جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 418

دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه لأنه قال « و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها » فأخبر أنه تعالى هو الجاعل لتلك القبلة و أنه هو الذي نقله عنها و ذلك هو النسخ .
قَدْ نَرَى تَقَلُّب وَجْهِك فى السمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّك قِبْلَةً تَرْضاهَا فَوَلِّ وَجْهَك شطرَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْث مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شطرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(144)

اللغة

الرؤية هي إدراك الشيء بالبصر و نظيره الإبصار ثم تستعمل بمعنى العلم و التقلب و التحول و التصرف نظائر و هو التحرك في الجهات و يقال وليتك القبلة أي صيرتك تستقبلها بوجهك و ليس هذا المعنى في فعلت منه لأنك تقول وليت الدار فلا يكون فيه دلالة على أنك واجهتها ففعلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت و قد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة و المواجهة في نحو قوله و يولون الدبر و قوله و يولوكم الأدبار فهذا منقول من قولهم داري تلي داره تقول وليت ميامنه و ولأني ميامنه مثل فرح و فرحته و الرضا و المحبة نظيران و إنما يظهر الفرق بضديهما فالمحبة ضدها البغض و الرضا ضده السخط و هو يرجع إلى الإرادة فإذا قيل رضي عنه فكأنه أراد تعظيمه و ثوابه و إذا قيل رضي عمله فكأنه أراد ذلك و السخط إرادة الانتقام و « شطر المسجد الحرام » أي نحوه و تلقاءه قال الشاعر :
و قد أظلكم من شطر ثغركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا أي من نحو ثغركم و قال :
إن العسير بها داء يخامرها
فشطرها نظر العينين محسور أي نحوها قال الزجاج يقال هؤلاء القوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا كما يقال هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم و هم نحونا و قال صاحب العين شطر كل شيء نصفه و شطره
مجمع البيان ج : 1 ص : 419
نحوه و قصده و منه المثل احلب حلبا لك شطره أي نصفه و شطرت الشيء أي جعلته و الحرام المحرم كما أن الكتاب بمعنى المكتوب و الحساب بمعنى المحسوب و الحق وضع الشيء في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح و الغفلة هي السهو عن بعض الأشياء خاصة و إذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة لأن النائم لا يقال له غفل إلا مجازا .

الإعراب

« حيث ما كنتم » موضع كنتم جزم بالشرط و تقديره و حيثما تكونوا و الفاء و ما بعده في موضع الجزاء و لا يجازى بحيث و إذ حتى يكف كل واحد منهما بما و ذلك لأنهما لا يكونان إلا مضافين إلى ما بعدهما من الجملة قبل المجازاة بهما فألزما في المجازاة ما لتكفهما عن الإضافة لأن الإضافة تمنع الجزاء بهما و ذلك لأن الفعل إذا وقع في موضع اسم ارتفع المضاف إليه في موضع اسم مجرور و موضعه جر بالإضافة فيمتنع جزمه بالجزاء مع وجود شرط الرفع فيه فلما كان كذلك كفا بما لتهيئهما لجزم فعل الشرط بالجزاء و شطر منصوب على الظرف .

النزول

قال المفسرون كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال لجبريل وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له جبريل (عليه السلام) إنما أنا عبد مثلك و أنت كريم على ربك فادع ربك و سله ثم ارتفع جبريل و جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال .

المعنى

« قد نرى تقلب وجهك » يا محمد « في السماء » لانتظار الوحي في أمر القبلة و قيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان ( أحدهما ) أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا و توقعا للموعود كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها ( و الثاني ) أنه كان يكره قبلة بيت المقدس و يهوى قبلة الكعبة و كان لا يسأل الله تعالى ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم و اختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة
مجمع البيان ج : 1 ص : 420
كانت قبلة أبيه إبراهيم (عليه السلام) و قبلة آبائه عن ابن عباس و قيل لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا و يتبع قبلتنا عن مجاهد و قيل إن اليهود قالوا ما دري محمد و أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم عن ابن زيد و قيل كانت العرب يحبون الكعبة و يعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها و كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) حريصا على استدعائهم إلى الدين و يحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها و قوله « فلنولينك قبلة ترضيها » أي فلنصرفنك إلى قبلة تريدها و تحبها و إنما أراد به محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى « فول وجهك شطر المسجد الحرام » أي حول نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشيء نفسه و قيل إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه و قال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة و هذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين « و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره » أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر أو سهل أو جبل فولوا وجوهكم نحوه فالأول خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أهل المدينة ( و الثاني ) خطاب لجميع أهل الآفاق و لو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض و مغاربها و ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال البيت كله قبلة و قبلة البيت الباب و البيت قبلة أهل المسجد و المسجد قبلة أهل الحرم و الحرم قبلة أهل الأرض كلها و هذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق و قوله « و إن الذين أوتوا الكتاب » أراد به علماء اليهود و قيل علماء اليهود و النصارى « ليعلمون أنه الحق من ربهم » أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم و إنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا و كذا و كان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين و روي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد و إنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا و مرة إلى هنا فأنزل الله تعالى هذه الآية و بين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون « و ما الله بغافل عما يعملون » أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المعاندة و دل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب و على أن يظهروا خلاف ما يبطنون فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب و لا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون و هذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس و قال ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة و قال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها و قال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن
مجمع البيان ج : 1 ص : 421
و هذا هو الأقوى لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس و من قال إنها نسخت قوله فأينما تولوا فثم وجه الله فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و ليست بمنسوخة و اختلف الناس في صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى بيت المقدس فقال قوم كان (عليه السلام) يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس ثم أعيد إلى الكعبة و قال قوم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينها و لا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه و قال قوم بل كان يصلي بمكة و بعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس و لم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه و بينها ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة .
وَ لَئنْ أَتَيْت الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَب بِكلِّ ءَايَة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَك وَ مَا أَنت بِتَابِع قِبْلَتهُمْ وَ مَا بَعْضهُم بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض وَ لَئنِ اتَّبَعْت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ إِنَّك إِذاً لَّمِنَ الظلِمِينَ(145)

الإعراب

اختلف النحويون في أن لئن لم أجيبت بجواب لو فقال الأخفش أجيبت بجواب لو لأن الماضي وليها كما يلي لو فدخلت كل واحدة منهما على صاحبتها قال سبحانه و لئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا فجرى لئن مجرى لو و قال و لو أنهم آمنوا و اتقوا ثم قال لمثوبة فجرى مجرى لئن و قال سيبويه و أصحابه أن معنى لظلوا ليظلن فمعنى لئن غير معنى لو و كل واحدة منهما على حقيقتها و حقيقة معنى لو أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره كقولك لو أتيتني لأكرمتك فامتنع الإكرام لامتناع الإتيان و معنى إن أن يقع بها الشيء لوقوع غيره تقول إن تأتني أكرمك فالإكرام يقع بوقوع الإتيان و لو لما مضى و إن لما يستقبل و إنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم فمجيء جواب القسم أغنى عن جواب الشرط لدلالته عليه و كذلك قوله « إنك إذا لمن الظالمين » ليس بجواب للشرط على الحقيقة و لكنه جواب القسم و قد أغنى عن الجزاء بدلالته عليه و إنما يجاب الشرط بالفعل أو بالفاء أو بإذا على ما هو مشروح في مواضعه .

المعنى

« و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب » في الكلام معنى القسم أي و الله لئن
مجمع البيان ج : 1 ص : 422
أتيت الذين أعطوا الكتاب يعني أهل العناد من علماء اليهود و النصارى عن الزجاج و البلخي و قيل المعني به جميع أهل الكتاب عن الحسن و أبي علي « بكل آية » أي بكل حجة و دلالة « ما تبعوا قبلتك » أي لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني و على القول الأول لا يؤمن منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة و إنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم « و ما أنت بتابع قبلتهم » في معناه أربعة أقوال ( أحدها ) أنه رفع لتجويز النسخ و بيان أن هذه القبلة لا تنسخ ( و ثانيها ) أنه على وجه المقابلة لقوله « ما تبعوا قبلتك » كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق و ما أنت بتارك الاعتراف به فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول ( و ثالثها ) أن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق الموضع الذي ولد فيه عيسى (عليه السلام) و اليهود إلى بيت المقدس فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال ( و رابعها ) أن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك و ظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس و قوله « و ما بعضهم بتابع قبلة بعض » في معناه قولان ( أحدهما ) أنه لا تصير النصارى كلهم يهودا أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام و هذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن و السدي ( الآخر ) أن معناه إسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله و إن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء فهو أولى بأن يكون قبلة أي فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح و يحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر و لا أن نصرانيا تهود فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل و هذا قول القاضي و قوله « و لئن اتبعت أهواءهم » الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و فيه أربعة أقوال ( أولها ) أن المراد به غيره من أمته و إن كان الخطاب له و المراد الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم و أن اتباعهم ردة عن الحسن و الزجاج ( و ثانيها ) أن المراد أن اتبعت أهواءهم في المداراة لهم حرصا أن يؤمنوا إنك إذا لمن الظالمين لنفسك مع إعلامنا إياك أنهم لا يؤمنون عن الجبائي و ( ثالثها ) أن معناه الدلالة على فساد مذاهبهم و تبكيتهم بها و أن من تبعهم كان ظالما ( و رابعها ) أنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم و مقاربتهم تقوية لنفسه و متبعي شريعته ليستمروا على عداوتهم عن القاضي « من بعد ما جاءك من العلم » أي من الآيات و الوحي الذي هو طريق العلم و قيل من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من القبلة و الدين « إنك إذا لمن الظالمين » و قد مضى معناه و هو
مجمع البيان ج : 1 ص : 423
مثل قوله لئن أشركت ليحبطن عملك و في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال أنه لا يصح الوعيد بشرط و إن من علم الله تعالى أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أنه متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب و فيها دلالة على فساد قول من زعم أن في المقدور لطفا لو فعله الله تعالى بالكافر لآمن لا محالة لقوله إن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك فعلى قول من قال المراد به المعاند لا ينفعه شيء من الآيات و على قول من قال المراد به جميع الكفار فلا لطف لهم أيضا يؤمنون عنده فعلى الوجهين معا يبطل قولهم و فيها دلالة أيضا على أن جميع الكفار لا يؤمنون .
الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(146)

المعنى

أخبر الله سبحانه بأنهم يعرفون النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و صحة نبوته فقال « الذين آتيناهم » أي أعطيناهم « الكتاب » و هم العلماء منهم « يعرفونه » أي يعرفون محمدا و أنه حق « كما يعرفون أبناءهم » قيل و الضمير في يعرفونه يعود إلى العلم من قوله من العلم يعني النبوة و قيل الضمير يعود إلى أمر القبلة أي يعرفون أن أمر القبلة حق عن ابن عباس فإن قيل كيف قال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و هم كانوا يعرفون أبناءهم من جهة الحكم و يعرفون أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من جهة الحقيقة قيل أنه شبه المعرفة بالمعرفة و لم يشبه طريق المعرفة بطريق المعرفة و كل واحدة من المعرفتين كالأخرى و إن اختلف الطريقان « و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون » إنما خص الفريق منهم لأن من أهل الكتاب من أسلم كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما .
الْحَقُّ مِن رَّبِّك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْترِينَ(147)

اللغة

الامتراء الاستخراج و قيل الاستدرار قال الأعشى :
تدر على أسوق الممترين
و كفا إذا ما السحاب ارجحن يعني الشاكين في درورها لطول سيرها و قيل المستخرجين ما عندها قال صاحب
مجمع البيان ج : 1 ص : 424
العين المري مسحك ضرع الناقة تمريها لتسكن للحلب و الريح تمري السحاب مريا و المرية من ذلك و المرية الشك و منه الامتراء و التماري و المماراة و المراء الجدال و أصل الباب الاستدرار يقال بالشكر تمتري النعم أي تستدر .

الإعراب

الحق مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف و تقديره ذلك الحق أو هو الحق و مثله مررت برجل كريم زيد أي هو زيد و لو نصب لجاز في العربية على تقدير اعلم الحق من ربك أو اقرأ الحق و النون في لا تكونن نون التأكيد يؤكد بها الأمر و النهي و لا يؤكد بها الخبر لما كان يدل على كون المخبر به و ليس كذلك الأمر و النهي و الاستخبار فألزم الخبر التأكيد بالقسم و جوابه و اختصت هذه الأشياء بنون التأكيد ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد و لما كان الخبر أصل الجمل أكد بأبلغ التأكيد و هو القسم .

المعنى

هو « الحق من ربك » و هو ما آتاه الله من الوحي و الكتاب و الشرائع « فلا تكونن من الممترين » من الشاكين في الحق الذي تقدم إخبار الله تعالى به و في عناد من كتم النبوة و امتناعهم من الاجتماع على ما قامت به الحجة و قيل من الممترين في شيء يلزمك العلم به و هذا أولى لأنه أعم و الخطاب و إن كان متوجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فالمراد به الأمة كقوله عز اسمه يا أيها النبي إذا طلقتم النساء و أمثاله و قيل الخطاب له لأنه يجوز عليه ذلك لملازمته أمر الله سبحانه و لو لم يكن هناك أمر لم تصح الملازمة و في هذا دلالة على جواز ثبوت القدرة على خلاف المعلوم خلافا لقول المجبرة .
وَ لِكلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاستَبِقُوا الْخَيرَتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(148)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم هو مولاها و روي ذلك عن ابن عباس و محمد بن علي الباقر و الباقون « هو موليها » .

الحجة

من قرأ « هو موليها » فالضمير الذي هو هو لله تعالى و التقدير الله موليها إياه حذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر و هو كل في قوله « و لكل وجهة » و هو مبتدأ و موليها خبره و الجملة التي هي هو موليها في موضع رفع لكونها وصفا لوجهة من قرأ هو مولاها
مجمع البيان ج : 1 ص : 425 فالضمير الذي هو هو لكل و قد جرى ذكره و قد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما أحدهما الضمير المرفوع من مولى و الآخر ضمير المؤنث و يجوز أن يكون الضمير الذي هو هو في قوله « هو موليها » عائدا إلى كل و التقدير لكل وجهة هو موليها وجهة أي كل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إلى تلك الجهة .

اللغة

اختلف أهل العربية في وجهة فبعضهم يذهب إلى أنه مصدر شذ عن القياس فجاء مصححا و منهم من يقول هو اسم ليس بمصدر جاء على أصله و أنه لو كان مصدرا جاء مصححا للزم أن يجيء فعله أيضا مصححا أ لا ترى أن هذا المصدر إنما اعتل على الفعل حيث كان عاملا عمله و كان على حركاته و سكونه فلو صح لصح الفعل لأن هذه الأفعال المعتلة إذا صحت في موضع تبعها باقي ذلك فوجهة اسم للمتوجه و الجهة المصدر قالوا وجه الحجر جهة ما له يريدون هنا المصدر و ما زائدة و له في موضع الصفة للنكرة و الاستباق و الابتدار و الإسراع نظائر و له في هذا الأمر سبقة و سابقة و سبق أي سبق الناس إليه .

المعنى

هذا بيان لأمر القبلة أيضا و قوله « و لكل وجهة » فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه لكل أهل ملة من اليهود و النصارى قبلة عن مجاهد و أكثر المفسرين و ( ثانيها ) أن لكل نبي و صاحب ملة وجهة أي طريقة و هي الإسلام و إن اختلفت الأحكام كقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا يعني شرائع الأنبياء عن الحسن و ( ثالثها ) أن لكل من المسلمين و أهل الكتاب قبلة يعني صلاتهم إلى بيت المقدس و صلاتهم إلى الكعبة عن قتادة و ( رابعها ) أن لكل قوم من المسلمين وجهة من كان منهم وراء الكعبة أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها و هو اختيار الجبائي « هو موليها » أي الله موليها إياهم و معنى توليته لهم إياها أنه أمرهم بالتوجه نحوها في صلاتهم إليها و يدل على ذلك قوله فلنولينك قبلة ترضاها و قيل معناه لكل مولي الوجهة وجهة أو نفسه إلا أنه استغنى عن ذكر النفس و الوجه و كل و إن كان مجموع المعنى فهو موحد اللفظ فجاء البناء على لفظه فلذلك قال هو في الكناية عنه و إن كان المراد به الجمع و المعنى كل جماعة منهم يولونها وجوههم و يستقبلونها و قوله « فاستبقوا الخيرات » معناه سارعوا إلى الخيرات عن الربيع و الخيرات هي الطاعات لله تعالى و قيل معناه بادروا إلى القبول من الله عز و جل فيما يأمركم به مبادرة من يطلب السبق إليه عن الزجاج و قيل معناه تنافسوا فيما رغبتم فيه من الخير فلكل عندي ثوابه عن ابن عباس و قوله « أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا » أي حيثما متم من بلاد الله
مجمع البيان ج : 1 ص : 426
سبحانه يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة و روي في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان قال الرضا (عليه السلام) و ذلك و الله لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان « إن الله على كل شيء قدير » أي هو قادر على جمعكم و حشركم و على كل شيء .
وَ مِنْ حَيْث خَرَجْت فَوَلِّ وَجْهَك شطرَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّك وَ مَا اللَّهُ بِغَفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(149)

المعنى

« و من حيث خرجت » من البلاد « فول وجهك شطر المسجد الحرام » أي فاستقبل بوجهك تلقاء المسجد الحرام و قيل في تكراره وجوه ( أحدها ) أنه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من مواضع التأكيد و التبيين لينصرف الخلق إلى الحال الثانية من الحال الأولى على يقين و ( ثانيها ) أنه مقدم لما يأتي بعده و يتصل به فأشبه الاسم الذي تكرر ليخبر عنه بأخبار كثيرة كما يقال زيد كريم زيد عالم زيد فاضل و ما أشبه ذلك مما يذكر لتعلق الفائدة به و ( ثالثها ) أنه في الأول بيان لحال الحضر و في الثاني بيان لحال السفر و قوله « و أنه للحق من ربك » معناه و إن التوجه إلى الكعبة الحق المأمور به من ربك و يحتمل أن يراد بالحق الثابت الذي لا يزول بنسخ كما يوصف القديم سبحانه بأنه الحق الثابت الذي لا يزول « و ما الله بغافل عما تعملون » معناه هنا التهديد كما يقول الملك لعبيدة ليس يخفى علي ما أنتم عليه فيه و مثله قوله إن ربك لبالمرصاد .
وَ مِنْ حَيْث خَرَجْت فَوَلِّ وَجْهَك شطرَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْث مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكمْ شطرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظلَمُوا مِنهُمْ فَلا تخْشوْهُمْ وَ اخْشوْنى وَ لأُتِمَّ نِعْمَتى عَلَيْكمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)

الإعراب

« لئلا يكون » هو لأن لا كتبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها و ترك نافع همزها
مجمع البيان ج : 1 ص : 427
تخفيفا و أدغمت النون في اللام و موضع اللام من لئلا نصب و العامل فيه فولوا و قال الزجاج العامل فيه ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك لئلا يكون و كذلك قوله « و لأتم نعمتي » اللام تتعلق بقوله فولوا و تقديره لأن أتم و قوله « إلا الذين ظلموا » فيه أقوال ( أحدها ) أنه استثناء منقطع كقوله ما لهم به من علم إلا اتباع الظن و يقال ما له علي حق إلا التعدي و الظلم يعني لكنه يتعدى و يظلم و قال النابغة :
و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب و كأنه يقول إن كان فيهم عيب فهذا و ليس هذا بعيب فإذا ليس فيهم عيب و هكذا في الآية إن كان على المؤمنين حجة فللظالم في احتجاجه و ليس للظالم حجة فإذا ليس عليهم حجة و ( الثاني ) أن تكون الحجة بمعنى المحاجة فكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا و ( الثالث ) ما قاله أبو عبيدة أن إلا هاهنا بمعنى الواو أي و لا الذين ظلموا و أنكر عليه الفراء و المبرد قال الفراء إلا لا يأتي بمعنى الواو من غير أن يتقدمه استثناء كما قال الشاعر :
ما بالمدينة دار غيره واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا أي دار الخليفة و دار مروان و أنشد الأخفش :
و أرى لها دارا بأغدرة السيدان
لم يدرس لها رسم
إلا رمادا هامدا دفعت
عنه الرياح خوالد سحم أي أرى لها دارا و رمادا و قال المبرد لا يجوز أن يكون إلا بمعنى الواو أصلا و ( الرابع ) أن فيه إضمار على و تقديره إلا على الذين ظلموا منهم فكأنه قال لئلا يكون عليكم حجة إلا على الذين ظلموا فإنه يكون الحجة عليهم و هم الكفار عن قطرب و هو اختيار الأزهري قال علي بن عيسى و هذان الوجهان بعيدان و الاختيار القول الأول .

المعنى

قد مضى الكلام في معنى أول الآية و قيل في تكراره وجوه ( أحدها ) أنه لاختلاف المعنى و إن اتفق اللفظ لأن المراد بالأول « و من حيث خرجت » منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس « فول وجهك شطر المسجد الحرام » و المراد بالثاني أين ما كنت من البلاد فتوجه نحوه من كل جهات الكعبة و سائر الأقطار ( و ثانيها ) أنه من مواضع
مجمع البيان ج : 1 ص : 428
التأكيد لما جرى من النسخ ليثبت في القلوب ( و ثالثها ) أنه لاختلاف المواطن و الأوقات التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها و قوله « لئلا يكون للناس عليكم حجة » قيل فيه وجوه ( أولها ) أن معناه لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة إذا لم تصلوا نحو المسجد الحرام بأن يقولوا ليس هذا هو النبي المبشر به إذ ذاك نبي يصلي بالقبلتين ( و ثانيها ) أن معناه لا تعدلوا عما أمركم الله به من التوجه إلى الكعبة فتكون لهم عليكم حجة بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله لما عدلتم عنه عن الجبائي ( و ثالثها ) ما قاله أبو روق إن حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة فلما رأوا محمدا يصلي إلى الصخرة احتجوا بذلك فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلا يكون لهم عليه حجة « إلا الذين ظلموا منهم » يريد إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يحول إلى الكعبة و على هذا يكون الاستثناء متصلا و قد مضى ذكر ما قيل فيه من الأقوال في الإعراب و إنما اختلف العلماء في وجه الاستثناء لأن الظالم لا يكون له حجة لكنه يورد ما هو في اعتقاده حجة و إن كانت باطلة كما قال سبحانه حجتهم داحضة و قيل المراد بالذين ظلموا قريش و اليهود فأما قريش فقالوا قد علم أننا على مدى فرجع إلى قبلتنا و سيرجع إلى ديننا و أما اليهود فقالوا لم ينصرف عن قبلتنا عن علم و إنما فعله برأيه و زعم أنه قد أمر به و قيل المراد بالذين ظلموا العموم يعني ظلموكم بالمقاتلة و قلة الاستماع و قوله « فلا تخشوهم و اخشوني » لما ذكرهم بالظلم و الخصومة و المحاجة طيب نفوس المؤمنين فقال لا تخافوهم و لا تلتفتوا إلى ما يكون منهم فإن عاقبة السوء عليهم و لا حجة لأحد منهم عليكم و لا يد و قيل لا تخشوهم في استقبال الكعبة و اخشوا عقابي في ترك استقبالها فإني أحفظكم من كيدهم و قوله « و لأتم نعمتي عليكم » عطف على قوله « لئلا » و تقديره لئلا يكون لأحد عليكم حجة و لأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم (عليه السلام) بين سبحانه أنه حول القبلة لهذين الغرضين زوال القالة و تمام النعمة و روي عن ابن عباس أنه قال و لأتم نعمتي عليكم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فأنصركم على أعدائكم و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أما في الآخرة فجنتي و رحمتي و روي عن علي (عليه السلام) قال النعم ستة الإسلام و القرآن و محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الستر و العافية و الغنى عما في أيدي الناس « و لعلكم تهتدون » أي لكي تهتدوا و لعل من الله واجب عن الحسن و جماعة و قيل لتهتدوا إلى ثوابها و قيل إلى التمسك بها .

مجمع البيان ج : 1 ص : 429
كَمَا أَرْسلْنَا فِيكمْ رَسولاً مِّنكمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَتِنَا وَ يُزَكِّيكمْ وَ يُعَلِّمُكمُ الْكِتَب وَ الحِْكمَةَ وَ يُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151)

اللغة

الإرسال التوجيه بالرسالة و التحميل لها ليؤدي إلى من قصد و التلاوة ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق و أصله من الاتباع و منه تلاه أي تبعه و التزكية النسبة إلى الإزدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة و يقال أيضا على معنى التعويض لذلك بالاستدعاء إليه و اللطف فيه يقال زكى فلان فلانا إذا أطرأه و مدحه و زكاه حمله على ماله فيه الزكاء و النماء و الطهارة و القدس و الحكمة هي العلم الذي يمكن به الأفعال المستقيمة .

الإعراب

ما في قوله « كما أرسلنا » مصدرية فكأنه قال كإرسالنا فيكم و يحتمل أن تكون كافة كما قال الشاعر :
أ علاقة أم الوليد بعد ما
أفنان رأسك كالثغام المخلس فإنه يجوز كما زيد محسن إليك فأحسن إلى أسبابه و العامل في الكاف من قوله « كما » يجوز أن يكون الفعل الذي قبله و هو قوله و لأتم نعمتي عليكم فعلى هذا لا يوقف عند قوله و لعلكم تهتدون و يكون الوقف عند قوله ما لم تكونوا تعلمون و يجوز أن يكون الفعل الذي بعده و هو قوله فاذكروني أذكركم و على هذا يوقف عند قوله تهتدون و يبتدأ بقوله « كما أرسلنا » و لا يوقف عند قوله تعلمون و الأول أحد قولي الزجاج و اختيار الجبائي و الثاني قول مجاهد و الحسن و أحد قولي الزجاج و قوله « منكم » في موضع نصب لأنه صفة لقوله رسولا و كذلك قوله « يتلو » و ما بعده في موضع الصفة .

المعنى

قوله « كما أرسلنا » التشبيه فيه على القول الأول معناه أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأن الله تعالى لطف لعباده بها على ما يعلم من المصلحة و محمود العاقبة و أما على القول الثاني فمعناه أن في بعثة الرسول منكم إليكم نعمة عليكم لأنه يحصل لكم به عز الرسالة فكما أنعمت عليكم بهذه النعمة العظيمة فاذكروني و اشكروا لي و اعبدوني أنعم عليكم بالجزاء و الثواب و الخطاب للعرب على قول جميع المفسرين و قوله « رسولا » يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « منكم » بالنسب لأنه من العرب و وجه النعمة عليهم بكونه من العرب ما حصل لهم به من الشرف و الذكر و أن العرب لم تكن لتتبع رسولا يبعث إليهم من غيرهم مع نخوتهم و عزتهم في نفوسهم فكون الرسول منهم يكون أدعى لهم إلى الإيمان به
مجمع البيان ج : 1 ص : 430
و اتباعه و قوله « يتلو عليكم آياتنا » أراد بها القرآن « و يزكيكم » و يعرضكم لما تكونون به أزكياء من الأمر بطاعة الله و اتباع مرضاته و يحتمل أن يكون معناه ينسبكم إلى أنكم أزكياء بشهادته لكم بذلك ليعرفكم الناس به « و يعلمكم الكتاب و الحكمة » الكتاب القرآن و الحكمة هي القرآن أيضا جمع بين الصفتين لاختلاف فائدتهما كما يقال الله العالم بالأمور كلها القادر عليها و قيل أراد بالكتاب القرآن و بالحكمة الوحي من السنة و ما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام و قوله « و يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون » أي ما لا سبيل لكم إلى عمله إلا من جهة السمع فذكرهم الله بالنعمة فيه و يكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل تابعا للنعمة فيه و لا سيما إذا وقع موقع اللطف .
فَاذْكُرُونى أَذْكُرْكُمْ وَ اشكرُوا لى وَ لا تَكْفُرُونِ(152)

اللغة

الذكر حضور المعنى للنفس و قد يكون بالقلب و قد يكون بالقول و كلاهما يحضر به المعنى للنفس و في أكثر الاستعمال يقال الذكر بعد النسيان و ليس ذلك بموجب أن لا يكون إلا بعد نسيان لأن كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال ذاكر له و أصله التنبيه على الشيء فمن ذكرته شيئا فقد نبهته عليه و إذا ذكر بنفسه فقد تنبه عليه و الذكر الشرف و النباهة و الفرق بين الذكر و الخاطر أن الخاطر ما يمر بالقلب و الذكر قد يكون القول أيضا و في قوله « و اشكروا لي » محذوف أي اشكروا لي نعمتي لأن حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة و في قوله « و لا تكفرون » أيضا محذوف لأن الكفر هو ستر النعمة و جحدها لا ستر المنعم و قولهم حمدت زيدا و ذممته لا حذف فيه و إن كنت إنما تحمد أو تذم من أجل الفعل كما أنه ليس في قولك زيد متحرك حذف و إن كان إنما تحرك لأجل الحركة فليس كل كلام دل على معنى غير مذكور يكون فيه حذف أ لا ترى أن قولك زيد ضارب دل على مضرب و ليس بمحذوف فالحمد للشيء دلالة على أنه محسن و الذم للشيء دلالة على أنه مسيء كقولهم نعم الرجل زيد و بئس الرجل عمرو و قالوا شكرتك و شكرت لك و إنما قيل شكرتك لإيقاع اسم المنعم موقع النعمة فعدي الفعل بغير واسطة و الأجود شكرت لك النعمة لأنه الأصل في الكلام قال الشاعر :
هم جمعوا بؤسي و نعمى عليكم
فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل و مثل ذلك نصحتك و نصحت لك ذكرنا الموجه في حذف الياء في مثل « و لا تكفرون » فيما مضى .

مجمع البيان ج : 1 ص : 431

المعنى

« فاذكروني أذكركم » قيل معناه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي عن سعيد بن جبير بيانه قوله سبحانه و أطيعوا الله و الرسول لعلكم ترحمون و قيل اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي عن ابن عباس و بيانه قوله و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و قيل اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة عن ابن كيسان بيانه لئن شكرتم لأزيدنكم و قيل اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها و قد جاء في الدعاء اذكروني عند البلاء إذا نسيني الناسون من الورى و قيل اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبي و قيل اذكروني في النعمة و الرخاء أذكركم في الشدة و البلاء و بيانه قوله سبحانه فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون و في الخبر تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة و قيل اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة بيانه قوله ادعوني أستجب لكم و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن الملك ينزل الصحيفة من أول النهار و أول الليل يكتب فيها عمل ابن آدم فأملوا في أولها خيرا و في آخرها خيرا فإن الله يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله فإن الله يقول « اذكروني أذكركم » و قال الربيع في هذه الآية إن الله عز و جل ذاكر من ذكره و زائد من شكره و معذب من كفره و قوله « و اشكروا لي » أي اشكروا نعمتي و أظهروها و اعترفوا بها « و لا تكفرون » و لا تستروا نعمتي بالجحود يعني بالنعمة قوله « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم » الآية .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا استَعِينُوا بِالصبرِ وَ الصلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصبرِينَ(153)

الأعراب

« الذين آمنوا » موضعه رفع بأنه صفة لأي كما أن الناس كذلك في قوله يا أيها الناس و قد ذكرناه فيما مضى و هو قول جميع النحويين إلا الأخفش فإنه لا يجعله صفة لأي و يرفعه بأنه خبر مبتدإ محذوف كأنه قيل يا من هم الذين آمنوا إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي و إنما حمله على ذلك لزوم البيان لأي فقال الصفة لا تلزم و إنما تلزم الصلة قال علي بن عيسى و الوجه عندي أن يكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم و قد ذكرنا الوجه في لزومها أيضا عند قوله سبحانه يا أيها الناس اعبدوا ربكم و قال أبو علي لا يجوز أن يكون أي في النداء موصولة لأنها لو كانت موصولة لوصلت بكل واحدة من الجمل الأربع و لم يقتصر بها على ضرب واحد منها لأن ذلك لم يفعل بشيء من الأسماء الموصولة في
مجمع البيان ج : 1 ص : 432
موضع و لجاز أيضا أن يقال يا أيها رجل لأن خبر المبتدأ لا يجوز أن يكون مقصورا على المعرفة بالألف و اللام و لا يغير عنه و في امتناع جميع النحويين من إجازة ذلك ما يدل على فساد هذا القول و أيضا فلو كانت موصولة للزم جواز إظهار المبتدأ المحذوف من الصلة و كان يجوز يا أيها هو الرجل و يا أيتها هي المرأة و لا خلاف في أنه لا يجوز ذلك .

المعنى

قد مضى تفسير قوله « استعينوا بالصبر و الصلاة » فيما مضى يخاطب المؤمنين فيقول « استعينوا بالصبر » أي بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات و حملها على ما تنفر منه من الطاعات و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله الصبر صبران صبر على ما تكره و صبر عما تحب و بالصلاة لما فيها من الذكر و الخشوع لله و تلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد و الوعيد و الهدى و البيان و ما هذه صفته يدعو إلى الحسنات و يزجر عن السيئات و اختلف في أن الاستعانة بهما على ما ذا فقيل على جميع الطاعات فكأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره من الطاعات و قيل على الجهاد في سبيل الله و قوله « إن الله مع الصابرين » فيه وجهان ( أحدهما ) أن معناه أنه معهم بالمعونة و النصرة كما يقال السلطان معك فلا تبال من لقيت ( و الآخر ) أن المراد هو معهم بالتوفيق و التسديد أي يسهل عليهم أداء العبادات و الاجتناب من المقبحات و نظيره قوله سبحانه و يزيد الله الذين اهتدوا هدى و لا يجوز أن يكون مع هنا بمعنى الاجتماع في المكان لأن ذلك من صفات الأجسام تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا و في الآية دلالة على أن في الصلاة لطفا للعبد لأنه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها و يؤيده قوله سبحانه إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر .
وَ لا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فى سبِيلِ اللَّهِ أَمْوَت بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لَكِن لا تَشعُرُونَ(154)

اللغة

السبيل الطريق و سبيل الله طريق مرضاته و إنما قيل للجهاد سبيل الله لأنه طريق إلى ثواب الله عز و جل و القتل هو نقض بنية الحياة و الموت عند من قال أنه معنى عرض ينافي الحياة منافاة التعاقب و من قال أنه ليس بمعنى قال هو عبارة عن بطلان الحياة و هو الأصح فأما الحياة فلا خلاف في أنها معنى و هي عرض يصير الجملة كالشيء الواحد حتى يصير قادرا واحدا عالما واحدا مريدا واحدا و لا يقدر على فعل الحياة إلا الله سبحانه
مجمع البيان ج : 1 ص : 433
و الشعور هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر و هي الحواس و لذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر و لا بأنه يشعر و إنما يوصف بأنه عالم و يعلم و قيل إن الشعور هو إدراك ما دق للطف الحس مأخوذ من الشعر لدقته و منه الشاعر لأنه يفطن من إقامة الوزن و حسن النظم لما لا يفطن له غيره .

الإعراب

قوله « أموات » مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات و لا يجوز فيه النصب كما يجوز قلت حسنا لأن حسنا في موضع المصدر كأنه قال قلت قولا حسنا فأما قوله و يقولون طاعة فيجوز فيه النصب في العربية على تقدير نطيع طاعة و الفرق بين بل و لكن أن لكن نفي لأحد الشيئين و إثبات للآخر كقولك ما قام زيد لكن عمرو و ليس كذلك بل لأنها إضراب عن الأول و إثبات للثاني و لذلك وقعت في الإيجاب كقولك قام زيد بل عمرو .

النزول

عن ابن عباس أنها نزلت في قتلي بدر و قتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار و كانوا يقولون مات فلان فأنزل الله تعالى هذه الآية .

المعنى

لما أمر الله سبحانه بالصبر و الصلاة للازدياد في القوة بهما على الجهاد قال « و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات » فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا « بل أحياء » أي بل هم أحياء و قيل فيه أقوال ( أحدها ) و هو الصحيح أنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة و هو قول ابن عباس و قتادة و مجاهد و إليه ذهب الحسن و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و اختاره الجبائي و الرماني و جميع المفسرين ( و الثاني ) أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه و أنهم سيحيون يوم القيامة و يثابون عن البلخي و لم يذكر ذلك غيره و ( الثالث ) معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة و الهدى و مثله قوله سبحانه أ و من كان ميتا فأحييناه فجعل الضلال موتا و الهداية حياة عن الأصم و ( الرابع ) أن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر و الثناء كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله هلك خزان الأموال و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و آثارهم في القلوب موجودة و المعتمد هو القول الأول لأن عليه
مجمع البيان ج : 1 ص : 434
إجماع المفسرين و لأن الخطاب للمؤمنين و كانوا يعلمون أن الشهداء على الحق و الهدى و أنهم ينشرون و يحيون يوم القيامة فلا يجوز أن يقال لهم « و لكن لا تشعرون » من حيث أنهم كانوا يشعرون ذلك و يقرون به و لأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر و لو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء لما قيل أيضا و لكن لا تشعرون لأنهم كانوا يشعرون ذلك و وجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء و إن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الأخرى يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله فإن قيل نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف و لا يرى فيها شيء من علامات الأحياء فالجواب أن على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فإن النعيم و العذاب إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الإنسان المكلف عنده دون الجثة و يؤيد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار عن القاسم بن محمد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا فقال ما يقول الناس في أرواح المؤمنين قلت يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش فقال أبو عبد الله سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا و عنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أرواح المؤمنين فقال في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان فأما على مذهب من قال من أصحابنا إن الإنسان هذه الجملة المشاهدة و إن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجو فالقول إنه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها يوصل إليها النعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها لأنه لا معتبر بالأطراف و أجزاء السمن في كون الحي حيا فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا و ربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة و لا تكون ميتة فتصل إليها اللذات كما أن النائم حي و تصل إليه اللذات مع أنه لا يحس و لا يشعر بشيء من ذلك فيرى في النوم ما يجد به السرور و الالتذاذ حتى أنه يود أن يطول نومه فلا ينتبه و قد جاء في الحديث أنه يفسح له مد بصره و يقال له نم نومة العروس و قوله « و لكن لا تشعرون » أي لا تعلمون أنهم أحياء و في هذه الآية دلالة على صحة مذهبنا في سؤال القبر و إثابة المؤمن
مجمع البيان ج : 1 ص : 435
فيه و عقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار و إنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر .
وَ لَنَبْلُوَنَّكُم بِشىْء مِّنَ الخَْوْفِ وَ الْجُوع وَ نَقْص مِّنَ الأَمْوَلِ وَ الأَنفُسِ وَ الثَّمَرَتِ وَ بَشرِ الصبرِينَ(155)

اللغة

البلاء الاختبار و يكون بالخير و الشر و الخوف انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر و الجوع ضد الشبع و هو المخمصة و المجاعة عام فيه جوع و حقيقة الجوع الشهوة الغالبة إلى الطعام و الشبع زوال الشهوة و لا خلاف أن الشهوة معنى في القلب لا يقدر عليه غير الله تعالى و الجوع منه و أما الشبع فهو معنى عند أبي علي الجبائي و هو فعله تعالى و عند أبي هاشم ليس بمعنى و هكذا القول في العطش و الري و النقص نقيض الزيادة و النقصان يكون مصدرا و اسما و نقص الشيء و نقصته لازم و متعد و دخل عليه نقص في عقله و دينه و لا يقال نقصان و النقيصة الوقيعة في الناس و النقيصة انتقاص الحق و تنقصه تناول عرضه و أصل النقص الحط من التمام و المال معروف و أموال العرب أنعامهم و رجل مال أي ذو مال و الثمرة أفضل ما تحمله الشجرة .

الإعراب

فتحت الواو في « لنبلونكم » كما فتحت الراء في لننصرنكم و هو أنه بني على الفتحة لأنها أخف إذا استحق البناء على الحركة كما استحق يا في النداء حكم البناء على الحركة « من الخوف و الجوع » الجار و المجرور صفة شيء .

المعنى

لما بين سبحانه ما كلف عباده من العبادات عقبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات فقال « و لنبلونكم » أي و لنختبرنكم و معناه نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم و الخطاب لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطاء و الربيع و لو قيل أنه خطاب لجميع الخلق لكان أيضا صحيحا « بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال » أي بشيء من الخوف و شيء من الجوع و شيء من نقص الأموال فأوجز و إنما قال من الخوف على وجه التبعيض لأنه لم يكن مؤبدا و إنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما لهم فيها من
مجمع البيان ج : 1 ص : 436
المصلحة فأما سبب الخوف فكان قصد المشركين لهم بالعداوة و سبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش و احتياجهم إلى الإنفاق فيه و قيل للقحط الذي لحقهم و الجدب الذي أصابهم و سبب نقص الأموال الانقطاع بالجهاد عن العمارة و نقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل نقص الأموال بهلاك المواشي « و الأنفس » بالموت و قوله « و الثمرات » قيل أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوانح و قلة النبات و ارتفاع البركات و قيل أراد به الأولاد لأن الولد ثمرة القلب و إنما قال ذلك لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان و عن مناكحة النسوان فيقل نزل البساتين و حمل البنات و البنين و وجه الابتلاء بهذه الأشياء ما تقتضيه الحكمة من الألطاف و دقائق المصالح و الأغراض و يدخره سبحانه لهم ما يرضيهم به من جلائل الأعواض و قيل في وجه اللطف في ذلك قولان ( أحدهما ) أن من جاء من بعدهم إذا أصابهم مثل هذه الأمور علموا أنه لا يصيبهم ذلك لنقصان درجة و حط مرتبة فإن قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم و هم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ( و الآخر ) أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول و موافقتهم له و تنالهم هذه المكاره فلا يتغيرون في قوة البصيرة و نقاء السريرة علموا أنهم إنما فعلوا ذلك لعلمهم بصحة هذا الدين و كونهم من معرفة صدقه على اليقين فيكون ذلك داعيا لهم إلى قبول الإسلام و الدخول في جملة المسلمين و قوله « و بشر الصابرين » أي أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق و المكاره من المثوبة الجزيلة و العاقبة الجميلة .
الَّذِينَ إِذَا أَصبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَجِعُونَ(156) أُولَئك عَلَيهِمْ صلَوَتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولَئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)

القراءة

أمال الكسائي في بعض الروايات النون من إنا و اللام من لله و الباقون بالتفخيم .

الحجة

و إنما جازت الإمالة في هذه الألف مع اسم الله للكسرة مع كثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفراء لا يجوز إمالة إنا مع غير الاسم الله تعالى في مثل قولك إنا لزيد و إنما لم يجز ذلك لأن الأصل في الحروف و ما جرى مجراها امتناع الإمالة فيها فلا يجوز إمالة حتى و لكن ما أشبه ذلك لأن الحروف بمنزلة
مجمع البيان ج : 1 ص : 437
بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي يكون في الأسماء و الأفعال .

اللغة

المصيبة المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من المضرة و هو من الإصابة كأنها تصيبها بالنكبة و الرجوع مصير الشيء إلى ما كان يقال رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها مرة ثانية و هو نظير العود و المصير و الاهتداء الإصابة لطريق الحق .

المعنى

ثم وصف عز اسمه الصابرين فقال « الذين إذا أصابتهم مصيبة » أي نالتهم نكبة في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر « قالوا إنا لله » هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد الله و ملكه « و إنا إليه راجعون » هذا إقرار بالبعث و النشور أي نحن إلى حكمه نصير و لهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن قولنا « إنا لله » إقرار على أنفسنا بالملك و قولنا « و إنا إليه راجعون » إقرار على أنفسنا بالهلك و إنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة لما فيها من الدلالة على أن الله تعالى يجبرها إن كانت عدلا و ينصف من فاعلها إن كانت ظلما و تقديره إنا لله تسليما لأمره و رضاء بتدبيره و إنا إليه راجعون ثقة بأنا نصير إلى عدله و انفراده بالحكم في أموره و في الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته و أحسن عقباه و جعل له خلفا صالحا يرضاه و قال (عليه السلام) من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب و روى الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنة من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله و من إذا أنعم الله عليه النعمة قال الحمد لله و من إذا أصاب ذنبا قال أستغفر الله و من إذا أصابته مصيبة قال « إنا لله و إنا إليه راجعون » و قوله « أولئك » إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين « عليهم صلوات من ربهم » أي ثناء جميل من ربهم و تزكية و هو بمعنى الدعاء لأن الثناء يستحق دائما ففيه معنى اللزوم كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد مرة ففيه معنى اللزوم و قيل بركات من ربهم عن ابن عباس و قيل مغفرة من ربهم « و رحمة » أي نعمة عاجلا و آجلا فالرحمة النعمة على المحتاج و كل أحد يحتاج إلى نعمة الله في دنياه و عقباه « و أولئك هم المهتدون » أي المصيبون طريق الحق في الاسترجاع و قيل إلى الجنة و الثواب و كان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال نعم العدلان و نعمت العلاوة .

مجمع البيان ج : 1 ص : 438
* إِنَّ الصفَا وَ الْمَرْوَةَ مِن شعَائرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْت أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطوَّف بِهِمَا وَ مَن تَطوَّعَ خَيراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ(158)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم من يطوع بالياء و تشديد الطاء و الواو و كذلك ما بعده و وافقهم زيد و رويس عن يعقوب في الأول و الباقون « تطوع » على أنه فعل ماض روي في الشواذ عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و أنس و سعيد بن جبير و أبي بن كعب و ابن مسعود ألا يطوف بهما .

الحجة

يمكن أن يكون لا على هذه القراءة زائدة كما في قوله لئلا يعلم أهل الكتاب أي ليعلم و كقوله :
من غير لا عصف و لا اصطراف أي من غير عصف و يطوع تقديره يتطوع إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما .

اللغة

الصفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من الصفو واحده صفاة قال امرؤ القيس :
لها كفل كصفاة المسيل
أبرز عنها جحاف مضر فهو مثل حصاة و حصى و نواة و نوى و قيل إن الصفا واحد قال المبرد الصفا كل حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب و إنما اشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص و أصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان و لا يجوز إمالته و المروة في الأصل الحجارة الصلبة اللينة و قيل الحصاة الصغيرة و المرو لغة في المروة و قيل هو جمع مثل تمرة و تمر قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشرق كل يوم تقرع و المرو نبت و أصله الصلابة فالنبت إنما سمي بذلك لصلابة بزره و قد صارا اسمين لجبلين معروفين بمكة و الألف و اللام فيهما للتعريف لا للجنس و الشعائر المعالم للأعمال و شعائر الله معالمه التي جعلها مواطن للعبادة و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة و واحد الشعائر شعيرة فشعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر من شعرت به أي علمت قال الكميت :
نقتلهم جيلا فجيلا نراهم
شعائر قربان بهم يتقرب
مجمع البيان ج : 1 ص : 439
و الحج في اللغة هو القصد على وجه التكرار و في الشريعة عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام و الطواف و السعي و الوقوف بالموقفين و غير ذلك قال الشاعر :
و أشهد من عوف حلولا كثيرة
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده و العمرة هي الزيارة أخذ من العمارة لأن الزائر يعمر المكان بزيارته و هي في الشرع زيارة البيت بالعمل المشروع و الجناح الميل عن الحق يقال جنح إليه جنوحا إذا مال و أجنحته فاجتنح أي أملته فمال و جناحا الطائر يداه و يدا الإنسان جناحاه و جناحا العسكر جانباه و الطواف الدوران حول الشيء و منه الطائف و في عرف الشرع الدور حول البيت و الطائفة الجماعة كالحلقة الدائرة و يطوف أصله يتطوف و مثله يطوع و الفرق بين الطاعة و التطوع أن الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة و النافلة و التطوع التبرع بالنافلة خاصة و أصلهما من الطوع الذي هو الانقياد و الشاكر فاعل الشكر و إنما يوصف سبحانه بأنه شاكر مجازا و توسعا لأنه في الأصل هو المظهر للإنعام عليه و الله يتعالى عن أن يكون عليه نعمة لأحد .

الإعراب

قوله « من حج » « و من تطوع » يحتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون من موصولا بمنزلة الذي و الآخر أن يكون للجزاء فإن كان موصولا فلا موضع للفعل الذي بعده هو مع صلته في موضع رفع الابتداء و الفاء على هذا مع ما بعده في قوله « فلا جناح عليه » « فإن الله شاكر » في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الموصول و إن كان للجزاء كان الفعل الذي بعده في موضع الجزم و كانت الفاء مع ما بعدها أيضا في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء و الفعل الذي هو حج أو تطوع على لفظ الماضي و التقدير به المستقبل كما أن ذلك في قولك إن أكرمتني أكرمتك كذلك و قوله « فإن الله شاكر عليم » إنما يصح أن يقع موقع الجزاء أو موقع خبر المبتدأ و إن لم يكن فيه ضمير عائد لأن تقديره يعامله معاملة الشاكر بحسن المجازاة و إيجاب المكافاة و إنما دخلت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لما فيه من معنى الجزاء و إن لم يكن في موضع الجزم أ لا ترى أن هذه الفاء تؤذن بأن الثاني وجب لوجوب الأول .

المعنى

لما ذكر سبحانه امتحان العباد بالتكليف و الإلزام مرة و بالمصائب و الآلام أخرى ذكر سبحانه أن من جملة ذلك أمر الحج فقال « إن الصفا و المروة من شعائر الله » أي إنهما من أعلام متعبداته و قيل من مواضع نسكه و طاعاته عن ابن عباس و قيل من دين
مجمع البيان ج : 1 ص : 440
الله عن الحسن و قيل فيه حذف و تقديره الطواف بين الصفا و المروة من شعائر الله و روي عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال نزل آدم على الصفا و نزلت حواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى و سميت المروة باسم المرأة و قوله « فمن حج البيت » أي قصده بالأفعال المشروعة « أو اعتمر » أي أتى بالعمرة بالمناسك المشروعة و قوله « فلا جناح عليه » أي لا حرج عليه « أن يطوف بهما » قال الصادق (عليه السلام) كان المسلمون يرون أن الصفا و المروة مما ابتدع أهل الجاهلية فأنزل الله هذه الآية و إنما قال « فلا جناح عليه أن يطوف بهما » و هو واجب أو طاعة على الخلاف فيه لأنه كان على الصفا صنم يقال له إساف و على المروة صنم يقال له نائلة و كان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الشعبي و كثير من العلماء فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف كما لو كان الإنسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلا بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج و غيره فيقال له لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة لأن عين الصلاة واجبة إنما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان و رويت رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان ذلك في عمرة القضاء و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام فجاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقيل له إن فلانا لم يطف و قد أعيدت الأصنام فنزلت هذه الآية « فلا جناح عليه أن يطوف بهما » أي و الأصنام عليهما قال فكان الناس يسعون و الأصنام على حالها فلما حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) رمى بها و قوله « من تطوع خيرا » فيه أقوال ( أولها ) أن معناه من تبرع بالطواف و السعي بين الصفا و المروة بعد ما أدى الواجب من ذلك عن ابن عباس و غيره ( و ثانيها ) أن معناه من تطوع بالحج و العمرة بعد أداء الحج و العمرة المفروضين عن الأصم ( و ثالثها ) أن معناه من تطوع بالخيرات و أنواع الطاعات عن الحسن و من قال إن السعي ليس بواجب قال معناه من تبرع بالسعي بين الصفا و المروة و قوله « فإن الله شاكر عليم » أي مجازية على ذلك و إنما ذكر لفظ الشاكر تلطفا بعباده و مظاهرة في الإحسان و الإنعام إليهم كما قال من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا و الله سبحانه لا يستقرض عن عوز و لكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي يعامل عباده معاملة المستقرض من حيث إن العبد ينفق في حال غناه فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره و حاجته و كذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين من حيث أنه يوجب الثناء له و الثواب سمى نفسه شاكرا و قوله « عليم » أي بما تفعلونه من الأفعال فيجازيكم عليها
مجمع البيان ج : 1 ص : 441
و قيل عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا حقه و في هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا و المروة عبادة و لا خلاف في ذلك و هو عندنا فرض واجب في الحج و في العمرة و به قال الحسن و عائشة و هو مذهب الشافعي و أصحابه و قال إن السنة أوجبت السعي و هو قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كتب عليكم السعي فاسعوا فأما ظاهر الآية فإنما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي و عند أبي حنيفة و أصحابه هو تطوع و هو اختيار الجبائي و روي ذلك عن أنس و ابن عباس و عندنا و عند الشافعي من تركه متعمدا فلا حج له .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَ الْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فى الْكِتَبِ أُولَئك يَلْعَنهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنهُمُ اللَّعِنُونَ(159)

النزول

المعني بالآية اليهود و النصارى مثل كعب بن الأشرف و كعب بن أسد و ابن صوريا و زيد بن التابوه و غيرهم من علماء النصارى الذين كتموا أمر محمد و نبوته و هم يجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل مثبتا فيهما عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و أكثر أهل العلم و قيل إنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله و هو اختيار البلخي و هو الأقوى لأنه أعم فيدخل فيه أولئك و غيرهم .

المعنى

ثم حث الله سبحانه على إظهار الحق و بيانه و نهى عن إخفائه و كتمانه فقال « إن الذين يكتمون » أي يخفون « ما أنزلنا من البينات » أي من الحجج المنزلة في الكتب « و الهدى » أي الدلائل فالأول علوم الشرع و الثاني أدلة العقل فعم بالوعيد في كتمان جميعها و قيل أراد بالبينات الحجج الدالة على نبوته ( ع ) و بالهدى ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع و قيل البينات و الهدى هي الأدلة و هما بمعنى واحد و إنما كرر لاختلاف لفظيهما « من بعد ما بيناه للناس في الكتاب » يعني في التوراة و الإنجيل من صفته (عليه السلام) و من الأحكام و قيل في الكتب المنزلة من عند الله و قيل أراد بقوله « ما أنزلنا من البينات » الكتب المتقدمة و بالكتاب القرآن « أولئك يلعنهم الله » أي يبعدهم من رحمته بإيجاب العقوبة لأنه لا يجوز لهن من لا يستحق العقوبة « و يلعنهم اللاعنون » قيل الملائكة و المؤمنون عن قتادة و الربيع و هو الصحيح لقوله سبحانه « عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين » و قيل دواب الأرض و هوامها تقول منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن
مجمع البيان ج : 1 ص : 442
مجاهد و عكرمة و قيل كل شيء سوى الثقلين الجن و الإنس عن ابن عباس و قيل إذا تلا عن الرجلان رجعت اللعنة على المستحق لها فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله عن ابن مسعود فإن قيل كيف يصح ذلك على قول من قال المراد باللاعنين البهائم و هذا الجمع لا يكون إلا للعقلاء قيل لما أضيف إليها فعل ما يعقل عوملت معاملة من يعقل كقوله سبحانه و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين و إنما أضيف اللعن إلى من لا يعقل لأن الله يلهمهم اللعن عليهم لما في ذلك من الزجر عن المعاصي لأن الناس إذا علموا أنهم إذا عملوا هذه المعاصي استحقوا اللعن حتى أنه يلعنهم الدواب و الهوام كان لهم في ذلك أبلغ الزجر و قيل إنما يكون ذلك في الآخرة يكمل الله عقولها فتلعنهم و في هذه الآية دلالة على أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر و أن من كتم شيئا من علوم الدين و فعل مثل فعلهم فهو مثلهم في عظم الجرم و يلزمه كما لزمهم الوعيد و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار و فيها أيضا دلالة على وجوب الدعاء إلى التوحيد و العدل لأن في كتاب الله تعالى ما يدل عليهما تأكيدا لما في العقول من الأدلة .
إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولَئك أَتُوب عَلَيهِمْ وَ أَنَا التَّوَّاب الرَّحِيمُ(160)

اللغة

التوبة هي الندم الذي يقع موقع التنصل من الشيء و ذلك بالتحسر على مواقعته و العزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة و اعتبروا قوم ترك المعاودة على مثله في القبح و هذا أقوى لأن الأمة أجمعت على سقوط العقاب عند هذه التوبة و فيما عداها خلاف و إصلاح العمل هو إخلاصه من قبيح ما يشوبه و التبيين هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التمييز من البين الذي هو القطع .

الإعراب

موضع الذين نصب على الاستثناء من الكلام الموجب و معنى الاستثناء الاختصاص بالشيء دون غيره فإذا قلت جاءني القوم إلا زيدا فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجيء و إذا قلت ما جاءني إلا زيد فقد اختصصته بالمجيء و إذا قلت ما جاءني زيد إلا راكبا فقد اختصصته بهذه الحالة دون غيرها من المشي و العدو و غيرهما .

المعنى

ثم استثنى الله سبحانه في هذه الآية من تاب و أصلح و بين من جملة من
مجمع البيان ج : 1 ص : 443
استحق اللعنة فقال « إلا الذين تابوا » أي ندموا على ما قدموا « و أصلحوا » نياتهم فيما يستقبل من الأوقات « و بينوا » اختلف فيه فقال أكثر المفسرين بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل بينوا التوبة و إصلاح السريرة بالإظهار لذلك فإن من ارتكب المعصية سرا كفاه التوبة سرا و من أظهر المعصية يجب عليه أن يظهر التوبة و قيل بينوا التوبة بإخلاص العمل « فأولئك أتوب عليهم » أي أقبل و الأصل في أتوب أفعل التوبة إلا أنه لما وصل بحرف الإضافة دل على أن معناه أقبل التوبة إنما كان لفظه مشتركا بين فاعل التوبة و القابل لها للترغيب في صفة التوبة إذ وصف بها القابل لها و هو الله عز اسمه و ذلك من إنعام الله على عباده لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مفارقة الذنب أن الوصف بها عيب فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح « و أنا التواب » هذه اللفظة للمبالغة إما لكثرة ما يقبل التوبة و إما لأنه لا يرد تائبا منيبا أصلا و وصفه سبحانه نفسه بالرحيم عقيب قوله « التواب » يدل على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله سبحانه و رحمة من جهته على ما قاله أصحابنا و أنه غير واجب عقلا على ما يذهب إليه المعتزلة فإن قالوا قد يكون الفعل الواجب نعمة إذا كان منعما بسببه كالثواب و العوض لما كان منعما بالتكليف و بالآلام التي تستحق بها الأعواض جاز أن يطلق عليها اسم النعمة فالجواب أن ذلك إنما قلناه في الثواب و العوض ضرورة و لا ضرورة هاهنا تدعو إلى ارتكابه .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئك عَلَيهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلَئكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ(161) خَلِدِينَ فِيهَا لا يخَفَّف عَنهُمُ الْعَذَاب وَ لا هُمْ يُنظرُونَ(162)

اللغة

واحد الناس إنسان في المعنى فأما في اللفظ فلا واحد له فهو كنفر و رهط مما يقال إنه اسم للجمع و الخلود اللزوم أبدا و البقاء الوجود في وقتين فصاعدا و لذلك لم يجز في صفات الله تعالى خالد و جاز باق و لذلك يقال أخلد إلى قوله أي لزم معنى ما أتى به و منه قوله و لكنه أخلد إلى الأرض أي مال إليها ميل اللازم لها و الفرق بين الخلود و الدوام أن الدوام هو الوجود في الأزل و إلا يزال فإذا قيل دام المطر فهو على المبالغة و حقيقته لم يزل من وقت كذا إلى وقت كذا و الخلود هو اللزوم أبدا و التخفيف هو النقصان من المقدار الذي له و العذاب هو الألم الذي له امتداد و الإنظار الإمهال قدر ما يقع النظر
مجمع البيان ج : 1 ص : 444
في الخلاص و أصل النظر الطلب فالنظر بالعين هو الطلب بالعين و كذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها من الحواس تقول أنظر الثوب أين هو أي اطلبه أين هو و الفرق بين العذاب و الإيلام أن الإيلام قد يكون بجزء من الألم في الوقت الواحد مقدار ما يتألم به و العذاب الألم الذي له استمرار في أوقات و منه العذب لاستمراره في الحلق و العذبة لاستمرارها بالحركة .

الإعراب

« و هم كفار » جملة في موضع الحال و أجمعين تأكيد و إنما أكد به ليرتفع الإيهام و الاحتمال قبل أن ينظر في تحقيق الاستدلال و لهذا لم يجز الأخفش رأيت أحد الرجلين كليهما و أجاز رأيتهما كليهما لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل أزلت الإيهام للفساد و إذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد و أنت لما ذكرت التثنية في قولك أحد الرجلين و ذكرت أحدا كنت بمنزلة من ذكر الحكم و الدليل عليه فأما ذكر التثنية في رأيتهما فبمنزلة ذكر الحكم وحده و خالدين منصوب على الحال و العامل فيه الظرف من قوله عليهم لأن فيه معنى الاستقرار للعنة و ذو الحال الهاء و الميم من عليهم كقولك عليهم المال صاغرين و قوله « فيها » الهاء يعود إلى اللعنة في قول الزجاج و إلى النار في قول أبي العالية « لا يخفف عنهم العذاب » جملة في موضع الحال « و لا هم ينظرون » كذلك و هم تأكيد لضمير في فعل مقدر يفسره هذا الظاهر تقديره و لا هم ينظرون هم .

المعنى

لما بين سبحانه حال من كتم الحق و حال من تاب منهم عقبه بحال من يموت من غير توبة منهم أو من الكفار جميعا فقال « إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار » أي ماتوا مصرين على الكفر و إنما قال « و ماتوا و هم كفار » مع أن كل كافر ملعون في حال كفره ليصير الوعيد فيه غير مشروط لأن بالموت يفوت التلافي بالتوبة فلذلك شرط سبحانه و بين أن الكفار لم يموتوا على كفرهم لم تكن هذه حالهم و قيل إن هذا الشرط إنما هو في خلود اللعنة لهم كقوله « خالدين فيها » « أولئك عليهم لعنة الله » أي إبعاده من رحمته و عقابه « و الملائكة و الناس أجمعين » فإن قيل كيف قال « و الناس أجمعين » و في الناس من لا يلعن الكافر فالجواب من وجوه ( أحدها ) أن كل أحد من الناس يلعن الكافر أما في الدنيا و أما في الآخرة أو فيهما جميعا كما قال و يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا عن أبي العالية و ( ثانيها ) أنه أراد به المؤمنين كأنه لم يعتد بغيرهم كما يقال المؤمنون هم الناس عن قتادة و الربيع و ( ثالثها ) أنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين فيدخل في ذلك الكافر لأنه ظالم عن السدي و اللعنة إنما تكون من الناس على وجه الدعاء و من الله على
مجمع البيان ج : 1 ص : 445
وجه الحكم و قوله « خالدين فيها » أي دائمين فيها أي في تلك اللعنة عن الزجاج و الجبائي و قيل في النار لأنه كالمذكور لشهرته في حال المعذبين و لأن اللعن إبعاد من الرحمة و إيجاب للعقاب و العقاب يكون في النار و أما الخلود في اللعنة فيحتمل أمرين ( أحدهما ) الاستحقاق للعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبدا ( و الثاني ) في عاقبة اللعنة و هي النار التي لا تفنى أبدا و قوله « لا يخفف عنهم العذاب » أي يكون عذابهم على وتيرة واحدة فلا يخفف أحيانا و يشتد أحيانا « و لا هم ينظرون » أي لا يمهلون للاعتذار كما قال سبحانه و لا يؤذن لهم فيعتذرون قطعا لطمعهم في التوبة عن أبي العالية و قيل معناه لا يؤخر العذاب عنهم بل عذابهم حاضر .
وَ إِلَهُكمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163)

اللغة

واحد شيء لا ينقسم عددا كان أو غيره و يجري على وجهين على الحكم و على جهة الوصف فالحكم كقولك جزء واحد فإنه لا ينقسم من جهة أنه جزء و الوصف كقولك إنسان واحد و دار واحدة فإنه لا ينقسم من جهة أنه إنسان .

الإعراب

هو من قوله « لا إله إلا هو » في موضع رفع على البدل من موضع لا مع الاسم كقولك لا رجل إلا زيد كأنك قلت ليس إلا زيد كما تريد من المعنى إذ لم تعتد بغيره و لا يجوز النصب على قولك ما قام أحد إلا زيد لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني و المعنى ذلك و النصب يدل على أن الاعتماد في الأخبار إنما هو على الأول و العبارة الواضحة إن هو بدل من محل إله قبل التركيب و قوله « لا إله إلا هو » هو إثبات الله سبحانه و هو بمنزلة قولك الله الآلة وحده و إنما كان كذلك لأنه القادر على ما يستحق به العبادة و لا لم يدل على النفي في هذا الخبر من قبل أنه لم يدل على إله موجود و لا معدوم سوى الله لكنه نقيض لقول من ادعى إلها مع الله و إنما النفي إخبار بعدم شيء كما أن الإثبات إخبار بوجوده .

النزول

ابن عباس قال إن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا و انسب لنا ربك فأنزل الله هذه الآية و سورة الإخلاص .

المعنى

« و إلهكم » أي خالقكم و المنعم عليكم بالنعم التي لا يقدر عليها غيره و الذي تحق له العبادة و قال علي بن عيسى معنى إله هو المستحق للعبادة و هذا غلط لأنه لو
مجمع البيان ج : 1 ص : 446
كان كذلك لما كان القديم سبحانه إلها فيما لم يزل لأنه لم يفعل في الأزل ما يستحق به العبادة و معنى قولنا إنه تحق له العبادة أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة و قوله « إله واحد » وصفه سبحانه بأنه واحد على أربعة أوجه ( أحدها ) أنه ليس بذي أبعاض و لا يجوز عليه الانقسام و لا يحتمل التجزئة ( و الثاني ) أنه واحد لا نظير له و لا شبيه له ( و الثالث ) أنه واحد في الإلهية و استحقاق العبادة ( و الرابع ) أنه واحد في صفاته التي يستحقها لنفسه فإن معنى وصفنا لله تعالى بأنه قديم أنه المختص بهذه الصفة لا يشاركه فيها غيره و وصفنا له بأنه عالم قادر أنه المختص بكيفية استحقاق هاتين الصفتين لأن المراد به أنه عالم بجميع المعلومات لا يجوز عليه الجهل و قادر على الأجناس كلها لا يجوز عليه العجز و وصفنا له بأنه حي باق أنه لا يجوز عليه الموت و الفناء فصار الاختصاص بكيفية الصفات كالاختصاص بنفس الصفات يستحقها سبحانه وحده على وجه لا يشاركه فيه غيره و قوله « لا إله إلا هو » هذه كلمة لإثبات الإلهية لله تعالى وحده و معناه الله هو الإله وحده و اختلف في أنه هل فيها نفي المثل عن الله سبحانه فقال المحققون ليس فيها نفي المثل عنه لأن النفي إنما يصح في موجود أو معدوم و الله عز اسمه ليس له مثل موجود و لا معدوم و قال بعضهم فيها نفي المثل المقدر عن الله سبحانه و قوله « الرحمن الرحيم » إنما قرن « الرحمن الرحيم » بقوله « لا إله إلا هو » لأنه بين به سبب استحقاق العبادة على عباده و هو ما أنعم عليهم من النعم العظام التي لا يقدر عليها أحد غيره فإن الرحمة هي النعمة على المحتاج إليها و قد ذكرنا معنى « الرحمن الرحيم » فيما مضى .

النظم

الآية متصلة بما قبلها و بما بعدها فاتصالها بما قبلها كاتصال الحسنة بالسيئة لتمحو أثرها و يحذر من مواقعتها لأنه لما ذكر الشرك و أحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد و أحكامه و اتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته لأن ما ذكر في الآية التي بعدها هي الحجة على صحة التوحيد .
إِنَّ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلَفِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتى تجْرِى فى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاس وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا وَ بَث فِيهَا مِن كلِّ دَابَّة وَ تَصرِيفِ الرِّيَح وَ السحَابِ الْمُسخَّرِ بَيْنَ السمَاءِ وَ الأَرْضِ لاَيَت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ(164)
مجمع البيان ج : 1 ص : 447

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي الريح على التوحيد و الباقون على الجمع و لم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف و لام و قرأ أبو جعفر « الرياح » على الجمع كل القرآن إلا في الذاريات و قرأ أبو عمرو و يعقوب و ابن عامر و عاصم « الرياح » في عشرة مواضع في البقرة و الأعراف و الحجر و الكهف و الفرقان و النمل و الروم في موضعين و فاطر و الجاثية و قرأ نافع اثني عشر موضعا هذه العشرة و في إبراهيم و عسق و قرأ ابن كثير في خمسة مواضع البقرة و الحجر و الكهف و أول الروم و الجاثية و قرأ الكسائي الرياح في ثلاثة مواضع في الحجر و الفرقان و أول الروم و وافقه حمزة إلا في الحجر .

الحجة

قال ابن عباس « الرياح » للرحمة و الريح للعذاب و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا هبت ريح قال اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا و يقوي هذا الخبر قوله سبحانه و من آياته أن يرسل الرياح مبشرات و يشبه أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنما قصد بقوله هذا الموضع و بقوله و لا تجعلها ريحا قوله سبحانه و في عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم و قد تختص اللفظة في التنزيل بشيء فيكون أمارة له فمن ذلك أن عامة ما جاء في القرآن من قوله ما يدريك مبهم غير مبين و ما كان من لفظ ما أدريك مفسر كقوله و ما أدريك ما الحاقة و ما القارعة و ما يدريك لعل الساعة قريب قال أبو علي « و تصريف الرياح » على الجمع أولى لأن كل واحدة من الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد و من وحد فإنه أراد الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار و الدرهم فأما قوله و لسليمان الريح عاصفة و إن كانت الرياح كلها سخرت له فالمراد بها الجنس و الكثرة و إن كانت قد سخرت له ريح بعينها كان كقولك الرجل و أنت تريد به العهد و أما قوله و في عاد إذ أرسلنا عليهم الريح فهي واحدة يدلك عليه قوله فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا و في الحديث نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور فهذا يدل على أنها واحدة .

اللغة

الخلق هو الإحداث للشيء على تقدير من غير احتذاء على مثال و لذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله سبحانه لأنه لا أحد سوى الله يكون جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال و قد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضا
مجمع البيان ج : 1 ص : 448
بمعنى المرضي و هو بمنزلة المصدر و ليس معنى الصدر بمعنى المخلوق و اختلف أهل العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر فقال قوم هو الإرادة له و قال آخرون إنما هو على معنى مقدر كقولك وجود و عدم و حدوث و قدم و هذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة و إلا فالمعني بها هذا الموصوف في الحقيقة و السماوات جمع السماء و كل سقف سماء غير أنه إذا أطلق لم يفهم منه غير السماوات السبع و إنما جمعت السماوات و وحدت الأرض لأنه لما ذكر السماء بأنها سبع في قوله فسواهن سبع سموات و قوله خلق سبع سموات جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع و قوله و من الأرض مثلهن و إن دل على معنى السبع فإنه لم يجر على جهة الإفصاع بالتفصيل في اللفظ و أيضا فإن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف و ليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق لأنه دبر في كل سماء أمرها التدبير الذي هو حقها و الاختلاف نقيض الاتفاق و « اختلاف الليل و النهار » أخذ من الخلف لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة و قيل هو من اختلاف الجنس كاختلاف السواد و البياض لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك و المختلفان ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته و الليل هو الظلام المعاقب للنهار واحدته ليلة فهو مثل تمر و تمرة و النهار هو الضياء المتسع و أصله الاتساع و منه قول الشاعر :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها أي أوسعت و إنما جمعت الليلة و لم يجمع النهار لأن النهار بمنزلة المصدر كقولك الضياء يقع على الكثير و القليل على أنه قد جاء جمع النهار نهر على وجه الشذوذ و قال الشاعر :
لو لا الثريدان هلكنا بالضمر
ثريد ليل و ثريد بالنهر و الفلك السفن تقع على الواحد و الجمع و الفلك فلك السماء و كل مستدير فلك فإن صاحب العين قيل هو اسم للدوران خاصة و قيل بل اسم لإطباق سبعة فيها النجوم و فلكت الجارية إذا استدار ثديها و أصل الباب الدور و ما أنزل الله من السماء و قال قوم السماء يقع على السحاب لأن كل شيء علا شيئا فهو سماء له و قال علي بن عيسى قيل إن السحاب بخارات تصعد من الأرض و ذلك جائز لا يقطع به و لا مانع من صحته من دليل عقل و لا سمع و السماء السقف قال سبحانه و جعلنا السماء سقفا محفوظا فالسماء المعروفة سقف
مجمع البيان ج : 1 ص : 449
الأرض و أصله من السمو و هو العلو فالسماء الطبقة العالية على الطبقة السافلة و الأرض الطبقة السافلة و يقال أرض البيت و أرض الغرفة فهو سماء لما تحته من الطبقة السافلة و أرض لما فوقه إلا أنه صار ذلك الاسم بمنزلة الصفة الغالبة على السماء المعروفة و هذا الاسم كالعلم على الأرض المعروفة و البحر هو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر و المنفعة هي اللذة و السرور أو ما أدى إليهما أو إلى واحد منهما و النفع و الخير و الحظ نظائر و قد تكون المنفعة بالآلام إذا أدت إلى لذات و الإحياء فعل الحياة و حياة الأرض عمارتها بالنبات و موتها خرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات و البث التفريق و لك شيء بثثته فقد فرقته و سمي الغم بثا لتقسم القلب به و الدابة من الدبيب و كل شيء خلقه الله مما يدب فهو دابة و صار بالعرف اسما لما يركب و التصريف التقليب و صرف الدهر تقلبه و جمعه صروف و السحاب مشتق من السحب و هو جرك الشيء على وجه الأرض كما تسحب المرأة ذيلها و كل منجر منسحب و سمي سحابا لانجراره في السماء و التسخير و التذليل و التمهيد نظائر يقال سخر الله لفلان كذا إذا سهله له و سخرت الرجل إذا كلفته عملا بلا أجرة و هي السخرة و سخر منه إذا استهزأ به و الرياح أربع الشمال و الجنوب و الصبا و الدبور فالشمال عن يمين القبلة و الجنوب عن يسارها و الصبا و الدبور متقابلان فالصبا من قبل المشرق و الدبور من قبل المغرب و أنشد أبو زيد :
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر فإذا جاءت الريح بين الصبا و الشمال فهي النكباء و التي بين الجنوب و الصبا الجربياء و الصبا هي القبول و الجنوب يسمى الأزيب و يسمى النعامي و الشمال يسمى محوة لا تنصرف و يسمى مسعا و نسعا و يسمى الجنوب لاقحا و الشمال حائلا قال أبو داود يصف سحابا :
لقحن ضحيا للقح الجنوب
فأصبحن ينتجن ماء الحيا قوله للقح الجنوب أي لإلقاح الجنوب و قال زهير :
جرت سنحا فقلت لها مروعا
نوى مشمولة فمتى اللقاء مشمولة أي مكروهة لأنهم يكرهون الشمال لبردها و ذهابها بالغيم فصار كل مكروه
 

<<        الفهرس        >>