جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 309

كما يقال أمر ما و شيء ما إذا أريد المبالغة في الإبهام .

المعنى

« و قالوا قلوبنا غلف » رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود و عن سوء مقالهم و فعالهم فالمعنى على القراءة الأولى أنهم ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول فقالوا أي فائدة في إنذارك لنا و نحن لا نفهم ما تقول إذ ما تقوله ليس مما يفهم كقوله تعالى « و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه و في آذاننا وقر » و قال أبو علي الفارسي ما يدرك به المعلومات من الحواس و غيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنه لا يعلم وصف بأن عليه مانعا من ذلك و دونه حائلا فمن ذلك قوله تعالى « أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » لما كان القفل حاجزا بين المقفل عليه و حائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا جعل مثالا للقلوب بأنها لا تعي و لا تفقه و كذلك قوله « لقالوا إنما سكرت أبصارنا » و « الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري » و قوله « بل هم منها عمون » كان شدة عنادهم تحملهم على الشك في المشاهدات و دفع المعلومات و أما المعنى على القراءة الثانية من تحريك العين في غلف فهو على أن المراد أن قلوبنا أوعية للعلم و نحن علماء و لو كان ما تقوله شيئا يفهم أوله طائل لفهمناه أو يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره فلو كان علما لكان فيها و قوله « بل لعنهم الله بكفرهم » رد الله سبحانه عليهم قولهم أي ليس ذلك كما زعموا لكن الله سبحانه قد أقصاهم و أبعدهم من رحمته و طردهم عنها بجحودهم به و برسله و قيل معنى لعنهم طبع على قلوبهم على سبيل المجازاة لهم بكفرهم و قوله « فقليلا ما يؤمنون » معناه أن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إن كان معهم بعض الإيمان من التصديق بالله و بصفاته و غير ذلك مما كان فرضا عليهم و ذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من التصديق بنبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بما جاء به و الذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا و إنما وصفهم بالقليل كما يقال قل ما رأيت هذا قط أي ما رأيت هذا قط و إن جعلت قليلا نصبا على الحال أي يؤمنون قليلا فمعناه لا يؤمن به إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام و أصحابه و في هذه الآية رد على المجبرة لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان و يحول بينها و بينه فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم و ذمهم و لو كانوا صادقين لما استحقوا اللعن و الطرد و لكان الله سبحانه قد كلفهم ما لا يطيقونه .

مجمع البيان ج : 1 ص : 310
وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَ كانُوا مِن قَبْلُ يَستَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الْكَفِرِينَ(89)

الإعراب

مصدق رفع لأنه صفة لكتاب و لو نصب على الحال لكان جائزا لكنه لم يقرأ به في المشهور و قيل ضم على الغاية و قد ذكرنا الوجه فيه فيما تقدم من قوله قالوا هذا الذي رزقنا من قبل و أما جواب لما في قوله « و لما جاءهم كتاب من عند الله » فعند الزجاج و الأخفش محذوف لأن معناه معروف يدل عليه قوله « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به » كما حذف جواب لو من نحو قوله و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى و تقديره و لو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن و قيل إن قوله « كفروا » جواب لقوله « و لما جاءهم كتاب من عند الله » و لقوله « فلما جاءهم ما عرفوا » و إنما كرر لما لطول الكلام عن المبرد .

النزول

قال ابن عباس كانت اليهود يستفتحون أي يستنصرون على الأوس و الخزرج برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب و لم يكن من بني إسرائيل كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن البراء بن معرور يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل الشرك و تصفونه و تذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه و ما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية و روى العياشي بإسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد و أحد سواء فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء و بعضهم بفدك و بعضهم بخيبر فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا بهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا
مجمع البيان ج : 1 ص : 311
فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم فقالوا له ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى « و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا » إلى آخر الآية .

المعنى

« و لما جاءهم » أي جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله « كتاب من عند الله » يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « مصدق لما معهم » أي للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة و الإنجيل و غيرهما و فيه وجهان ( أحدهما ) أن معناه إنه مصدق لما تقدم به الأخبار في التوراة و الإنجيل فهو مصدق لذلك من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به ( و الآخر ) إنه مصدق لهما أي بأنهما من عند الله تعالى و أنهما حق « و كانوا » يعني اليهود « من قبل » أي من قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و نزول القرآن « يستفتحون » فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه يستنصرون أي يقولون في الحروب اللهم افتح علينا و انصرنا بحق النبي الأمي اللهم انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا فهم يسألون عن الفتح الذي هو النصر ( و ثانيها ) أنهم كانوا يقولون لمن ينابذهم هذا نبي قد أطل زمانه ينصرنا عليكم ( و ثالثها ) أن معنى يستفتحون يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب فكانوا يصفونه لهم فلما بعث أنكروه ( و رابعها ) أن معنى يستفتحون يستحكمون ربهم على كفار العرب كما قال :
ألا أبلغ بني عصم رسولا
فإني عن فتاحتكم غني أي عن محاكمتكم به و قوله « على الذين كفروا » أي مشركي العرب « فلما جاءهم ما عرفوا » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي عرفوا صفته و مبعثه « كفروا به » حسدا و بغيا و طلبا
مجمع البيان ج : 1 ص : 312
للرياسة « فلعنة الله » أي غضبه و عقابه « على الكافرين » و قد فسرنا معنى اللعنة و الكفر فيما مضى .
بِئْسمَا اشترَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ أَن يَكفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنزِّلَ اللَّهُ مِن فَضلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضب عَلى غَضب وَ لِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ(90)

القراءة

قرأ أبو عمرو أن ينزل خفيفة كل القرآن إلا في الأنعام أن ينزل آية فإنه شددها و قرأ ابن كثير بالتخفيف كل القرآن إلا في سبحان و ننزل من القرآن و حتى تنزل فإنه شددها و قرأ حمزة و الكسائي كل القرآن بالتشديد إلا في الم و حم عسق ينزل الغيث فإنهما قرءاها بالتخفيف و قرأ الباقون بالتشديد كل القرآن و اتفقوا في الحجر و ما ننزله أنه مشدد .

الحجة

نزل فعل غير متعد و يعدى بالإضراب الثلاثة و هي النقل بالهمزة و تضعيف العين و حرف الجر فأنزل و نزل لغتان و مما عدي بالحرف قوله تعالى نزل به الروح الأمين فيمن رفع الروح و قد كثر مجيء التنزيل في القرآن فهذا يقوي نزل و لم يعلم فيه الإنزال و كثر فيه مجيء أنزل .

اللغة

بئس و نعم فعلان ماضيان أصلهما على وزن فعل و فيها أربع لغات نعم و بئس مثل حمد و نعم و بئس بسكون العين و نعم و بئس بكسر الفاء و العين و نعم و بئس و اشتروا افتعلوا من الشراء و أكثر الكلام شريت بمعنى بعت و اشتريت بمعنى ابتعت قال يزيد الحميري :
و شريت بردا ليتني
من بعد برد كنت هامة و ربما استعمل اشتريت بمعنى بعت و شريت بمعنى ابتعت و الأكثر ما تقدم و البغي أصله الفساد مأخوذ من قولهم بغى الجرح إذا فسد و قيل أصله الطلب لأن الباغي يطلب التطاول الذي ليس له ذلك و سميت الزانية بغيا لأنها تطلب و الإهانة الإذلال .

الإعراب

قال الزجاج بئس إذا وقعت على ما جعلت معها ما بمنزلة اسم منكور
مجمع البيان ج : 1 ص : 313
و إنما كان ذلك في نعم و بئس لأنهما لا يعملان في اسم علم إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس أو اسم فيه ألف و لام يدل على جنس و إنما كانت كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح و بئس مستوفية لجميع الذم فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد قلت استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه و كذا إذا قلت بئس الرجل زيد دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل من غير لفظ جنس فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف و لام فهو نصب أبدا و إذا كانت فيه ألف و لام فهو رفع أبدا نحو نعم الرجل زيد و نعم الرجل زيد و نعم رجلا زيد و إنما نصبت رجلا للتمييز و في نعم اسم مضمر على شريطة التفسير و لذلك كانت ما في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح و تخصص و القصد في نعم أن يليها اسم منكور أو اسم جنس فقوله « بئسما اشتروا به أنفسهم » تقديره بئس شيئا اشتروا به أنفسهم قال أبو علي قوله و لذلك كانت ما في نعم بغير صلة يدل على أن ما إذا كانت موصولة لم يجز عنده أن تكون فاعلة نعم و بئس و ذلك عندنا لا يمتنع و جهة جوازه أن ما اسم مبهم يقع على الكثرة و لا يخصص واحدا بعينه كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة و ذلك في نحو قوله تعالى و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فالقصد به هنا الكثرة و إن كان في اللفظ مفردا بدلالة قوله و يقولون هؤلاء و تكون معرفة و نكرة كما أن أسماء الأجناس تكون معرفة و نكرة و قد أجاز أبو العباس المبرد في الذي أن تلي نعم و بئس إذا كان عاما غير مخصوص كما في قوله و الذي جاء بالصدق و إذا جاز في الذي كان في ما أجوز فقوله « بئسما اشتروا به أنفسهم » يجوز عندي أن تكون ما موصولة و موضعها رفع بكونها فاعلة لبئس و يجوز أن تكون منكورة فتكون اشتروا صفة غير صلة و يدل على صحة ما رأيته قول الشاعر :
و كيف أرهب أمرا أو أراع له
و قد زكات إلى بشر بن مروان
فنعم مزكا من ضاقت مذاهبه
و نعم من هو في سر و إعلان أ لا ترى أنه جعل مزكا فاعل نعم لما كان مضافا إلى من و هي تكون عامة غير معينة و أما قوله « أن يكفروا بما أنزل الله » فموضعه رفع و هو المخصوص بالذم فإن شئت رفعته على أنه مبتدأ مؤخر و إن شئت على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هذا الشيء المذموم كفرهم بما أنزل الله و قوله « بغيا » نصب بأنه مفعول له كقول حاتم :
و أغفر عوراء الكريم ادخاره
و أعرض عن شتم اللئيم تكرما
مجمع البيان ج : 1 ص : 314
المعنى أغفر عوراءه لادخاره و أعرض عن الشتم للتكرم و موضع أن الثانية نصب على حذف حرف الجر يعني بغيا لأن ينزل الله أي من أجل أن ينزل الله .

المعنى

ثم ذم الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين فقال « بئسما اشتروا به أنفسهم » أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم أو بئس الشيء باعوا به أنفسهم « أن يكفروا » أي كفرهم « بما أنزل الله » يعني القرآن و دين الإسلام المنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا سأل كيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فالجواب أن البيع و الشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرا فاليهود لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أهلكوا خاطبهم الله بما كانوا يعرفونه فقال بئس الشيء رضوا به عوضا من ثواب الله و ما أعده لهم لو كانوا آمنوا بالله و ما أنزل الله على نبيه النار و ما أعد لهم بكفرهم و نظير ذلك الآيات في سورة النساء من قوله أ لم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت إلى قوله و آتيناهم ملكا عظيما و قوله « بغيا » أي حسدا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان من ولد إسماعيل و كانت الرسل قبل من بني إسرائيل و قيل طلبا لشيء ليس لهم ثم فسر ذلك بقوله « إن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده » و هو الوحي و النبوة و قوله « فباءوا بغضب على غضب » معناه رحبت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الانتصار بمحمد و الاستفتاح به و الإخبار بأنه نبي مبعوث مرتدين ناكصين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم و قال مؤرج معنى « باءو بغضب » استوجبوا اللعنة بلغة جرهم و لا يقال باء مفردة حتى يقال إما بخير و إما بشر و قال أبو عبيدة « فباءوا بغضب » احتملوه و أقروا به و أصل البوء التقرير و الاستقرار و قوله « على غضب » فيه أقوال ( أحدها ) أن الغضب الأول حين غيروا التوراة قبل مبعث النبي و الغضب الثاني حين كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطاء و غيره ( و ثانيها ) أن الغضب الأول حين عبدوا العجل و الثاني حين كفروا بمحمد عن السدي ( و ثالثها ) أن الأول حين كفروا بعيسى (عليه السلام) و الثاني حين كفروا بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن الحسن و عكرمة و قتادة و ( رابعها ) أن ذلك على التوكيد و المبالغة إذ كان الغضب لازما لهم فيتكرر عليهم عن أبي مسلم و الأصم « و للكافرين عذاب مهين » معناه للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله إما في الدنيا و إما في الآخرة و المهين هو الذي يذل صاحبه و يخزيه و يلبسه الهوان و قيل المهين الذي لا ينتقل منه إلى إعزاز و إكرام و قد يكون غير مهين إذا
مجمع البيان ج : 1 ص : 315
كان تحميصا و تكفيرا ينتقل بعده إلى إعزاز تعظيم فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة لا يكون عذابه مهينا .
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(91)

اللغة

ما وراءه أي ما بعده قال الشاعر :
تمني الأماني ليس شيء وراءها
كموعد عرقوب أخاه بيثرب قال الفراء معنى وراءه سوى كما يقال للرجل تكلم بالكلام الحسن ما وراء هذا الكلام شيء يراد ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام .

الإعراب

قوله « مصدقا » نصب على الحال و هذه حال مؤكدة قال الزجاج زعم سيبويه و الخليل و جميع النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك هو زيد قائما خطأ لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما فهو زيد و إذا ترك القيام فليس بزيد فهذا خطأ فأما قولك هو زيد معروفا و هو الحق مصدقا ففي الحال هنا فائدة كأنك قلت أثبته له معروفا و كأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا فمعروف حال لأنه إنما يكون زيدا بأنه يعرف بزيد و كذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب الرسل (عليهم السلام) و قوله « فلم تقتلون » و إن كان بلفظ الاستقبال فالمراد به الماضي و إنما جاز ذلك لقوله « من قبل » و إن بمعنى الشرط و يدل على جوابه ما تقدم و تقديره إن كنتم مؤمنين فلم قتلتم أنبياء الله و قيل إن بمعنى ما النافية أي ما كنتم مؤمنين .

المعنى

« و إذا قيل لهم » يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم « آمنوا » أي صدقوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 316
« بما أنزل الله » من القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الشرائع التي جاء بها « قالوا نؤمن بما أنزل علينا » يعنون التوراة « و يكفرون بما وراءه » أي يجحدون بما بعده يريد الإنجيل و القرآن أو بما سوى التوراة من الكتب المنزلة كقوله سبحانه و أحل لكم ما وراء ذلكم و قال ابن الأنباري تم الكلام عند قوله « بما أنزل علينا » ثم ابتدأ الله بالإخبار عنهم فقال « و يكفرون بما وراءه » أي بما سواه « و هو الحق » يعني القرآن « مصدقا لما معهم » يعني التوراة لأن تصديق محمد و ما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة قال الزجاج و في هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم إذ كفروا بما يصدق ما معهم ثم رد الله تعالى عليهم قولهم « نؤمن بما أنزل علينا » فقال « قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل » أي قل يا محمد لهم فلم قتلتم أنبياء الله و قد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم و أمركم فيه باتباعهم و فرض عليكم طاعتهم و تصديقهم « إن كنتم مؤمنين » بما أنزل عليكم و قال الزجاج إن بمعنى ما هاهنا كأنه قال ما كنتم مؤمنين و هذا وجه بعيد و إنما قال تقتلون بمعنى قتلتم لأن لفظ المستقبل يطلق على الماضي إذا كان ذلك من الصفات اللازمة كما يقال أنت تسرق و تقتل إذا صار ذلك عادة له و لا يراد بذلك ذمه و لا توبيخه على ذلك الفعل في المستقبل و إنما يراد به توبيخه على ما مضى و إنما أضاف إليهم فعل آبائهم و أسلافهم لأحد أمرين ( أحدهما ) أن الخطاب لمن شهد من أهل ملة واحدة و من غاب منهم واحد فإذا قتل أسلافهم الأنبياء و هم مقيمون على مذهبهم و طريقتهم فقد شركوهم في ذلك و الآخر أنهم رضوا بأفعالهم و الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم و هذا المعنى قريب من الأول و في هذه الآية دلالة على أن الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصح إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة التي هي مثله في اقتران المعجزة به .
* وَ لَقَدْ جَاءَكم مُّوسى بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ اتخَذْتمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَ أَنتُمْ ظلِمُونَ(92)

المعنى

ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين و ضعفهم في اليقين فقال « و لقد جاءكم موسى بالبينات » الدالة على صدقه و المعجزات المؤيدة لنبوته كاليد البيضاء و انبجاس الماء من الحجر و فلق البحر و قلب العصا حية و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و سماها بينات لظهورها و تبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر
مجمع البيان ج : 1 ص : 317
الإتيان بها على كل بشر و قوله « ثم اتخذتم العجل » يعني اتخذتم العجل إلها و عبدتموه « من بعده » أي من بعد موسى لما فارقكم و مضى إلى ميقات ربه و يجوز أن يكون الهاء كناية عن المجيء فيكون التقدير ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات « و أنتم ظالمون » لأنفسكم بكفركم و عبادتكم العجل لأن العبادة لا تكون لغير الله .
وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكمُ الطورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَكم بِقُوَّة وَ اسمَعُوا قَالُوا سمِعْنَا وَ عَصيْنَا وَ أُشرِبُوا فى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكفْرِهِمْ قُلْ بِئْسمَا يَأْمُرُكم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(93)

اللغة

اسمعوا معناه اقبلوا و منه قوله ( سمع الله لمن حمده ) أي قبل الله حمد من حمده و قوله « و أشربوا » أصله من الشرب يقال شرب و أشرب غيره إذا حمله على الشرب و أشرب الزرع أي سقي و أشرب قلبه حب كذا قال زهير :
فصحوت عنها بعد حب داخل
و الحب يشربه فؤادك داء .

الإعراب

قوله « العجل » أي حب العجل حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و مثله قول الشاعر :
حسبت بغام راحلتي عناقا
و ما هي ويب غيرك بالعناق أي حسبت بغام راحلتي بغام عناق و قال طرفة :
ألا إنني سقيت أسود حالكا
ألا بجلي من الشراب الأبجل يريد سقيت سم أسود قال آخر :
و شر المنايا ميت وسط أهله
كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضرة أي منية ميت و قوله « بئسما يأمركم به إيمانكم » فقد تقدم ذكر إعرابه و أن يجوز أن
مجمع البيان ج : 1 ص : 318
يكون بمعنى ما أي ما كنتم مؤمنين و جاز أن يكون تقديره إن كنتم مؤمنين فبئسما يأمركم به إيمانكم هذا .

المعنى

قوله « و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة » قد فسرناه فيما مضى و الفائدة في تكرير هذا و أمثاله التأكيد و إيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها و قيل إنه سبحانه لما عد فضائح اليهود أعاد ذكر رفع الجبل و قيل أنه تعالى إنما ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى و الثاني للاحتجاج عليهم و قوله « و اسمعوا » أي اقبلوا ما سمعتم و اعملوا به و أطيعوا الله و قيل معناه اسمعوا ما يتلى عليكم أي استمعوا لتسمعوا و هذا اللفظ يحتمل الاستماع و القبول و لا تنافي بينهما فيحتمل عليهما فكأنه قيل استمعوا لتسمعوا ثم أقبلوا و أطيعوا و بدل عليه أنه قال في الجواب عنهم « قالوا سمعنا و عصينا » و فيه قولان ( أحدهما ) أنهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء و معناه سمعنا قولك و عصينا أمرك ( و الثاني ) أن حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دل عليه كما قال الشاعر :
قالت جناحاه لرجليه ألحقي ) و إن كان الجناح لا يقول ذلك و إنما رجع سبحانه عن لفظ الخطاب إلى الخبر عن الغائب على عادة العرب المألوفة و اختلف في هذا الضمير إلى من يعود فقيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فإنهم قالوا ذلك ثم رجع إلى حديث أوائلهم فقال « و أشربوا » و قيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر موسى (عليه السلام) إذ ردوا عليه قوله و قابلوه بالعصيان و قوله « و أشربوا في قلوبهم » فمعناه دخل قلوبهم حب العجل و إنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها و الطعام يجاوز الأعضاء و لا يتغلغل فيها قال الشاعر :
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
و لا حزن و لم يبلغ سرور و ليس المعنى في قوله « و أشربوا » أن غيرهم فعل ذلك بهم بل هم الفاعلون لذلك كما يقول القائل أنسيت ذلك من النسيان و ليس يريد أن غيره فعل ذلك به و يقال أوتي فلان علما جما و إن كان هو المكتسب له و قوله « بكفرهم » ليس معناه أنهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم لأن محبة العجل كفر قبيح و الله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء و لا جزاء بل معناه أنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل و قيل إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينة عندهم و دعاهم إليه كالسامري و شياطين الجن و الإنس فقوله « بكفرهم » معناه لاعتقادهم التشبيه و جهلهم بالله تعالى و تجويزهم العبادة لغيره أشربوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 319
في قلوبهم حب العجل لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر و قول من قال فعل الله ذلك بهم عقوبة و مجازاة غلط فاحش لأن حب العجل ليس من العقوبة في شيء و لا ضرر فيه و قوله « قل بئسما يأمركم به إيمانكم » معناه قل يا محمد لهؤلاء اليهود بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله و رسله و التكذيب بكتبه و جحد ما جاء من عنده و معنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم نؤمن بما أنزل علينا و قوله « إن كنتم مؤمنين » أي مصدقين كنا زعمتم بالتوراة و في هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشيء يكرهه الله من أفعالهم و إعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم و يحملهم عليه آراؤهم .
قُلْ إِن كانَت لَكمُ الدَّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْت إِن كنتُمْ صدِقِينَ(94)

اللغة

الخالصة الصافية يقال خلص لي هذا الأمر أي صار لي وحدي و صفا لي يخلص خلوصا و خالصة مصدر كالعافية و أصل الخلوص أن يصفو الشيء من كل شائبة و دون يستعمل على ثلاثة أوجه أن يكون الشيء دون الشيء في المكان و في الشرف و في الاختصاص و هو المراد في الآية و التمني من جنس الأقوال عند أكثر المتكلمين و هو أن يقول القائل لما كان ليته لم يكن و لما لم يكن ليته كان و قال أبو هاشم هو معنى في القلب و لا خلاف في أنه ليس من قبيل الشهوة .

الإعراب

خالصة نصب على الحال .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم و علماءهم و دعاهم إلى قضية عادلة بينه و بينهم فقال « قل » يا محمد لهم « إن كانت » الجنة « خالصة » لكم « دون الناس » كلهم أو دون محمد و أصحابه كما ادعيتم بقولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى و كنتم صادقين في قولكم نحن أبناء الله و أحباؤه و إن الله لا يعذبنا « فتمنوا الموت » لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعا كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق و الهموم و الآلام و الغموم و من كان على يقين أنه إذا مات
مجمع البيان ج : 1 ص : 320
تخلص منها و فاز بالنعيم المقيم فإنه يؤثر الموت على الحياة أ لا ترى إلى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة لما قال له الحسن ابنه ما هذا زي الحرب يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه و قول عمار بن ياسر بصفين أيضا الآن ألاقي الأحبة محمدا و حزبه و أما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به و لكن ليقل اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي فإنما نهي عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع و المأمور به الصبر و تفويض الأمور إليه تعالى و لأنا لا نأمن وقوع التقصير فما أمرنا به و نرجو في البقاء التلافي .
وَ لَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ(95)

الإعراب

أبدا نصب على الظرف أي طول عمرهم يقول القائل لا أكلمك أبدا يريد ما عشت و ما بمعنى الذي أي بالذي قدمت أيديهم و يجوز أن يكون ما بمعنى المصدر فيكون المراد بتقدمة أيديهم .

المعنى

أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذين قيل لهم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين بأنهم لا يتمنون ذلك أبدا بما قدموه من المعاصي و القبائح و تكذيب الكتاب و الرسول عن الحسن و أبي مسلم و قيل بما كتموا من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن جريج و أضاف ذلك إلى اليد و إن كانوا إنما فعلوا ذلك باللسان لأن العرب تقول هذا ما كسبت يداك و إن كان ذلك حصل باللسان و الوجه فيه أن الغالب أن تحصل الجناية باليد فيضاف بذلك إليها ما يحصل بغيرها و قوله « و الله عليم بالظالمين » خصص الظالمين بذلك و إن كان عليما بهم و بغيرهم بأن الغرض بذلك الزجر و التهديد كما يقال الإنسان لغيره إني عارف بصير بعملك و قيل معناه إن الله عليم بالأسباب التي منعتم عن تمني الموت و بما أضمروه و أسروه من كتمان الحق عنادا مع علم كثير منهم أنهم مبطلون و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا و لرأوا مقاعدهم من النار فقال الله سبحانه إنهم « لن يتمنوه أبدا » تحقيقا لكذبهم و في ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا و صحة نبوته لأنه
مجمع البيان ج : 1 ص : 321
أخبر بالشيء قبل كونه فكان كما أخبر و أيضا فإنهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنه حق و أنهم لو تمنوا الموت لماتوا و روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لهم إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهم أمتنا فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه فمات مكانه و هذه القصة شبيهة بقصة المباهلة و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه و خوفهم من صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلا و لا مالا فلما لم يتمن اليهود الموت افتضحوا كما أن النصارى لما أحجموا عن المباهلة افتضحوا و ظهر الحق فإن قيل من أين علمتم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم فالجواب أن من قال التمني هو القول فالسؤال ساقط عنه و من قال هو معنى في القلب قال لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصا منهم على تكذيبه في إخباره و لأن تحديهم بتمني الموت إنما وقع بما يظهر على اللسان و كان يسهل عليهم أن يقولوا ليت الموت نزل بنا فلما عدلوا عن ذلك ظهر صدقه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و وضحت حجته .
وَ لَتَجِدَنهُمْ أَحْرَص النَّاسِ عَلى حَيَوة وَ مِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْف سنَة وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ(96)

اللغة

وجده و صادفه و ألفاه نظائر يقال وجدت الشيء وجدانا إذا أصبته و يقال وجدت بمعنى علمت و الحرص شدة الطلب و رجل حريص و قوم حراص و المودة المحبة يقال وددت الرجل أوده ودا و ودا و ودادا و ودادة و مودة و التعمير طول العمر و العمر و العمر لغتان و أصله من العمارة الذي هو ضد الخراب فالعمر المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة و الألف من التأليف سمي بذلك العدد لأنه ضم مائة عشر مرات و الزحزحة التنحية يقال زحزحته فتزحزح و قال الشاعر :
و قالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة
إليك و لا منا لوهيك راقع
مجمع البيان ج : 1 ص : 322
و البصير بمعنى المبصر كما أن السميع بمعنى المسمع و لكنه صرف إلى فعيل و مثله بديع السماوات بمعنى المبدع و العذاب الأليم بمعنى المؤلم هذا في اللغة و عند المتكلمين المبصر هو المدرك للمبصرات و البصير هو الحي الذي لا آفة به فهو ممن يجب أن يبصر المبصرات إذا وجدت و ليس أحدهما هو الآخر و كذلك القول في السميع و السامع .

الإعراب

« لتجدنهم » اللام لام القسم و النون للتأكيد و تقديره و الله لتجدنهم قال سيبويه سألت الخليل عن قوله لتفعلن إذا جاءت مبتدأ فقال هي على نية القسم و هذه اللام إذا دخلت على المستقبل لزمته في الأمر الأكثر بالنون و إذا كان وجدت بمعنى وجدان الضالة يعدى إلى مفعول واحد كفقدت الذي هو ضده فينتصب أحرص على الحال و إذا كان بمعنى علمت تعدى إلى مفعولين ثانيهما عبارة عن الأول فيكون أحرص هو المفعول الثاني و هو الأصح و قوله « و من الذين أشركوا » قال الفراء يريد و أحرص من الذين أشركوا أيضا كما يقال هو أسخى الناس و من حاتم و من هرم لأن تأويل قولك أسخى الناس إنما هو أسخى الناس و قال الزجاج تقديره و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا و قيل إنما دخلت من في قوله « و من الذين أشركوا » و لم يدخل في قوله « أحرص الناس » لأنهم بعض الناس و الإضافة في باب أفعل لا يكون إلا كذلك تقول الياقوت أفضل الحجارة و لا تقول الياقوت أفضل الزجاج بل تقول أفضل من الزجاج فلذلك قال « و من الذين أشركوا » لأن اليهود ليسوا هم بعض المجوس و هم بعض الناس و قوله « و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر » فيه وجوه ( أحدها ) أن هو كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره و أن يعمر في موضع رفع بأنه فاعل تقديره و ما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره كما يقال مررت برجل معجب قيامه ( و ثانيها ) أنه كناية عما جرى ذكره من طول العمر و قوله أن يعمر بيان لقوله هو و تقديره و ما تعميره بمزحزحه من العذاب و كأنه قيل و ما هو الذي ليس بمزحزحه فقيل هو التعمير ( و ثالثها ) أنه عماد و أن يعمر في موضع الرفع بأنه مبتدأ و بمزحزحه خبره و منع الزجاج هذا القول الأخير قال لا يجيز البصريون ما هو قائما زيد و ما هو بقائم زيد بمعنى الأمر و الشأن و قال غيره إذا كانت ما غير عاملة في الباء جاز كقولهم ما بهذا بأس .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال « و لتجدنهم » أي و لتعلمن
مجمع البيان ج : 1 ص : 323
يا محمد هؤلاء اليهود و قيل يعني به علماء اليهود « أحرص الناس على حيوة » أي أحرصهم على البقاء في الدنيا أشد من حرص سائر الناس « و من الذين أشركوا » أي و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا و هم المجوس و من لا يؤمن بالبعث و قال أبو علي الجبائي إن الكلام تم عند قوله « على حيوة » و قوله « و من الذين أشركوا » تقديره و من ] اليهود [ الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فحذف من و قال علي بن عيسى هذا غير صحيح لأن حذف من لا يجوز في مثل هذا الموضع و قال أبو مسلم الأصفهاني أن في هذا الكلام تقديما و تأخيرا و تقديره و لتجدنهم و طائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حيوة و أقول إذا جاز هاهنا أن يحذف الموصوف الذي هو طائفة و تقام الصفة مقامه و هو قوله « من الذين أشركوا » فليجز على ما ذهب إليه الجبائي أن يكون تقديره و من الذين أشركوا طائفة يود أحدهم فيحذف الموصوف و يقام صفته الذي هو « يود أحدهم لو يعمر ألف سنة » مقامه فيصح على هذا تقدير الحذف و يستوي القولان من حيث الصورة و الصفة و يختلفان من حيث المعنى و يكون من هنا هي الموصوفة لا الموصولة كما قدره الجبائي و قوله « يود أحدهم لو يعمر ألف سنة » ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض و تحيى به الملوك يقولون عش ألف نوروز و ألف مهرجان قال ابن عباس هو قول أحدهم لمن عطس هزار سأل بزي يقال فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة لا يتمنون الموت و هم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث و كذلك يجب أن يكون هؤلاء لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم و العذاب الأليم على كفرهم و عنادهم مما لا يقر به أهل الشرك فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث و على الحياة أحرص لهذه العلة و قوله « و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر » أي و ما أحدهم بمنجيه من عذاب الله و لا بمبعده منه تعميره و هو أن يطول له البقاء لأنه لا بد للعمر من الفناء هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها « و الله بصير بما يعملون » أي عليم بأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها بل هو محيط بجميعها حافظ لها حتى يذيقهم بها العذاب و في هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا و نحوه مذموم و إنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة و تلافي الفائت بالتوبة و الإنابة و درك السعادة بالإخلاص في العبادة و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله : بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك بها ما فأت و يحيي بها ما أمات .

مجمع البيان ج : 1 ص : 324
قُلْ مَن كانَ عَدُوًّا لِّجِبرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِك بِإِذْنِ اللَّهِ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(97) مَن كانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَ مَلَئكتِهِ وَ رُسلِهِ وَ جِبرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوُّ لِّلْكَفِرِينَ(98)

القراءة

قرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم و كسر الراء من غير همز و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر إلا يحيى جبرئيل بفتح الجيم و الراء مهموزا على زنة جبرعيل و روى يحيى كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمز فصار مثل جبرعل و الباقون بكسر الجيم و الراء و بعدها ياء من غير همزة و قرأ أهل المدينة ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف على زنة ميكاعل و قرأ أهل البصرة « ميكال » بغير همز و لا ياء و الباقون بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة على زنة ميكاعيل .

الحجة

قال أبو علي روينا عن أبي الحسن أنه قال في جبريل ست لغات جبرائيل و جبرائل و جبرئل و جبرال و جبريل و جبرئيل فمن قال جبريل كان على لفظ قنديل و برطيل و من قال جبرئيل كان على وزن عندليب و من قال جبرئل كان على وزن جحمرش و من قال ميكال على وزن قنطار و ميكائيل و جبرائيل خارج عن كلام العرب و هذه الأسماء معربة فإذا أتى بها على ما في أبنية العرب مثله كان أذهب في باب التعريب و قد جاء في أشعارهم ما هو على لفظ التعريب و ما هو خارج عن ذلك قال :
عبدوا الصليب و كذبوا بمحمد
و بجبرئيل و كذبوا ميكالا و قال حسان :
و جبريل رسول الله منا
و روح القدس ليس له كفاء .

اللغة

جبرئيل و ميكائيل اسمان أعجميان عربا و قيل جبر في اللغة السريانية هو العبد و إيل هو الله و ميك هو عبيد فمعنى جبريل عبد الله و معنى ميكائيل عبيد الله و قال أبو علي الفارسي هذا لا يستقيم من وجهين أحدهما أن إيل لا يعرف من أسماء الله تعالى في
مجمع البيان ج : 1 ص : 325
اللغة العربية و الآخر أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا أبدا كقولهم عبد الله و البشرى و البشارة الخبر السار أول ما يرد فيظهر ذلك في بشرة الوجه .

الإعراب

جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدوا لجبرائيل فليمت غيظا فإنه نزل الوحي على قلبك بإذن الله و الهاء في قوله فإنه تعود إلى جبريل و الهاء في نزله تعود إلى القرآن و إن لم يجر له ذكر كما أن هاء في قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة تعود إلى الأرض و يجوز أن يكون على معنى جبرئيل و تقديره فإن الله نزل جبريل على قلبك لا أنه نزل بنفسه و الأول أصح و نصب مصدقا على الحال من الهاء في نزله و هو ضمير القرآن أو جبريل (عليه السلام) .

النزول

قال ابن عباس كان سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) المدينة سألوه فقالوا يا محمد كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان فقال تنام عيناي و قلبي يقظان قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة قالوا صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شيء أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد قالوا فأخبرنا عن ربك ما هو فأنزل الله سبحانه قل هو الله أحد إلى آخر السورة فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك قال فقال جبريل قال ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك .

المعنى

فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لليهود و ردا عليهم فقال « قل » لهم يا محمد « من كان عدوا لجبريل » إذا كان هو المنزل للكتاب عليك « فإنه نزله على قلبك بإذن الله » لا من تلقاء نفسه و إنما أضافه إلى قلبه لأنه إذا أنزل عليه كان يحفظه و يفهمه بقلبه و معنى قوله « بإذن الله » بأمر الله و قيل أراد بعلمه أو بإعلام الله إياه ما ينزل على قلبك و قوله « مصدقا لما بين يديه » معناه موافقا لما بين يديه من الكتب و مصدقا له بأنه حق و بأنه من عند الله لا مكذبا لها « و هدى و بشرى للمؤمنين » معناه إن كان فيما أنزله الأمر بالحرب و الشدة على الكافرين فإنه هدى و بشرى للمؤمنين و إنما خص الهدى
مجمع البيان ج : 1 ص : 326
بالمؤمنين من حيث كانوا هم المهتدين به العاملين بما فيه و إن كان هدى لغيرهم أيضا و قيل أراد بالهدى الرحمة و الثواب فلذلك خصه بالمؤمنين و معنى البشرى أن فيه البشارة لهم بالنعيم الدائم و إن جعلت مصدقا و هدى و بشرى حالا لجبريل فالمعنى أنه يصدق بكتب الله الأولى و يأتي بالهدى و البشرى و إنما قال سبحانه « على قلبك » و لم يقل على قلبي على العرف المألوف كما تقول لمن تخاطبه لا تقل للقوم أن الخبر عندك و يجوز أن تقول لا تقل لهم أن الخبر عندي و كما تقول قال القوم جبريل عدونا و يجوز أن تقول قالوا جبريل عدوهم و أما قوله تعالى : « من كان عدوا لله و ملائكته و رسله » فمعناه من كان معاديا لله أي يفعل فعل المعادي من المخالفة و العصيان فإن حقيقة العداوة طلب الإضرار به و هذا يستحيل على الله تعالى و قيل المراد به معاداة أوليائه كقوله إن الذين يؤذون الله و قوله « و ملائكته » أي و معاديا لملائكته « و رسله و جبريل و ميكال » و إنما أعاد ذكرهما لفضلهما و منزلتهما كقوله تعالى « فيهما فاكهة و نخل و رمان » و قيل إنما أعاد ذكرهما لأن اليهود قالت جبريل عدونا و ميكائيل ولينا فخصهما الله بالذكر لأن النزاع جرى فيهما فكان ذكرهما أهم و لئلا تزعم اليهود أنهما مخصوصان من جملة الملائكة و ليسا بداخلين في جملتهم فنص الله تعالى عليهما ليبطل ما يتأولونه من التخصيص ثم قال « فإن الله عدو للكافرين » و لم يقل فإنه و كرر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل أو ميكائيل و لم يقل لهم لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان و قد طعن بعض الملحدة في هذا فقال كيف يجوز أن يقول عاقل أنا عدو جبريل و ليس هذا القول من اليهود بمستنكر و لا عجب مع ما أخبر الله تعالى عن قولهم بعد مشاهدتهم فلق البحر و الآيات الخارقة للعادة اجعل لنا إلها كما لهم آلهة و قولهم أرنا الله جهرة و عبادتهم العجل و غير ذلك من جهالاتهم .
وَ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْك ءَايَتِ بَيِّنَت وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَسِقُونَ(99)

اللغة

الآية العلامة التي فيها عبرة و قيل العلامة التي فيها الحجة و البينة الدلالة الفاصلة الواضحة بين القضية الصادقة و الكاذبة مأخوذة من إبانة أحد الشيئين من الآخر ليزول التباسه به .

مجمع البيان ج : 1 ص : 327

الإعراب

قد تدخل في الكلام لأحد أمرين أحدهما لقوم يتوقعون الخبر و الآخر لتقريب الماضي من الحال تقول خرجت و قد ركب الأمير و هي هنا مع لام القسم على تقدير قوم يتوقعون الخبر لأن الكلام إذا خرج ذلك المخرج كان أوكد و أبلغ .

النزول

قال ابن عباس إن ابن صوريا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه و ما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

يقول « و لقد أنزلنا إليك » يا محمد « آيات » يعني سائر المعجزات التي أعطيها النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن البلخي و قيل هي القرآن و ما فيها من الدلالات عن أبي مسلم و أبي علي و قيل هي علم التوراة و الإنجيل و الأخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة عن الأصم كقوله تعالى يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب « بينات » أي واضحات تفصل بين الحق و الباطل « و ما يكفر بها إلا الفاسقون » و معناه الكافرون و إنما سمي الكفر فسقا لأن الفسق خروج من شيء إلى شيء و اليهود خرجوا من دينهم و هو دين موسى بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إنما لم يقل الكافرون و إن كان الكفر أعظم من الفسق لأحد أمرين ( أحدهما ) أن المراد أنهم خرجوا عن أمر الله إلى ما يعظم من معاصيه و الثاني أن المراد به أنهم الفاسقون المتمردون في كفرهم لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر و إن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي .
أَ وَ كلَّمَا عَهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(100)

اللغة

النبذ طرحك الشيء عن يدك أمامك أو خلفك و المنابذة انتباذ الفريقين للحرب و نابذناهم الحرب و المنبوذون هم الأولاد الذين يطرحون و المنابذة في البيع منهي عنها و هو كالرمي كأنه إذا رمى به وجب البيع له و سمي النبيذ نبيذا لأن التمر كان يلقى في الجرة و غيرها و قيل معنى نبذه تركه و قيل ألقاه قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا .

مجمع البيان ج : 1 ص : 328

الإعراب

الواو في قوله « أ و كلما » عند سيبويه و أكثر النحويين واو العطف إلا أن ألف الاستفهام دخلت عليها لأن لها صدر الكلام و هي أم حروف الاستفهام بدلالة أن هذه الواو تدخل على هل تقول و هل زيد عالم لأن الألف أقوى منها و قال بعضهم يحتمل أن تكون زائدة كزيادة الفاء في قولك أ فالله ليفعلن و الأول أصح لأنه لا يحكم على الحرف بالزيادة مع وجود معنى من غير ضرورة و نصب كلما على الظرف و العامل فيه نبذه و لا يجوز أن يعمل فيه عاهدوا لأنه متمم لما إما صلة و إما صفة .

المعنى

أخبر الله سبحانه عن اليهود أيضا فقال « أ و كلما عاهدوا » الله « عهدا » أراد به العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأمي عن ابن عباس و كلما لفظ يقتضي التكرر فيقتضي تكرر النقض منهم و قال عطاء هي العهود التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بين اليهود فنقضوها كفعل قريظة و النضير عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحدا فنقضوا ذلك و أعانوا عليه قريشا يوم الخندق « نبذه فريق منهم » أي نقضه جماعة منهم « بل أكثرهم » أي أكثر المعاهدين « لا يؤمنون » و لا تعود الهاء و الميم إلى فريق إذ كانوا كلهم غير مؤمنين فأما المعاهدون فمنهم من آمن كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما فأما وجه دخول بل على قوله « بل أكثرهم » فإنه لأمرين ( أحدهما ) أنه لما نبذه فريق منهم دل على أن ذلك الفريق كفر بالنقض فقال بل أكثرهم كفار بالنقض الذي فعلوه و إن كان بعضهم نقضه جهلا و بعضهم نقضه عنادا و الثاني أنه أراد كفر فريق منهم بالنقض و كفر أكثرهم بالجحد للحق و هو أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما يلزم من اتباعه و التصديق به .
وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب كتَب اللَّهِ وَرَاءَ ظهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101)

الإعراب

لما في موضع نصب بأنه ظرف و يقع به الشيء بوقوع غيره و العامل فيه نبذ و مصدق رفع لأنه صفة لرسول لأنهما نكرتان و لو نصب لكان جائزا لأن رسول قد وصف بقوله « من عند الله » فلذلك يحسن نصبه على الحال إلا أنه لا يجوز في القراءة إلا
مجمع البيان ج : 1 ص : 329
الرفع لأن القراءة سنة متبعة و موضع ما جر باللام و مع صلة لها و الناصب لمع معنى الاستقرار و المعنى لما استقر معهم .

المعنى

« و لما جاءهم » أي و لما جاء اليهود الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « رسول من عند الله » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أكثر المفسرين و قيل أراد بالرسول الرسالة كما قال كثير :
فقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بليلى و ما أرسلتهم برسول قال علي بن عيسى و هذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر قليل في الاستعمال و قوله « مصدق لما معهم » يحتمل أمرين ( أحدهما ) أنه مصدق لكتبهم من التوراة و الإنجيل لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة ( و الثاني ) أنه مصدق للتوراة بأنها حق من عند الله لأن الأخبار هاهنا إنما هو عن اليهود دون النصارى و الأول أحسن لأن فيه حجة عليهم و قوله « نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب » أي ترك و ألقى طائفة منهم و إنما قال « من الذين أوتوا الكتاب » و لم يقل منهم و قد تقدم ذكرهم لأنه يريد به علماء اليهود فأعاد ذكرهم لاختلاف المعنى و قيل أنه لم يكن عنهم للبيان لما طال الكلام و قوله « كتاب الله » يحتمل أن يريد به التوراة و يحتمل أن يريد به القرآن و قوله « وراء ظهورهم » كناية عن تركهم العمل به قال الشعبي هو بين أيديهم يقرءونه و لكن نبذوا العمل به و قال سفيان بن عيينة أدرجوه في الحرير و الديباج و حلوه بالذهب و الفضة و لم يحلوا حلاله و لم يحرموا حرامه فذلك النبذ هذا إذا حمل الكتاب على التوراة و قال أبو مسلم لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب فلم يقبلوه صاروا نابذين للكتاب الأول أيضا الذي فيه البشارة به و قال السدي نبذوا التوراة و أخذوا بكتاب آصف و سحر هاروت و ماروت يعني أنهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال قتادة و جماعة من أهل العلم أن ذلك الفريق كانوا معاندين و إنما ذكر فريقا منهم لأن الجمع العظيم و الجم الغفير و العدد الكثير لا يجوز عليهم كتمان ما علموه مع اختلاف الهمم و تشتت الآراء و تباعد الأهواء لأنه خلاف المألوف من العادات إلا إذا كانوا عددا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكتمان و قوله « كأنهم لا يعلمون » أي لا يعلمون أنه صدق و حق و المراد أنهم علموا و كتموا بغيا و عنادا و قيل المراد كأنهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب و قيل المراد كأنهم لا يعلمون ما في كتابهم أي حلوا محل الجاهل بالكتاب .

مجمع البيان ج : 1 ص : 330
وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشيَطِينُ عَلى مُلْكِ سلَيْمَنَ وَ مَا كفَرَ سلَيْمَنُ وَ لَكِنَّ الشيَطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السحْرَ وَ مَا أُنزِلَ عَلى الْمَلَكينِ بِبَابِلَ هَرُوت وَ مَرُوت وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتى يَقُولا إِنَّمَا نحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُم بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضرُّهُمْ وَ لا يَنفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشترَاهُ مَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِنْ خَلَق وَ لَبِئْس مَا شرَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(102)

القراءة

قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و لكن الشياطين كفروا و لكن الله قتلهم و لكن الله رمى بتخفيف النون من لكن و رفع الاسم بعدها و الباقون بالتشديد و روي في الشواذ على الملكين بكسر اللام عن ابن عباس و الحسن .

الحجة

قال أبو علي اعلم أن لكن لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء و لا في الأفعال و هي مثل إن في أنها مثقلة ثم تخفف إلا أن إن و أن إذا خففتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقلتين و إن كان غير الأعمال أكثر و لم نعلم أن أحدا حكى النصب في لكن إذا خففت فيشبه إن و النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خففت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف و لكن و إن لم يشابه الفعل فإن فيه ما يشبه الفعل إذا فصلته كقولهم أراك منتفخا أريد أن تفخ مثل كتف فقدر منفصلا ثم خفف كذلك يقدر في لكن الانفصال فيشبه ليت و إن .

مجمع البيان ج : 1 ص : 331

اللغة

أتبعه أقتدي به و تتلو معناه تتبع لأن التالي تابع و قيل معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي قرأته قال الله تعالى هنالك تتلوا كل نفس ما أسلفت أي تتبع و قال حسان بن ثابت :
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
و يتلو كتاب الله في كل مشهد و السحر و الكهانة و الحيلة نظائر يقال سحره يسحره سحرا و قال صاحب العين السحر عمل يقرب إلى الشياطين و من السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى و ليس الأمر كما ترى و الجمع الأخذ فالسحر عمل خفي لخفاء سببه يصور الشيء بخلاف صورته و يقلبه عن جنسه في الظاهر و لا يقلبه عن جنسه في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله سبحانه و تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى و السحر الغذاء قال امرؤ القيس :
أرانا موضعين لحتم غيب
و نسحر بالطعام و بالشراب و السحر أيضا الرئة يقال للجبان انتفخ سحره و الفتنة و الامتحان و الاختبار نظائر يقال فتنته فتنة و أفتنه قال أعشى همدان فجاء باللغتين :
لقد فتنتني و هي بالأمس أفتنت
سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم و فتنت الذهب في النار إذا اختبرته فيها لتعلم أ خالص هو أم مشوب فقيل لكل ما أحميته في النار فتنة و فتنت الخبزة في النار أنضجتها و منه قوله يوم هم على النار يفتنون أي يشوون و تعلم قد تكون بمعنى اعلم كما قيل علمت و أعلمت بمعنى و كذلك فهمت و أفهمت قال كعب بن زهير :
تعلم رسول الله أنك مدركي
و أن وعيدا منك كالأخذ باليد و قيل إن بينهما فرقا فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة و ليس في اعلم هذا المعنى فقد يقال ذلك لما يعلم بلا تأمل كقولك اعلم أن الفعل يدل على الفاعل و أن ما لم يسبق المحدث محدث و تقول في الأول تعلم النحو و الفقه و المرء تأنيثه المرأة و يقال مرة بلا ألف و الضرر و الألم و الأذى نظائر و الضر نقيض النفع يقال ضره يضره ضرا و أضر به إضرارا و اضطره إليه اضطرارا قال صاحب العين الضر و الضر لغتان فإذا ضممت إليه النفع فتحت الضاد و الضرير الذاهب البصر من الناس يقال رجل ضرير بين الضرارة
مجمع البيان ج : 1 ص : 332
و في الحديث لا ضرر و لا ضرار و ضريرا الوادي جانباه و كل شيء دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك و أصل الباب الانتقاص و الأذن في اللغة على ثلاثة أقسام ( أحدها ) بمعنى العلم كقوله فأذنوا بحرب من الله أي فاعلموا و قال الحطيئة :
ألا يا هند إن جددت وصلا
و إلا فأذنيني بانصرام و ( الثاني ) بمعنى الإباحة و الإطلاق كقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن و الثالث بمعنى الأمر كقوله نزله على قلبك بإذن الله و النفع و المنفعة و اللذة نظائر و حد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا أما لأنه لذة أو يؤدي إلى لذة و حد الضرر كل ما يكون به الحيوان ألما أما لأنه ألم أو يؤدي إلى ألم و الخلاق النصيب من الخير قال أمية بن أبي الصلت :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم
إلا سرابيل من قطر و أغلال .

الإعراب

قوله « ما تتلوا » فيه وجهان أحدهما أن تكون تتلوا بمعنى تلت و إنما جاز ذلك لما عام من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال إن المراد على عهد ملك سليمان أو في زمن ملك سليمان أو بملك سليمان فيمن لم يقدر حذف المضاف فدل ذلك على إن مثال المضارع أريد به الماضي قال سيبويه قد تقع يفعل في موضع فعل كقول الشاعر :
و لقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني و الوجه الآخر أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل و لكنه حكاية حاول و إن كان ماضيا كقوله و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم فيسومونكم حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه و إن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب و من هذا ما أنشده ابن الأعرابي :
جارية في رمضان الماضي
تقطع الحديث بالإيماض و قوله « و ما أنزل » ذكر في ما ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه بمعنى الذي و أنزل صلته و موضعه نصب بكونه معطوفا على السحر و قيل أنه معطوف على قوله « ما تتلوا الشياطين » و ( ثانيها ) أنه بمعنى أيضا و موضعه جر و يكون معطوفا بالواو على ملك سليمان و ( ثالثها ) أنه بمعنى الجحد و النفي و تقديره و ما كفر سليمان و لم ينزل الله السحر على الملكين و بابل اسم بلد لا ينصرف للتعريف و التأنيث و قوله فيتعلمون » لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 333
يخلو من أحد أمرين إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله أو يكون خبر مبتدأ محذوف و الفعل الذي قبله لا يخلو إما أن يكون كفروا من قوله « و لكن الشياطين كفروا » فيجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا عليه لأن كفروا في موضع رفع بكونه خبر لكن فعطف عليه بالمرفوع و هو قول سيبويه فأما يعلمون فيجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي كفروا في حال تعليمهم و يجوز أن يكون بدلا من كفروا لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى و إذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب جاز إبداله منه و إما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله « يعلمون » و هو قول الفراء و أنكر الزجاج هذا القول قال لأن قوله « منهما » دليل على التعلم من الملكين خاصة قال أبو علي فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا كما يدخل على قول الفراء لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين قال و هذا الاعتراض ساقط من جهتين إحداهما أن التعلم و إن كان من الملكين خاصة فلا يمتنع أن يكون قوله « فيتعلمون » عطف على كفروا و على يعلمون و إن كان متعلقا بهما و كان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين فإن قلت كيف يجوز هذا و هل يسوغ أن يقدر هذا التقدير و يلزمك أن يكون النظم و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما فتضمر الملكين قبل ذكرهما و الإضمار قبل الذكر غير جائز و إن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر و كان ذلك غير جائز لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا و يعلمون بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله « فلا تكفر » أي فيأبون فيتعلمون أو على يعلمان من قوله « ما يعلمان من أحد » لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين فالجواب أما النظم فإنه على ما ذكرته و هو صحيح و أما الإضمار قبل الذكر فإن منهما في قوله « فيتعلمون منهما » إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين فإن إضمارهما بعد تقدم ذكرهما و ذلك سائغ و نظيره قوله تعالى و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات لما تقدم ذكره أضمر اسمه و لو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز لكونه إضمار قبل الذكر و هذا بين جدا فالاعتراض بذلك على سيبويه و الفراء ساقط و أما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك فهي أنه قد قيل في قوله تعالى « و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر » ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين و قول منها تعلمه من الشياطين فيكون نظم الكلام على هذا و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما « و ما أنزل على الملكين ببابل » أي لم ينزل « و ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 334
يعلمان من أحد » أي و ما يعلم هاروت و ماروت من أحد فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين إنما يرجع إلى هاروت و ماروت اللذين هما الشياطين في المعنى فأما حمل الكلام على التثنية و الشياطين جمع فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع و على لفظ هاروت و ماروت فيثنى و نظيره قوله و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ثم قال فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى و يجوز أن يكون يتعلمون معطوفا على يعلمان من قوله « و ما يعلمان من أحد » فيكون الضمير الذي في يتعلمون لأحد إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى كقوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله و قيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر فيأبون فيتعلمون و هذا قول حسن فهو قول الفراء قال أبو علي و هو عندي جائز لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه و أما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما و ذلك غير ممتنع و قد قيل في قوله منهما أن الضمير عائد إلى السحر و الكفر قاله أبو مسلم قال لأنه تقدم الدليل عليها في قوله « كفروا » و هذا كقوله سبحانه سيذكر من يخشى و يتجنبها الأشقى أي يتجنب الذكرى و قوله « و لقد علموا لمن اشتراه » قال الزجاج دخول اللام على قد على جهة القسم و التوكيد و قال النحويون في قوله « لمن اشتراه » قولين جعل بعضهم من بمعنى الشرط و جعل الجواب « ما له في الآخرة من خلاق » و هذا ليس بموضع شرط و جزاء و لكن المعنى و لقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق كما تقول و الله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل انتهى كلام الزجاج و أقول فموضع من رفع بالابتداء و موضع « ما له في الآخرة من خلاق » رفع على أنه خبر المبتدأ و هذا قول سيبويه فاللام في قوله « لمن اشتراه » لام الابتداء دون القسم لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم و اللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا كما أن الاستفهام كذلك في نحو علمت أ زيد في الدار أم عمرو و هذا هو المسمى تعليقا قال أبو علي قول من قال إن من جزاء بعيد لأنه إذا كان جزاءا فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك و لئن شئنا لنذهبن فيقتضي ذلك قسما و القسم الذي يقتضيه قوله « لمن اشتراه » إذا حملت من على أنه جزاء لا يخلو من أن يكون علموا لأن العلم و الظن قد يقامان مقام القسم كما في قوله :
و لقد علمت لتأتين منيتي
إن المنايا لا تطيش سهامها و قوله و ظنوا ما لهم من محيص أو يكون مضمرا بين قوله « علموا » و قوله « لمن اشتراه »
مجمع البيان ج : 1 ص : 335
و يبعد أن يكون علموا قسما و قوله « لمن اشتراه » جوابه هنا لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم و المقسم عليه لا يكون قسما لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم لأن في أول الكلام قسما و هو المضمر الجالب للأم في لقد فهذا هو القسم الأول و الثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول المضمر و هو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء و بالنفي فيمن جعل من جزاءا و دخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه و لا يسوغ فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون علموا هنا بمنزلة القسم و أن يجاب بجوابه فقال سيبويه و الخليل لا يقوى أن تقول و حقك و حق زيد لأفعلن و الواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه إلا أن يضم الآخر إلى الأول و يحلف بهما على المحلوف عليه و لهذا جعل هو و الخليل الحرف في قوله و الليل إذا يغشى و النهار إذا تجلى و ما خلق الذكر و الأنثى للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في لمن اشتراه على أنها لام ابتداء دون قسم و ليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم لعمرك لأفعلن كذا فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم و يبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله « و لقد علموا » و بين « لمن اشتراه » لأن علموا يقتضي مفعوليه و إذا وقع قسم بينه و بين مفعوليه لم يجب و كان لغوا كما أنه في نحو قولك زيد و الله منطلق و إن تأتني و الله أتيتك لغو لا جواب له و لأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت و ذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه لأخرجته عما وضع له لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره و لجعلته قائما بنفسه و لو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به و يوصف به النكرة و هذا ممتنع فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت لا يلزم أن يكون له جواب فإضمار القسم بعد علموا غير جائز لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف كما يدل ليفعلن و نحوه من الجواب على القسم و المحذوف فإذا لم يجز أن يكون له جواب لم يجز حذفه و إرادته فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما و يكون قوله « ما لهم في الآخرة من خلاق » و جوابه و كان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه و حمل اللام في لمن على أنه لام الابتداء و من بمعنى الذي لئلا يلزم ما لا يستحسنه و لا يستجيزه من دخول قسم على قسم فمذهب سيبويه في هذا هو البين .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله
 

<<        الفهرس        >>