جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، و أوستا، و التوراة، و الإنجيل على نحو الإجمال و الكلية في فصول و هذا بحث تحليلي شريف.

1 - التناسخ عند الوثنيين:

من الأصول الأولية التي تبتني عليها البرهمية و مثلها البوذية و الصابئية هو التناسخ و هو أن العالم محكوم بالكون و الفساد دائما فهذا العالم المشهود لنا و كذا ما فيه من الأجزاء مكون عن عالم مثله سابق عليه و هكذا إلى غير النهاية، و سيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه و يتكون منه عالم آخر و هكذا إلى غير النهاية، و الإنسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحا و اكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد و يعيش على السعادة، و هو ثوابه، و من أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقي و يقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم و اتحد به فإنه ينجو من الولادة الثانية و يعود ذاتا أزلية أبدية هي عين البهاء و السرور و الحياة و القدرة و العلم لا سبيل للفناء و البطلان إليها.

و لذلك كان من الواجب الديني على الإنسان أن يؤمن بالبرهم و هو الله أصل كل شيء و يتقرب إليه بالقرابين و العبادات، و يتحلى بالأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا و تخلق بكرائم الأخلاق و تحلى بصوالح الأعمال و عرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا و اتحد بالبرهم و صار هو هو، و هو السعادة الكبرى و الحياة البحتة، و إلا فليؤمن بالبرهم و ليعمل صالحا حتى يسعد في حياته التالية و هي آخرته.

لكن البرهم لما كان ذاتا مطلقة محيطا بكل شيء غير محاط لشيء كان أعلى و أجل من أن يعرفه الإنسان إلا بنوع من نفي النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه و أقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا عنده، و هؤلاء هم الآلهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، و هم على كثرتهم إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة، و إنما يعبد الجن خوفا من شرهم، و غيرهم طمعا في رحمتهم و خوفا من سخطهم و منهم الأزواج و البنون و البنات لله تعالى.

فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية و يعلمه علماء المذهب من البراهمة.

لكن الذي يتحصل من أوبانيشاد" 1 و هو القسم الرابع من كتاب "ويدا" المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم و إن أوله علماء المذهب من البراهمة.

فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل "أوبانيشاد" المعلمة للمعارف الإلهية و إن كانت تصف العالم الألوهي و الشئون المتعلقة به من الأسماء و الصفات و الأفعال من إبداء و إعادة و خلق و رزق و إحياء و أماته و غير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية كالانقسام و التبعض و السكون و الحركة و الانتقال و الحلول و الاتحاد و العظم و الصغر و سائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرح في مواضع منها أن برهم 2 ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حد له الأسماء الحسنى و الصفات العليا من حياة و علم و قدرة، منزه عن نعوت النقص و أعراض المادة و الجسم ليس كمثله شيء.

و تصرح 3 بأنه تعالى إحدى الذات لم يولد من شيء و لم يلد شيئا و ليس له كفو و مثل البتة.



و تصرح 1 بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى و لا يتقرب إلى غيره بقربان بل الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له.

و تصرح 2 كثيرا بالقيامة و أنه الأجل الذي ينتهي إليه الخلقة، و تصف ثواب الأعمال و عقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين حمله على التناسخ.

و لا خبر في هذه الأبحاث الإلهية الموردة فيها عن الأوثان و الأصنام و توجيه العبادات و تقديم القرابين إليها.

و هذه التي نقلناها من "أوبانيشاد" - و ما تركناه أكثر - حقائق سامية و معارف حقة تطمئن إليها الفطرة الإنسانية السليمة، و هي - كما ترى - تنفي جميع أصول الوثنية الموردة في أول البحث.

و الذي يهدي إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالبا بالرمز و استعملوا في تعاليمهم الأمثال.

ثم جعل ما أخذ من هؤلاء أساسا تبتني عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع عليه عامة الناس، و هي معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحس و الخيال اللذين هما حظ العامة من الإدراك و كمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة.

و اختصاص نيلها بالأقلين من الناس و حرمان الأكثرين من ذلك و هي دين إنساني أول المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الإنساني مغروزة على الاجتماع المدني، و انفصال بعضهم عن بعض في سنة الحياة و هي الدين إلغاء لسنة الفطرة و طريقة الخلقة.

على أن في ذلك تركا لطريق العقل و هو أحد الطرق الثلاث الوحي و الكشف و العقل، و أعمها و أهمها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، و الكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الإخلاص و اليقين، و الناس حتى أهل الوحي و الكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطي الحجة العقلية في جميع شئون الحياة الدنيوية و لا غنى لها عن ذلك، و في إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباري على جميع شئون المجتمع الحيوية من اعتقادات و أخلاق و أعمال، و في ذلك سقوط الإنسانية.

على أن في ذلك إنفاذا لسنة الاستعباد في المجتمع الإنساني و يشهد بذلك التجارب التاريخي المديد في الأمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.

2 - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:

الأديان العامة الآخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي أهمها الثلاثة المتقدمة.

أما البوذية و الصابئة فذلك فيهم ظاهر و التاريخ يشهد بذلك، و قد تقدم شيء مما يتعلق بعقائدهم و أعمالهم.



و أما المجوس فهم يوحدون "أهورامزدا" بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس ليزدان و أهريمن و الملائكة الموكلين بشئون الربوبية و للشمس و النار و غير ذلك، و التاريخ يقص ما كانت تجري فيهم من سنة الاستعباد و اختلاف الطبقات و التدبر و الاعتبار يقضي أنه إنما تسرب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل، و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم: "أنه كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه".

و أما اليهود فالقرآن يقص كثيرا من أعمالهم و تحريفهم كتاب الله و اتخاذهم العلماء أربابا من دون الله، و ما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة و رداءة السليقة.

و أما النصارى فقد فصلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر و العمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع و إن شئت فطبق مفتتح إنجيل يوحنا و رسائل بولس على سائر الأناجيل و تممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.

فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية في العالم الإنساني من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإلهية و الحقائق العالية الحقة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية، و حملتها على الأفهام العامة التي لا تأنس إلا بالحس و المحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

3 - إصلاح الإسلام لهذه المفاسد:



أما الإسلام فإنه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الذي يصلح لهضم الأفهام الساذجة و العقول العادية فصارت تلامسها من وراء حجاب و تتناولها ملفوفة محفوفة، و هذا هو الذي يصلح به حال العامة و أما الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع و حسنها البديع آمنين مطمئنين و هم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، قال الله تعالى: "و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:" الزخرف: - 4، و قال: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون:" الواقعة: - 79، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم".

و عالج غائلة الشرك و الوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات و الصفات عن كل شيء إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شيء، و ركز الأفهام في معرفة الألوهية بين التشبيه و التنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن لا كحياتنا، و علما لا كعلمنا، و قدرة لا كقدرتنا و سمعا لا كسمعنا، و بصرا لا كبصرنا، و بالجملة ليس كمثله شيء و أنه أكبر من أن يوصف، و أمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلا عن علم، و لا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة عقلية يهضمها عقولهم و أفهامهم.

فوفق بذلك أولا لعرض الدين على العامة و الخاصة شرعا سواء، و ثانيا أن يعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهية سدى لا ينتفع بها، و ثالثا أن قرب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا و يحرم ذاك أو يقدم واحدا و يؤخر آخر قال تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون:" الأنبياء: - 92 و قال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم:" الحجرات: - 13.

و هذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرقة تقدمت في هذا الكتاب و الله المستعان.

4 - ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي و آله المعصومين (عليهم السلام) و مسألته تعالى بحقهم و زيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم و تعظيم آثارهم من الشرك المنهي عنه و هو الشرك الوثني محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى و هو شرك و أصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله.



و قولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، و لا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهي عنه.

و قد فاتهم أولا أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالى ضروري لا سبيل إلى إنكاره، و قد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره و نفي التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية و المعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، و فيه هدم بنيان التوحيد.

نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير و لا كلام لأحد فيه، و أما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل و الخروج عن الفطرة الإنسانية.

و من يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون:" الزخرف: - 86 و قوله: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى:" الأنبياء: - 28.

أو يسأل الله بجاههم و يقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:" الصافات: - 173 و قوله: "إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا:" المؤمن: - 51.

أو يعظمهم و يظهر حبهم بزيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم بما أنهم آيات الله و شعائره تمسكا بمثل قوله تعالى: "و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب:" الحج: - 32، و آية القربى و غير ذلك من كتاب و سنة.

فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلى الله الوسيلة و قد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة:" المائدة: - 35 فشرع به ابتغاء الوسيلة، و جعلهم بما شرع من حبهم و تعزيرهم و تعظيمهم وسائل إليه، و لا معنى لإيجاب حب شيء و تعظيمه و تحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم و تعظيم أمرهم و ما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل و الاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير و العبادة البتة.

و ثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب إلى الله، و بين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع و التقرب بهم إليه ففي الصورة الأولى إعطاء الاستقلال و إخلاص العبادة لغيره تعالى و هو الشرك في العبودية و العبادة، و في الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى و يختص العبادة به وحده لا شريك له.

و إنما ذم تعالى المشركين لقولهم: "إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى" حيث أعطوهم الاستقلال و قصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، و لو قالوا: إنما نعبد الله وحده و نرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله و أولياؤه بإذنه أو نتوسل إلى الله بتعظيم شعائره و حب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة و ليست بمعبودة، و إنما يعبد بالتوجه إليها الله.

و ليت شعري ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود و ما شرع في الإسلام من استلامه و تقبيله؟ و كذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا و لا استثناء، أو أن ذلك من عبادة الله محضا و للحجر حكم الطريق و الجهة، و حينئذ فما الفرق بينه و بين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال و تمحيض العبادة، و مطلقات تعظيم شعائر الله و تعزير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حبه و مودته و حب أهل بيته و مودتهم و غير ذلك في محلها.

11 سورة هود - 50 - 60

وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْترُونَ (50) يَقَوْمِ لا أَسئَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى الّذِى فَطرَنى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يَقَوْمِ استَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمَاءَ عَلَيْكم مِّدْرَاراً وَ يَزِدْكمْ قُوّةً إِلى قُوّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلّوْا مجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَ مَا نحْنُ بِتَارِكى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِك وَ مَا نحْنُ لَك بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نّقُولُ إِلا اعْترَاك بَعْض ءَالِهَتِنَا بِسوءٍ قَالَ إِنى أُشهِدُ اللّهَ وَ اشهَدُوا أَنى بَرِىءٌ مِّمّا تُشرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونى جَمِيعاً ثُمّ لا تُنظِرُونِ (55) إِنى تَوَكلْت عَلى اللّهِ رَبى وَ رَبِّكم مّا مِن دَابّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتهَا إِنّ رَبى عَلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكم مّا أُرْسِلْت بِهِ إِلَيْكمْ وَ يَستَخْلِف رَبى قَوْماً غَيرَكمْ وَ لا تَضرّونَهُ شيْئاً إِنّ رَبى عَلى كلِّ شىْءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمّا جَاءَ أَمْرُنَا نجّيْنَا هُوداً وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنّا وَ نجّيْنَهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَ تِلْك عَادٌ جَحَدُوا بِئَايَتِ رَبهِمْ وَ عَصوْا رُسلَهُ وَ اتّبَعُوا أَمْرَ كلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فى هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا إِنّ عَاداً كَفَرُوا رَبهُمْ أَلا بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

بيان

تذكر الآيات قصة هود النبي و قومه و هم عاد الأولى، و هو (عليه السلام) أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح (عليه السلام)، و يشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة و الانتهاض على الوثنية، و يعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه: "قوم نوح و عاد و ثمود".

قوله تعالى: "و إلى عاد أخاهم هودا" كان أخاهم في النسب لكونه منهم و أفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، و الجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا: "نوحا إلى قومه" و التقدير: "و لقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا" و لعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل: "و إلى عاد أخاهم" إلخ، و لم يقل: و هودا إلى عاد مثلا كما قال: "نوحا إلى قومه" لأن دلالة الظرف أعني: "إلى عاد" على تقدير الإرسال أظهر و أوضح.

قوله تعالى: "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون" الكلام وارد مورد الجواب كان السامع لما سمع قوله: "و إلى عاد أخاهم هودا" قال: فما ذا قال لهم؟ فقيل: "قال يا قوم اعبدوا الله" إلخ، و لذا جيء بالفصل من غير عطف.

و قوله: "اعبدوا الله" في مقام الحصر أي اعبدوه و لا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى.

و الدليل على الحصر المذكور قوله بعد: "ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون" حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة و الشفاعة.

قوله تعالى: "يا قوم لا أسألكم عليه أجرا" إلى آخر الآية، قال في المجمع، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، و منه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر.

انتهى، و قال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا - إلى أن قال - و فطر الله الخلق و هو إيجاد الشيء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع و ركز في الناس من معرفته، و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.

انتهي.

و الظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، و الخصوصية المفهومة من مثل قوله: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة و هي فعلة، و على هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، و إنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى: "و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير:" المائدة: - 110.



و الكلام مسوق لرفع التهمة و العبث و المعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا و جزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي و إن أضر بكم، و لست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني و أبدعني أ فلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.

قوله تعالى: "و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا" إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله: "استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" في صدر السورة.

و قوله: "يرسل السماء عليكم مدرارا" في موقع الجزاء لقوله: "استغفروا ربكم" إلخ، أي إن تستغفروه و تتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، و المراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا و أظل فهو سماء، و قيل المطر و هو شائع في الاستعمال، و المدرار مبالغة من الدر، و أصل الدر اللبن ثم استعير للمطر و لكل فائدة و نفع فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض و ينبت الزرع و العشب، و تنضر بها الجنات و البساتين.

و قوله: "و يزدكم قوة إلى قوتكم" قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان و قد كان القوم أولي قوة و شدة في أبدانهم و لو أنهم آمنوا انضافت قوة الإيمان على قوة أبدانهم و قيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين:" نوح: - 12 و لعل التعميم أولى.

و قوله: "و لا تتولوا مجرمين" بمنزلة التفسير لقوله: "استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم و معصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم و ارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة و زيادة قوة إلى قوتكم.

و في الآية "أولا" إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء و الجدب و السنة كما ربما أومأ إليه قوله: "يرسل السماء" و كذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم:" الأحقاف: - 24.

و ثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية و بين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات و نزول البركات، و الأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا و المحن، و تجلب النقمة و الشقوة و الهلكة كما يشير إليه قوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض:" الآية الأعراف: - 96، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات 94 - 102 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و في أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى: "قالوا يا هود ما جئتنا ببينة و ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك و ما نحن لك بمؤمنين" سألهم هود في قوله: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم و يعودوا إلى عبادة الله وحده و أن يؤمنوا به و يطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا و تفصيلا: أما إجمالا فبقولهم: "ما جئتنا ببينة" يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة و الآية المعجزة و لا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.



و أما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: "و ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك" و عن دعوته إياهم إلى الإيمان و الطاعة بقولهم: "و ما نحن لك بمؤمنين" فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثم ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء" و الاعتراء الاعتراض و الإصابة يقولون: إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل و الجنون لشتمك إياها و ذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى: "قال إني أشهد الله و اشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون" أجاب هود (عليه السلام) عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا و لا ينظروه.

فقوله: "إني بريء مما تشركون من دونه" إنشاء و ليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري، و لا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل، و قوله: "فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون" أمر و نهي تعجيزيان.

و إنما أجاب (عليه السلام) بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه (عليه السلام) بسوء مع تبرزه بالبراءة، و لو كانت آلهة ذات علم و قدرة لقهرته و انتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء و هذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة و على أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوي شدة و قوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة و البطش، و لو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع.

و من هنا يظهر وجه إشهاده (عليه السلام) في تبريه ربه سبحانه و قومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته و عن ظهر القلب من غير تزويق و نفاق، و أما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم و عجز أنفسهم من الانتقام منه و من تنكيله.

و ظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود (عليه السلام) و ذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، و فيها قولهم: "ما جئتنا ببينة" و من المستبعد جدا أن يهمل النبي هود (عليه السلام) في دعوته و حجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي و التعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله و عن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحق أن قوله: "إني أشهد الله و اشهدوا" إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، و على آية معجزة لصحة رسالة هود (عليه السلام).

و في قوله: "جميعا" إشارة إلى أن مراده تعجيزهم و تعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق و كونهم على الباطل.

قوله تعالى: "إني توكلت على الله ربي و ربكم" إلى آخر الآية.



لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم و عدم قدرته، و صالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم و إن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه و إكراهه على الطاعة و حمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون: "فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا:" طه: - 72.

و كان قوله: "فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون" محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم و إن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله: "إني توكلت على الله ربي و ربكم" فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره و أمرهم ثم عقبه بقوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق و إظهاره على الباطل إذا تقابلا و تغالبا.

فتبريه من أصنامهم و تعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله: "فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون" ثم لبثه بينهم في عافية و سلامة لا يمسونه بسوء و لا يستطيعون أن ينالوه بشر آية معجزة و حجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.

و قوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، و الأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة و نهاية القدرة، و كونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة و هو تدبير الأمور على منهاج العدل و الحكمة فهو يحق الحق و يبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى أني توكلت على الله ربي و ربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم و هو التبرز بالبراءة من آلهتكم و أنكم و آلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي و عليكم و على كل دابة، و سنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه و يحفظني من شركم.

و لم يقل: "إن ربي و ربكم على صراط مستقيم" على وزان قوله: "على الله ربي و ربكم" فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، و هو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه و يستمسك برابطة العبودية التي بينه و بين ربه حتى ينجح طلبته، و هذا بخلاف مقام قوله: "توكلت على الله ربي و ربكم" فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة و الإحاطة.

قوله تعالى: "فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم" و هذه الجملة من كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء" الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به و دائمون على الجحد، و المعنى إن تتولوا و تعرضوا عن الإيمان بي و الإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي و تمت عليكم الحجة و لزمتكم البلية.

قوله تعالى: "و يستخلف ربي قوما غيركم و لا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ" هذا وعيد و إخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله و يتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا و يزيد قوة إلى قوتهم، و نهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.



و قوله: "و يستخلف ربي قوما غيركم" أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة:" البقرة: - 30، و قد كان (عليه السلام) بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه: "و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح و زادكم في الخلق بسطة:" الآية، الأعراف: - 69.

و ظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، و التقدير: و سيذهب بكم ربي و يستخلف قوما غيركم على حد قوله: "إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء:" الأنعام: - 133.

و قوله: "و لا تضرونه شيئا" ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشيء من الفوت و غيره إن أراد أن يهلككم و لا أن تعذيبكم و إهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شيء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب و لا يفوت من قدرته فائت، و للمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: "و لما جاء أمرنا نجينا هودا و الذين آمنوا معه برحمة منا و نجيناهم من عذاب غليظ" المراد بمجيء الأمر نزول العذاب و بوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول و بين قومه كما قال تعالى: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون:" المؤمن: - 78.

و قوله: "برحمة منا" الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم و إنجاءهم من شمول الغضب الإلهي و عذاب الاستئصال، قال تعالى: "إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد:" المؤمن: - 51.

و قوله: "و نجيناهم من عذاب غليظ" ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، و قيل: المراد به عذاب الآخرة و ليس بشيء.

قوله تعالى: "و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد" الآية و ما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله: "و تلك عاد - إلى قوله - و يوم القيامة" يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة و الموعظة و الآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد و ميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

و عصوا رسل ربهم و هم هود و من قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود و عصوا بعصيانه سائر رسل الله و هو ظاهر قوله في موضع آخر: "كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود أ لا تتقون:" الشعراء: - 124.

و يشعر به أيضا قوله: "و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه:" الأحقاف: - 21، و من الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود و نوح (عليهما السلام) لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

و اتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود و ما كان يدعو إليه، و الجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته و يكرههم على ما أراد و العنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم و هو الجحد بالآيات و عصيان الرسل و طاعة الجبابرة.



ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: "و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة" أي و أتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة و إبعادا من الرحمة، و مصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام و السيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك و الكفر لمن بعدهم، قال تعالى: "و نكتب ما قدموا و آثارهم:" يس: - 12.

و قيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم، و من أدرك آثارهم، و كل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

و أما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

و في تعقيب قوله في الآية: "و اتبعوا" بقوله: "و أتبعوا" لطف ظاهر.

قوله تعالى: "ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود" أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض و هذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به التلخيص الأول فقوله: "ألا إن عادا" إلخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله: "و تلك عاد جحدوا" إلخ، و قوله: "ألا بعدا لعاد" إلخ، يحاذي به قوله: "و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة" إلخ.

و يتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس، و الأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة و خاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): في قوله: "إن ربي على صراط مستقيم" يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسيىء سيئا، و يعفو عمن يشاء و يغفر، سبحانه و تعالى.

أقول: و قد تقدم توضيحه، و قد ورد في الرواية عنهم (عليهم السلام): أن عادا كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخيل كثيرة، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة فعبدوا الأصنام، و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا.

الحديث.

و روي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال: أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: "استغفروا ربكم ثم توبوا إليه - يرسل السماء عليكم مدرارا" فأبوا إلا تماديا، و قد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

و اعلم أن الروايات في قصة هود و عاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب و لا إلى تأييدها بالاعتبار و لذلك طوينا ذكرها.

و ورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة و أهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك و هي المذكورة في قوله تعالى: "إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد:" الفجر: - 8، و سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

كلام في قصة هود

1 - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم و انمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها و ليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

و الذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا - و ربما يسميهم عادا الأولى النجم: 50 و فيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف 1 من شبه جزيرة العرب" الأحقاف: 21 بعد قوم نوح الأعراف: 69.



كانت لهم أجساد طويلة القمر: 20، الحاقة: 7 و كانوا ذوي بسطة في الخلق الأعراف: 69 أولي قوة و بطش شديد حم السجدة: 15، الشعراء: 130 و كان لهم تقدم و رقي في المدنية و الحضارة، لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنات و نخيل و زروع و مقام كريم الشعراء و غيرها، و ناهيك في رقيهم و عظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم: "أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد:" الفجر: - 8.

لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية و بنوا بكل ريع آية يعبثون و اتخذوا مصانع لعلهم يخلدون و أطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق و يرشدهم إلى أن يعبدوا الله و يرفضوا الأوثان، و يعملوا بالعدل و الرحمة الشعراء: 130 فبالغ في وعظهم و بث النصيحة فيهم، و أنار الطريق و أوضح السبيل، و قطع عليهم العذر فقابلوه بالآباء و الامتناع، و واجهوه بالجحد و الإنكار و لم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون و أصر جمهورهم على البغي و العناد، و رموه بالسفه و الجنون، و ألحوا عليه بأن ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم و يتوعدهم به قال: "إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به و لكني أراكم قوما تجهلون: الأحقاف: - 23.

فأنزل الله عليهم العذاب و أرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم الذاريات: 42 ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية الحاقة: 7 و كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر القمر: 20.

و كانوا بادىء ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: عارض ممطرنا و قد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم الأحقاف: 25 فأهلكهم الله عن آخرهم و أنجى هودا و الذين آمنوا معه برحمة منه هود: 58.

2 - شخصية هود المعنوية:

و أما هود (عليه السلام) فهو من قوم عاد و ثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق و دحض الوثنية ممن ذكر الله قصته و ما قاساه من المحنة و الأذى في جنب الله سبحانه، و أثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام و أشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.

11 سورة هود - 61 - 68

وَ إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحاً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ هُوَ أَنشأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَ استَعْمَرَكمْ فِيهَا فَاستَغْفِرُوهُ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنّ رَبى قَرِيبٌ مجِيبٌ (61) قَالُوا يَصلِحُ قَدْ كُنت فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَذَا أَ تَنْهَانَا أَن نّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا وَ إِنّنَا لَفِى شكٍ مِّمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَقَوْمِ أَ رَءَيْتُمْ إِن كنت عَلى بَيِّنَةٍ مِّن رّبى وَ ءَاتَاخ مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصرُنى مِنَ اللّهِ إِنْ عَصيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنى غَيرَ تَخْسِيرٍ (63) وَ يَقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكلْ فى أَرْضِ اللّهِ وَ لا تَمَسوهَا بِسوءٍ فَيَأْخُذَكمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتّعُوا فى دَارِكمْ ثَلَثَةَ أَيّامٍ ذَلِك وَعْدٌ غَيرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا نجّيْنَا صلِحاً وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنّا وَ مِنْ خِزْىِ يَوْمِئذٍ إِنّ رَبّك هُوَ الْقَوِى الْعَزِيزُ (66) وَ أَخَذَ الّذِينَ ظلَمُوا الصيْحَةُ فَأَصبَحُوا فى دِيَرِهِمْ جَثِمِينَ (67) كَأَن لّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنّ ثَمُودَا كفَرُوا رَبهُمْ أَلا بُعْداً لِّثَمُودَ (68)

بيان

تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي (عليه السلام) و قومه و هم ثمود، و هو (عليهما السلام) ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية.

دعا ثمود إلى التوحيد و تحمل الأذى و المحنة في جنب الله حتى قضي بينه و بين قومه بهلاكهم و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: "و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.

قوله تعالى: "هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها" إلى آخر الآية.

قال الراغب الإنشاء إيجاد الشيء و تربيته و أكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال: "هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار".

انتهى، و قال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: "و عمارة المسجد الحرام" يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال: "و عمروها أكثر مما عمروها" "و البيت المعمور" و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: "و استعمركم فيها" انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.

و على ما مر يكون معنى قوله: "هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها" - و الكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس.

فقول صالح: "هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها" في مقام التعليل و حجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" و لذلك جيء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها.

و ذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان و يتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون - على مزعمتهم - إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم و أرفع و أبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، و لا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي و تدبير النظام الجاري فيه و نتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، و لا يسخط علينا و نأمن بذلك الشرور، و هذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة و رب الأرباب، و إليه يرجع الأمر كله.

فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه و بين الإنسان و استقرارها بينه و بين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، و شفاعتها عند الله.



و لما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض و استعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه، و لا استقلال لشيء من هذه الأسباب التي نظمها و أجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقب شر بالإسخاط.

فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، و يتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان و لكل شيء المدبر أمره و أمر كل شيء فقوله: "هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها" مسوق لتعليل سابقه و الاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى و بين الإنسان و نفي الاستقلال من الأسباب.

و لذلك عقبه بقوله: "فاستغفروه ثم توبوا إليه" على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه و تتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، و ارجعوا إليه بالإيمان به و عبادته.

إنه قريب مجيب.

و قد علل قوله: "فاستغفروه" إلخ، بقوله: "إن ربي قريب مجيب" لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان و تربيته و تدبير أمر حياته، و أنه لا استقلال لشيء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، و يصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان و بين حوائجه و جميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم و لا يناله عبادة و قربان، و إذا كان قريبا فهو مجيب، و إذا كان قريبا مجيبا و هو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.

قوله تعالى: "قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا" إلخ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله و آثاره، و لا يرجى منها إلا الخير و النفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد و كمال في شخصه و بيته فيستهل منه الخير و يترقب منه النفع، و قوله: "قد كنت فينا" دليل على كونه مرجوا لعامتهم و جمهورهم.

فقولهم: "يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا" معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم و تحمل الأمة على صراط الترقي و التعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد و الكمال لكنهم يئسوا منك و من رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول و أقمت من الدعوة.

و قولهم: "أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا" استفهام إنكاري بداعي المذمة و الملامة، و الاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم و تمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، و استمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، و وحدة قومية لها استقامة في الرأي و الإرادة.

و الدليل على ما ذكرنا قوله: "أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا" الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء و لم يقل: أ تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ و الفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.

و من هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار و غيره قوله: "أن نعبد ما يعبد آباؤنا" بقولهم: "أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا" من الخطإ.



و قوله: "و إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب" حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح (عليه السلام)، و حجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية و محصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة و تهدم بنيان مليتهم، و تميت ذكرهم فعلينا أن نرده، و الثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين و تميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه و ليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.

و الإرابة الاتهام و إساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك و أرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه و سوء الظن به.

قوله تعالى: "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني منه رحمة" إلى آخر الآية.

المراد بالبينة الآية المعجزة و بالرحمة النبوة، و قد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح (عليه السلام) في السورة.

و قوله: "فمن ينصرني من الله إن عصيته" جواب الشرط، و حاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبىء عن صحة دعوتي و أعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله و يدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون و وافقتكم فيما تريدونه مني و هو ترك الدعوة.

ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم و اعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.

و قوله: "فما تزيدونني غير تخسير" تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين و الاعتذار عن مخالفتهم و القيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة و الرجوع إليكم و اللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.

و قيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة.

و قيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم و الوجه الأول أوجه.

قوله تعالى: "و يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب" إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله و كتابة الله.

و كانت الناقة آية معجزة له (عليه السلام) تؤيد نبوته، و قد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، و قال لهم: أنها تأكل في أرض الله محررة، و حذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل.

و أخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، و هذا معنى الآية.

قوله تعالى: "فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب" عقر الناقة نحرها، و الدار هي المكان الذي يبنيه الإنسان فيسكن فيه و يأوي إليه هو و أهله، و المراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، و قيل المراد بالدار الدنيا، و هو بعيد.

و المراد بتمتعهم في مدينتهم العيش و التنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيئوها فيها من مناظر ذات بهجة و الأثاث و المأكول و المشروب و الاسترسال في أهواء أنفسهم.

و قوله: "ذلك وعد غير مكذوب" الإشارة إلى قوله: "تمتعوا" إلخ، و "وعد غير مكذوب" بيان له.

قوله تعالى: "فلما جاء أمرنا نجينا صالحا" إلى آخر الآية.

أما قوله: "فلما جاء أمرنا نجينا صالحا و الذين آمنوا معه برحمة منا" فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود.

و أما قوله: "و من خزي يومئذ" فمعطوف على محذوف و التقدير نجيناهم من العذاب و من خزي يومئذ، و الخزي العيب الذي تظهر فضيحته و يستحيي من إظهاره أو أن التقدير: نجيناهم من القوم و من خزي يومئذ على حد قوله: "و نجني من القوم الظالمين".



و قوله: "إن ربك هو القوي العزيز" في موضع التعليل لمضمون صدر الآية و فيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و قد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله: "ألا إن عادا كفروا ربهم" و الوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية و كفرهم بالربوبية و كفرانهم نعم ربهم.

قوله تعالى: "و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين" يقال: جثم جثوما إذا وقع على وجهه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "كأن لم يغنوا فيها" غني بالمكان أي أقام فيه و الضمير راجع إلى الديار.

قوله تعالى: "ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود" الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود و دعوة صالح (عليه السلام)، و الثانية تلخيص ما جازاهم الله به، و قد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.

بحث روائي



في الكافي، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: "كذبت ثمود بالنذر - فقالوا أ بشرا منا واحدا نتبعه - إنا إذا لفي ضلال و سعر" قال: هذا فيما كذبوا صالحا، و ما أهلك الله عز و جل قوما قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم. فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه و عتوا عليه، و قالوا لن نؤمن لك حتى تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء و كانت الصخرة يعظمونها و يعبدونها و يذبحون عندها في رأس كل سنة و يجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه. ثم أوحى الله تبارك و تعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم و لكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير و كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله. ثم إنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم و لها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يقال له: قدار شقي من الأشقياء مشئوم عليهم فجعلوا له جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت و أقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا فضربها ضربة أخرى فقتلها و خرت على الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلا أكل منها. فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم و قال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أ عصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إلى صالح (عليه السلام): إن قومك قد طغوا و بغوا و قتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم و لم يكن لهم فيها ضرر و كان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث. فأتاهم صالح و قال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم و هو يقول لكم: إن تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلما قال لهم ذلك +" قالوا ظ "+ كانوا أعتى ما قالوا و أخبث و قالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة، و اليوم الثاني وجوهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها و لم يتوبوا و لم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم و قد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعا في طرفة عين: صغيرهم و كبيرهم فلم يبق لهم ناعقة و لا راعية و لا شيء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، و كانت هذه قصتهم.

أقول: و اشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن الناقة و كذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، و قد نص القرآن الكريم بذلك، و بأنها كانت لها شرب يوم و لأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم.

و أما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم إماتتهم بصوتها و أحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت و الحياة و الرزق و غيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.

و قوله (عليه السلام): إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت.

و قد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل و هو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال و لا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه و لم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا، و مع ذلك لا يخلو قوله تعالى: "لها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم" من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جدا.

كلام في قصة صالح في فصول

1 - ثمود قوم صالح (عليه السلام)

: ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة و الشام، و هم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا يسيرا من أخبارهم، و لقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.

و الذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيهم و قد كان منهم هود: 61 نشئوا بعد قوم عاد و لهم حضارة و مدنية يعمرون الأرض و يتخذون من سهولها قصورا و ينحتون من الجبال بيوتا آمنين الأعراف: 74 و من شغلهم الفلاحة بإجراء العيون و إنشاء الجنات و النخيل و الحرث الشعراء: 148.

كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب و القبائل يحكم فيهم سادتهم و شيوخهم و قد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون النمل: 48 فطغوا في الأرض و عبدوا الأصنام و أفرطوا عتوا و ظلما.

2 - بعثة صالح (عليه السلام):

لما نسيت ثمود ربها و أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان من بيت الشرف و الفخار معروفا بالعقل و الكفاية هود 62 - النمل 49 فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه و أن يتركوا عبادة الأصنام و أن يسيروا في مجتمعهم بالعدل و الإحسان، و لا يعلوا في الأرض و لا يسرفوا و لا يطغوا و أنذرهم بالعذاب" هود - الشعراء - الشمس و غيرها.



فقام (عليه السلام) بالدعوة إلى دين الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و صبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم الأعراف: 75 و أما الطغاة المستكبرون و عامة من تبعهم فأصروا على كفرهم و استذلوا الذين آمنوا به و رموه بالسفاهة و السحر الأعراف 66 - الشعراء 153 - النمل 47.

و طلبوا منه البينة على مقاله، و سألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، و اقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، و قال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما و تكفوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم، و أن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب الأعراف 72 - هود 64 - الشعراء 156.

و كان الأمر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا و مكروا و بعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، و قالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.

قال صالح (عليه السلام): تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب: هود - 65.

ثم مكرت شعوب المدينة و أرهاطها بصالح و تقاسموا بينهم لنبيتنه و أهله ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون، و مكروا مكرا و مكر الله مكرا و هم لا يشعرون النمل 50 فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون: الذاريات - 44 و الرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين الأعراف 79 - هود 67 و أنجى الله الذين آمنوا و كانوا يتقون حم السجدة 18 و نادى بعدهم المنادي الإلهي: ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.

3 - شخصية صالح (عليه السلام)

: لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر.

كان (عليه السلام) من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله و النهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح و هود، و يحمده و يثني عليه بما أثنى به على أنبيائه و رسله، و قد اختاره و فضله كسائرهم على العالمين (عليهم السلام).

11 سورة هود - 69 - 76

وَ لَقَدْ جَاءَت رُسلُنَا إِبْرَهِيمَ بِالْبُشرَى قَالُوا سلَماً قَالَ سلَمٌ فَمَا لَبِث أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمّا رَءَا أَيْدِيهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكرَهُمْ وَ أَوْجَس مِنهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تخَف إِنّا أُرْسِلْنَا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قَائمَةٌ فَضحِكَت فَبَشرْنَهَا بِإِسحَقَ وَ مِن وَرَاءِ إِسحَقَ يَعْقُوب (71) قَالَت يَوَيْلَتى ءَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلى شيْخاً إِنّ هَذَا لَشىْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَت اللّهِ وَ بَرَكَتُهُ عَلَيْكمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنّهُ حَمِيدٌ مجِيدٌ (73) فَلَمّا ذَهَب عَنْ إِبْرَهِيمَ الرّوْعُ وَ جَاءَتْهُ الْبُشرَى يجَدِلُنَا فى قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنّ إِبْرَهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّهٌ مّنِيبٌ (75) يَإِبْرَهِيمُ أَعْرِض عَنْ هَذَا إِنّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّك وَ إِنهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيرُ مَرْدُودٍ (76)

بيان

تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم (عليه السلام) بالولد، و أنها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي (عليه السلام) لإهلاك قومه فإن تلك القصة ذيل هذه القصة و في آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الإهلاك و هو قوله: "إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود" الآية.

قوله تعالى: "و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى" إلى آخر الآية البشرى هي البشارة، و العجل ولد البقرة، و الحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ و هو اللحم المشوي على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوي على حجارة محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين، و ذكر بعضهم أنه المشوي الذي يقطر ماء و سمنا، و قيل: هو مطلق المشوي، و قوله تعالى في سورة الذاريات في القصة: "فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين" لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني.

و قوله: "و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى" معطوف على قوله سابقا: "و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه" قال في المجمع،: و إنما دخلت اللام لتأكيد الخبر و معنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و قد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع.

انتهي.

و الرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة و إلى لوط لإهلاك قومه و قد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ الجمع - الرسل - على ذلك، و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، و سيأتي نقلها إن شاء الله في البحث الروائي.

و البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم (عليه السلام) لم يذكر بلفظها في القصة، و التي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، و إنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر و الذاريات، و لم يصرح فيهما باسم من بشر به إبراهيم أ هو إسحاق أم إسماعيل (عليهما السلام) أو أنهم بشروه بكليهما؟ و ظاهر سياق القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق، و سيأتي البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصة.

و قوله: "قالوا سلاما قال سلام" أي تسالموا هم و إبراهيم فقالوا: سلاما أي سلمنا عليك سلاما، و قال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام.

و السلام الواقع في تحية إبراهيم (عليه السلام) نكرة و وقوعه نكرة في مقام التحية دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم و مزيد التكريم و التقدير: عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه، و لذا ذكر بعض المفسرين: أن رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا منه أنهم ضيف و قوله: "فما لبث أن جاء بعجل حنيذ" أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا مشويا يقطر ماء و سمنا و أسرع في ذلك.

قوله تعالى: "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة" عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام، و ذلك أمارة العداوة و إضمار الشر، و نكرهم و أنكرهم بمعنى واحد و إنما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود.

و الإيجاس الخطور القلبي، قال الراغب: الوجس الصوت الخفي، و التوجس التسمع، و الإيجاس وجود ذلك النفس قال: و أوجس منهم خيفة، و الواجس قالوا: هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر.

انتهي.

فالجملة من الكناية كان لطروق الخيفة - و هو النوع من الخوف - و خطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي، و المراد أنه استشعر في نفسه خوفا و لذلك أمنوه و طيبوا نفسه بقولهم: "لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط".

و معنى الآية أن إبراهيم (عليه السلام) لما قدم إليهم العجل المشوي رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل - و ذلك أمارة الشر - استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا له و تطييبا لنفسه: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين من الأكل و الشرب و ما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية، و أنهم مرسلون لخطب جليل.

و نسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم (عليه السلام) لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية و الرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف و هو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه و المبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل، و إنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس و ظهور العي و الفزع و الذهول عن التدبير لدفع المكروه و هو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقا و هو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شيء.

و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس و منها التأثر و الانفعال عند مشاهدة المكروه و الشر كالشوق و الميل و الحب و غير ذلك عند مشاهدة المحبوب و الخير عبثا باطلا فإن جلب الخير و النفع و دفع الشر و الضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها و عليه يدور رحى الوجود في نظامه العام.

و لما كان هذا النوع المسمى بالإنسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور و الإرادة كان عمل الجلب و الدفع فيه مترشحا عن شعوره و إرادته، و لا يتم إلا عن تأثر نفساني يسمى في جانب الحب ميلا و شهوة و في جانب البغض و الكراهة خوفا و وجلا.

ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الإنسان إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي و هو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على ما ينبغي و هو فضيلة العفة و هما حدا الاعتدال بين الإفراط و التفريط، و أما انتفاء التأثر بأن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع و هو التهور، أولا تنزع نفسه إلى شيء مطلوب قط في باب الجلب و الشهوة و هو الخمول و كذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الإنسان نفسه و يذهل عن واجب رأيه و تدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع و هو الجبن أو ينكب على كل ما تهواه نفسه و تشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة و هو الشره فجميع هذه من الرذائل.

و الذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور، و ليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه، و هو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، و إنما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي و التدبير و يستتبع العي و الانهزام.



قال تعالى: "الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله:" الأحزاب: - 39، و قال مخاطبا لموسى (عليه السلام): "لا تخف إنك أنت الأعلى:" طه: - 68، و قال حكاية عن قول شعيب له (عليه السلام): "لا تخف نجوت من القوم الظالمين:" القصص: - 25، و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء:" الأنفال: - 58.

و الخليل (عليه السلام) هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يذكر اسم الله وحده، و نازع وثنية قومه فحاج أباه آزر و قومه و حاج الملك الجبار نمرود و كان يدعي الألوهية، و كسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شيء من تلك المهاول، و لا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، و مثل هذا النبي على ما له من الموقف الروحي إن خاف من شيء أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر - على اختلاف تعبير الآيات - فإنما يخافه خوف حزم و لا يخافه خوف جبن، و إذا خاف من شيء على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه.

قوله تعالى: "و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحق يعقوب" ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، و يؤيده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه: "فبشرناها" إلخ، و يكون ضحكها أمارة تقرب البشرى إلى القبول، و آية تهيىء نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشرون به، و يكون ذكر قيامها لتمثيل المقام و أنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض و هي عجوز، و إنما كانت قائمة تنظر ما يجري عليه الأمر بين بعله و بين الضيفان النازلين به و تحادثهم.

و المعنى أن إبراهيم (عليه السلام) كان يكلمهم و يكلمونه في أمر الطعام و الحال أن امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين الضيفان و بين إبراهيم و ما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ففاجأها أنها حاضت فبشرته الملائكة بالولد.

و أكثر المفسرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا في توجيه سببه، و أقرب الوجوه هو أن يقال: إنها كانت قائمة هناك و قد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل و هو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم و أن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت و فرحت فضحكت فبشروه بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب.

و هناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم إنها ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الأكل و الحال أنها تخدمهم بنفسها، و قولهم: إنها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضم إليه لوطا لأن فحشاء قومه سيعقبهم العذاب و الهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم: إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت و ضحكت لإصابتها في الرأي، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا مما بشروها به من الولد و هي عجوز عقيم، و على هذا ففي الكلام تقديم و تأخير و التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت.

و قوله: "فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحق يعقوب" إسحاق هو ابنها من إبراهيم، و يعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام) فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق و إسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد.

هذا على قراءة يعقوب بالفتح و هو منزوع الخافض و قرىء برفع يعقوب و هو بيان لتتمة البشارة، و الأولى أرجح.

و كان في هذا التعبير: "و من وراء إسحق يعقوب" إشارة إلى وجه تسمية يعقوب (عليه السلام) بهذا الاسم، و هو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق و قد ذكر فيها أنه وراءه، و يكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به.

قال في التوراة الحاضرة: و كان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه "رفقة" بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الأرام، و صلى إسحاق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته و تزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلما ذا أنا، فمضت لتسأل الرب فقال لها الرب: في بطنك أمتان، و من أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، و كبير يستعبد لصغير.

فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر فدعي اسمه عيسو، و بعد ذلك خرج أخوه و يده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب.

انتهى موضع الحاجة و هذا من لطائف القرآن الكريم.

قوله تعالى: "قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب" الويل القبح و كل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة، أو فضيحة و نداؤه كناية عن حضوره و حلوله يقال: يا ويلي أي حضرني و حل بي ما فيه تحسري، و يا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.

و العجوز الشيخة من النساء، و البعل زوج المرأة و الأصل في معناه القائم بالأمر المستغني عن الغير يقال للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار و العيون بعل، و يقال للصاحب و للرب: بعل.

و منه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.

و العجيب صفة مشبهة من العجب و هو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه، و لذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة و قولها: "يا ويلتى أ ألد" إلخ، وارد مورد التعجب و التحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم و شيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار و الشين عند الناس فيضحكون منهما و يهزءون بهما و ذلك فضيحة.

قوله تعالى: "قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" المجد هو الكرم و المجيد الكريم كثير النوال و قد تقدم معنى بقية مفردات الآية.

و قولهم: "أ تعجبين من أمر الله" استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها عليها لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب و استغراب الأمر، و الأمر المنسوب إلى الله سبحانه و هو الذي يفعل ما يشاء و هو على كل شيء قدير لا وجه للتعجب منه.

على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة و مواهب عالية يتفردون بها من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة أخرى مختصة بهم من بين الناس و هو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.

و لهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا: "أ تعجبين من أمر الله" فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب و استغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شيء عليها و هو الخالق لكل شيء.

و ثانيا: "رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت" فنبهوها بذلك أن الله أنزل رحمته و بركاته عليهم أهل البيت، و ألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك.

و قوله: "إنه حميد مجيد" في مقام التعليل لقوله: "رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت" أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود و منشأ كل كرم و جود يفيض من رحمته و بركاته على من يشاء من عباده.

قوله تعالى: "فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط" الروع الخوف و الرعب و المجادلة في الأصل الإلحاح في البحث و المساءلة للغلبة في الرأي، و المعنى أنه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا و لا يضمرون له شرا.



و جاءته البشرى بأن الله سيرزقه و زوجه إسحاق و من وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب.

فقوله: "يجادلنا في قوم لوط" لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله و تقديره: أخذ يجادلنا إلخ، لأن الأصل في جواب لما أن يكون فعلا ماضيا.

و يظهر من الآية أن الملائكة أخبروه أولا: بأنهم مرسلون إلى قوم لوط ثم ألقوا إليه البشارة ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيم (عليه السلام) يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم، و العذاب نازل لا مرد له.

و الذي ذكره الله من مجادلته (عليه السلام) الملائكة هو قوله في موضع آخر: "و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين:" العنكبوت: - 32.

قوله تعالى: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" الحليم هو الذي لا يعاجل العقوبة و الانتقام، و الأواه كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء، و المنيب من الإنابة و هو الرجوع و المراد الرجوع في كل أمر إلى الله.

و الآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة: "يجادلنا في قوم لوط" و فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام) و بيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا و يستقيموا، و كان كثير التأثر من ضلال الناس و حلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم.

لا أنه (عليه السلام) كان يكره عذاب الظالمين و ينتصر لهم بما هم ظالمون و حاشاه عن ذلك.

قوله تعالى: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود" هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) و بذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء حتم و العذاب واقع لا محالة.

فقولهم: "يا إبراهيم أعرض عن هذا" أي انصرف عن هذا الجدال و لا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه.

و قولهم: "إنه قد جاء أمر ربك" أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع و لا يتبدل بمبدل و يؤيده قوله في الجملة التالية: "و إنهم آتيهم عذاب غير مردود" فإن ظاهره المستقبل و لو كان الأمر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضي البتة و يؤيده أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها:" إلخ، آية - 82 من السورة.

و قولهم: "و إنهم آتيهم عذاب غير مردود" أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم لا معقب لحكمه، و الجملة بيان لما أمر به جيء بها تأكيدا للجملة السابقة و المقام مقام التأكيد، و لذلك جيء في الجملة الأولى بضمير الشأن و قد المفيد للتحقيق، و صدرت الجملتان معا بأن، و أضافوا الأمر إلى رب إبراهيم (عليه السلام) دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و كروبيل فمروا بإبراهيم فسلموا عليه و هم معتمون فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي و كان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه فقربه إليهم فلما وضع بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم و أوجس منهم خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟ قال: نعم فمرت به امرأته فبشرها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فقالت: ما قال الله عز و جل و أجابوها بما في الكتاب. فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: و إن كان فيهم خمسون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم خمسة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين ثم مضوا. قال: و قال الحسن بن علي: لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: "يجادلنا في قوم لوط" الحديث و له تتمة ستوافيك في قصة لوط.

أقول: و قوله: "لا أعلم هذا القول إلا و هو يستقبيهم" يمكن استفادته من قوله تعالى: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" فإنه أنسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبي الله لوط.

على أن قوله: "يجادلنا في قوم لوط" و قوله: "إنهم آتيهم عذاب غير مردود" إنما يناسب استبقاء القوم.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا.

و في معاني الأخبار، بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: فضحكت - فبشرناها بإسحق قال: حاضت.

و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم و خافهم، و إنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرىء سوء لم يأكل عنده يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم على أذاه، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله. و امرأته سارة قائمة تخدمهم، و كان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة ليخدمهم فضحكت سارة، و إنما ضحكت أنها قالت: يا إبراهيم و ما تخاف؟ إنهم ثلاثة نفر و أنت و أهلك و غلمانك. قال لها جبرئيل: أيتها الضاحكة أما إنك ستلدين غلاما يقال له: إسحاق و من ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرة فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول: وا ويلتاه و وضعت يدها على وجهها استحياء فذلك قوله: فصكت وجهها، و قالت: أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا. قال: لما بشر إبراهيم يقول الله: فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، و كان جداله أنه قال: يا جبرئيل أين تريدون؟ و إلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط و قد أمرنا بعذابهم. فقال إبراهيم إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته، و كانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أ تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا قال: إن فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته.

أقول: و في متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم: إن فيها لوطا أولا و ثانيا لكن المراد واضح.



و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما قضى عذاب قوم لوط و قدره أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم يسلي به مصابه بهلاك قوم لوط. قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم و خاف أن يكونوا سراقا فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا: سلاما. قال: سلام إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط إنهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين، قال أبو جعفر (عليه السلام): قال إبراهيم: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين. فلما عذبهم الله أرسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشرونه بإسحاق و يعزونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله: و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى - قالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فما لبث أن جاء بعجل حنيذ يعني زكيا مشويا نضيجا فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط و امرأته قائمة. قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعني فعجبت من قولهم.

أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل و البشارة بإسحاق و قد ولد بعد إسماعيل بسنين.

ثم تحمل آيات سورة الحجر - و لم يذكر فيها تقديم العجل المشوي إلى الضيوف - على البشرى بإسماعيل و لما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، و تحمل آيات سورتي الذاريات و هود - و قد اختلطتا في الرواية - على البشرى لسارة بإسحاق و يعقوب، و أنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم و أخبروه بوقوع العذاب و بشروه البشارة الثانية.

أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل و كذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقص عما بعد هلاك قوم لوط و تكون البشرى بإسحاق و يعقوب عند ذلك.

و أما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب، و لكن ما في ذيلها من قوله: "يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب" إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، و إن كان ما في صدرها من قوله: "إنا أرسلنا إلى قوم لوط" لا يأبى وحدة الحمل على ما بعد الهلاك، و كذا جملة "إنه قد جاء أمر ربك" لو لا ما يحفها من قيود الكلام.

و بالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم لوط، و عند ذلك كان جدال إبراهيم (عليه السلام)، و مقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، و كذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر و فيه التصريح بكونه قبل هلاكهم و فيه جدال إبراهيم (عليه السلام) خاليا عن بشرى إسحاق و يعقوب لا بشرى إسماعيل.

و الحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق و جدال إبراهيم (عليه السلام) الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود و الحجر و الذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، و هذا مما يوهن الرواية جدا.

و في الرواية شيء آخر و هو أنها أخذت الضحك بمعنى العجب و أخذت قوله: "فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب" من التقديم و التأخير، و أن التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت" و هو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.

و في تفسير العياشي، أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيلد لك فقال لسارة فقالت: أ ألد و أنا عجوز؟ فأوحى الله إليه: أنها ستلد و يعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي. قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا و بكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى و هارون أن يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين و مائة سنة. قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام): هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه.

أقول: وجود الرابطة بين أحوال الإنسان و ملكاته و بين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء و تأثير خاص في الآخرة ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية و الروحية طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية و الروحية.

و قد تقدم كرارا في المباحث السابقة أن بين صفات الإنسان الروحية و أعماله و بين الحوادث الخارجية خيرا و شرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض:" الأعراف: - 96، و قوله: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم:" الشورى: - 30.

فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر أثره الجميل أو وباله السيىء في أعقابه، و الملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: "و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:" النساء: - 9 كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" قال: دعاء: أقول: و روي في الكافي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن إبراهيم جادل في قوم لوط و قال: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل: يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.

و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف و الابتداء عن حسان بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات و ترك أربعة من الولد و ثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس: "فبشرناها بإسحاق - و من وراء إسحاق يعقوب" قال: ولد الولد.

كلام في قصة البشرى

قصة البشرى و سماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم (عليه السلام) وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية و هي على ترتيب القرآن سورة هود و الحجر و العنكبوت و الصافات و الذاريات.

فالأولى ما في سورة هود 69 - 76 قوله تعالى: "و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ.

فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط.

و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب.

قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب.

قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد.

فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط.

إن إبراهيم لحليم أواه منيب.

يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود".

و الثانية ما في سورة الحجر: 51 - 60 قوله تعالى: "و نبئهم عن ضيف إبراهيم.

إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.

قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم.

قال أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون.

قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.

قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.

قال فما خطبكم أيها المرسلون.

قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين.

إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين.

إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين".

و الثالثة ما في سورة العنكبوت: 31 - 32 قوله تعالى: "و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين.

قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين".



و الرابعة ما في سورة الصافات: 99 - 113 قوله تعالى: "و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين.

رب هب لي من الصالحين.

فبشرناه بغلام حليم.

فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

فلما أسلما و تله للجبين.

و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين.

إن هذا لهو البلاء المبين.

و فديناه بذبح عظيم.

و تركنا عليه في الآخرين.

سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين.

إنه من عبادنا المؤمنين.

و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين.

و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين".

و الخامسة ما في سورة الذاريات 24 - 30 قوله تعالى: "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين.

إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.

فقربه إليهم قال أ لا تأكلون.

فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم.

قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم".

و يقع البحث في قصة البشرى من وجوه: أحدها: أنها هل هي بشرى واحدة و هي المشتملة على بشرى إبراهيم و سارة بإسحاق و يعقوب و قد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنها قصتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل و الأخرى تتضمن البشرى بإسحاق و يعقوب.

ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوي، و أن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه و امرأته العجوز العقيم و هي سارة أم إسحاق قطعا، و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين - إلى أن قالوا - فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين و تركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم" الآيات و نظير ذلك ما في سورة هود و قد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء: إنا أرسلنا إلى قوم لوط.

و أما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوي بل ظاهره أن إبراهيم و أهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى: "إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم" و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.

و نظيره ما في سورة العنكبوت من القصة و هي أظهر في كون ذلك قبل الهلاك و يتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، و قد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى.

لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود و الحجر و العنكبوت و الذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق و يعقوب دون إسماعيل.

و أما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: "قالوا إنا أرسلنا الظاهر في المضي و الفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.

على أن قول الملائكة المرسلين و هم بعد في الطريق: "إنا أرسلنا" لا مانع منه بحسب اللغة و العرف.

و أما قوله: "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين" إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى و ليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.

و أما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات و هود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوي في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط التام بين أجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا و يعكس الأمر حينا آخر كما أنه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم و في سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل، و هذا كثير الورود في نظم القرآن.

على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب و هي تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، و لازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده.

على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق و بين ولادتيهما سنون، و لو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك و بشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيدة كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق و بين ولادته سنون من الزمان و البشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع إلا إذا كانت هناك عناية خاصة و أما الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد و نحو ذلك.

و ثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ و الحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات إنما هي بشرى بإسماعيل و هي غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: "فبشرناه بغلام حليم" ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا: "و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين" لا يدع ريبا لمرتاب أن الغلام الحليم الذي بشر به أولا غير إسحاق الذي بشر به ثانيا، و ليس إلا إسماعيل.

و ذكر الطبري في تاريخه أن المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، و هو كما ترى.

و قد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم (عليه السلام) في الجزء السابع من الكتاب.

و ثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، و سيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط (عليه السلام) في ذيل الآيات التالية.

و رابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة و قد وقع فيها مثل قوله: "يجادلنا في قوم لوط" و قوله: "يا إبراهيم أعرض عن هذا".

و قد تقدم أن سياق الآيات و خاصة قوله: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.

11 سورة هود - 77 - 83

وَ لَمّا جَاءَت رُسلُنَا لُوطاً سىءَ بهِمْ وَ ضاقَ بهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِن قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السيِّئَاتِ قَالَ يَقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتى هُنّ أَطهَرُ لَكُمْ فَاتّقُوا اللّهَ وَ لا تخْزُونِ فى ضيْفِى أَ لَيْس مِنكمْ رَجُلٌ رّشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْت مَا لَنَا فى بَنَاتِك مِنْ حَقٍّ وَ إِنّك لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنّ لى بِكُمْ قُوّةً أَوْ ءَاوِى إِلى رُكْنٍ شدِيدٍ (80) قَالُوا يَلُوط إِنّا رُسلُ رَبِّك لَن يَصِلُوا إِلَيْك فَأَسرِ بِأَهْلِك بِقِطعٍ مِّنَ الّيْلِ وَ لا يَلْتَفِت مِنكمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَك إِنّهُ مُصِيبهَا مَا أَصابهُمْ إِنّ مَوْعِدَهُمُ الصبْحُ أَ لَيْس الصبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَلِيَهَا سافِلَهَا وَ أَمْطرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مّنضودٍ (82) مّسوّمَةً عِندَ رَبِّك وَ مَا هِىَ مِنَ الظلِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

بيان

الآيات تذكر عذاب قوم لوط، و هي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت نزول الملائكة و دخولهم على إبراهيم (عليه السلام) و تبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط.

قوله تعالى: "و لما جاءت رسلنا لوطا سيىء بهم و ضاق بهم ذرعا و قال هذا يوم عصيب" يقال: ساءه الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، و سيء بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته و بسببه.

و الذرع مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها، و يطلق على نفس المقياس أيضا، و يقال: ضاق بالأمر ذرعا و هو كناية عن انسداد طريق الحيلة و العجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.

و العصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد و اليوم العصيب هو اليوم الذي شد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال و لا بعض أجزائه ينفك عن بعض.

و المعنى لما جاءت رسلنا لوطا و هم الملائكة النازلون بإبراهيم (عليه السلام) ساء مجيئهم لوطا، و عجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان مرد صبيحي المنظر و كان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم و يتركوهم على حالهم، و لذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال: "هذا يوم عصيب" أي شديد ملتف بعض شره ببعض.

قوله تعالى: "و جاءه قومه يهرعون إليه و من قبل كانوا يعملون السيئات" قال الراغب: يقال: هرع و أهرع ساقه سوقا بعنف و تخويف، انتهى.

و عن كتاب العين، الإهراع السوق الحثيث، انتهى.

و قوله: "و من قبل كانوا يعملون السيئات" أي و من قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي و يأتون بالمنكرات فكانوا مجترءين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، و لا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، و لا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهل كل صعب و تزين كل قبيح و وقيح.

و الجملة كالمعترضة بين قوله: "و جاءه قومه يهرعون إليه" و قوله: "قال يا قوم هؤلاء بناتي" إلخ، و هي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم و يسوقهم إلى لوط (عليه السلام) هو أنهم كانوا يعملون السيئات و صاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء و لعين به فساقهم ذلك إلى المجيء إليه و قصد السوء بأضيافه.

و أما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة و استقرار العادة سلبوا سمع القبول و أن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، و لذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم: "اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي" إلخ.

قوله تعالى: "قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم" إلى آخر الآية، لما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو أغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم و رجحه لهم بأنهن أطهر لهم.

و إنما المراد بصيغة التفضيل - أطهر - مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، و المراد هي طهارة محضا، و هو استعمال شائع، قال تعالى: "ما عند الله خير من اللهو:" الجمعة: - 11، و قال "و الصلح خير:" النساء: - 128.

و تفيد معنى الأخذ بالمتيقن.

و تقييد قوله: "هؤلاء بناتي" بقوله: "هن أطهر لكم" شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح و حاشا مقام نبي الله عن ذلك، و ذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلا و قد قال تعالى: "و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة و ساء سبيلا:" إسراء: - 32، و قال: "و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن:" الأنعام: - 151، و قد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه.

و من هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح.

و لست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ و ما معنى قوله حينئذ: "فاتقوا الله"؟ و لو كان يريد دفع الفضيحة و العار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله: "و لا تخزون في ضيفي".

و ربما قيل: إن المراد بقوله: "هؤلاء بناتي" الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث و هو سبيل فطري خير لكم و أطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.

و هو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و أما كونهم كفارا و بناته مسلمات و لا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط (عليه السلام) فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الإسلام، و قد زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنته من أبي العاص بن الربيع و هو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.

على أن قولهم في جوابه: "لقد علمت ما لنا في بناتك من حق" لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم و لا قرينة عليه.

لا يقال تعبيره (عليه السلام) بالبنات و ليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.

لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى و لا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط.

و لا اعتماد على ما تتضمنه.

و قوله: "فاتقوا الله و لا تخزون في ضيفي" بيان للمطلوب، و قوله: "و لا تخزون في ضيفي" عطف تفسيري لقوله: "فاتقوا الله" فإنه (عليه السلام) إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه و عصبية جاهلية منه، و لم يكن عنده فرق بين ضيفه و غيرهم فيما كان يردعهم، و قد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع و ألح على ذلك سنين متمادية.

و إنما علق الردع على معنى الضيافة و إضافة الضيف إلى نفسه و ذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة و الكرامة فيهم و لذلك عقب ذلك بالاستغاثة و الاستنصار بقوله: "أ ليس منكم رجل رشيد" لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له و ينجيه و ضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون:" الحجر: - 72 و لم يؤثر ذلك فيهم أثرا و لم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.

قوله تعالى: "قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد" هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق و أنه يعلم ذلك و يعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم و ما ذا يريدون.



و قد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة و ما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.

و قيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن و من لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه و هو الازدواج.

و قيل: المراد بالحق هو الحظ و النصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء و لا ميل لنا إليهن.

و الذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا: "لقد علمت ما لنا في بناتك من حق" فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك و بين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم، و هو المنع من التعرض لنساء الناس و خاصة بالقهر و الغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة و استباحة التعرض للغلمان و قضاء الوطر منهم، و قد كان لوط يردعهم عن سنتهم ذلك إذ يقول لهم: "إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء:" الأعراف: - 81 "أ تأتون الذكران من العالمين و تذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم:" الشعراء: - 166 "أ إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل و تأتون في ناديكم المنكر:" العنكبوت: - 29، و لا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شيء يثبت حقا فيه، و الجارية على تركه ينفي الحق.

و بالجملة هم يلفتون نظره (عليه السلام) إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء بحسب السنة القومية و ما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا و لعل هذا أحسن الوجوه، و بعده الوجه الثالث.

قوله تعالى: "قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" "يقال: أوى إلى كذا يأوي أويا و مأوى أي انضم إليه، و آواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه إليه.

و الركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.

الظاهر أنه لما وعظهم لوط (عليه السلام) بالأمر بتقوى الله و تهييج فتوتهم في حفظ موقعه و رعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار و الخزي، و قد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أولي الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم و يدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل و لا انماز من بينهم ذو رشد ينصره و يدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: "لقد علمت ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد" لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث و الحزن في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - و هو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد و عشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم.

فقوله: "لو أن لي بكم قوة" أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم رشيد إلي يقوم بنصرتي فأدفعكم به، و قوله: "أو آوي إلى ركن شديد" أي أو كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم مني هذا ما يعطيه ظاهر السياق.

و قيل: إن معنى قوله: "لو أن لي بكم قوة" أتمنى أن يكون لي منعة و قدرة و جماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي.

و فيه أن فيه تبديل قوله: "بكم" إلى قولنا: بهم عليكم.

و هو كما ترى.

و قيل: إن معنى "لو أن لي بكم قوة" لو قويت عليكم بنفسي.

و فيه أنه أبعد من لفظ الآية.

و قيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، و معنى الآية أنه قال لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها.

و فيه أن الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف و لا دليل من اللفظ ظاهرا يدل عليه إبهام و تعقيد من غير موجب، و كلامه تعالى أجل من ذلك.

قوله تعالى: "قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك" إلى آخر الآية عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، و المعنى لما بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة و عرفوه أنهم مرسلون من عند الله، و طيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه و لن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه: "و لقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم:" القمر: - 37، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا على الشر و ازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبطون.

و قوله: "فأسر بأهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد" الإسراء و السري بالضم السير بالليل فيكون قوله: "بقطع من الليل" نوع توضيح له، و الباء للمصاحبة أو بمعنى في.

و القطع من الشيء طائفة منه و بعضه، و الالتفات افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: "قالوا أ جئتنا لتلفتنا" أي تصرفنا، و منه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، و امرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره.

انتهي.

و القول دستور من الملائكة للوط (عليه السلام) إرشادا له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، و فيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد: "إن موعدهم الصبح".

و المعنى أنا مرسلون لعذاب القوم و هلاكهم فانج أنت بنفسك و أهلك و سيروا أنت و أهلك بقطع من هذا الليل و أخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، و لا كثير وقت بينك و بين الصبح و لا ينظر أحدكم إلى وراء.

و ما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السري مما لا يلتفت إليه.

و قوله: "إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم" ظاهر السياق أنه استثناء من قوله: "أهلك" لا من قوله: "أحد" و في قوله: "إنه مصيبها ما أصابهم" بيان السبب لاستثنائها، و قال تعالى في غير هذا الموضع: "إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين:" الحجر: - 60.

و قوله: "إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب" أي موعد هلاكهم الصبح و هو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر: "فأخذتهم الصيحة مشرقين:" الحجر: - 73.

و الجملة الأولى تعليل لقوله: "فأسر بأهلك بقطع من الليل" و فيه نوع استعجال كما تقدم، و يؤكده قوله: "أ ليس الصبح بقريب" و من الجائز أن يكون لوط (عليه السلام) يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: "إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب" أي إن من المقدر أن يهلكوا بالصبح و ليس موعدا بعيدا أو يكون الجملة الأولى استعجالا من الملائكة، و الثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.

و لم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم و المحل الذي يتوجهون إليه، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه: "فأسر بأهلك بقطع من الليل و اتبع أدبارهم و لا يلتفت منكم أحد و امضوا حيث تؤمرون:" الحجر: - 65، و ظاهره أن الملائكة لم يذكروا له المقصد و أحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإلهي.



قوله تعالى: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك" ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، و السجيل على ما في المجمع، بمعنى السجين و هو النار، و قال الراغب: السجين حجر و طين مختلط، و أصله فيما قيل فارسي معرب، انتهى.

يشير إلى ما قيل إن أصله سنكك كل، و قيل: إنه مأخوذ من السجل بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الإهلاك، و قيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت.

و الظاهر أن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرب المفيد معنى الحجر و الطين، و السجل بمعنى الكتاب أيضا منه فإنهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثم توسع فسمي كل كتاب سجلا و إن كان من قرطاس، و الإسجال بمعنى الإرسال مأخوذ من ذلك.

و النضد هو النظم و الترتيب، و التسويم جعل الشيء ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة.

و المعنى: و لما جاء أمرنا بالعذاب و هو أمره تعالى الملائكة بعذابهم و هو كلمة "كن" التي أشار إليها في قوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له - كن:" يس: - 83، جعلنا عالي أرضهم و بلادهم سافلها بتقليبها عليهم و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلمة عند ربك و في علمه ليس لها أن تخطىء هدفها الذي رميت لأجل إصابته.

و ذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم و الإمطار بالسجيل عذب به الغائبون منهم.

و قيل: إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها.

و قيل: إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة.

و الأقوال جميعا من التحكم من غير دليل من اللفظ.

و في قوله تعالى في غير هذا الموضع: "فأخذتهم الصيحة مشرقين:" الحجر: - 73، فقد كان هناك قلب و صيحة و إمطار بالحجارة و من الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم و تحدث به زلزلة في أرضهم و انفجار أرضي بصيحة توجب قلب مدنهم، و يمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي يثيرها و يرميها، و الله أعلم.

قوله تعالى: "و ما هي من الظالمين ببعيد" قيل المراد بالظالمين ظالموا أهل مكة أو المشركون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الكلام مسوق للتهديد، و المعنى و ليست هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة و الشام، كما قال تعالى في موضع آخر: "و إنها لسبيل مقيم:" الحجر: - 76، و قال: "و إنكم لتمرون عليهم مصبحين و بالليل أ فلا تعقلون:" الصافات: - 138.

و يؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: "مسومة عند ربك" فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسومة عندنا إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسهم ليكون أقوى تأثيرا في الحجاج عليهم.

و ربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين و المراد أنه ليست الحجارة أي أمطارها من عند الله من معشر الظالمين و منهم قوم لوط الظالمون ببعيد، و يكون وجه الالتفات في قوله: "عند ربك" أيضا التعريض لقوم النبي الظالمين المشركين.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن زكريا بن محمد +" عن أبيه "+ عن عمرو عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون. فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد أخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال له: ما لك؟ فقال فإن: أبي ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني. قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه أن يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس و الثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يعجبهم منه و هم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكب مدينتهم الناس ثم تركوا نسائهم و أقبلوا على الغلمان. فلما رأى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة فقال لهن: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك و كل ذلك يعظهم لوط و يوصيهم و إبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء. فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية فمروا بلوط و هو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أ و لم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه القرية؟ إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما هي؟ قال: تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام. قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال: فجيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة و جيئي لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بني امشوا هاهنا فقالوا أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها و كان لوط يستغنم الظلام. و مر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط فلما أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: و أدخلهم الحجرة و قال: لو أن لي أهل بيت تمنعوني منكم. قال: و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا فقال له جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك و امض و دع امرأتك. فقال أبو جعفر (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حيث يقول: "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "و ما هي من الظالمين ببعيد" من ظالمي أمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ألح في وطي الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه.



أقول: و الرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، و قد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، و في بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) - أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، و في بعض الروايات من طرق أهل السنة أنهم كانوا ثلاثة و هم جبرئيل و ميكائيل و رفائيل، و الظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: "لو أن لي بكم قوة" إلخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، و قد تقدمت الإشارة إليه في بيان الآيات.

و قوله (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم "إلخ" في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما روي عنه - رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد.

و قوله (عليه السلام): فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.

و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود" قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه و لكن الخلق لا يرونه.

أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن ميمون البان عنه (عليه السلام) مثله. و فيه: من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته و لا يراه أحد، و في الحديثين إشعار بكون قوله: "و ما هي من الظالمين ببعيد" غير خاص بقريش، و إشعار بكون العذاب المذكور روحانيا غير مادي.

و في الكافي، بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول لوط: "هؤلاء بناتي هن أطهر لكم" قال: عرض عليهم التزويج.

و في التهذيب عن الرضا (عليه السلام): عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلتها آية من كتاب الله عز و جل: قول لوط: "هؤلاء بناتي هي أطهر لكم" قد علم أنهم لا يريدون الفرج.

و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة، و كفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم و حفاظتهم و نصرتهم حتى لربما غضب الرجل للرجل و ما يعرفه إلا بحسبه و سأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية: "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد". قال علي رضي الله عنه: و الركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه.

أقول: و آخر الرواية مروي من طرق أهل السنة و الشيعة.

و في الكافي، في حديث أبي يزيد الحمار عن أبي جعفر (عليه السلام) المنقول في البحث الروائي السابق قال: فأتوا يعني الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلموا عليه و هم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم و مشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي شيء صنعت؟ آتي بهم قومي و أنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم ثم قال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل و دخلوا معه حتى دخل منزلة. فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاءوا على الباب فنزلت إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا. فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي أ ليس منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له. فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل: "فطمسنا أعينهم" ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل. و قال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل فقال: إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب. فأمره يتحمل و من معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب و صراخ الديوك ثم قلبها و أمطر عليها و على من حول المدينة بحجارة من سجيل.

أقول: و ما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم و صراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، و هو و إن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه الرواية و هي من الآحاد.

على أن السنة الإلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات و المعجزات الحكمة و أي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد و لا أثر له في عذابهم و لا في تشديده؟ و قول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقربا للمؤمنين إلى الطاعة مبعدا لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأمور العظيمة المعجبة و الحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين و يعتبر بها المعتبرون و إن كان لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفا فيما كان بلوغه لهم من طريق الحس أو أي طريق علمي آخر، و أما رواية واحدة أو ضعيفة و هي خالية عن الحجية لا يعبأ بها فلا معنى لإيجاد الأمور الخارقة و الحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، و لا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنة الجهال من طغاة البشر و جبابرتهم.

قال صاحب المنار في تفسيره: و في خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات أن جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه و صعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب و الدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها.

و هذا تصور مبني على اعتقاد متصوره إن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض و ما فيها من الحيوان و يبقون أحياء.

و قد ثبت بالمشاهدة و الاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها أن الطيارات و المناطيد التي تخلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء و يستحيل حياة الناس فيها، و هم يصنعون أنواعا منها يصنعون فيها من أكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه و تنفسه للحياة في طبقات الجو العليا و يصعدون فيها.

و قد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء".

فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبرئيل من الممكنات العقلية و كان وقوعه من خوارق العادات فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات.



قلت: نعم و لكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن و النواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران و خراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة على الأقل، و لم يذكر في كتاب الله تعالى، و لم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا تظهر حكمة الله فيه، و إنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة.

و لا شك أنه من الإسرائيليات.

و مما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف و بلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.

و الذي ذكره أن الحديث إنما روي عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا المعنى مروي عن ابن عباس و عن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس كما في الدر المنثور، عن إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر و مقاتل عن الضحاك عنه: "فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها و نسائها و ثمارها و طيرها فحواها و طواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب و الطير و النساء و الرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة، و كانت الحجارة للرعاة و التجار و من كان خارجا عن مدائنهم" الحديث.

و في رواية حذيفة بن اليمان على ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه: "فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فأذن له فاحتمل الأرض التي كانوا عليها، و أهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم و أوقد تحتهم نارا ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة و هي معهم فالتفتت فأصابها العذاب، و تبعت سفارهم الحجارة" الحديث.

و أما من التابعين فقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و أبي صالح و محمد بن كعب القرظي و عن السدي ما هو أغلظ من ذلك قال: "لما أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها جبرئيل إلى الأرض" الحديث.

و أما ما ذكره من أنه "يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة" فمسألة أصولية، و الذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة أن الخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية فلا ريب في حجيتها، و أما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإن لها حجية.

و ذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل و الاعتبار الشرعي و القضايا التاريخية و الأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي و لا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما و تعبيد الناس بذلك، و الموضوعات الخارجية و إن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي إلا أن آثارها جزئية و الجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات و ليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأصول.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد.

أقول: مقتضى المقام الذي كان يجاري فيه لوط قومه و يأمرهم بتقوى الله و الاجتناب عن الفجور، و ظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه و بين قومه أن لوطا إنما كان يتمنى أنصارا أولي رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: "أو آوي إلى ركن شديد" يريد به أنصارا من غير القوم من عشيرة أو أخلاء و أصدقاء في الله ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا و الركن الشديد معه في داره و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و لذلك لبوه من غير فصل و قالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك.

و لم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه و أن كل النصر من عنده حتى ينساه و يتمنى ناصرا غيره، و حاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم و قد قال الله تعالى في حقه: "آتيناه حكما و علما - إلى أن قال - و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين:" الأنبياء: - 75.

فقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن كان ليأوي إلى ركن شديد" معناه أن معه جبرئيل و سائر الملائكة و هو لا يعلم بذلك، و ليس معناه أن معه الله سبحانه و هو جاهل بمقام ربه.

فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإشعار بأن مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى.

الحديث.

و كما عنه من طريق آخر قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد" و لعل فيه نقلا بالمعنى و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: رحم الله لوطا فغيره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبودية أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربه و نسيانه ما لم يكن له أن ينساه.

كلام في قصة لوط و قومه في فصول

1 - قصته و قصة قومه في القرآن:

كان لوط (عليه السلام) من كلدان في أرض بابل و من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام) آمن به و قال: "إني مهاجر إلى ربي: العنكبوت - 26 فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين الأنبياء: 71 فنزل في بعض بلادها و هي مدينة سدوم على ما في التواريخ و التوراة و بعض الروايات.

و كان أهل المدينة و ما والاها من المدائن و قد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات التوبة 70 يعبدون الأصنام، و يأتون بالفاحشة: اللواط، و هم أول قوم شاع فيهم ذلك الأعراف: 80 حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار العنكبوت: 29 و لم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنة قومية ابتلت به عامتهم و تركوا النساء و قطعوا السبيل العنكبوت: 29.

فأرسل الله لوطا إليهم الشعراء: 162 فدعاهم إلى تقوى الله و ترك الفحشاء و الرجوع إلى طريق الفطرة و أنذرهم و خوفهم فلم يزدهم إلا عتوا و لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و هددوه بالإخراج من بلدتهم و قالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين الشعراء: 167 و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون النمل: 56.

2 - عاقبة أمرهم:

لم يزل لوط (عليه السلام) يدعوهم إلى سبيل الله و ملازمة سنة الفطرة و ترك الفحشاء و هم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان و حقت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلا من الملائكة المكرمين لإهلاكهم فنزلوا أولا على إبراهيم (عليه السلام) و أخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم (عليه السلام) لعله يرد بذلك عنهم العذاب، و ذكرهم بأن فيهم لوطا فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع لوط و أهله، و أنه قد جاء أمر الله و أن القوم آتيهم عذاب غير مردود العنكبوت: 32 - هود: 76.



فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد و دخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط و ضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم و أنهم غير تاركيهم البتة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك و أقبلوا يهرعون إليه و هم يستبشرون و هجموا على داره فخرج إليهم و بالغ في وعظهم و استثارة فتوتهم و رشدهم حتى عرض عليهم بناته و قال: يا قوم إن هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله و لا تخزون في ضيفي ثم استغاث و قال: أ ليس منكم رجل رشيد فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة و أنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط و قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد: هود: - 80.

قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنا رسل ربك طب نفسا إن القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون و تفرقوا القمر: 37.

ثم أمروا لوطا (عليه السلام) أن يسري بأهله من ليلته بقطع من الليل و يتبع أدبارهم و لا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، و أخبروه أنهم سيهلكون القوم مصبحين هود: 81 - الحجر: 66.

فأخذت الصيحة القوم مشرقين، و أرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، و قلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها و أخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين و هو بيت لوط و ترك فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم الذاريات: 37 - و غيرها.

و في اختصاص الإيمان و الإسلام بيت لوط (عليه السلام)، و شمول العذاب لمدائنهم دلالة - أولا - على أن القوم كانوا كفارا غير مؤمنين و - ثانيا - على أن الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك و النساء بريئات منها و كان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة و سنة الخلقة التي هي مواصلة الرجال و النساء لاتبعته عدة من النساء و اجتمعن حوله و آمن به طبعا، و لم يذكر من ذلك شيء في كلامه سبحانه.

و في ذلك تصديق ما تقدم في الأخبار المأثورة أن الفحشاء شاعت بينهم، و اكتفى الرجال بالرجال باللواط، و النساء بالنساء بالسحق.

3 - شخصية لوط المعنوية:

كان (عليه السلام) رسولا من الله إلى أهل المؤتفكات و هي مدينة سدوم و ما والاها من المدائن - و يقال: كانت أربع مدائن: سدوم و عمورة و صوغر و صبوييم و قد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها أنبياءه الكرام.

و مما وصفه به خاصة ما في قوله: "و لوطا آتيناه حكما و علما و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين:" الأنبياء: - 75.

4 - لوط و قومه في التوراة:

ذكرت 1 التوراة أن لوطا كان ابن أخي أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ و كان هو و أبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين ثم هاجر تارخ أورا قاصدا أرض الكنعانيين فأقام بلدة حاران و معه أبرام و لوط و مات هناك.

ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران و معه لوط و لهما مال كثير و غلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، و كان يرتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوبا نحو بيت إيل فأقام هناك.

و لوط السائر مع أبرام أيضا كان له غنم و بقر و خيام و لم يحتملهما الأرض أن يسكنا و وقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع و التشاجر فاختار لوط دائرة الأردن و سكن في مدن الدائرة و نقل خيامه إلى سدوم، و كان أهل سدوم أشرارا و خطاة لدى الرب جدا، و نقل أبرام خيامه و أقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون.

ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم و عمورة و إدمة و صبوييم، و صوغر من جانب و أربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم و من معه من الملوك، و أخذ العدو جميع أملاك سدوم و عمورة و جميع أطعمتهم، و أسر لوط فيمن أسر و سبي جميع أمواله، و انتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، و كانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم و هزمهم، و أنجى لوطا و جميع أمواله من الأسر و السبي، و رده إلى مكانه الذي كان مقيما فيه ملخص ما في التوراة من صدر قصة لوط.

قالت التوراة 1: و ظهر له - لأبرام - الرب عند بلوطات ممرا و هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.

فرفع عينيه و نظر و إذا ثلاثة رجال واقفون لديه.

فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة و سجد إلى الأرض.

و قال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك.

ليؤخذ قليل ماء و اغسلوا أرجلكم و اتكئوا تحت هذه الشجرة.

فأخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم.

فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.

فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة و قال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا اعجني و اصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر و أخذ عجلا رخصا و جيدا و أعطاه للغلام فأسرع ليعمله.

ثم أخذ زبدا و لبنا و العجل الذي عمله و وضعها قدامهم.

و إذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا.

و قالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة امرأتك ابن.

و كانت سارة سامعة في باب الخيمة و هو وراءه.

و كان إبراهيم و سارة شيخين متقدمين في الأيام.

و قد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.

فضحكت سارة في باطنها قائلة: أ بعد فنائي يكون لي تنعم و سيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لما ذا ضحكت سارة قائلة: أ فبالحقيقة ألد و أنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت.

فقال: لا بل ضحكت.

ثم قام الرجال من هناك و تطلعوا نحو سدوم، و كان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم.

فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ و إبراهيم يكون أمة كبيرة و قوية و يتبارك به جميع أمم الأرض.

لأني عرفته لكي يوصي بنيه و بيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا و عدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به.

فقال الرب: إن صراخ سدوم و عمورة قد كثر و خطيئتهم قد عظمت جدا.

أنزل و أرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلي و إلا فأعلم.

و انصرف الرجال من هناك و ذهبوا نحو سدوم.

و أما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب.

فتقدم إبراهيم و قال: أ فتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة.

أ فتهلك المكان و لا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم، حاشاك.

أ ديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.

فأجاب إبراهيم و قال: إني قد شرعت أكلم المولى و أنا تراب و رماد ربما نقص الخمسون بارا خمسة أ تهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة و أربعين.

فعاد يكلمه أيضا و قال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين.

فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون.

فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين.

فقال: إني قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين.

فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من أجل العشرة.

و ذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم و رجع إبراهيم إلى مكانه.



فجاء 1 الملأكان إلى سدوم مساء و كان لوط جالسا في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما و سجد بوجهه إلى الأرض.

و قال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما و بيتا و اغسلا أرجلكما ثم تبكران و تذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألح عليهما جدا، فمالا إليه و دخلا بيته، فصنع لهما ضيافة و خبزا فطيرا فأكلا.

و قبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها فنادوا لوطا و قالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما.

فخرج إليهم لوط إلى الباب و أغلق الباب وراءه.

و قال: لا تفعلوا شرا يا إخوتي.

هو ذا لي ابنتان لم يعرفا رجلا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم.

و أما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي.

فقالوا: ابعد إلى هناك.

ثم قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرب و هو يحكم حكما.

الآن نفعل بك شرا أكثر منهما.

فألحوا على الرجل لوط جدا و تقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما و أدخلا لوطا إليهما إلى البيت و أغلقا الباب و أما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.

و قال الرجلان للوط: من لك أيضا هاهنا أصهارك و بنوك و بناتك و كل من لك في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكهم.

فخرج لوط و كلم أصهاره الآخذين بناته و قال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.

و لما طلع الفجر كان الملأكان يعجلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك و ابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة.

و لما توانى أمسك الرجلان بيده و بيد امرأته و بيد ابنتيه لشفقة الرب عليه و أخرجاه و ضعاه خارج المدينة.

و كان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك.

لا تنظر إلى ورائك و لا تقف في كل الدائرة.

اهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك و عظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي.

و أنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت.

هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها.

و هي صغيرة أهرب إلى هناك أ ليست هي صغيرة فتحيا نفسي.

فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها.

أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجيء إلى هناك - لذلك دعي اسم المدينة صوغر.

و إذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم و عمورة كبريتا و نارا من عند الرب من السماء.

و قلب تلك المدن و كل الدائرة و جميع سكان المدن و نبات الأرض.

و نظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.

و بكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب و تطلع نحو سدوم و عمورة و نحو كل أرض الدائرة.

و نظر و إذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون.

و حدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم.

و أرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط.

و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو و ابنتاه.

و قالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا.

فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة.

و دخلت البكر و اضطجعت مع أبيها و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها و حدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي.

نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا.

فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا.

و قامت الصغيرة و اضطجعت معه.

و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها.

فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.

فولدت البكر ابنا و دعت اسمه موآب و هو أبو الموآبيين إلى اليوم و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمى و هو أبو بني عمون إلى اليوم.

انتهي.

هذا ما قصته التوراة في لوط و قومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصة و من وجوه غيرها.

ففيها كون الملك المرسل للبشرى و العذاب ملكين اثنين.

و قد عبر القرآن بالرسل - بلفظ الجمع و أقله ثلاثة -.

و فيها أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه و قدمه إليهم، و القرآن ينفي ذلك و يقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه.

و فيها: إثبات بنتين للوط، و القرآن يعبر بلفظ البنات.

و فيها كيفية إخراج الملائكة لوطا و كيفية تعذيب القوم و صيرورة المرأة عمودا من ملح و غير ذلك.

و فيها نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، و ما ذكرته من قصة لوط مع بنتيه أخيرا، و القرآن ينزه ساحة الحق سبحانه عن التجسم و يبرىء أنبياءه و رسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.

11 سورة هود - 84 - 95

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ وَ لا تَنقُصوا الْمِكيَالَ وَ الْمِيزَانَ إِنى أَرَام بخَيرٍ وَ إِنى أَخَاف عَلَيْكمْ عَذَاب يَوْمٍ محِيطٍ (84) وَ يَقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكيَالَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسطِ وَ لا تَبْخَسوا النّاس أَشيَاءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيّت اللّهِ خَيرٌ لّكُمْ إِن كنتُم مّؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُم بحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَشعَيْب أَ صلَوتُك تَأْمُرُك أَن نّترُك مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَن نّفْعَلَ فى أَمْوَلِنَا مَا نَشؤُا إِنّك لأَنت الْحَلِيمُ الرّشِيدُ (87) قَالَ يَقَوْمِ أَ رَءَيْتُمْ إِن كُنت عَلى بَيِّنَةٍ مِّن رّبى وَ رَزَقَنى مِنْهُ رِزْقاً حَسناً وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهَامْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الاصلَحَ مَا استَطعْت وَ مَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ إِلَيْهِ أُنِيب (88) وَ يَقَوْمِ لا يجْرِمَنّكُمْ شِقَاقى أَن يُصِيبَكم مِّثْلُ مَا أَصاب قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صلِحٍ وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكم بِبَعِيدٍ (89) وَ استَغْفِرُوا رَبّكمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنّ رَبى رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَشعَيْب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمّا تَقُولُ وَ إِنّا لَنرَاك فِينَا ضعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطك لَرَجَمْنَك وَ مَا أَنت عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَقَوْمِ أَ رَهْطِى أَعَزّ عَلَيْكم مِّنَ اللّهِ وَ اتخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِياّ إِنّ رَبى بِمَا تَعْمَلُونَ محِيطٌ (92) وَ يَقَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكمْ إِنى عَمِلٌ سوْف تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كَذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنى مَعَكمْ رَقِيبٌ (93) وَ لَمّا جَاءَ أَمْرُنَا نجّيْنَا شعَيْباً وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنّا وَ أَخَذَتِ الّذِينَ ظلَمُوا الصيْحَةُ فَأَصبَحُوا فى دِيَرِهِمْ جَثِمِينَ (94) كَأَن لّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَت ثَمُودُ (95)

بيان

تذكر الآيات قصة شعيب (عليه السلام) و قومه و هم أهل مدين، و كانوا يعبدون الأصنام، و كان قد شاع التطفيف في الكيل و الوزن عندهم و اشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (عليه السلام) إليهم فدعاهم إلى التوحيد و توفية الميزان و المكيال بالقسط و ترك الفساد في الأرض، و بشرهم و أنذرهم و بالغ في عظتهم و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.

فلم يجبه القوم إلا بالرد و العصيان، هددوه بالرجم و الطرد من بينهم و بالغوا في إيذائه و إيذاء شرذمة من الناس آمنوا به و صدهم عن سبيل الله و داموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه و بينهم فأهلكهم الله تعالى.

قوله تعالى: "و إلى مدين أخاهم شعيبا" إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء و أممهم، و مدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين و كان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، و في عد شعيب (عليه السلام) أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.

و قوله: "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" تقدم تفسيره في نظائره.

و قوله: "و لا تنقصوا المكيال و الميزان" المكيال و الميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به و ما يوزن به، و لا يوصفان بالنقص و إنما يوصف بالنقص كالزيادة و المساواة المكيل و الموزون فنسبة النقص إلى المكيال و الميزان من المجاز العقلي.

و في تخصيص نقص المكيال و الميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم و إقبالهم عليه و إفراطهم فيه بحيث ظهر فساده و بان سيىء أثره فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.

و قوله: "إني أراكم بخير" أي أشاهدكم في خير، و هو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال و سعة الرزق و الرخص و الخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال و الميزان، و اختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع و ظلما و عتوا، و على هذا فقوله: "إني أراكم بخير" تعليل لقوله: "و لا تنقصوا المكيال و الميزان".

و يمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا و رشدا و رزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه و تشركوا به غيره، و أن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال و الميزان، و على هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله: "اعبدوا الله" إلخ، و قوله: "و لا تنقصوا" إلخ، كما أن قوله: "و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط" كذلك.

فمحصل قوله: "إني أراكم" إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير و لا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها.

و ثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.
<<        الفهرس        >>