جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج15 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


26 سورة الشعراء - 123 - 140

كَذّبَت عَادٌ الْمُرْسلِينَ (123) إِذْ قَالَ لهَُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتّقُونَ (124) إِنى لَكمْ رَسولٌ أَمِينٌ (125) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ مَا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى رَب الْعَلَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلّكُمْ تخْلُدُونَ (129) وَ إِذَا بَطشتُم بَطشتُمْ جَبّارِينَ (130) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتّقُوا الّذِى أَمَدّكم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدّكم بِأَنْعَمٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنّتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنى أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سوَاءٌ عَلَيْنَا أَ وَعَظت أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوّلِينَ (137) وَ مَا نحْنُ بِمُعَذّبِينَ (138) فَكَذّبُوهُ فَأَهْلَكْنَهُمْ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً وَ مَا كانَ أَكْثرُهُم مّؤْمِنِينَ (139) وَ إِنّ رَبّك لهَُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ (140)

بيان

تشير الآيات إلى قصة هود (عليه السلام) و قومه و هو قوم عاد.

قوله تعالى: "كذبت عاد المرسلين" قوم عاد من العرب العاربة الأولى كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب لهم مدنية راقية و أراض خصبة و ديار معمورة فكذبوا الرسل و كفروا بأنعم الله و أطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم و خرب ديارهم و عفا آثارهم.

و عاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم و بكر و تغلب و يراد بنو تميم و بنو بكر و بنو تغلب.

و قد تقدم في نظير الآية من قصة نوح وجه عد القوم مكذبين للمرسلين و لم يكذبوا ظاهرا إلا واحدا منهم.

قوله تعالى: "إني لكم رسول أمين - إلى قوله - رب العالمين" تقدم الكلام فيها في نظائرها من قصة نوح (عليه السلام).

و ذكر بعض المفسرين أن تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل و عدم سؤالهم أجرا على رسالتهم و أمرهم الناس بالتقوى و الطاعة للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق و الطاعة فيما يقرب المدعو من الثواب و يبعده من العقاب و أن الأنبياء (عليهم السلام) مجتمعون على ذلك و إن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة و الأعصار، و أنهم منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية انتهى.

و نظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله: "إن في ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين و إن ربك لهو العزيز الرحيم" ففيه دلالة على أن أكثر الأمم و الأقوام معرضون عن آيات الله، و أن الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة.

قوله تعالى: "أ تبنون بكل ريع آية تعبثون" الريع هو المرتفع من الأرض و الآية العلامة و العبث الفعل الذي لا غاية له، و كأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال و كل مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزهون فيها و يفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا و اتباعا للهوى فوبخهم عليه.

و قد ذكر للآية معان أخر لا دليل عليها من جهة اللفظ و لا ملاءمة للسياق أضربنا عنها.

قوله تعالى: "و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون"، المصانع على ما قيل: الحصون المنيعة و القصور المشيدة و الأبنية العالية واحدها مصنع.

و قوله: "لعلكم تخلدون" في مقام التعليل لما قبله أي تتخذون هذه المصانع بسبب أنكم ترجون الخلود و لو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الأعمال التي من طبعها أن تدوم دهرا طويلا لا يفي به أطول الأعمار الإنسانية، و قيل في معنى الآية و مفرداتها وجوه أخرى أغمضنا عنها.

قوله تعالى: "و إذا بطشتم بطشتم جبارين" قال في المجمع:، البطش العسف قتلا بالسيف و ضربا بالسوط، و الجبار العالي على غيره بعظيم سلطانه.

و هو في صفة الله سبحانه مدح و في صفة غيره ذم لأن معناه في العبد أنه يتكلف الجبرية.

انتهي.

فالمعنى: و إذا أظهرتم شدة في العمل و بأسا بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدة.

و محصل الآيات الثلاث أنكم مسرفون في جانبي الشهوة و الغضب متعدون حد الاعتدال خارجون عن طور العبودية.

قوله تعالى: "فاتقوا الله و أطيعون" تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة و الغضب و خروجهم عن طور العبودية فليتقوا الله و ليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الإتراف و الاستكبار.

قوله تعالى: "و اتقوا الذي أمدكم بما تعلمون" - إلى قوله - و عيون" قال الراغب: أصل المد الجر، قال: و أمددت الجيش بمدود و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، قال تعالى: "و أمددناهم بفاكهة" "و نمد له من العذاب مدا" انتهى ملخصا.

و قوله: "و اتقوا الذي أمدكم" إلخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية أي اتقوا الله الذي يمدكم بنعمه لأنه يمدكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف و استكبار فإن كفران النعمة يستعقب السخط و العذاب قال تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد": إبراهيم: 7.

و قد ذكر النعم إجمالا بقوله أولا: "أمدكم بما تعلمون" ثم فصلها بقوله ثانيا: "أمدكم بأنعام و بنين و جنات و عيون".

و في قوله: "أمدكم بما تعلمون" نكتة أخرى هي أنكم تعلمون أن هذه النعم من إمداده تعالى و صنعه لا يشاركه في إيجادها و الإمداد بها غيره فهو الذي يجب لكم أن تتقوه بالشكر و العبادة دون الأوثان و الأصنام فالكلام متضمن للحجة.

قوله تعالى: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" تعليل للأمر بالتقوى أي إني آمركم بالتقوى شكرا لأني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم أن تكفروا و لم تشكروا، و الظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم القيامة و إن جوز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

قوله تعالى: "قالوا سواء علينا أ وعظت أم لم تكن من الواعظين" نفي لأثر كلامه و إياس له من إيمانهم بالكلية.

قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أ وعظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله: "أم لم تكن من الواعظين" النافي لأصل كونه واعظا ما لا يخفى من المبالغة.

قوله تعالى: "إن هذا إلا خلق الأولين" الخلق بضم الخاء و اللام أو سكونها قال الراغب: الخلق و الخلق - أي بفتح الخاء و ضمها - في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق - بضم الخاء - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: "إنك لعلى خلق عظيم" و قرىء "إن هذا إلا خلق الأولين" انتهى.

و الإشارة بهذا إلى ما جاء به هود و قد سموه وعظا و المعنى: ليس ما تلبست به من الدعوة إلى التوحيد و الموعظة إلا عادة البشر الأولين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات، و هذا كقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين.

و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك و عبادة الآلهة من دون الله اقتداء بآبائهم الأولين كقولهم: "وجدنا آباءنا كذلك يفعلون".

و احتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيا كما حيوا و نموت كما ماتوا و لا بعث و لا حساب و لا عذاب.

و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: "و ما نحن بمعذبين" إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هود (عليه السلام) يوم القيامة.

قوله تعالى: "فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية - إلى قوله - الرحيم" معناه ظاهر مما تقدم.


بحث روائي

في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في حديث: و قال نوح إن الله تبارك و تعالى باعث نبيا يقال له هود و إنه يدعو قومه إلى الله عز و جل فيكذبونه و إن الله عز و جل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه فإن الله تبارك و تعالى ينجيه من عذاب الريح. و أمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة و يكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود و زمانه الذي يخرج فيه. فلما بعث الله تبارك و تعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم و الإيمان و ميراث العلم و الاسم الأكبر و آثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا و قد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به و صدقوه و اتبعوه فنجوا من عذاب الريح، و هو قول الله عز و جل: "و إلى عاد أخاهم هودا" و قوله: "كذبت عاد المرسلين - إذ قال لهم أخوهم هود أ لا تتقون" و في المجمع،: في قوله تعالى: "آية تعبثون" أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم و إنما تريدون العبث بذلك و اللعب و اللهو كأنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا منهم عن ابن عباس في رواية عطاء، و يؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به و الإعراض عنه. فشكا ذلك إلى أصحابه و قال: و الله إني لأنكر نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أدري ما حدث في و ما صنعت؟ قالوا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى قبتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالأرض فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها. فقال: إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و إذا بطشتم بطشتم جبارين" قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

26 سورة الشعراء - 141 - 159

كَذّبَت ثَمُودُ الْمُرْسلِينَ (141) إِذْ قَالَ لهَُمْ أَخُوهُمْ صلِحٌ أَ لا تَتّقُونَ (142) إِنى لَكُمْ رَسولٌ أَمِينٌ (143) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ مَا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى رَب الْعَلَمِينَ (145) أَ تُترَكُونَ فى مَا هَهُنَا ءَامِنِينَ (146) فى جَنّتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نخْلٍ طلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَرِهِينَ (149) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (150) وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسرِفِينَ (151) الّذِينَ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ وَ لا يُصلِحُونَ (152) قَالُوا إِنّمَا أَنت مِنَ الْمُسحّرِينَ (153) مَا أَنت إِلا بَشرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنت مِنَ الصدِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لهَّا شِرْبٌ وَ لَكمْ شِرْب يَوْمٍ مّعْلُومٍ (155) وَ لا تَمَسوهَا بِسوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصبَحُوا نَدِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَاب إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً وَ مَا كانَ أَكثرُهُم مّؤْمِنِينَ (158) وَ إِنّ رَبّك لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ (159)

بيان

تشير الآيات إلى إجمال قصة صالح (عليه السلام) و قومه و هو من أنبياء العرب و يذكر في القرآن بعد هود (عليه السلام).

قوله تعالى: "كذبت ثمود المرسلين - إلى قوله - على رب العالمين" قد اتضح معناها مما تقدم.

قوله تعالى: "أ تتركون فيما هاهنا آمنين" الظاهر أن الاستفهام للإنكار و "ما" موصولة و المراد بها النعم التي يفصلها بعد قوله: "في جنات و عيون" إلخ، و "هاهنا" إشارة إلى المكان الحاضر القريب و هو أرض ثمود و "آمنين" حال من نائب فاعل "تتركون".

و المعنى: لا تتركون في هذه النعم التي أحاطت بكم في أرضكم هذه و أنتم مطلقو العنان لا تسألون عما تفعلون آمنون من أي مؤاخذة إلهية.

قوله تعالى: "في جنات و عيون و زروع و نخل طلعها هضيم" بيان تفصيلي لقوله: "فيما هاهنا"، و قد خص النخل بالذكر مع دخوله في الجنات لاهتمامهم به، و الطلع في النخل كالنور في سائر الأشجار و الهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضم بعضه إلى بعض.

قوله تعالى: "و تنحتون من الجبال بيوتا فارهين" قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الأشر، و قوله تعالى: "و تنحتون من الجبال بيوتا فارهين" أي حاذقين و قيل: معناه أشرين.

انتهى ملخصا، و على ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، و على المعنى الآخر تكون مسوقة لإنكار أشرهم و بطرهم.

و الآية على أي حال في حيز الاستفهام.

قوله تعالى: "فاتقوا الله و أطيعون" تفريع على ما تقدم من الإنكار الذي في معنى المنفي.

قوله تعالى: "و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون" الظاهر أن المراد بالأمر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته و إن جوز بعضهم كون الأمر بمعنى الشأن و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامة و اتباعهم لهم في أعمالهم و سلوكهم السبل التي يستحبون لهم سلوكها.

و المراد بالمسرفين على أي حال أشراف القوم و عظماؤهم المتبوعون و الخطاب للعامة التابعين لهم و أما السادة الأشراف فقد كانوا مأيوسا من إيمانهم و اتباعهم للحق.

و يمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الأشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم و يطيعون أمرهم كما قالوا لصالح (عليه السلام): "أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا": هود: 62، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.

و قد فسر المسرفين و هم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: "الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون" إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله و لا تطيعوا أمر المسرفين لأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين و الإفساد لا يؤمن معه العذاب الإلهي و هو عزيز ذو انتقام.

و ذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد و التزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج و الآثار كالأمر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها و اختلافها الشديد بالارتفاع و الانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون و هو الغاية و العالم الإنساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الإنسان بما له من القوى و الأدوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله و أعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها و قد جهز بعقل يميز بين الخير و الشر و يعطي كل ذي حق حقه.

فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة و هو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل و الانحراف إفسادا للنظام المرسوم، و يتبعه إفساد غايته و غاية الكل، و من الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له و إفساد النظم المفروض له و لغيره يستعقب منازعة بقية الأجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه و ترده إلى وسط الاعتدال فهو و إلا أفنته و عفت آثاره حفظا لصلاح الكون و استبقاء لقوامه.

و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له و إن تعدى حدود فطرته و أفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين و المثلات و أنواع النكال و النقمة لعله يرجع إلى الصلاح و السداد قال تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون": الروم: 41.

و إن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال و طهر الأرض من قذارة فسادهم قال تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون": الأعراف: 96.

و قال: "و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون": هود: 117، و قال: "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون": الأنبياء: 105، و ذلك أنهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم و إذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العام و صلحت بها الأرض لحياتهم الأرضية.

فقد تبين بما مر أولا أن حقيقة دعوة النبوة هي إصلاح الحياة الإنسانية الأرضية قال تعالى: حكاية عن شعيب: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت": هود: 88.

و ثانيا: أن قوله: "و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون" إلخ، على سذاجة بيانه معتمد على حجة برهانية.

و لعل في قوله: "و لا يصلحون" بعد قوله: "الذين يفسدون في الأرض" إشارة إلى أنه كان المتوقع منهم بما أنهم بشر ذوو فطرة إنسانية أن يصلحوا في الأرض لكنهم انحرفوا عن الفطرة و بدلوا الإصلاح إفسادا.

قوله تعالى: "قالوا إنما أنت من المسحرين" أي ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب على عقله، و قيل: إن السحر أعلى البطن و المسحر من له جوف فيكون كناية عن أنك بشر مثلنا تأكل و تشرب فيكون قوله بعده: "و ما أنت إلا بشر مثلنا" تأكيدا له، و قيل: المسحر من له سحر أي رئة كأن مرادهم أنك متنفس بشر مثلنا.

قوله تعالى: "و ما أنت إلا بشر مثلنا - إلى قوله - عذاب يوم عظيم" الشرب بكسر الشين النصيب من الماء، و الباقي ظاهر و قد تقدمت تفصيل القصة في سورة هود.

قوله تعالى: "فعقروها فأصبحوا نادمين" نسبة العقر إلى الجمع - و لم يعقرها إلا واحد منهم - لرضاهم بفعله، و في نهج البلاغة،: أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا و السخط و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: "فعقروها فأصبحوا نادمين".

و قوله: "فأصبحوا نادمين" لعل ندمهم إنما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب و إن قالوا له بعد العقر تعجيزا و استهزاء: "يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين": الأعراف: 77.

قوله تعالى: "فأخذهم العذاب - إلى قوله - العزيز الرحيم" اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإن صالحا وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيام كما في سورة هود، و الباقي ظاهر.

26 سورة الشعراء - 160 - 175

كَذّبَت قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسلِينَ (160) إِذْ قَالَ لهَُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتّقُونَ (161) إِنى لَكُمْ رَسولٌ أَمِينٌ (162) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ مَا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى رَب الْعَلَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَلَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكمْ رَبّكُم مِّنْ أَزْوَجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئن لّمْ تَنتَهِ يَلُوط لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنى لِعَمَلِكم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَب نجِّنى وَ أَهْلى مِمّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجّيْنَهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلا عَجُوزاً فى الْغَبرِينَ (171) ثمّ دَمّرْنَا الاَخَرِينَ (172) وَ أَمْطرْنَا عَلَيْهِم مّطراً فَساءَ مَطرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً وَ مَا كانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ (174) وَ إِنّ رَبّك لهَُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ (175)

بيان

تشير الآيات إلى قصة لوط النبي (عليه السلام) و هو بعد صالح (عليه السلام).

قوله تعالى: "كذبت قوم لوط المرسلين" - إلى قوله - "رب العالمين"، تقدم تفسيره.

قوله تعالى: "أ تأتون الذكران من العالمين" الاستفهام للإنكار و التوبيخ و الذكران جمع ذكر مقابل الأنثى و إتيانهم كناية عن اللواط و قد كان شاع فيما بينهم، و العالمين جمع عالم و هو الجماعة من الناس.

و قوله: "من العالمين" يمكن أن يكون متصلا بضمير الفاعل في "تأتون" و المراد أ تأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين": الأعراف: 80، العنكبوت - 28.

و يمكن أن يكون متصلا بقوله: "الذكران" و المعنى على هذا أ تنكحون من بين العالمين - على كثرتهم و اشتمالهم على النساء - الرجال فقط؟.

قوله تعالى: "و تذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" إلخ "تذرون" بمعنى تتركون و لا ماضي له من مادته.

و المتأمل في خلق الإنسان و انقسام أفراده إلى صنفي الذكر و الأنثى و ما جهز به كل من الصنفين من الأعضاء و الأدوات و ما يختص به من الخلقة لا يرتاب في أن غرض الصنع و الإيجاد من هذا التصوير المختلف و إلقاء غريزة الشهوة في القبيلين و تفريق أمرهما بالفعل و الانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين.

فالرجل من الإنسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله و المرأة من الإنسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها و ما يختص به الرجل في خلقته للمرأة و ما تختص به المرأة في خلقتها للرجل و هذه هي الزوجية الطبيعية التي عقدها الصنع و الإيجاد بين الرجل و المرأة من الإنسان فجعلهما زوجين.

ثم الأغراض و الغايات الاجتماعية أو الدينية سنت بين الناس سنة النكاح الاجتماعي الاعتباري الذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين و قسم من التحديد للزوجية الطبيعية المذكورة فالفطرة الإنسانية و الخلقة الخاصة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال و ازدواج النساء بالرجال دون النساء، و أن الازدواج مبني على أصل التوالد و التناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة.

و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد بقوله: "ما خلق لكم ربكم" العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج و اللام للملك الطبيعي، و أن من في قوله: "من أزواجكم" للتبعيض و الزوجية هي الزوجية الطبيعية و إن أمكن أن يراد بها الزوجية الاجتماعية الاعتبارية بوجه.

و أما تجويز بعضهم أن يراد بلفظة "ما" النساء و يكون قوله: "من أزواجكم" بيانا له فبعيد.

و قوله: "بل أنتم قوم عادون" أي متجاوزون خارجون عن الحد الذي خطته لكم الفطرة و الخلقة فهو في معنى قوله: "إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل": العنكبوت: 29.

و قد ظهر من جميع ما مر أن كلامه (عليه السلام) مبني على حجة برهانية أشير إليها.

قوله تعالى: "قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين" أي المبعدين المنفيين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر: "أخرجوا آل لوط من قريتكم".

قوله تعالى: "قال إني لعملكم من القالين" المراد بعملهم - على ما يعطيه السياق - إتيان الذكران و ترك الإناث.

و القالي المبغض، و مقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أني لا أخاف الخروج من قريتكم و لا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، و لذا أتبعه بقوله: "رب نجني و أهلي مما يعملون".

قوله تعالى: "رب نجني و أهلي مما يعملون" أي من أصل عملهم الذي يأتون به بمرأى و مسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم و العذاب الذي سيتبعه لا محالة.

و إنما لم يذكر إلا نفسه و أهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال تعالى في ذلك: "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين": الذاريات: 36.

قوله تعالى: "فنجيناه و أهله أجمعين - إلى قوله - الآخرين" الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، و التدمير الإهلاك، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و أمطرنا عليهم مطرا" إلخ، و هو السجيل كما قال تعالى: "و أمطرنا عليهم حجارة من سجيل": الحجر: 74.

قوله تعالى: "إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم" تقدم تفسيره.

26 سورة الشعراء - 176 - 191

كَذّب أَصحَب لْئَيْكَةِ الْمُرْسلِينَ (176) إِذْ قَالَ لهَُمْ شعَيْبٌ أَ لا تَتّقُونَ (177) إِنى لَكُمْ رَسولٌ أَمِينٌ (178) فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ مَا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى رَب الْعَلَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسطاسِ الْمُستَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسوا النّاس أَشيَاءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتّقُوا الّذِى خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلّةَ الأَوّلِينَ (184) قَالُوا إِنّمَا أَنت مِنَ الْمُسحّرِينَ (185) وَ مَا أَنت إِلا بَشرٌ مِّثْلُنَا وَ إِن نّظنّك لَمِنَ الْكَذِبِينَ (186) فَأَسقِط عَلَيْنَا كِسفاً مِّنَ السمَاءِ إِن كُنت مِنَ الصدِقِينَ (187) قَالَ رَبى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَاب يَوْمِ الظلّةِ إِنّهُ كانَ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً وَ مَا كانَ أَكْثرُهُم مّؤْمِنِينَ (190) وَ إِنّ رَبّك لهَُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ (191)

بيان

إجمال قصة شعيب (عليه السلام) و هو من أنبياء العرب، و هي آخر القصص السبع الموردة في السورة.

قوله تعالى: "كذب أصحاب الأيكة المرسلين - إلى قوله - رب العالمين" الأيكة الغيضة الملتف شجرها.

قيل: إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة و كانوا ممن بعث إليهم شعيب (عليه السلام)، و كان أجنبيا منهم و لذلك قيل: "إذ قال لهم شعيب" و لم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود و صالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما و كذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة و لذا عبر عنهم بقوله: "أخوهم هود" "أخوهم صالح" "أخوهم لوط".

و قد تقدم تفسير باقي الآيات.

قوله تعالى: "أوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين و زنوا بالقسطاس المستقيم" الكيل ما يقدر به المتاع من جهة حجمه و إيفاؤه أن لا ينقص الحجم، و القسطاس الميزان الذي يقدر به من جهة وزنه و استقامته أن يزن بالعدل، و الآيتان تأمران بالعدل في الأخذ و الإعطاء بالكيل و الوزن.

قوله تعالى: "و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين" البخس النقص في الوزن و التقدير كما أن الإخسار النقص في رأس المال.

و ظاهر السياق أن قوله: "و لا تبخسوا الناس أشياءهم" أي سلعهم و أمتعتهم قيد متمم لقوله: "و زنوا بالقسطاس المستقيم" كما أن قوله: "و لا تكونوا من المخسرين" قيد متمم لقوله: "أوفوا الكيل" و قوله: "و لا تعثوا في الأرض مفسدين" تأكيد للنهيين جميعا أعني قوله: "لا تكونوا من المخسرين" و قوله: "لا تبخسوا" و بيان لتبعة التطفيف السيئة المشئومة.

و قوله: "و لا تعثوا في الأرض مفسدين" العثي و العيث الإفساد، فقوله: "مفسدين" حال مؤكد و قد تقدم في قصة شعيب من سورة هود و في قوله: "و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا": الآية - 35 من سورة الإسراء كلام في كيفية إفساد التطفيف المجتمع الإنساني، فراجع.

قوله تعالى: "و اتقوا الذي خلقكم و الجبلة الأولين" قال في المجمع:، الجبلة الخليقة التي طبع عليها الشيء.

انتهي.

فالمراد بالجبلة ذوو الجبلة أي اتقوا الله الذي خلقكم و آباءكم الأولين الذين فطرهم و قرر في جبلتهم تقبيح الفساد و الاعتراف بشؤمه.

و لعل هذا الذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلة بالذكر، و في الآية على أي حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنهم لم يكونوا يتقون الخالق الذي هو رب العالمين.

قوله تعالى: "قالوا إنما أنت من المسحرين" - إلى قوله: و إن نظنك لمن الكاذبين" تقدم تفسير الصدر، و: "إن في قوله: "إن نظنك" مخففة من الثقيلة.

قوله تعالى: "فأسقط علينا كسفا من السماء" إلخ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة و هي القطعة، و الأمر مبني على التعجيز و الاستهزاء.

قوله تعالى: "قال ربي أعلم بما تعملون" جواب شعيب عن قولهم و اقتراحهم منه إتيان العذاب، و هو كناية عن أنه ليس له من الأمر شيء و إنما الأمر إلى الله لأنه أعلم بما يعملون و أن عملهم هل يستوجب عذابا؟ و ما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه: "إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به": الأحقاف: 23.

قوله تعالى: "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة" إلخ، يوم الظلة يوم عذب فيه قوم شعيب بظلة من الغمام، و قد تقدم تفصيل قصتهم في سورة هود.

قوله تعالى: "إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم": تقدم تفسيره.

بحث روائي

في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: "إذ قال لهم شعيب" و في الحديث أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و اتقوا الذي خلقكم و الجبلة الأولين" قال: الخلق الأولين، و قوله: "فكذبوه" قال: قوم شعيب "فأخذهم عذاب يوم الظلة" قال: يوم حر و سمائم.

26 سورة الشعراء - 192 - 227

وَ إِنّهُ لَتَنزِيلُ رَب الْعَلَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِك لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبىٍّ مّبِينٍ (195) وَ إِنّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوّلِينَ (196) أَ وَ لَمْ يَكُن لهُّمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَؤُا بَنى إِسرءِيلَ (197) وَ لَوْ نَزّلْنَهُ عَلى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِك سلَكْنَهُ فى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتى يَرَوُا الْعَذَاب الأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نحْنُ مُنظرُونَ (203) أَ فَبِعَذَابِنَا يَستَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَءَيْت إِن مّتّعْنَهُمْ سِنِينَ (205) ثُمّ جَاءَهُم مّا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنهُم مّا كانُوا يُمَتّعُونَ (207) وَ مَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لهََا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَ مَا كنّا ظلِمِينَ (209) وَ مَا تَنزّلَت بِهِ الشيَطِينُ (210) وَ مَا يَنبَغِى لهَُمْ وَ مَا يَستَطِيعُونَ (211) إِنّهُمْ عَنِ السمْع لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذّبِينَ (213) وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَك الأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِض جَنَاحَك لِمَنِ اتّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصوْك فَقُلْ إِنى بَرِىءٌ مِّمّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكلْ عَلى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ (217) الّذِى يَرَاك حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلّبَك فى السجِدِينَ (219) إِنّهُ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَن تَنزّلُ الشيَطِينُ (221) تَنزّلُ عَلى كلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السمْعَ وَ أَكثرُهُمْ كَذِبُونَ (223) وَ الشعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنّهُمْ فى كلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ ذَكَرُوا اللّهَ كَثِيراً وَ انتَصرُوا مِن بَعْدِ مَا ظلِمُوا وَ سيَعْلَمُ الّذِينَ ظلَمُوا أَى مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)

بيان

تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة و يتضمن التوبيخ و التهديد لكفار الأمة.

و فيها دفاع عن نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأولين و علم علماء بني إسرائيل به، و دفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين و لا من أقاويل الشعراء.

قوله تعالى: "و إنه لتنزيل رب العالمين" الضمير للقرآن، و فيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله: "تلك آيات الكتاب المبين" و تعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك: "و ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا به" الآية.

و التنزيل و الإنزال بمعنى واحد، غير أن الغالب على باب الإفعال الدفعة و على باب التفعيل التدريج، و أصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه و في غير الأجسام بما يناسبه.

و تنزيله تعالى إخراجه الشيء من عنده إلى موطن الخلق و التقدير و قد سمى نفسه بالعلي العظيم و الكبير المتعال و رفيع الدرجات و القاهر فوق عباده فيكون خروج الشيء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التقدير - و إن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلا منه تعالى له.

و قد استعمل الإنزال و التنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم": الأعراف: 26، و قوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج": الزمر: 6، و قوله: "و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد": الحديد: 25، و قوله: "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم": البقرة: 105، و قد أطلق القول في قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21.

و من الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4.

و قد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الأرباب و لا يرون أنه رب العالمين.

قوله تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله": البقرة: 97 و قد سماه في موضع آخر بروح القدس: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق": النحل: 102، و قد تقدم في تفسير سورتي النحل و الإسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام.

و قد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك.



و قوله: "نزل به الروح" الباء للتعدية أي نزله الروح الأمين و أما قول من قال: إن الباء للمصاحبة و المعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأن العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.

و الضمير في "نزل به" للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: "فإذا قرأناه فاتبع قرآنه": القيامة: 18، و قوله: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق": آل عمران: 108، الجاثية: 6، إلى غير ذلك.

فلا يعبأ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعبر عنها بما يطابقها و يحكيها من الألفاظ بلسان عربي.

و أسخف منه قول من قال: إن القرآن بلفظه و معناه من منشئات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمى القلب.

و المراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك و الشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانية التي لها الإدراك و إليها تنتهي أنواع الشعور و الإرادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله: "و بلغت القلوب الحناجر": الأحزاب: 10، أي الأرواح، و قوله: "فإنه آثم قلبه": البقرة: 283، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاص.

و لعل الوجه في قوله: "نزل به الروح الأمين على قلبك" دون أن يقول: عليك هو الإشارة إلى كيفية تلقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن النازل عليه، و أن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.

فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى و يسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر و السمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمى برجاء الوحي.

فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى الشخص و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره و سمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما.

و لو كان رؤيته و سمعه بالبصر و السمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه و بين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه و يسمعون ما يسمعه و النقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي و هو بين الناس فيوحى إليه و من حوله لا يشعرون بشيء و لا يشاهدون شخصا يكلمه و لا كلاما يلقى إليه.

و القول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه و هي الأمور الغيبية المستورة عنا.

هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطإ العظيم على الحواس و هي مفتاح العلوم الضرورية و التصديقات البديهية و غيرها لم يبق وثوق على شيء من العلوم و التصديقات.

على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس و أن لا وجود إلا لمحسوس و هو من أفحش الخطإ و قد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام.

و ربما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال إنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد و إن كان يتلقى الوحي بتوسيط الأدوات البدنية من السمع و البصر، و قد عرفت ما فيه.



و ربما قيل: لما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، و جهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين، و للإشارة إلى ذلك قيل.

"على قلبك" و لم يقل: عليك مع كونه أخصر.

انتهي.

و هذا أيضا مبني على مشاركة الحواس و القوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه.

و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني و أن الإدراك كيفما كان من خواصه.

فمنهم من قال: إن جعل القلب متعلق الإنزال مبني على التوسع لأن الله تعالى يسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه و ينزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و يقرؤه عليه فيعيه و يحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه.

و منهم من قال: إن تخصيص القلب بالإنزال لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة.

و منهم من قال: إن تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يعتبر الوسائط من سمع و بصر و غيرهما.

و منهم من قال: إن ذلك للإشارة إلى صلاح قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه و أعضائه فإن القلب رئيس سائر الأعضاء و ملكها و إذا صلح الملك صلحت رعيته.

و منهم من قال: إن ذلك لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعا و بصرا مخصوصين يسمع و يبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى: "ما كذب الفؤاد ما رأى": النجم: 11.

و هذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الأمور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية و إجراء حكمها فيها و قد بلغ من تعسف بعضهم أن قال: إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه و هو في السماء و علمه قراءته ثم الملك أداه في الأرض و هو يهبط في المكان و في ذلك طريقتان: إحداهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك، و ثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأولى أصعب الحالين.

انتهي.

و ليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكية و صيرورته ملكا ثم عوده إنسانا و من انخلاع الملك إلى صورة الإنسانية و قد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما و الآخر ذاتا و أثرا و في كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه.

و للبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك و آخر في الوحي.

و قوله: "لتكون من المنذرين" أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه و هو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبي أو الرسول بالخصوص، قال تعالى في مؤمني الجن: "و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين": الأحقاف: 29، و قال في المتفقهين من المؤمنين: "ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم": براءة: 122.



و إنما ذكر إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) غاية لإنزال القرآن دون نبوته أو رسالته لأن سياق آيات السورة سياق التخويف و التهديد.

و قوله "بلسان عربي مبين" أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان و الجار و المجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين.

و جوز بعضهم أن يكون متعلقا بقوله: "منذرين" و المعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب و قد ذكر منهم في القرآن هود و صالح و إسماعيل و شعيب (عليهما السلام) و أول الوجهين أحسنهما.

قوله تعالى: "و إنه لفي زبر الأولين" الضمير للقرآن أو نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الزبر جمع زبور و هو الكتاب و المعنى و إن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء.

و قيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية أي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين.

و فيه أولا: أن المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء و كتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد و المعاد و غيرهما، و هذا بخلاف ذكر خبر القرآن و نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الأولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها.

و ثانيا: أنه لا يلائم الآية التالية.

قوله تعالى: "أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" ضمير "أن يعلمه" لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أ و لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك و كانت اليهود تبشر بذلك و تستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى: "و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا": البقرة: 89.

و قد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اعترفوا بأنه مبشر به في كتبهم و السورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة و لم تبلغ عداوة اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغها بعد الهجرة و كان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق و لو بوجه كلي.

قوله تعالى: "و لو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" قال في المفردات:، العجمة خلاف الإبانة و الإعجام الإبهام - إلى أن قال - و العجم خلاف العرب و العجمي منسوب إليهم، و الأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم، و منه قيل للبهيمة عجماء و الأعجمي منسوب إليه قوله تعالى: "و لو نزلناه على بعض الأعجمين" على حذف الياءات انتهى.

و مقتضى ما ذكره - كما ترى - أن أصل الأعجمين الأعجميين ثم حذفت ياء النسبة و به صرح بعض آخر، و ذكر بعضهم أن الوجه أن أعجم مؤنثه عجماء و أفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك و ظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

و كيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله: "بلسان عربي مبين" فتكونان في مقام التعليل له و يكون المعنى: نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به و لا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده و لو نزلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين و ردوه بعدم فهم مقاصده.



فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميا و بلسانه، و الآيتان و التي بعدهما في معنى قوله تعالى: "و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته أعجمي و عربي قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء و الذين لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى": حم السجدة: 44.

و قال بعضهم: إن المعنى و لو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم و شدة شكيمتهم في المكابرة.

قال: و أما قول بعضهم: إن المعنى و لو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة و العناد.

انتهى ملخصا.

و فيه أن اتصال الآيتين بقوله: "بلسان عربي مبين" أقرب إليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم و جحودهم و قد عرفت توضيحه.

و يمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله: "و لو نزلناه على بعض الأعجمين" راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى و لو نزلنا العربي غير عربي و لا محصل له.

و يرده أنه من قبيل قوله تعالى: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون": الزخرف: 3، و لا معنى لقولنا: إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى: "كذلك سلكناه في قلوب المجرمين" الإشارة بقوله: "كذلك" إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين و قد ذكرت في الآيات السابقة و هي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به و إن كان تنزيلا من رب العالمين و كان عربيا مبينا غير أعجمي و كان مذكورا في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل.

و السلوك الإدخال في الطريق و الإمرار، و المراد بالمجرمين هم الكفار و المشركون و ذكرهم بوصف الإجرام للإشارة إلى علة الحكم و هو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة و المنفورة و أن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم و ليعم الحكم بعموم العلة.

و المعنى على هذه الحال - و هي أن يكون بحيث يعرض عنه و لا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين و نمره في نفوسهم جزاء لإجرامهم و كذلك كل مجرم.

و قيل: الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة و المعنى: ندخل القرآن و نمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الأوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر و أنه مبشر به في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل و تتم الحجة به عليهم و هو بعيد من السياق.

و قيل: الضمير في "سلكناه" للتكذيب بالقرآن و الكفر به المدلول عليه بقوله: "ما كانوا به مؤمنين" هذا و هو قريب من الوجه الأول لكن الوجه الأول ألطف و أدق، و قد ذكره في الكشاف،.

و قد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الإجرام يعمم الحكم، و قال بعضهم: إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم و من يأتي بعدهم، و المعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.



و لعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه و المشبه به على الوجه الأول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله: "كذلك" السلوك في قلوب مشركي مكة و هو المشبه به و جعل المشبه غيرهم من المجرمين و فيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.

و من هنا يظهر أن هناك وجها آخر و هو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة و غيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد و لعل الوجه الأول أقرب من السياق.

قوله تعالى: "لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم - إلى قوله - منظرون" تفسير و بيان لقوله: "كذلك سلكناه" إلخ هذا على الوجه الأول و الثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة و أما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.

و قوله: "حتى يروا العذاب الأليم" أي حتى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراري الذي لا ينفعهم، و الظاهر أن المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت و احتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة و غيرهم لا يلائم ذلك.

و قوله: "فيأتيهم بغتة و هم لا يشعرون" كالتفسير لقوله: "حتى يروا العذاب الأليم" إذ لو لم يأتهم بغتة و علموا به قبل موعده لاستعدوا له و آمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

و قوله: "فيقولوا هل نحن منظرون" كلمة تحسر منهم.

قوله تعالى: "أ فبعذابنا يستعجلون" توبيخ و تهديد.

قوله تعالى: "أ فرأيت إن متعناهم سنين - إلى قوله - يمتعون" متصل بقوله: "فيقولوا هل نحن منظرون" و محصل المعنى أن تمني الإمهال و الإنظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه و لم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم.

و هو قوله: "أ فرأيت إن متعناهم سنين" معدودة ستنقضي: "ثم جاءهم ما كانوا يوعدون" من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار و الإمهال "ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" أي تمتيعهم أمدا محدودا.

قوله تعالى: "و ما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى" إلخ، الأقرب أن يكون قوله: "لها منذرون" حالا من "قرية" و قوله: "ذكرى" حالا من ضمير الجمع في "منذرون" أو مفعولا مطلقا عامله "منذرون" لكونه في معنى مذكرون و المعنى ظاهر، و قيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره و إطالة البحث عنه.

و قوله: "و ما كنا ظالمين" ورود النفي على الكون دون أن يقال: و ما ظلمناهم و نحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي و ما كان من شأننا و لا المترقب منا أن نظلمهم.

و الجملة في مقام التعليل للحصر السابق و المعنى: ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم و ليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى: "و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا": إسراء: 15.

كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى

من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل و تصرفه ما لا يملكه من الفعل و التصرف، و يقابله العدل و لازمه أنه فعل الفاعل و تصرفه ما يملكه.

و من هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.



و لله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه و استقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شيء و إن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء و له أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته، و لغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء و الموهبة الإلهية و هو ملك في طول ملكه تعالى و هو المالك لما ملكها و المهيمن على ما عليه سلطها.

و من جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله و خاصة ما نسميها بالأفعال الاختيارية و الاختيار الذي يتعين به هذه الأفعال، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل و الترك معا، فإن شاء فعل و إن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل و الترك، أي فعل و ترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه.

ثم إن اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرية العمل و يرفع اليد عن بعض الأفعال التي كان يرى أنه يملكها و هي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه و هذه هي المحرمات و المعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الأحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات.

و من الضروري لتحكيم هذه القوانين و السنن أن يجعل نوع من الجزاء السيىء على المتخلف عنها - بشرط العلم و تمام الحجة لأنه شرط تحقق التكليف - من ذم أو عقاب، و نوع من الأجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب.

و من الضروري أن ينتصب على المجتمع و القوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه و هو مسئول عما نصب له و خاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسئولا و جاز له أن يجازي و أن لا يجازي و يأخذ المحسن و يترك المسيء لغا وضع القوانين و السنن من رأس.

هذه أصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانية منذ استقر هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانية.

و قد دلت البراهين العقلية و أيدها تواتر الأنبياء و الرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية و سنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى و هي أحكام و وظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية و تضمن سعادة حياته و تحفظ مصالح مجتمعه.

و هذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه و مجريها من حيث الثواب و العقاب - و موطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.

و مقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية و اعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - و ليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه و لا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، و أخذ المظلوم بإثم الظالم و إلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.



و لعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال و ليس بفرض محال، و هو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: "و ما كنا ظالمين": الآية 209 من السورة، و قوله: "إن الله لا يظلم الناس شيئا": يونس: 44، و قوله: "و ما ربك بظلام للعبيد": فصلت: 46، و قوله: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومىء إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.

فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب و من الجائز على صاحب الحق تركه و عدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير و هو المطيع فلا يجوز تركه و إبطاله.

على أنه قيل: إن الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأن العبد و عمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشيء.

قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل و أما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع و التقنين و ترتيب الجزاء على العمل.

و أما كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، و القرآن مليء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة، و قد قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة": براءة: 111.

قوله تعالى: "و ما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون" شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، و قولهم: إنه شاعر، و قدم الجواب عن الأول و قد وجه الكلام أولا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين و طيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله: "و ما تنزلت به الشياطين" أي ما نزلته و الآية متصلة بقوله: "و إنه لتنزيل رب العالمين" و وجه الكلام كما سمعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تلوا: "فلا تدع مع الله إلها آخر" إلى آخر الخطابات المختصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) المتفرعة على قوله: "و ما تنزلت به" إلخ، على ما سيجيء بيانه.

و إنما وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون القوم لأنه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: "إنهم عن السمع لمعزولون" و الشيطان الشرير و جمعه الشياطين و المراد بهم أشرار الجن.

و قوله: "و ما ينبغي لهم" أي للشياطين.

قال في مجمع البيان:، و معنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب.

انتهي.

و الوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر و الفساد و الأخذ بالباطل و تصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، و القرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد.

و قوله: "و ما يستطيعون" أي و ما يقدرون على التنزل به لأنه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ و حراسة منه تعالى كما قال: "فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم": الجن: 28، و إلى ذلك يشير قوله: "إنهم عن السمع" إلخ.

و قوله: "إنهم عن السمع لمعزولون" أي إن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية و الاطلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.



قوله تعالى: "فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين" خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: "و ما تنزلت به الشياطين" إلخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين و لم تنزل به الشياطين و هو ينهى عن الشرك و يوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه و تدخل في زمرة المعذبين.

و كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الأمر و النهي بالمعصوم و ارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل و الترك متصور في حقه الطاعة و المعصية بالنظر إلى نفسه، و قد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن الكريم كقوله في الأنبياء (عليهم السلام): "و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون": الأنعام: 88، و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لئن أشركت ليحبطن عملك": الزمر: 65، و الآيتان في معنى النهي.

و قول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال و تحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الأعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب و الكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره و مزاولة الأعمال التي تناسبه و الارتياض بها كذلك يجب أن يستبقى بذلك فما دام الإنسان بشرا له تعلق بالحياة الأرضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، و قد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.

قوله تعالى: "و أنذر عشيرتك الأقربين" في مجمع البيان:، عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم و هم يعاشرونه انتهى.

و خص عشيرته و قرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك و إنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية و لا مداهنة و لا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الإنذار بين النبي و أمته و لا بين الأقارب و الأجانب، فالجميع عبيد و الله مولاهم.

قوله تعالى: "و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين أي اشتغل بالمؤمنين بك و اجمعهم و ضمهم إليك بالرأفة و الرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، و هذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: "و اخفض جناحك للمؤمنين": الحجر: 88.

و المراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك و اتبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة و اشتغل بهم بالتربية و إن عصوك فتبرأ من عملهم.

قوله تعالى: "و توكل على العزيز الرحيم" أي ليس لك من أمر طاعتهم و معصيتهم شيء وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين و برحمته سينجي المؤمنين المتبعين.

و في اختصاص اسمي العزيز و الرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين و العاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و قوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين و إنجاء المؤمنين.



قوله تعالى: "الذي يراك حين تقوم و تقلبك في الساجدين" ظاهر الآيتين - على ما يسبق إلى الذهن - أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته بهم جماعة، و المراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك و أنت بعينه في حالتي قيامك و سجودك متقلبا في الساجدين و أنت تصلي مع المؤمنين.

و في معنى الآية روايات من طرق الشيعة و أهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: "إنه هو السميع العليم" تعليل لقوله: "و توكل على العزيز الرحيم" و في الآيات - على ما تقدم من معناها - تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بشرى للمؤمنين بالنجاة و إيعاد للكفار بالعذاب.

قوله تعالى: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - إلى قوله - كاذبون"، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس منهم و لا أن القرآن من إلقاء الشياطين، و الخطاب متوجه إلى المشركين.

فقوله: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين" في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالأخبار؟ و قوله: "تنزل على كل أفاك أثيم" قال في مجمع البيان:، الأفاك الكذاب و أصل الإفك القلب و الأفاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، و الأثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح و تأثم إذا ترك الإثم انتهى.

و ذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق و تزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم.

و قوله: "يلقون السمع و أكثرهم كاذبون" الظاهر أن ضميري الجمع في "يلقون" و "أكثرهم" معا للشياطين، و السمع مصدر بمعنى المسموع و المراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء و لو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام و لا كامل و لذا يتسرب إليه الكذب كثيرا.

و قوله: "و أكثرهم كاذبون" أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا و هذا هو الكثرة بحسب الأفراد و يمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة.

و محصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر و أكثرهم كاذبون في أخبارهم، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بأفاك أثيم و لا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين و لا الذي يتنزل عليه شيطانا، و لا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.

قوله تعالى: "و الشعراء يتبعهم الغاون" - إلى قوله - لا يفعلون" جواب عن رمي المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.

و هذان أعني قولهم إن من الجن من يأتيه، و قولهم إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، و هذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.

على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: "و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" و لا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، و لا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.



و كيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع و الغوي هو السالك سبيل الباطل و المخطىء طريق الحق، و الغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل و تصوير غير الواقع في صورة الواقع و لذلك لا يهتم به إلا الغوي المشعوف بالتزيينات الخيالية و التصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، و لا يتبع الشعراء الذين يبتنى صناعتهم على الغي و الغواية إلا الغاوون و ذلك قوله تعالى: "و الشعراء يتبعهم الغاون".

و قوله: "أ لم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولون ما لا يفعلون" يقال: هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه و المراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود و ربما هجوا الجميل كما يهجى القبيح الدميم و ربما دعوا إلى الباطل و صرفوا عن الحق و في ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، و كذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.

و ملخص حجة الآيات الثلاث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية و خلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد و إصابة الواقع و طلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق و الرشد دون الباطل و الغي.

قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ذكروا الله كثيرا" إلخ، استثناء من الشعراء المذمومين، و المستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الإيمان و صالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحق و اتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لأولئك.

و بهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان و عمل الصالحات ثم عطف قوله: "و ذكروا الله كثيرا" على ذلك.

و قوله: "و انتصروا من بعد ما ظلموا" الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو طعنوا فيها في الدين و قدحوا في الإسلام و المسلمين، و هو حسن يؤيده المقام.

و قوله: "و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، و المعنى: و سيعلم الذين ظلموا - و هم المشركون على ما يعطيه السياق - إلى أي مرجع و منصرف يرجعون و ينصرفون و هو النار أو ينقلبون أي انقلاب.

و فيه تهديد للمشركين و رجوع مختتم السورة إلى مفتتحها و قد وقع في أولها قوله: "فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون".

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "بلسان عربي مبين" قال: يبين الألسن و لا تبينه الألسن.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لو نزلناه على بعض الأعجمين" إلخ، قال الصادق (عليه السلام): لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب و قد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم.



و في الكافي، بإسناده عن علي بن عيسى القماط عن عمه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده و يضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا. قال: فهبط جبرئيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال: يا جبرئيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال: "أ فرأيت إن متعناهم سنين - ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" و أنزل عليه: "إنا أنزلناه في ليلة القدر - و ما أدراك ما ليلة القدر - ليلة القدر خير من ألف شهر" جعل الله ليلة القدر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رئي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: و لم و رأيت عدوي يلون أمر أمتي من بعدي فنزلت "أ فرأيت إن متعناهم سنين - ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" فطابت نفسه.

أقول: و قوله: و لم و رأيت إلخ، فيه حذف و التقدير و لم لا أكون كذلك و قد رأيت "إلخ".

و فيه، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: "و أنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا و عم و خص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا و لا نفعا. ألا إن لكم رحما و سأبلها ببلالها.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت "و أنذر عشيرتك الأقربين" جعل يدعوهم قبائل قبائل.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و البخاري و ابن مردويه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت "و أنذر عشيرتك الأقربين و رهطك منهم المخلصين" خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب و قريش فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أ رأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أ كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أ لهذا جمعتنا؟ فنزلت: "تبت يدا أبي لهب و تب".

و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت "و أنذر عشيرتك الأقربين" جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب و جمع نساءه و أهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار و اسعوا في فكاك رقابكم و افتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا. ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر و يا حفصة بنت عمر و يا أم سلمة و يا فاطمة بنت محمد و يا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا 1 أنفسكم من الله و اسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا و لا أغني، الحديث.

أقول: و في معنى هذه الروايات بعض روايات أخر و في بعضها أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بني عبد مناف بالإنذار فيشمل بني أمية و بني هاشم جميعا.



و الروايات الثلاث الأول لا تنطبق عليها الآية فإنها تعمم الإنذار قريشا عامة و الآية تصرح بالعشيرة الأقربين و هم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم و أبعد ما يكون من الآية الرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل.

على أن ما تقدم من معنى الآية و هو نفي أن تكون قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تغنيهم من تقوى الله و في الروايات إشارة إلى ذلك - حيث تقول: لا أغني عنكم من الله شيئا - لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته (صلى الله عليه وآله وسلم).

و أما الرواية الرابعة فقوله تعالى: "و أنذر عشيرتك الأقربين" آية مكية في سورة مكية و لم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة و أين كانت يوم نزولها عائشة و حفصة و أم سلمة و لم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن إلا في المدينة فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، و من عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: و إذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.

و في المجمع، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب و هم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة و يشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ و لم يتكلم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب ثم أنذرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز و جل فأسلموا و أطيعوني تهتدوا. ثم قال: من يواخيني و يوازرني و يكون وليي و وصيي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم و يقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك.

قال الطبرسي،: و روي عن أبي رافع هذه القصة و أنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا و سقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي و رهطي، و إن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا و وزيرا و وارثا و وصيا و خليفة في أهله فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي و وارثي و وزيري و وصيي و يكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه و مج في فيه من ريقه و تفل بين كتفيه و ثدييه فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بزاقا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ملأته حكمة و علما.



أقول: و روى السيوطي في الدر المنثور، ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبي نعيم و البيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه و فيه: ثم تكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت و أنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون.

و في علل الشرائع، بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما نزلت "و أنذر عشيرتك الأقربين" أي رهطك المخلصين دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب و هم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا و ينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي و وارثي و وزيري و وصيي و خليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي و وزيري و خليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع و تطيع لهذا الغلام.

أقول: و من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام): أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت "و أنذر عشيرتك الأقربين رهطك منهم المخلصين" و نسب أيضا إلى قرآن أبي بن كعب كان من قبيل التفسير.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و تقلبك في الساجدين" قيل: معناه و تقلبك في الساجدين الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيا: عن ابن عباس في رواية عطاء و عكرمة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم:. أقول: و رواه غيره من رواة الشيعة، و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبي نعيم و غيرهم عن ابن عباس و غيرهم.

و في المجمع، روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ترفعوا قبلي و لا تضعوا قبلي فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلا هذه الآية.

أقول: يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الجبهة على الأرض و رفعها في السجدة و رواه في الدر المنثور، عن ابن عباس و غيره.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لئن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا:. أقول: و هو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي، قال: يعظون الناس و لا يتعظون و ينهون عن المنكر و لا ينتهون و يأمرون بالمعروف و لا يعملون و هم الذين قال الله فيهم: "أ لم تر أنهم في كل واد يهيمون" أي في كل مذهب يذهبون "و أنهم يقولون ما لا يفعلون" و هم الذين غصبوا آل محمد حقهم.

و في اعتقادات الصدوق،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و الشعراء يتبعهم الغاون" قال: هم القصاص.

أقول: هم من المصاديق و المعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن من الشعر حكما و إن من البيان سحرا.



أقول: و روى الجملة الأولى أيضا عنه عن بريدة و ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: إن من الشعر حكمة، و الممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق و لا تشمله الآية.

و في المجمع، عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه و لسانه و الذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل.

قال الطبرسي،: و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت: اهجهم أو هاجهم و روح القدس معك: رواه البخاري و مسلم في الصحيحين.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال: لما نزلت "و الشعراء" الآية جاء عبد الله بن رواحة و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و هم يبكون فقالوا يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية و هو يعلم أنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله "إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات" فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم.

أقول: هذه الرواية و ما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات و قد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا. ثم قال: لا أعني سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل و حرم فإن كان طاعة عمل بها و إن كان معصية تركها.

أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.

27 سورة النمل - 1 - 6

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ طس تِلْك ءَايَت الْقُرْءَانِ وَ كتَابٍ مّبِينٍ (1) هُدًى وَ بُشرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الّذِينَ يُقِيمُونَ الصلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزّكوةَ وَ هُم بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنّ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيّنّا لهَُمْ أَعْمَلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئك الّذِينَ لهَُمْ سوءُ الْعَذَابِ وَ هُمْ فى الاَخِرَةِ هُمُ الأَخْسرُونَ (5) وَ إِنّك لَتُلَقّى الْقُرْءَانَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

بيان

غرض السورة - على ما تدل عليه آيات صدرها و الآيات الخمس الخاتمة لها - التبشير و الإنذار و قد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى و داود و سليمان و صالح و لوط (عليهما السلام) ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية و المعاد و غير ذلك.

قوله تعالى: "تلك آيات القرآن و كتاب مبين" الإشارة بتلك - كما مر في أول سورة الشعراء - إلى آيات السورة مما ستنزل بعد و ما نزلت قبل، و التعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها و بعد منالها.

و القرآن اسم للكتاب باعتبار كونه مقروا، و المبين من الإبانة بمعنى الإظهار، و تنكير "قرآن" للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب و آيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام و لا تعقيد.

قال في مجمع البيان:، وصفه بالصفتين يعني الكتاب و القرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة و يظهر بالكتابة و هو بمنزلة الناطق بما فيه من الأمرين جميعا، و وصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا.

انتهي.

قوله تعالى: "هدى و بشرى للمؤمنين" المصدران أعني "هدى و بشرى" بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة.

قوله تعالى: "الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة" إلخ، المراد إتيان الأعمال الصالحة و إنما اقتصر على الصلاة و الزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى و الزكاة فيما يرجع إلى الناس و بنظر آخر الصلاة في الأعمال البدنية و الزكاة في الأعمال المالية.

و قوله: "و هم بالآخرة هم يوقنون" وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جيء به للإشارة إلى أن هذه الأعمال الصالحة إنما تقع موقعها و تصيب غرضها مع الإيقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة، قال تعالى: "و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم": الأعراف: 147.

و تكرار الضمير في قوله: "و هم بالآخرة هم" إلخ للدلالة على أن هذا الإيقان من شأنهم و هم أهله المترقب منهم ذلك.

قوله تعالى: "إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون" العمه التحير في الأمر و معنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الإنسان و الذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها و هي غاية مسيرهم بقوا في الدنيا و هي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها و كانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها.

قوله تعالى: "أولئك لهم سوء العذاب" إلخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي و أخروي بدليل ما في قوله: "و هم في الآخرة هم الأخسرون" و لعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم و حسناتهم يجازون بها و أما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها و حسناتهم حابطة.

قوله تعالى: "و إنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم" التلقية قريبة المعنى من التلقين، و تنكير "حكيم عليم" للتعظيم، و التصريح بكون هذا القرآن من عنده

تعالى ليكون ذلك حجة على الرسالة و تأييدا لما تقدم من المعارف و لصحة ما سيذكره من قصص الأنبياء (عليهم السلام).

و تخصيص الاسمين الكريمين للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة فلا ينقضه ناقض و لا يوهنه موهن، و منبع العلم فلا يكذب في خبره و لا يخطىء في قضائه.

27 سورة النمل - 7 - 14

إِذْ قَالَ مُوسى لأَهْلِهِ إِنى ءَانَست نَاراً سئَاتِيكم مِّنهَا بخَبرٍ أَوْ ءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ لّعَلّكمْ تَصطلُونَ (7) فَلَمّا جَاءَهَا نُودِى أَن بُورِك مَن فى النّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ سبْحَنَ اللّهِ رَب الْعَلَمِينَ (8) يَمُوسى إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصاك فَلَمّا رَءَاهَا تهْتزّ كَأَنهَا جَانّ وَلى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّب يَمُوسى لا تخَف إِنى لا يخَاف لَدَى الْمُرْسلُونَ (10) إِلا مَن ظلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسنَا بَعْدَ سوءٍ فَإِنى غَفُورٌ رّحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَك فى جَيْبِك تخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيرِ سوءٍ فى تِسع ءَايَتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنهُمْ كانُوا قَوْماً فَسِقِينَ (12) فَلَمّا جَاءَتهُمْ ءَايَتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بهَا وَ استَيْقَنَتْهَا أَنفُسهُمْ ظلْماً وَ عُلُوّا فَانظرْ كَيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

بيان

أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد و تغلب في الثلاث الأول منها و هي قصص موسى و داود

و سليمان جهة الوعد على الوعيد و في الأخيرتين بالعكس.

قوله تعالى: "إذ قال موسى لأهله" إلخ المراد بأهله امرأته و هي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القصص قال في المجمع،: إن خطابها بقوله: "آتيكم" بصيغة الجمع لإقامتها مقام الجماعة في الأنس بها في الأمكنة الموحشة.

انتهى و من المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما.

و في المجمع،: الإيناس الإبصار، و قيل: آنست أي أحسست بالشيء من جهة يؤنس بها و ما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.

انتهى و الشهاب على ما في المجمع:، نور كالعمود من النار و كل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا و المراد الشعلة من النار، و في المفردات:، الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة و من العارض في الجو و في المفردات، أيضا: القبس المتناول من الشعلة، و الاصطلاء بالنار الاستدفاء بها.

و سياق الآية يشهد و يؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله و قد ضل الطريق و أصابه و أهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها.

فقال لأهله امكثوا إني أحسست و أبصرت نارا فالزموا مكانكم سآتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون و تستدفئون بها.

و يظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له (عليه السلام) و لم يشاهدها غيره و إلا عبر عنها بالإشارة دون التنكير.

و لعل اختلاف الإتيان بالخبر و الإتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرار لفظ الإتيان حيث قال: "سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس".

قوله تعالى: "فلما جاءها نودي أن بورك من في النار و من حولها و سبحان الله رب العالمين" أي فلما أتى النار و حضر عندها نودي أن بورك "إلخ".

و المراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه و بارك عليه و بارك فيه أي ألبسه الخير الكثير و حباه به، و قد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله: "فلما أتاه نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى و أنا

اخترتك فاستمع لما يوحى": طه: 13.

و يستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، و مباركته اختياره بعد تقديسه.

و أما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه و قدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة - على ما في سورة القصص - و قد أحاطت بها النار، و على هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار و بارك فيك، و يكون قوله: "و سبحان الله رب العالمين" تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل.

و قيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى (عليه السلام).

و قيل: المراد به موسى (عليه السلام) و بمن حولها الملائكة.

و قيل: في الكلام تقدير و الأصل بورك من في المكان الذي فيه النار - و هو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص - و من فيها هو موسى و حولها هي الأرض المقدسة التي هي الشامات، و من حولها هم الأنبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم و بني إسرائيل.

و قيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى و بمن حولها موسى.

و قيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون.

و أكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر.

قوله تعالى: "يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم" تعرف منه تعالى لموسى (عليه السلام) ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذي قوله من سورة طه "نودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخلع" إلخ، فارجع إلى سورة طه و تدبر في الآيات.

قوله تعالى: "و ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب" إلخ، الاهتزاز التحرك الشديد، و الجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، و الإدبار خلاف الإقبال، و التعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كر بعد فراره.

و في الآية حذف و إيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: "فلما رآها تهتز" و التقدير و ألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان و لما رآها تهتز إلخ.

و لا منافاة بين صيرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته (عليه السلام) من سورتي الأعراف و الشعراء و الثعبان الحية العظيمة الجثة و بين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز و سرعة الحركة و الاضطراب حيث شاهد العصا و قد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز و يتحرك بسرعة اهتزاز الجان و تحركه بسرعة و ليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان.

و قيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لأول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: "فألقاها فإذا هي حية تسعى: آية: 20 من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الأعراف و الشعراء.

و فيه أن هذا الوجه و إن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشيء بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الإشكال على ما تقدم.

قوله تعالى: "يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون" حكاية نفس الخطاب الصادر هناك و هو في معنى قال الله يا موسى لا تخف "إلخ".

و قوله: "لا تخف" نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب و المشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها و لذا علل النهي بقوله: "إني لا يخاف لدي المرسلون" فإن تقييد النفي بقوله: "لدي" يفيد أن مقام القرب و الحضور يلازم الأمن و لا يجامع مكروها يخاف منه، و يؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: "إنك من الآمنين" فيتحصل المعنى: لا تخف من شيء إنك مرسل و المرسلون - و هم لدي في مقام القرب - في مقام الأمن و لا خوف مع الأمن.

و أما فرار موسى (عليه السلام) من العصا و قد تصورت بتلك الصورة الهائلة و هي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الإنسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار و قد كان أعزل لا سلاح معه إلا

عصاه و هي التي يخافها على نفسه و لم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق أن يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: "و ألق عصاك" و قد امتثله، و ليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه.



و أما إن الأنبياء و المرسلين لا يخافون شيئا و هم عند ربهم - على ما يدل عليه قوله: "إني لا يخاف لدي المرسلون" - فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله و تأديب و إذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه و خصه بالتكليم و حباه بالرسالة و الكرامة فقوله: "لا تخف إنك من الآمنين" و قوله: "لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون" تعليم و تأديب إلهي له (عليه السلام).

فتبين بذلك أن قوله: "لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون" تأديب و تربية إلهية لموسى (عليه السلام) و ليس من التوبيخ و التأنيب في شيء.

قوله تعالى: "إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم" الذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم و تبديلهم ظلمهم - و هو السوء - حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا.

فالاستثناء من المرسلين و هو استثناء منقطع و المراد بالظلم مطلق المعصية و بالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السيىء، و المعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء و توبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سيىء فإني غفور رحيم أغفر ظلمه و أرحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا.

قوله تعالى: "و أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" إلخ، فسر السوء بالبرص و قد تقدم، و قوله: "في تسع آيات إلى فرعون و قومه" يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن "في تسع" حال من الآيتين جميعا، و المعنى: آتيتك هاتين الآيتين - العصا و اليد - حال كونهما في تسع آيات.

و ثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى:

"و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات: إسراء: 101، كلام في تفصيل الآيات التسع، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين" المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، و في قولهم: "هذا سحر مبين" إزراء و إهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبئوا بها إلا بمقدار أنها أمر ما.

قوله تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا" إلخ، قال الراغب: الجحد نفي ما في القلب إثباته و إثبات ما في القلب نفيه.

انتهي.

و الاستيقان و الإيقان بمعنى.

27 سورة النمل - 15 - 44

وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَ سلَيْمَنَ عِلْماً وَ قَالا الحَْمْدُ للّهِ الّذِى فَضلَنَا عَلى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِث سلَيْمَنُ دَاوُدَ وَ قَالَ يَأَيّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطيرِ وَ أُوتِينَا مِن كلِّ شىْءٍ إِنّ هَذَا لهَُوَ الْفَضلُ الْمُبِينُ (16) وَ حُشِرَ لِسلَيْمَنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الانسِ وَ الطيرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ النّمْلِ قَالَت نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُوا مَسكِنَكمْ لا يحْطِمَنّكُمْ سلَيْمَنُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (18) فَتَبَسمَ ضاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَ قَالَ رَب أَوْزِعْنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَك الّتى أَنْعَمْت عَلىّ وَ عَلى وَلِدَى وَ أَنْ أَعْمَلَ صلِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنى بِرَحْمَتِك فى عِبَادِك الصلِحِينَ (19) وَ تَفَقّدَ الطيرَ فَقَالَ مَا لىَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغَائبِينَ (20) لأُعَذِّبَنّهُ عَذَاباً شدِيداً أَوْ لأَاذْبحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنى بِسلْطنٍ مّبِينٍ (21) فَمَكَث غَيرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطت بِمَا لَمْ تحِط بِهِ وَ جِئْتُك مِن سبَإِ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنى وَجَدت امْرَأَةً تَمْلِكهُمْ وَ أُوتِيَت مِن كلِّ شىْءٍ وَ لهََا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتّهَا وَ قَوْمَهَا يَسجُدُونَ لِلشمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَ زَيّنَ لَهُمُ الشيْطنُ أَعْمَلَهُمْ فَصدّهُمْ عَنِ السبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلا يَسجُدُوا للّهِ الّذِى يخْرِجُ الْخَبءَ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (25) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَب الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سنَنظرُ أَ صدَقْت أَمْ كُنت مِنَ الْكَذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَبى هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنهُمْ فَانظرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَت يَأَيهَا الْمَلَؤُا إِنى أُلْقِىَ إِلىّ كِتَبٌ كَرِيمٌ (29) إِنّهُ مِن سلَيْمَنَ وَ إِنّهُ بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلىّ وَ أْتُونى مُسلِمِينَ (31) قَالَت يَأَيهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونى فى أَمْرِى مَا كنت قَاطِعَةً أَمْراً حَتى تَشهَدُونِ (32) قَالُوا نحْنُ أُولُوا قُوّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شدِيدٍ وَ الأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظرِى مَا ذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَت إِنّ الْمُلُوك إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزّةَ أَهْلِهَا أَذِلّةً وَ كَذَلِك يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنى مُرْسِلَةٌ إِلَيهِم بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةُ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسلُونَ (35) فَلَمّا جَاءَ سلَيْمَنَ قَالَ أَ تُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءَاتَانَِ اللّهُ خَيرٌ مِّمّا ءَاتَاكُم بَلْ أَنتُم بهَدِيّتِكمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بجُنُودٍ لا قِبَلَ لهَُم بهَا وَ لَنُخْرِجَنهُم مِّنهَا أَذِلّةً وَ هُمْ صغِرُونَ (37) قَالَ يَأَيهَا الْمَلَؤُا أَيّكُمْ يَأْتِينى بِعَرْشهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونى مُسلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِْنِّ أَنَا ءَاتِيك بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِك وَ إِنى عَلَيْهِ لَقَوِىّ أَمِينٌ (39) قَالَ الّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَبِ أَنَا ءَاتِيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْك طرْفُك فَلَمّا رَءَاهُ مُستَقِراّ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبى لِيَبْلُوَنى ءَ أَشكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَن شكَرَ فَإِنّمَا يَشكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنّ رَبى غَنىّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لهََا عَرْشهَا نَنظرْ أَ تهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يهْتَدُونَ (41) فَلَمّا جَاءَت قِيلَ أَ هَكَذَا عَرْشكِ قَالَت كَأَنّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَ كُنّا مُسلِمِينَ (42) وَ صدّهَا مَا كانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنهَا كانَت مِن قَوْمٍ كَفِرِينَ (43) قِيلَ لهََا ادْخُلى الصرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَ كَشفَت عَن ساقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صرْحٌ مّمَرّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَت رَب إِنى ظلَمْت نَفْسى وَ أَسلَمْت مَعَ سلَيْمَنَ للّهِ رَب الْعَلَمِينَ (44)

بيان

نبذة من قصص داود و سليمان (عليهما السلام) و فيها شيء من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

قوله تعالى: "و لقد آتينا داود و سليمان علما" إلخ، في تنكير العلم إشارة إلى تفخيم أمره، و مما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: "و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب": (صلى الله عليه وآله وسلم): 20.

و مما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: "ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما و علما": الأنبياء: 79، و ذيل الآية يشملهما جميعا.

و قوله: "و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية، و إما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال و الطير لداود و تليين الحديد له و إيتائه الملك، و تسخير الجن و الوحش و الطير و كذا الريح لسليمان و تعليمه منطق الطير و إيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.

و الآية أعني قوله: "و قالا الحمد لله" إلخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الإلهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقر به عيونهم و مثلها ما سيأتي من اعترافات سليمان في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: "و ورث سليمان داود" إلخ، أي ورثه ماله و ملكه، و أما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة و العلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، و العلم و إن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي و العلم الذي يختص به الأنبياء و الرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر و لا من غير نبي.

و قوله: "و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير" ظاهر السياق أنه (عليه السلام) يباهي عن نفسه و أبيه و هو منه (عليه السلام) تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: "و أما بنعمة ربك فحدث": الضحى: 11، و أما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: "علمنا" و "أوتينا" لنفسه لا له و لأبيه على ما هو عادة الملوك و العظماء في الإخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم و عن خدمهم و أعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.

و المراد بالناس ظاهر معناه و هو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض و قول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.



و المنطق و النطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الأصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما و لا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للإنسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك و هو دلالة الشيء على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: "و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء": حم السجدة: 21، و هو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني و المفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية و النظر و السمع و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و غيرها، و إما لأن للفظ معنى أعم و اختصاصه بالإنسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.

و كيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، و الذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد و حال المغالبة و الغلبة و حال الوحشة و الفزع و حال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك و نظير الطير في ذلك سائر الحيوان.

لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق و أوسع من ذلك.

أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه و إنما ناله بعناية خاصة إلهية، و هذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه و يعرفه.

و أما ثانيا: فلأن ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان و الهدهد يتضمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الأصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز لبعضها من بعض ففي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه و وحدانيته و قدرته و علمه و ربوبيته و عرشه العظيم و ذكر الشيطان و تزيينه الأعمال و الهدى و الضلال و غير ذلك، و فيه ذكر الملك و العرش و المرأة و قومها و سجدتهم للشمس، و في كلام

سليمان أمره بالذهاب بالكتاب و إلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، و هذه كما لا يخفى على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف و ألوف من المعلومات، و أنى تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة.

على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الأصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، و يؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية و هو من منطق الحيوان قطعا و لا صوت للنملة يناله سمعنا و يؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الإنسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي و هو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين و ثلاثين ألفا في الثانية، و أن الخارج من ذلك في جانبي القلة و الكثرة لا يقوى عليه سمع الإنسان و ربما ناله سائر الحيوان أو بعضها.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم و لطيف الإدراك عند أنواع من الحيوان كالفرس و الكلب و القرد و الدب و الزنبور و النملة و غيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الإنسان.

و قد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، و ظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان و أما هي في نفسها فليس لها نطق هذا.



و قوله: "و أوتينا من كل شيء" أي أعطينا من كل شيء و "كل شيء" و إن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا - لأن مفهوم شيء من أعم المفاهيم و قد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقام مقام التحديث بالنعمة و لا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الإنسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شيء و كان معنى الجملة: و أعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الإنسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم و النبوة و الملك و الحكم و سائر النعم المعنوية و المادية.

و قوله: "إن هذا لهو الفضل المبين" شكر و تأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب و لا كبر و اختيال لإسناده الجميع إلى الله بقوله: "علمنا" و "أوتينا"،

و احتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان و السياق يأباه.

قوله تعالى: "و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون" الحشر هو جمع الناس و إخراجهم لأمر بإزعاج و الوزع المنع و قيل الحبس، و المعنى كما قيل: و جمع لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يمنعون من التفرق و اختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم و حبس كل في مكانه.

و يستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن و الطير يسيرون معه كجنوده من الإنس.

و كلمة الحشر و وصف المحشورين بأنهم جنود، و سياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن و الإنس و الطير سواء كانت "من" في الآية للتبعيض أو للبيان.

و قد أغرب في التفسير الكبير، فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن و الإنس و الطير كانوا جنوده و قد ملك الأرض كلها و أن الله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفين ثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله و قال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الآية: و المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده، و لا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، و لا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل و ليس كذلك حال الطيور في أيامنا و إن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل و غيره.

انتهي.

و وجوه التحكم فيه غنية عن البيان.

و تقديم الجن في الذكر على الإنس و الطير لكون تسخيرهم و دخولهم تحت الطاعة عجيبا، و ذكر الإنس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا رعاية لأمر المقابلة بين الجن و الإنس.

قوله تعالى: "حتى إذا أتوا على واد النمل" الآية، "حتى" غاية لما يفهم من الآية السابقة، و ضمير الجمع لسليمان و جنوده، و تعدية الإتيان بعلى قيل: لكون

الإتيان من فوق، و وادي النمل واد بالشام على ما قيل، و قيل في أرض الطائف، و قيل: في أقصى اليمن، و الحطم الكسر.

و المعنى: فلما سار سليمان و جنوده حتى أتوا على وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم سليمان و جنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم و هم لا يشعرون.

و فيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الأرض.

قوله تعالى: "فتبسم ضاحكا من قولها" إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، و على هذا فالمراد بالضحك هو الإشراف عليه مجازا.

و لا منافاة بين قوله (عليه السلام): "علمنا منطق الطير" و بين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة.



و قد تسلم جمع منهم دلالة قوله: "علمنا منطق الطير" على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه (عليه السلام) قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، و أخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين و هي من الطير، و ثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان (عليه السلام) و رابعة بأنه (عليه السلام) لم يسمع منها صوتا قط و إنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا.

و ما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الأوهام.

على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها.

و قوله: "و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه" الإيزاع الإلهام.

تبسم (عليه السلام) مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف و هي النبوة و العلم بمنطق الحيوان و الملك و الجنود من الجن و الإنس و الطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته و أن يعمل بما فيه رضاه سبحانه.

و قد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، و للنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الإنعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما و قد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة و الملك و الحكمة و فصل الخطاب و غيرها و أنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي و رزقها سليمان النبي و جعلها من أهل بيت النبوة.

و في كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم 1 و هم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى: "الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين": النساء: 69.

و قوله: "و أن أعمل صالحا ترضاه" عطف على قوله: "أن أشكر نعمتك" و مسألته هذه: "أوزعني أن أعمل" إلخ، أمر أرفع قدرا و أعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الأسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان و الإيزاع الذي سأله دعوة باطنية في الإنسان إلى السعادة، و على هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم و آله فيما يخبر عنه بقوله: "و أوحينا إليهم فعل الخيرات" الآية: الأنبياء: 73، و هو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية.

و قوله: "و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" أي اجعلني منهم، و هذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات و هو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية.

و من المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: "و أن أعمل صالحا ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" تدرج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى و قد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه و اختياره بوجه دون صلاح الذات و لذا سأل صلاح الذات من ربه و لم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.

و في تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب و أغزرها العبودية و قد وصفه الله بها في قوله: "نعم العبد إنه أواب": ص: 30.

قوله تعالى: "و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين" قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء و التعهد تعرف العهد

المتقدم قال تعالى: "و تفقد الطير" انتهى.

استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه و يستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته.



و المعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أ كان من الغائبين.

قوله تعالى: "لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين" اللامات للقسم و السلطان المبين البرهان الواضح، يقضي (عليه السلام) على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد و الذبح و فيهما شقاؤه، و الإتيان بحجة واضحة و فيه خلاصه و نجاته.

قوله تعالى: "فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين" ضمير "فمكث" لسليمان و يحتمل أن يكون للهدهد و يؤيد الأول سابق السياق و الثاني لاحقه، و المراد بالإحاطة العلم الكامل، و قوله: "و جئتك" إلخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: "أحطت" إلخ، و سبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ و النبأ الخبر الذي له أهمية، و اليقين ما لا شك فيه.

و المعنى: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زمانا غير بعيد - ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته و عاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به و جئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه.

و منه يظهر أن في الآية حذفا و إيجازا، و قد قيل: إن في قول الهدهد: "أحطت بما لم تحط به" كسرا لسورة سليمان (عليه السلام) فيما شدد عليه.

قوله تعالى: "إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم" الضمير في "تملكهم" لأهل سبإ و ما يتبعها و قوله: "و أوتيت من كل شيء" وصف لسعة ملكها و عظمته و هو القرينة على أن المراد بكل شيء في الآية كل شيء هو من لوازم الملك العظيم من حزم و عزم و سطوة و مملكة عريضة و كنوز و جنود مجندة و رعية مطيعة، و خص بالذكر من بينها عرشها العظيم.

قوله تعالى: "وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله" إلخ، أي إنهم

من عبدة الشمس من الوثنيين.

و قوله: "و زين لهم الشيطان أعمالهم" بمنزلة عطف التفسير لما سبقه و هو مع ذلك توطئة لقوله بعد: "فصدهم عن السبيل" لأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم و سائر تقرباتهم هو الذي صرفهم و منعهم عن سبيل الله و هي عبادته وحده.

و في إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للإنسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شيء بالنظر إلى الخلقة العامة.

و قوله: "فهم لا يهتدون" تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه.

قوله تعالى: "ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون" القراءة الدائرة "إلا" - بتشديد اللام - مؤلف من "أن و لا" و هو عطف بيان من "أعمالهم"، و المعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، و قيل: بتقدير لام التعليل، و المعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله.

و الخبء على ما في مجمع البيان، المخبوء و هو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه و هو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ و ما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة.

انتهي.



ففي قوله: "يخرج الخبء في السماوات و الأرض" استعارة كأن الأشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحدا بعد آخر فيكون تسمية الإيجاد بعد العدم إخراجا للخبء قريبا من تسميته بالفطر و توصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض و الفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الأشياء.

و يمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع.

و قيل: المراد بالخبء الغيب و إخراجه العلم به و هو كما ترى.

و قوله: "و يعلم ما تخفون و ما تعلنون" بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم و علانيتكم، و قرأ الأكثرون بالياء على الغيبة و هو أرجح.

و ملخص الحجة: أنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة و التدبير العام للعالم الأرضي و غيره، و الله الذي

أخرج جميع الأشياء من العدم إلى الوجود و من الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله - و من جملتها الشمس و تدبيرها - أولى بالتعظيم و أحق أن يسجد له، مع أنه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها و لا شعور للشمس بسجدتهم و الله سبحانه يعلم ما يخفون و ما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة و التعظيم لا غير.

و بهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا "الله لا إله إلا هو" إلخ.

قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" من تمام كلام الهدهد و هو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق و إظهار الحق قبال باطلهم و لذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: "رب العرش العظيم" الدال على انتهاء تدبير الأمر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده أزمة الأمور و تصدر منه الأحكام الجارية في الملك.

و في قوله: "رب العرش العظيم" مناسبة محاذاة أخرى مع قوله في وصف ملكة سبإ: "و لها عرش عظيم" و لعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمان (عليه السلام) أن يأمر أن يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة.

قوله تعالى: "قال سننظر أ صدقت أم كنت من الكاذبين" الضمير لسليمان (عليه السلام).

أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينة عليه بعد و لم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرب و يتأمل.

قوله تعالى: "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون" حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبإ و ملئها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ما ذا يرجعون أي ما ذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه.

و قوله: "فألقه" بسكون الهاء وصلا و وقفا في جميع القراءات و هي هاء السكت، و مما قيل في الآية: إن قوله "ثم تول عنهم فانظر" إلخ، من قبيل التقديم و التأخير و الأصل فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم: و هو كما ترى.

قوله تعالى: "قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان و إنه

بسم الله الرحمن الرحيم" في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فأخذ الهدهد الكتاب و حمله إلى ملكة سبإ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذته و لما قرأته قالت لملئها و أشراف قومها يا أيها الملؤا "إلخ".



فقوله: "قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم" حكاية ذكرها لملئها أمر الكتاب و كيفية وصوله إليها و مضمونه، و قد عظمته إذ وصفته بالكرم.

و قوله: "إنه من سليمان و إنه بسم الله الرحمن الرحيم" ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي و السبب فيه أنه من سليمان و لم يكد يخفى عليها جبروت سليمان و ما أوتيه من الملك العظيم و الشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: "و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين".

"و إنه بسم الله الرحمن الرحيم: أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك و الوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الأرباب و إن لم يعبدوه، و عبدة الشمس منهم و هم من شعب الصابئين يعظمونه و يعظمون صفاته و إن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص و الأعدام فيفسرون العلم و القدرة و الحياة و الرحمة مثلا بانتفاء الجهل و العجز و الموت و القسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، و على هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: "ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين" و أن مفسرة.

و من العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: "إنه من سليمان" استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب و ما ذا فيه فقالت: إنه من سليمان إلخ، و على هذا يكون قوله: و إنه بسم الله بيانا للكتاب أي لمتنه و أن الكتاب هو "بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين".

و يتوجه عليهم أولا: وقوع لفظة أن زائدة لا فائدة لها و لذا قال بعضهم: إنها مصدرية و "لا" نافية لا ناهية و هو وجه سخيف كما سيأتي.

و ثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، و قيل: إنها سمته كريما لجودة

خطه و حسن بيانه، و قيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، و قيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه.

و أنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، و الظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: "و إنه بسم الله - إلى قوله - مسلمين" على حكاية متن الكتاب و ذلك ينافي حمل قوله: "إنه من سليمان و إنه بسم الله" إلخ، على تعليل كرامة الكتاب و يدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: "ألا تعلوا علي" إلخ، أنه نقل لمعنى الكتاب و مضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا ببسم الله الرحمن الرحيم و أن مضمونه النهي عن العلو عليه و الأمر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا.

قوله تعالى: "ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين" أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الإشارة إليه.

و قول بعضهم: إنها مصدرية و "لا" نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لاستلزامه أولا: تقدير مبتدإ أو خبر محذوف من غير موجب، و ثانيا: عطف الإنشاء و هو قوله: "و أتوني" على الإخبار.



و المراد بعلوهم عليه، استكبارهم عليه، و بقوله: "و أتوني مسلمين" إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: "ألا تعلوا علي" دون الإسلام بالمعنى المصطلح و هو الإيمان بالله سبحانه و إن كان إتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد و سياق الآيات الآتية، و لو كان المراد بالإيمان المعنى المصطلح كان المناسب له أن يقال: أن لا تعلوا على الله.

و كون سليمان (عليه السلام) نبيا شأنه الدعوة إلى الإسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا و كانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم و قد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها "و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين".

قوله تعالى: "قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون" الإفتاء إظهار الفتوى و هي الرأي، و قطع الأمر القضاء به و العزم عليه و الشهادة الحضور و هذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الأمر الذي واجهته و هو الذي يشير إليه كتاب سليمان - و إنما أستشيركم فيه لأني لم أكن حتى اليوم

أستبد برأيي في الأمور بل أقضي و أعزم عن إشارة و حضور منكم.

فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملئها بعد الفصل الأول الذي أخبرتهم فيه بكتاب سليمان (عليه السلام) و كيفية وصوله و ما فيه.

قوله تعالى: "قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين" القوة ما يتقوى به على المطلوب و هي هاهنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو و قتاله، و البأس الشدة في العمل و المراد به النجدة و الشجاعة.

و الآية تتضمن جواب الملإ لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها و يسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الأمر يقولون طيبي نفسا و لا تحزني فإن لنا من القوة و الشدة ما لا نهاب به عدوا و إن كان هو سليمان ثم الأمر إليك مري بما شئت فنحن مطيعوك.

قوله تعالى: "قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون" إفساد القرى تخريبها و إحراقها و هدم أبنيتها، و إذلال أعزة أهلها هو بالقتل و الأسر و السبي و الإجلاء و التحكم.

كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين - - - زيادة التبصر في أمر سليمان (عليه السلام) بأن ترسل إليه من يختبر حاله و يشاهد مظاهر نبوته و ملكه فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الأمرين: الحرب أو السلم و كان الظاهر من كلام الملإ "حيث بدءوا في الكلام معها بقولهم نحن أولو قوة و أولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها" إلخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين و فيها فساد القرى و ذلة أعزتها فليس من الحزم الإقدام عليها مع قوة العدو و شوكته مهما كانت إلى السلم و الصلح سبيل إلا لضرورة و رأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بما ذا يرجع المرسلون من الخبر و عند ذلك أقطع بأحد الأمرين الحرب أو السلم.

فقوله: "إن الملوك إذا دخلوا" إلخ، توطئة لقوله بعد: "و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة" إلخ.

و قوله: "و جعلوا أعزة أهلها أذلة" أبلغ و آكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لأنه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.



و قوله: "و كذلك يفعلون" مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله: "أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة" على أصل الوقوع، و قيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ و ليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.

قوله تعالى: "و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون" أي مرسلة إلى سليمان و هذا نوع من التجبر و الاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه و تنسب الأمر إليه و إلى من معه جميعا و أيضا تشير به إلى أنه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده و جنوده و إمداد رعيته.

و قوله: "فناظرة بم يرجع المرسلون" أي حتى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال و هذا - كما تقدم - هو رأي ملكة سبإ و يعلم من قوله: "المرسلون" أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: "ارجع إليهم" أنه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.

قوله تعالى: "فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون" ضمير جاء للمال الذي أهدي إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية.

و الاستفهام في قوله: "أ تمدونن بمال" للتوبيخ و الخطاب للرسول و المرسل بتغليب الحاضر على الغائب، و توبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: "و إني مرسلة إليهم بهدية" كما أشرنا إليه.

و جوز أن يكون الخطاب للمرسلين و كانوا جماعة و هو خطأ فإن الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، و تنكير المال للتحقير، و المراد بما آتاني الله الملك و النبوة.

و المعنى: أ تمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة و الملك و الثروة خير مما آتاكم.

و قوله: "بل أنتم بهديتكم تفرحون" إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح و فرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها و إعجابكم بها أقبح.

و قيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدى إليكم، و المعنى: بل أنتم تفرحون بما

يهدى إليكم من الهدية لحبكم زيادة المال و أما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا.

و بعده ظاهر.

قوله تعالى: "ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون" الخطاب لرئيس المرسلين، و ضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ و قومها، و القبل الطاقة، و ضمير "بها" لسبإ، و قوله: "و هم صاغرون" تأكيد لما قبله، و اللام في "فلنأتينهم" و "لنخرجنهم" للقسم.

لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - و هو قوله: "و أتوني مسلمين" من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الإسلام قدر بحسب المقام أنهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها و لذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: "ارجع إليهم فلنأتينهم" إلخ، و لم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم إلخ، و إن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود و إخراجهم من سبإ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال.

و السياق يشهد أنه (عليه السلام) رد إليهم هديتهم و لم يقبلها منهم.



قوله تعالى: "قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين" كلام تكلم به بعد رد الهدية و إرجاع الرسل، و فيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين و إنما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها و قومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه و معجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له و يستفاد ذلك من الآيات التالية.

قوله تعالى: "قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي أمين" العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، و قوله: "آتيك به" اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان، و الأول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل و كونه أنسب لعطف قوله: "و إني عليه" إلخ، و هو جملة اسمية عليه.

كذا قيل.

و قوله: "و إني عليه لقوي أمين" الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله و لا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.

قوله تعالى: "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك" مقابلته لمن قبله دليل

على أنه كان من الإنس، و قد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان و وصيه، و قيل: هو الخضر، و قيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب و قيل: جبرئيل، و قيل: هو سليمان نفسه، و هي وجوه لا دليل على شيء منها.

و أيا ما كان و أي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، و قد اعتني بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: علم من الكتاب أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.

و المراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، و العلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية و قد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، و ربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، و قيل: ذو الجلال و الإكرام، و قيل: الله الرحمن، و قيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، و قيل: إنه دعا بقوله: يا إلهنا و إله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها.

إلى غير ذلك مما قيل.

و قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شيء من قبيل الألفاظ و لا المفاهيم التي تدل عليها و تكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق و هي الاسم حقيقة و اللفظ الدال عليها اسم الاسم.

و لم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، و أنه قال: أنا آتيك به، و من المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، و بذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله و الارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة و إن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه.

و يتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب و التعلم.

و قوله: "أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" الطرف - على ما قيل -

اللحظ و النظر و ارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس و علم الإنسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانية بين النظر إلى الشيء و العلم به.



و قيل: الطرف تحريك الأجفان و فتحها للنظر، و ارتداده هو انضمامها و لكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل: قبل أن يرتد إليك طرفك و لم يقل: قبل أن يرد.

هذا.

و قد أخطأ فالطرف كالتنفس من أفعال الإنسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس و لذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الأكل و الشرب، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الإنسان و هو أعم مما يسبقه التروي، و الذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار و الصادر عن ترو، و لعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ.

و الخطاب في قوله: "أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" لسليمان (عليه السلام) فهو الذي يريد الإتيان به إليه و هو الذي يراد الإتيان به إليه.

و قيل: الخطاب للعفريت القائل: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و المراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، و إنما قاله له إظهارا لفضل النبوة و أن الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك.

و قد أصر في التفسير الكبير، على هذا القول و أورد لتأييده وجوها و هي وجوه رديئة و أصل القول لا يلائم السياق كما أومأنا إليه.

قوله تعالى: "فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي" إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا، أي حضور العرش و استقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أ أشكر نعمته أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي و من كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم - و في ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل -.

و قيل: المشار إليه بقوله "هذا" هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات.

و فيه أن ظاهر قوله: "فلما رآه مستقرا عنده قال" إلخ، إن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية و الذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الإحضار الذي كان متحققا منذ زمان.

و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فأذن له سليمان في الإتيان به كذلك فأتى به كما قال: "فلما رآه مستقرا عنده" و في حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الإتيان به كذلك و بين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا.

قوله تعالى: "قال نكروا لها عرشها ننظر أ تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون قال في المفردات:، تنكير الشيء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى: "قال نكروا لها عرشها" و تعريفه جعله بحيث يعرف.

انتهي.

و السياق يدل على أن سليمان (عليه السلام) إنما قاله حينما قصدته ملكة سبإ و ملؤها لما دخلوا عليه، و إنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الإتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، و لذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله: "ننظر أ تهتدي" إلخ، و المعنى ظاهر.



قوله تعالى: "فلما جاءت قيل أ هكذا عرشك قالت كأنه هو و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين" أي فلما جاءت الملكة سليمان (عليه السلام) قيل له من جانب سليمان: "أ هكذا عرشك" و هو كلمة اختبار.

و لم يقل: أ هذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل: أ هكذا عرشك؟ فاستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته و صفاته، و في نفس هذه الجملة نوع من التنكير.

و قوله: "قالت كأنه هو" المراد به أنه هو و إنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش و المبادرة إلى التصديق من غير تثبت، و يكنى عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه.

و قوله: "و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين" ضمير "قبلها" لهذه الآية أي الإتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، و ظاهر السياق أنها تتمة

كلام الملكة فهي لما رأت العرش و سألت عن أمره أحست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها: "و أوتينا العلم من قبلها" إلخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح و التذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة و كنا مسلمين لسليمان طائعين له.

و قيل: قوله: "و أوتينا العلم" إلخ، من كلام سليمان، و قيل: من كلام قوم سليمان، و قيل من كلام الملكة، لكن المعنى و أوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - و هي جميعا وجوه رديئة -.

قوله تعالى: "و صدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين" الصد: المنع و الصرف، و متعلق الصد الإسلام لله و هو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، و أما قولها في الآية السابقة: "و كنا مسلمين" فهو إسلامها و انقيادها لسليمان (عليه السلام).

هذا ما يعطيه سياق الآيات و للقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها.

و قوله: "إنها كانت من قوم كافرين" في مقام التعليل للصد، و المعنى: و منعها عن الإسلام لله ما كانت تعبد من دون الله و هي الشمس على ما تقدم في نبإ الهدهد و السبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم.

قوله تعالى: "قيل لها ادخلي الصرح" إلى آخر الآية، الصرح هو القصر و كل بناء مشرف و الصرح الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف، و اللجة المعظم من الماء و الممرد اسم مفعول من التمريد و هو التمليس، و القوارير الزجاج.

و قوله: "قيل لها ادخلي الصرح" كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك و العظماء على أمثالهم.

و قوله: "فلما رأته حسبته لجة و كشفت عن ساقيها" أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء و كشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها.

و قوله: "قال إنه صرح ممرد من قوارير" القائل هو سليمان نبهها أنه ليس بلجة

بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان و قد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر الهدهد و رد الهدية و الإتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير و قالت عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي إلخ.



و قوله: "و قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين" استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالإسلام لله مع سليمان.

و في قوله: "و أسلمت مع سليمان لله" التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة و وجهه الانتقال من إجمال الإيمان بالله إذ قالت: رب إني ظلمت نفسي" إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد أن إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان و هو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشيء من العالمين و هو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك.

كلام في قصة سليمان (عليه السلام)

1 - ما ورد من قصصه في القرآن:

لم يرد من قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير أن التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه و مظاهر شخصيته الشريفة.

منها: وراثته لأبيه داود قال تعالى: "و وهبنا لداود سليمان": (عليهما السلام): 30، و قال "و ورث سليمان داود": النمل: 16.

و منها: إيتاؤه الملك العظيم و تسخير الجن و الطير و الريح له و تعليمه منطق الطير و قد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية 102 و الأنبياء الآية 81، و النمل الآية 16 - 18، و سبإ الآية 12 - 13 و ص الآية 35 - 39.

و منها: الإشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة ص الآية 33.

و منها: الإشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص الآية 31 - 33.

و منها: الإشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الأنبياء الآية 78 - 79.

و منها: الإشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية 18 - 19.

و منها: قصة الهدهد و ما يتبعها من قصته (عليه السلام) مع ملكة سبإ سورة النمل الآية 20 - 44.

و منها: الإشارة إلى كيفية موته (عليه السلام) كما في سورة سبإ الآية 14.

و قد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب.

2 - الثناء عليه في القرآن:

ورد اسمه (عليه السلام) في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى و قد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أوابا قال تعالى: "نعم العبد إنه أواب": ص: 30، و وصفه بالعلم و الحكم قال تعالى: "ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما و علما": الأنبياء: 79 "و قال و لقد آتينا داود و سليمان علما": النمل: 15 و قال: "و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير": النمل: 16، و عده من النبيين المهديين قال تعالى: "و أيوب و يونس و هارون و سليمان": النساء: 163، و قال: "و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان": الأنعام: 84.

3 - ذكره (عليه السلام)

في العهد العتيق: وقعت قصته في كتاب الملوك الأول و قد أطيل فيه في حشمته و جلالة أمره و سعة ملكه و وفور ثروته و بلوغ حكمته غير أنه لم يذكر فيه شيء من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سبإ لما سمعت خبر سليمان و بناءه و بيت الرب بأورشليم و ما أوتيه من الحكمة أتت إليه و معها هدايا كثيرة فلاقته و سألته عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت 1.



و قد أساء العهد العتيق القول فيه (عليه السلام) فذكر 2 أنه (عليه السلام) انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام فسجد لأوثان كانت تعبدها بعض أزواجه.

و ذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود (عليه السلام) ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى أزواجه فحبلت منه ثانيا و ولدت له سليمان.

و القرآن الكريم ينزه ساحته (عليه السلام) عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الأنبياء بالنص على هدايتهم و عصمتهم و قال فيه خاصة: "و ما كفر سليمان": البقرة: 102.

و عن الثانية بما يحكيه من دعائه (عليه السلام) لما سمع قول النملة: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي": النمل: 19، فقد بينا في تفسيره أن فيه دلالة على أن والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين.

4 - الروايات الواردة في قصصه (عليه السلام)

: الأخبار المروية في قصصه و خاصة في قصة الهدهد و ما يتبعها من أخباره مع ملكة سبإ يتضمن أكثرها أمورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافية يأباها العقل السليم و يكذبها التاريخ القطعي و أكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب و وهب.

و قد بلغوا من المبالغة أن ما رووا أنه (عليه السلام) ملك جميع الأرض، و كان ملكه سبعمائة سنة، و أن جميع الإنس و الجن و الوحش و الطير كانوا جنوده، و أنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين و مئات الألوف من أمراء الإنس و الجن.

و أن ملكة سبإ كانت أمها من الجن، و كانت قدمها كحافر الحمارة و كانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، و قد بلغ من شوكتها أنه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل و لها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها و لها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الأخبار التي لا يسعنا إلا أن نعدها من الإسرائيليات و نصفح عنها 1

بحث روائي

في الاحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة (عليها السلام) فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا ابن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: و ورث سليمان داود.

الحديث.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز و جل: "فهم يوزعون" قال: يحبس أولهم على آخرهم.



و في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و الناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة أ لم تسمع إلى قوله: "فناظرة بم يرجع المرسلون" و في البصائر، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاث و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم اثنان و سبعون حرفا، و حرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم:. أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر و عن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام).

و قوله: "إن الاسم الأعظم كذا حرفا و كان عند آصف حرف تكلم به" لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الألفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي و التعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "قبل أن يرتد إليك طرفك" ذكر في ذلك وجوه إلى أن قال و الخامس أن الأرض طويت له: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و ما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.

و الذي نقله من الوجوه الأخر خمسة أحدها: أن الملائكة حملته إليه.

الثاني: أن الريح حملته.

الثالث: أن الله خلق فيه حركات متوالية.

الرابع: أنه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان.

الخامس: أن الله أعدمه في موضعه و أعاده في مجلس سليمان.

و هناك وجه آخر ذكره بعضهم و هو أن الوجود بتجدد الأمثال بإيجاده و قد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان.

و هذه الوجوه بين ممتنع كالخامس و بين ما لا دليل عليه كالباقي.

و فيه، و روى العياشي في تفسيره، بالإسناد قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى و يحيى بن أكثم فسأله. قال: فدخلت على أخي علي بن محمد (عليهما السلام) إذ دار بيني و بينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: هل أفتيته فيها قلت: لا. قال: و لم؟ قلت: لم أعرفها قال: ما هي؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ ثم ذكرت المسائل الأخر: قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه: "قال الذي عنده علم من الكتاب" فهو آصف بن برخيا و لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن و الإنس أنه الحجة من بعده و ذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته و دلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته و نبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق:. أقول: و أورد الرواية في روح المعاني، عن المجمع ثم قال: و هو كما ترى انتهى و لا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الإمامة فيها فلم يعجبه.

و في نور الثقلين، عن الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو إلى أن قال و خرجت ملكة سبإ فأسلمت مع سليمان (عليه السلام).

27 سورة النمل - 45 - 53

وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَقَوْمِ لِمَ تَستَعْجِلُونَ بِالسيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسنَةِ لَوْ لا تَستَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطيرْنَا بِك وَ بِمَن مّعَك قَالَ طئرُكُمْ عِندَ اللّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَ كانَ فى الْمَدِينَةِ تِسعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ وَ لا يُصلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّتَنّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمّ لَنَقُولَنّ لِوَلِيِّهِ مَا شهِدْنَا مَهْلِك أَهْلِهِ وَ إِنّا لَصدِقُونَ (49) وَ مَكَرُوا مَكراً وَ مَكَرْنَا مَكراً وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (50) فَانظرْ كَيْف كانَ عَقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمّرْنَهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْك بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ بِمَا ظلَمُوا إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنجَيْنَا الّذِينَ ءَامَنُوا وَ كانُوا يَتّقُونَ (53)

بيان

إجمال من قصة صالح النبي (عليه السلام) و قومه، و جانب الإنذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: "و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا" - إلى قوله - - يختصمون" الاختصام و التخاصم التنازع و توصيف التثنية بالجمع أعني قوله: "فريقان" بقوله: "يختصمون" لكون المراد بالفريقين مجموع الأمة و "إذا" فجائية.

و المعنى: و أقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم و نسيبهم صالحا و كان المرجو أن يجتمعوا على الإيمان لكن فاجأهم أن تفرقوا فريقين مؤمن و كافر يختصمون و يتنازعون في الحق كل يقول: الحق معي، و لعل المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله: "قال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أ تعلمون

أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون": الأعراف: 76.

و من هنا يظهر أن أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به و الآخر المستكبرون و باقي المستضعفين ممن اتبعوا كبارهم.

قوله تعالى: "قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة" إلخ الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة التي سببها الإيمان و الاستغفار.

و به يظهر أن صالحا (عليه السلام) إنما وبخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة و قالوا له: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فيكون قوله: "لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون" تحضيضا إلى الإيمان و التوبة لعل الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعدا غير مكذوب.

قوله تعالى: "قالوا اطيرنا بك و بمن معك قال طائركم عند الله" إلخ التطير هو التشؤم، و كانوا يتشأمون كثيرا بالطير و لذا سموا التشؤم تطيرا و نصيب الإنسان من الشر طائرا كما قيل.

فقولهم خطابا لصالح: "اطيرنا بك و بمن معك" أي تشأمنا بك و بمن معك ممن آمن بك و لزمك لما أن قيامك بالدعوة و إيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن و البلايا فلسنا نؤمن بك.

و قوله خطابا للقوم: "طائركم عند الله" أي نصيبكم من الشر و هو الذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه.

و لذا أضرب عن قوله: "طائركم عند الله" بقوله: "بل أنتم قوم تفتنون" أي تختبرون بالخير و الشر ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.

و معنى الآية: قال القوم: تطيرنا بك يا صالح و بمن معك فلن نؤمن و لن نستغفر قال صالح: طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله و هو كتاب أعمالكم و لست أنا و من معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون و تمتحنون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.

و ربما قيل: إن الطائر هو السبب الذي منه يصيب الإنسان ما يصيبه من الخير

و الشر، فإنهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضا يتيمنون به و الطائر عندهم الأمر الذي يستقبل الإنسان بالخير و الشر كما في قوله تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا": إسراء: 13، و إذ كان ما يستقبل الإنسان من خير أو شر هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدر للإنسان.

و فيه أن ظاهر ذيل آية الإسراء أن المراد بالطائر هو كتاب الأعمال دون كتاب القضاء كما يدل عليه قوله: "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا".

و قيل: معنى "بل أنتم قوم تفتنون" أي تعذبون، و ما ذكرناه أولا أنسب.

قوله تعالى: "و كان في المدينة تسعة رهط" إلخ قال الراغب: الرهط العصابة دون العشرة و قيل إلى الأربعين

انتهي.

و قيل: الفرق بين الرهط و النفر أن الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة و النفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى.

قيل: المراد بالرهط الأشخاص و لذا وقع تمييزا للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال.

قوله تعالى: "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه و أهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون" التقاسم المشاركة في القسم، و التبييت القصد بالسوء ليلا، و أهل الرجل من يجمعه و إياهم بيت أو نسب أو دين، و لعل المراد بأهله زوجه و ولده بقرينة قوله بعد: "ثم لنقولن لوليه ما شهدنا"، و قوله: "و إنا لصادقون" معطوف على قوله: "ما شهدنا" فيكون من مقول القول.

و المعنى: قال الرهط المفسدون و قد تقاسموا بالله: لنقتلنه و أهله بالليل ثم نقول لوليه إذا عقبنا و طلب الثأر ما شهدنا هلاك أهله و إنا لصادقون في هذا القول، و نفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الأولوية، على ما قيل.

و ربما قيل: إن قوله: "و إنا لصادقون" حال من فاعل نقول أي نقول لوليه كذا و الحال أنا صادقون في هذا القول لأنا شهدنا مهلكه و أهله جميعا لا مهلك أهله فقط.

و لا يخفى ما فيه من التكلف و قد وجه بوجوه أخر أشد تكلفا منه و لا ملزم لأصل الحالية.

قوله تعالى: "و مكروا مكرا و مكرنا مكرا و هم لا يشعرون" أما مكرهم فهو التواطىء على تبييته و أهله و التقاسم بشهادة السياق السابق و أما مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعا بشهادة السياق اللاحق.

قوله تعالى: "فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم و قومهم أجمعين" التدمير الإهلاك، و ضمائر الجمع للرهط، و كون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم و قومهم من جهة أن مكرهم استدعى المكر الإلهي على سبيل المجازاة، و استوجب ذلك إهلاكهم و قومهم.

قوله تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" إلخ، الخاوية الخالية من الخواء بمعنى الخلاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و أنجينا الذين آمنوا و كانوا يتقون" فيه تبشير للمؤمنين بالإنجاء، و قد أردفه بقوله: "و كانوا يتقون" إذ التقوى كالمجن للإيمان و قد قال تعالى: "و العاقبة للمتقين": الأعراف: 128، و قال: "و العاقبة للتقوى": طه: 132.

<<        الفهرس        >>