديد فيما يتصل بأحكام التوراة و الإنجيل .

مجمع البيان ج : 1 ص : 473
* لَّيْس الْبرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ الْبرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ الْمَلَئكةِ وَ الْكِتَبِ وَ النَّبِيِّينَ وَ ءَاتى الْمَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبى وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينَ وَ ابْنَ السبِيلِ وَ السائلِينَ وَ فى الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصلَوةَ وَ ءَاتى الزَّكَوةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُوا وَ الصبرِينَ فى الْبَأْساءِ وَ الضرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولَئك الَّذِينَ صدَقُوا وَ أُولَئك هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)

القراءة

قرأ حفص عن عاصم غير هبيرة و حمزة ليس البر بنصب الراء و الباقون بالرفع و روي في الشواذ عن ابن مسعود و أبي « ليس البر » بالنصب بأن يولوا بالياء و قرأ نافع و ابن عامر و لكن البر بالتخفيف و الرفع و الباقون « و لكن البر » بالتشديد و النصب .

الحجة

قال أبو علي حجة من رفع البر أن ليس يشبه الفعل و كون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده و حجة من نصب البر أنه قد حكي عن بعض شيوخنا أنه قال في هذا النحو أن يكون الاسم أن و صلتها أولى بشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر و كأنه اجتمع مضمر و مظهر و الأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر قال ابن جني يجوز أن يكون إنما نصب البر مع الباء بأن جعل الباء زائدة كقولهم و كفى بالله وكيلا .

اللغة

البر العطف و الإحسان مصدر و يجوز أن يكون بمعنى البار أي الواسع الإحسان و البر الصدق و البر الإيمان و التقوى و أصله من الاتساع و منه البر خلاف البحر لاتساعه و اختلف أهل اللغة و الفقهاء في المسكين و الفقير أيهما أشد أحوالا فقال جماعة المسكين الذي لا شيء له و الفقير الذي له ما لا يكفيه و هو قول يونس و ابن دريد و قول أبي حنيفة و قال آخرون الفقير الذي لا شيء له و المسكين من له شيء يسير و هو قول الشافعي و السبيل الطريق و ابن السبيل هو المنقطع به إذا كان في سفره محتاجا و إن كان في بلده ذا يسار و هو من أهل الزكاة و قيل أنه الضيف عن قتادة و إنما قيل للمسافر ابن الطريق للزومه الطريق كما قيل للطير ابن الماء قال ذو الرمة :
وردت اعتسافا و الثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق و الرقاب جمع رقبة و هي أصل العنق و يعبر به عن جميع البدن يقال أعتق الله رقبته و منه قوله فتحرير رقبة و البأساء و البؤس الفقر و الضراء السقم و الوجع و هما مصدران بنيا على فعلاء و ليس لهما أفعل لأن أفعل و فعلاء في الصفات و النعوت و لم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت .

الإعراب

من نصب البر جعل أن مع صلتها اسم ليس أي ليس توليتكم وجوهكم
مجمع البيان ج : 1 ص : 474
البر كله و من رفع البر فالمعنى ليس البر كله توليتكم و كلا المذهبين حسن لأن كل واحد من اسم ليس و خبرها معرفة فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في كون أحدهما اسما و الآخر خبرا كما تتكافأ النكرتان و قد ذكرنا الوجه في ترجيح أحد المذهبين على الآخر و لكن البر إذا شددت لكن نصبت البر و إذا خففت رفعت البر و كسرت النون مع التخفيف لالتقاء الساكنين و أما الإخبار عن البر بمن آمن ففيه وجوه ثلاثة ( أحدها ) أن يكون البر بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل كما يقال ماء غور أي غائر و رجل صوم أي صائم و مثله قول

الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال و إدبار أي أنها مقبلة و مدبرة مثله :
تظل جيادهم نوحا عليهم
مقلدة أعنتها صفونا أي نائحة و ( ثانيها ) إن المعنى و لكن ذا البر من آمن بالله فحذف المضاف من الاسم و ( ثالثها ) أن يكون التقدير و لكن البر بر من آمن بالله فحذف المضاف من الخبر و أقام المضاف إليه مقامه كقول الشاعر :
و كيف تواصل من أصبحت
خلالته كأبي مرحب و كقول النابغة :
و قد خفت حتى ما تزيد مخافتي
على وعل في ذي المطارة عاقل أي على مخافة و على و مثله قوله تعالى « أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام » ثم قال « كمن آمن » أي كإيمان من آمن و قوله « و الموفون بعدهم إذا عاهدوا » في رفعه قولان أحدهما أن يكون مرفوعا على المدح لأن النعت إذا طال و كثر رفع بعضه و نصب على المدح و المعنى و هم الموفون و الآخر أن يكون معطوفا على من آمن و المعنى و لكن ذا البر أو ذوي البر المؤمنون و الموفون بعهدهم و أما قوله « و الصابرين » فمنصوب على المدح أيضا لأن مذهبهم في الصفات و النعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذم ليميزوا الممدوح أو المذموم و تقديره أعني الصابرين قال أبو علي و الأحسن في هذه الأوصاف التي تقطعت للرفع من موصوفها و المدح أو الغض منهم و الذم أن يخالف بإعرابها و لا تجعل كلها جارية على موصوفها ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى
مجمع البيان ج : 1 ص : 475
و انفصالا لما يذكر للتنويه و التنبيه أو النقص و الغض مما يذكر للتخليص و التمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم المختلفين في المعنى و من ذلك قول الشاعر أنشده الفراء :
إلى الملك القرم و ابن الهمام
و ليث الكتيبة في المزدحم
و ذا الرأي حين تغم الأمور
بذات الصليل و ذات اللجم فنصب ليث الكتيبة و ذا الرأي على المدح و أنشد أيضا :
فليت التي فيها النجوم تواضعت
على كل غث منهم و سمين
غيوث الحيا في كل محل و لزبة
أسود الشري يحمين كل عرين و مما نصب على الذم :
سقوني الخمر ثم تكنفوني
عداة الله من كذب و زور و شيء آخر و هو أن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف و إذا خولف بإعراب الألفاظ كان أشد و أوقع فيما يعن و يعترض لصيرورة الكلام و كونه بذلك ضروبا و جملا و كونه في الإجزاء على الأول وجها واحدا و جملة واحدة فلذلك سبق قول سيبويه في قوله و المقيمين الصلاة و أنه محمول على المدح قول من قال أنه محمول على قوله بما أنزل إليك و بالمقيمين الصلاة و إن كان هذا غير ممتنع و قال بعض النحويين أن الصابرين معطوف على ذوي القربى قال الزجاج و هذا لا يصلح إلا أن تكون و الموفون رفعا على المدح للضميرين لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول قال أبو علي لا وجه لهذا القول لأن و الصابرين لا يجوز حمله على « و آتى المال على حبه » سواء كان قوله « و الموفون بعهدهم » عطفا على الموصول أو مدحا لأن الفصل بين الصلة يقع به إذا كان مدحا كما يقع به إذا كان مفردا معطوفا على الموصول بل الفصل بينهما بالمدح أشنع لكون المدح جملة و الجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع و أقبح بحسب زيادتها على المفرد و إن كان الجميع من ذلك ممتنعا .

النزول و النظم

لما حولت القبلة و كثر الخوض في نسخها و صار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة و أكثر اليهود و النصارى ذكرها أنزل الله سبحانه هذه الآية عن أبي القاسم البلخي و عن قتادة أنها نزلت في اليهود .

مجمع البيان ج : 1 ص : 476

المعنى

« ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب » بين سبحانه أن البر كله ليس في الصلاة فإن الصلاة إنما أمر بها لكونها مصلحة في الإيمان و صارفة عن الفساد و كذلك العبادات الشرعية إنما أمر بها لما فيها من الألطاف و المصالح الدينية و ذلك يختلف بالأزمان و الأوقات فقال ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها عن ابن عباس و مجاهد و اختاره أبو مسلم و قيل معناه ليس البر ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق و لا ما عليه اليهود من التوجه إلى المغرب عن قتادة و الربيع و اختاره الجبائي و البلخي « و لكن البر من آمن بالله » أي لكن البر بر من آمن بالله كقولهم السخاء حاتم و الشعر زهير أي السخاء سخاء حاتم و الشعر شعر زهير عن قطرب و الزجاج و الفراء و اختاره الجبائي و قيل و لكن البار أو ذا البر من آمن بالله أي صدق بالله و يدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله سبحانه إلا به كمعرفة حدوث العالم و إثبات المحدث و صفاته الواجبة و الجائزة و ما يستحيل عليه سبحانه و معرفة عدله و حكمته « و اليوم الآخر » يعني القيامة و يدخل فيه التصديق بالبعث و الحساب و الثواب و العقاب « و الملائكة » أي و بأنهم عباد الله المكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون « و الكتاب » أي و بالكتب المنزلة من عند الله إلى أنبيائه « و النبيين » و بالأنبياء كلهم و أنهم معصومون مطهرون و فيما أدوه إلى الخلق صادقون و إن سيدهم و خاتمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إن شريعته ناسخة لجميع الشرائع و التمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة « و آتى المال » أي و أعطى المال « على حبه » فيه وجوه ( أحدها ) إن الكناية راجعة إلى المال أي على حب المال فيكون المصدر مضافا إلى المفعول و هو معنى قول ابن عباس و ابن مسعود قال هو أن تعطيه و أنت صحيح تأمل العيش و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ( و ثانيها ) أن تكون الهاء راجعة إلى من آمن فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل و لم يذكر المفعول لظهور المعنى و وضوحه و هو مثل الوجه الأول سواء في المعنى ( و ثالثها ) أن تكون الهاء راجعة إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله « و آتى المال » و المعنى على حبه الإعطاء و يجري ذلك مجرى قول القطامي :
هم الملوك و أبناء الملوك لهم
و الآخذون به و الساسة الأول فكني بالهاء عن الملك لدلالة قول الملوك عليه ( و رابعها ) أن الهاء راجعة إلى الله لأن ذكره سبحانه قد تقدم أي يعطون المال على حب الله و خالصا لوجهه قال المرتضى
مجمع البيان ج : 1 ص : 477
قدس الله روحه لم نسبق إلى هذا الوجه في هذه الآية و هو أحسن ما قيل فيها لأن تأثير ذلك أبلغ من تأثير حب المال لأن المحب للمال الضنين به متى بذله و أعطاه و لم يقصد به القربة إلى الله تعالى لم يستحق شيئا من الثواب و إنما يؤثر حبه للمال في زيادة الثواب متى حصل قصد القربة و الطاعة و لو تقرب بالعطية و هو غير ضنين بالمال و لا محب له لا يستحق الثواب « ذوي القربى » أراد به قرابة المعطي كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سئل عن أفضل الصدقة فقال جهد المقل على ذي الرحم الكاشح و قوله لفاطمة بنت قيس لما قالت يا رسول الله إن لي سبعين مثقالا من ذهب قال اجعليها في قرابتك و يحتمل أن يكون أراد قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما في قوله « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى » و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) « و اليتامى » اليتيم من لا أب له مع الصغر قيل أراد يعطيهم أنفسهم المال و قيل أراد ذوي اليتامى أي يعطي من تكفل بهم لأنه لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فعلى هذا يكون اليتامى في موضع جر عطفا على القربى و على القول الأول يكون في موضع نصب عطفا على « ذوي القربى » « و المساكين » يعني أهل الحاجة « و ابن السبيل » يعني المنقطع به عن أبي جعفر و مجاهد و قيل الضيف عن ابن عباس و قتادة و ابن جبير « و السائلين » أي الطالبين للصدقة لأنه ليس كل مسكين يطلب « و في الرقاب » فيه وجهان ( أحدهما ) عتق الرقاب بأن يشتري و يعتق ( و الآخر ) في رقاب المكاتبين و الآية محتملة للأمرين فينبغي أن تحمل عليهما و هو اختيار الجبائي و الرماني و في هذه الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة بلا خلاف و قال ابن عباس في المال حقوق واجبة سوى الزكاة و قال الشعبي هي محمولة على وجوب حقوق في مال الإنسان غير الزكاة مما له سبب وجوب كالإنفاق على من يجب عليه نفقته و على من يجب عليه سد رمقه إذا خاف عليه التلف و على ما يلزمه من النذور و الكفارات و يدخل في هذا أيضا ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع و القربة إلى الله لأن ذلك كله من البر و اختاره الجبائي قالوا و لا يجوز حمله على الزكاة المفروضة لأنه عطف عليه الزكاة و إنما خص هؤلاء لأن الغالب أنه لا يوجد الاضطرار إلا في هؤلاء « و أقام الصلاة » أي أداها لميقاتها و على حدودها « و آتى الزكاة » أي أعطى زكاة ماله « و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا » أي و الذين إذا عاهدوا عهدا أوفوا به يعني العهود و النذور التي بينهم و بين الله تعالى و العقود التي بينهم و بين الناس و كلاهما يلزم الوفاء به « و الصابرين في البأساء و الضراء » يريد بالبأساء البؤس و الفقر و بالضراء الوجع و العلة عن ابن مسعود و قتادة و جماعة من المفسرين « و حين البأس » يريد وقت القتال و جهاد العدو و روي عن علي
مجمع البيان ج : 1 ص : 478
(عليه السلام) أنه قال كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه يريد إذا اشتد الحرب « أولئك » إشارة إلى من تقدم ذكرهم « الذين صدقوا » أي صدقوا الله فيما قبلوا منه و التزموه علما و تمسكوا به عملا عن ابن عباس و الحسن و قيل الذين صدقت نياتهم لأعمالهم على الحقيقة « و أولئك هم المتقون » أي اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم و استدل أصحابنا بهذه الآية على أن المعني بها أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه لا خلاف بين الأمة إنه كان جامعا لهذه الخصال فهو مراد بها قطعا و لا قطع على كون غيره جامعا لها و لهذا قال الزجاج و الفراء أنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِب عَلَيْكُمُ الْقِصاص فى الْقَتْلى الحُْرُّ بِالحُْرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الأُنثى بِالأُنثى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شىْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسن ذَلِك تخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178)

اللغة

كتب فرض و أصل الكتابة الخط الدال على معنى فسمي به ما دل على الفرض قال الشاعر :
كتب القتل و القتال علينا
و على الغانيات جر الذيول و القصاص و المقاصة و المعاوضة و المبادلة نظائر يقال قص أثره أي تلاه شيئا بعد شيء و منه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية و يتبعه و قيل هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة و منه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء و الحر نقيض العبد و الحر من كل شيء أكرمه و أحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ و تحرير الكتابة إقامة حروفها و العفو الترك و عفت الدار أي تركت حتى درست و العفو عن المعصية ترك العقاب
مجمع البيان ج : 1 ص : 479
عليها و قيل معنى العفو هاهنا ترك القود بقبول الدية من أخيه و جمع الأخ الأخوة إذا كانوا لأب فإن لم يكونوا لأب فهم إخوان ذكر ذلك صاحب العين و التأدية و الأداء تبليغ الغاية يقال أدى فلان ما عليه و فلان آدى للأمانة من غيره .

الإعراب

فاتباع مبتدأ و خبره محذوف أي فعليه اتباع أو خبر لمبتدء محذوف أي فحكمه اتباع و لو كان في غير القرآن لجاز فاتباعا بالمعروف و أداءا إليه بإحسان على معنى فليتبع اتباعا و ليؤد أداء و لكن الرفع عليه إجماع القراء و هو الأجود في العربية .

النزول

نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر و كانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور و أقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم و بالمرأة منا الرجل منهم و بالرجل منا الرجلين منهم و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان و التمسك بالشرائع بين الشرائع و بدأ بالدماء و الجراح فقال « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم » أي فرض عليكم و أوجب و قيل كتب عليكم في أم الكتاب و هو اللوح المحفوظ على جهة الفرض « القصاص في القتلى » المساواة في القتلى أي يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول و لا خلاف أن المراد به قتل العمد لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطإ المحض و شبيه العمد و متى قيل كيف قال « كتب عليكم القصاص في القتلى » و الأولياء مخيرون بين القصاص و العفو و أخذ الدية و المقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه فالجواب من وجهين ( أحدهما ) أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص و الفرض قد يكون مضيقا و قد يكون مخيرا فيه ( و الثاني ) أنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم و ترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم و أما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين و من يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي لأنه حق الآدمي و يجب على القاتل تسليم النفس « الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى » قال الصادق و لا يقتل حر بعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد و هذا مذهب الشافعي و قال إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل و هذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة أن يرد فضل ما بينهما و كذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي السلام و يجوز قتل العبد بالحر و الأنثى بالذكر إجماعا و ليس في الآية ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 480
يمنع من ذلك لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر و لا العبد بالحر فما تضمنته الآية معمول به و ما قلناه مثبت بالإجماع و بقوله سبحانه النفس بالنفس و قوله « فمن عفي له من أخيه شيء » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه من ترك له و صفح عنه من الواجب عليه و هو القصاص في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به و أراد بالأخ المقتول سماه أخا للقاتل فدل أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع و إن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله و قيل أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم سماه الله أخا للقاتل و قوله « شيء » دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض و الله تعالى قال « فمن عفي له من أخيه شيء » و الضمير في قوله « له » و في « أخيه » كلاهما يرجع إلى من و هو القاتل أي من ترك له القتل و رضي منه بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد و لم يذكر سبحانه العافي لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص و المطالبة و هو ولي الدم و القول الآخر أن المراد بقوله « فمن عفي له » ولي الدم و الهاء في أخيه يرجع إليه و تقديره فمن بذل له من أخيه يعني أخا الولي و هو المقتول الدية و يكون العافي معطي المال ذكر ذلك عن مالك و من نصر هذا القول قال أن لفظ شيء منكر و القود معلوم فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة فيجب أن يكون المعنى فمن بذل له من أخيه مال و ذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر و مقدار الدية أو أقل أو أكثر فصح أن يقال فيه شيء و هذا ضعيف و القول الأول أظهر و قد ذكرنا الوجه في تنكير قوله « شيء » هناك و أما الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج و الزوجة عندنا و أما غير أصحابنا من العلماء فلا يستثنونهما و قوله « فاتباع بالمعروف » أي فعلى العافي اتباع بالمعروف هي أن لا يشدد في الطلب و ينظره إن كان معسرا و لا يطالبه بالزيادة على حقه و على المعفو له « و أداء إليه بإحسان » أي الدفع عند الإمكان من غير مطل و به قال ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل المراد فعلى المعفو عنه الاتباع و الأداء و قوله « ذلك » إشارة إلى جميع ما تقدم « تخفيف من ربكم و رحمة » معناه أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو و خيركم بينها و كان لأهل التوراة القصاص أو العفو و لأهل الإنجيل العفو أو الدية و قوله « فمن اعتدى بعد ذلك » أي بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل بأن قتل غير قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية و قيل بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص قال القاضي و يجب حمله على الجميع لعموم اللفظ « فله عذاب أليم » في الآخرة .

مجمع البيان ج : 1 ص : 481
وَ لَكُمْ فى الْقِصاصِ حَيَوةٌ يَأُولى الأَلْبَبِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ(179)

اللغة

الألباب العقول واحدها لب مأخوذ من لب النخلة و لب بالمكان و ألب به إذا قام و اللب البال .

المعنى

ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص فقال « و لكم » أيها المخاطبون « في القصاص حيوة » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سببا للحياة عن مجاهد و قتادة و أكثر أهل العلم ( و الثاني ) أن معناه لكم في وقوع القتل حياة لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل عن السدي و المعنيان جميعا حسنان و نظيره من كلام العرب القتلى أنفى للقتل إلا أن ما في القرآن أكثر فائدة و أوجز في العبارة و أبعد من الكلفة بتكرير الجملة و أحسن تأليفا بالحروف المتلائمة فأما كثرة الفائدة فلأن فيه جميع ما في قولهم القتل أنفى للقتل و زيادة معاني منها إبانة العدل لذكره القصاص و منها إبانة الغرض المرغوب فيه و هو الحياة و منها الاستدعاء بالرغبة و الرهبة و حكم الله به و أما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتلى أنفى للقتل قوله « القصاص حيوة » و هو عشرة أحرف و ذلك أربعة عشر حرفا و أما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه و أما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس و موجود باللفظ فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام و كذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام فباجتماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه و أحسن و إن كان الأول حسنا بليغا و قد أخذه الشاعر فقال :
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة
و في العتاب حياة بين أقوام و هذا و إن كان حسنا فبينه و بين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة و أدناها و أول ما فيه أن ذلك استدعاء إلى العتاب و هذا استدعاء إلى العدل و في ذلك إبهام و في الآية بيان عجيب و قوله « يا أولي الألباب » معناه يا ذوي العقول لأنهم الذين يعرفون العواقب و يتصورون ذلك فلذلك خصهم « لعلكم تتقون » في لعل ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه بمعنى اللام أي لتتقوا ( و الثاني ) أنه للرجاء و الطمع كأنه قال على رجائكم و طمعكم في التقوى
مجمع البيان ج : 1 ص : 482
( و الثالث ) على معنى التعرض أي على تعرضكم للتقوى و في تتقون قولان ( أحدهما ) لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص عن ابن عباس و الحسن و ابن زيد ( و الثاني ) لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه و هذا أعم .
كُتِب عَلَيْكُمْ إِذَا حَضرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت إِن تَرَك خَيراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلى الْمُتَّقِينَ(180)

اللغة

المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر و لا حيف فيه و لا جور و الحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك و الحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره و قيل هو ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا و هو مصدر حق يحق حقا .

الإعراب

قوله « كتب عليكم » المعنى و كتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغني عن العطف بالواو و علم أن معناه معنى الواو لأن القصة الأولى قد استتمت و في القصة الثانية ذكر مما في الأولى فاتصلت هذه بتلك لأجل الذكر و الوصية ارتفعت لأحد وجهين إما بأنه اسم ما لم يسم فاعله و هو كتب و إما بأنه مبتدأ و قوله « للوالدين » خبره و الجملة في موضع رفع على الحكاية لأن معنى كتب عليكم قيل لكم الوصية للوالدين و أما العامل في إذا ففيه وجهان ( أحدهما ) كتب فكأنه قيل كتب عليكم الوصية وقت المرض ( و الآخر ) ما قاله الزجاج و هو أن الوصية رغب فيها في حال الصحة فتقديره كتب عليكم أن توصوا و أنتم قادرون على الوصية قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا و حقا نصب على المصدر و تقديره أحق ذلك حقا و قد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف بالعدل فعلى هذا يكون نصبا على الحال و يجوز أن يكون مصدر كتب من غير لفظة تقديره كتب كتابا .

المعنى

ثم بين سبحانه شريعة أخرى و هو الوصية فقال « كتب عليكم » أي فرض عليكم « إذا حضر أحدكم الموت » أي أسباب الموت من مرض و نحوه من الهرم و لم يرد إذا عاين البأس و ملك الموت لأن تلك الحالة تشغله عن الوصية و قيل فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا « إن ترك خيرا » أي مالا و اختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده فقال الزهري في القليل و الكثير مما
مجمع البيان ج : 1 ص : 483
يقع عليه اسم المال و قال إبراهيم النخعي من ألف درهم إلى خمسمائة و قال ابن عباس إلى ثمانمائة درهم و روي عن علي (عليه السلام) أنه دخل على مولى له في مرضه و له سبعمائة أو ستمائة درهم فقال أ لا أوصي فقال لا إن الله سبحانه قال « إن ترك خيرا » و ليس لك كثير مال و هذا هو المأخوذ به عندنا لأن قوله حجة « الوصية للوالدين و الأقربين » أي الوصية لوالديه و قرابته « بالمعروف » أي بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه و لا حيف و يحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف و يحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية فليس من المعروف أن يوصي للغني و يترك الفقير و يوصي للقريب و يترك الأقرب منه و يجب حمله على كلا الوجهين « حقا على المتقين » أي حقا واجبا على من آثر التقوى و هذا تأكيد في الوجوب و اختلف في هذه الآية فقيل أنها منسوخة و قيل أنها منسوخة في المواريث ثابتة في غير الوارث و قيل أنها غير منسوخة أصلا و هو الصحيح عند المحققين من أصحابنا لأن من قال أنها منسوخة ب آية المواريث فقوله باطل بأن النسخ بين الخبرين إنما يكون إذا تنافي العمل بموجبهما و لا تنافي بين آية المواريث و آية الوصية فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي و من قال أنها منسوخة بقوله (عليه السلام) لا وصية لوارث فقد أبعد لأن الخبر لو سلم من كل قدح لكان يقتضي الظن و لا يجوز أن ينسخ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين بما يقتضي الظن و لو سلمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواية لخصصنا عموم الآية و حملناها على أنه لا وصية لوارث بما يزيد على الثلث لأن ظاهر الآية يقتضي أن الوصية جائزة لهم بجميع ما يملك و قول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست بفرض يدل على أنها منسوخة يفسد بأن الإجماع إنما هو على أنها لا تفيد الفرض و ذلك لا يمنع من كونها مندوبا إليها مرغبا فيها و قد روى أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل هل تجوز الوصية للوارث فقال نعم و تلا هذه الآية و روى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية و مما يؤيد ما ذكرناه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية و عنه (عليه السلام) أنه قال من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصا في مروءته و عقله و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال ما ينبغي لامرىء مسلم أن يبيت إلا و وصيته تحت رأسه .

مجمع البيان ج : 1 ص : 484
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سمِيعٌ عَلِيمٌ(181)

المعنى

ثم أوعد سبحانه على تغيير الوصية فقال « فمن بدله » أي بدل الوصية و غيرها من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود و إنما ذكر حملا على الإيصاء كقوله « فمن جاءه موعظة من ربه » أي وعظ و التبديل تغيير الشيء عن الحق فيه بأن يوضع غيره في موضعه « بعد ما سمعه » من الموصي الميت و إنما ذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم و السماع « فإنما إثمه » أي إثم التبديل « على الذين يبدلونه » أي على من يبدل الوصية و بريء الميت « إن الله سميع عليم » أي سميع لما قاله الموصي من العدل أو الجنف عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل و قيل سميع لوصاياكم عليم بنياتكم و قيل سميع بجميع المسموعات عليم بجميع المعلومات و في هذه الآية دلالة على أن الوصي أو الوارث إذا فرط في الوصية أو غيرها لا يأثم الموصي بذلك و لم ينقص من أجره شيء فإنه لا يجازى أحد على عمل غيره و فيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول أن الوارث إذا لم يقض دين الميت فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة لما قلناه من أنه يدل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره إذ لا إثم عليه بتبديل غيره و كذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به لم يزل ذلك عقابه إلا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه .
فَمَنْ خَاف مِن مُّوص جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصلَحَ بَيْنهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(182)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص و يعقوب موص بالتشديد و قرأ الباقون « موص » بالتخفيف .

الحجة

ذكرناها عند قوله و وصى بها إبراهيم .

اللغة

الجنف الجور و هو الميل عن الحق و قال صاحب العين هو الميل في الكلام و في الأمور كلها يقال جنف علينا فلان و أجنف في حكمه و هو مثل الحيف إلا أن الحيف في الحكم خاصة و الجنف عام و رجل أجنف في أحد شقيه ميل على الآخر قال
مجمع البيان ج : 1 ص : 485
الشاعر في الجنف :
إني امرؤ منعت أرومة عامر
ضيمي و قد جنفت علي خصوم .

الإعراب

من في قوله « من موص » يتعلق بمحذوف تقديره فمن خاف جنفا كائنا من موص فموضع الجار و المجرور مع المحذوف نصب على الحال و ذو الحال قوله « جنفا » و بين ظرف مكان لأصلح و الضمير في بينهم عائد إلى معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الموصي و الإصلاح لأنه يدل على الموصى لهم و من ينازعهم و أنشد الفراء في مثله :
أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخدر
و يصم عما كان بينهما
سمعي و ما بي غيره وقر أراد بينها و بين زوجها و إنما ذكرها وحدها .

المعنى

لما تقدم الوعيد لمن بدل الوصية بين في هذه الآية أن ذلك يلزم من غير حقا بباطل فأما من غير باطلا بحق فهو محسن فقال « فمن خاف » أي خشي و قيل علم لأن في الخوف طرفا من العلم و ذلك أن القائل إذا قال أخاف أن يقع أمر كذا فكأنه يقول أعلم و إنما يخاف لعلمه بوقوعه و منه قوله « و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم » و قوله « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » « من موص جنفا » أي ميلا عن الحق فيما يوصي به فإن قيل كيف قال فمن خاف لما قد وقع و الخوف إنما يكون لما لم يقع قيل أن فيه قولين ( أحدهما ) أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته فالخوف يكون للمستقبل و هو من أن يظهر ما يدل على أنه قد زل لأنه من جهة غالب الظن ( و الثاني ) أنه لما اشتمل على الواقع و على ما لم يقع جاز فيه خاف فيأمره بما فيه الصلاح فيما لم يقع و ما وقع رده إلى العدل بعد موته و قال الحسن الجنف هو أن يوصي به في غير قرابة و إنما قال ذلك لأن عنده الوصية للقرابة واجبة و الأمر بخلافه و قيل المراد من خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي جنفا و هو أن يعطي بعضا و يضر ببعض فلا إثم عليه أن يشير عليه بالحق و يرده إلى الصواب و يصلح بين الموصي و الورثة و الموصى له حتى يكون الكل راضين و لا يحصل جنف و لا إثم و يكون قوله « فأصلح بينهم » أي فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه فيما بعد و يكون قوله « فمن خاف » على ظاهره و يكون الخوف مترقبا غير واقع و هذا قريب غير أن الأول عليه أكثر المفسرين و هو المروي عن أبي جعفر و أبي
مجمع البيان ج : 1 ص : 486
عبد الله (عليه السلام) و قوله « أو إثما » الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد و الجنف أن يكون على جهة الخطإ من حيث لا يدري أنه يجوز و هو معنى قول ابن عباس و الحسن و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) « فأصلح بينهم » أي بين الورثة و المختلفين في الوصية و هم الموصى لهم « فلا إثم عليه » لأنه متوسط مريد للإصلاح و إنما قال « لا إثم عليه » و لم يقل يستحق الأجر لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه فبين سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح و قيل إنه لما بين إثم المبدل و هذا أيضا ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل « فإن الله غفور رحيم » يعني إذا كان يغفر الذنوب و يرحم المذنب فأولى و أحرى أن يكون كذلك و لا ذنب و روي عن الصادق (عليه السلام) في قوله « جنفا أو إثما » أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية و زاد على الثلث و روي ذلك عن ابن عباس و روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته و بالله التوفيق .

 

<<        الفهرس        >>