جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


3 سورة آل عمران - 190 - 199
إِنّ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلَفِ الّيْلِ وَ النهَارِ لاَيَتٍ لأُولى الأَلْبَبِ (190) الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكرُونَ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْت هَذَا بَطِلاً سبْحَنَك فَقِنَا عَذَاب النّارِ (191) رَبّنَا إِنّك مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظلِمِينَ مِنْ أَنصارٍ (192) رّبّنَا إِنّنَا سمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلايمَنِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَئَامَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَ تَوَفّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبّنَا وَ ءَاتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلى رُسلِك وَ لا تخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنّك لا تخْلِف المِْيعَادَ (194) فَاستَجَاب لَهُمْ رَبّهُمْ أَنى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَمِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثى بَعْضكُم مِّن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَ أُوذُوا فى سبِيلى وَ قَتَلُوا وَ قُتِلُوا لأُكَفِّرَنّ عَنهُمْ سيِّئَاتهِمْ وَ لأُدْخِلَنّهُمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَ اللّهُ عِندَهُ حُسنُ الثّوَابِ (195) لا يَغُرّنّك تَقَلّب الّذِينَ كَفَرُوا فى الْبِلَدِ (196) مَتَعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ بِئْس المِْهَادُ (197) لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْا رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّتٌ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَ مَا عِندَ اللّهِ خَيرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) وَ إِنّ مِنْ أَهْلِ الْكتَبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ خَشِعِينَ للّهِ لا يَشترُونَ بِئَايَتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنّ اللّهَ سرِيعُ الْحِسابِ (199)

بيان


الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين و المشركين و أهل الكتاب في هذه السورة، بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، و التفكر في آياته و الاستجارة بالله من عذاب النار، و سؤال المغفرة و الجنة، و أن الله استجاب لهم و سيرزقهم ما سألوه - هذه عامة حالهم - و أن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم، و قد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.

قوله تعالى: "إن في خلق السموات و الأرض"، كان المراد بالخلق كيفية وجودها و آثارها و أفعالها من حركة و سكون و تغير و تحول فيكون خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة و قد تقدم بيانها في سورة البقرة.

و تقدم أيضا معنى أولي الألباب.

قوله تعالى: "الذين يذكرون الله قياما و قعودا" "إلخ" أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام و القعود و الاضطجاع، و قد مر البحث في معنى الذكر و التفكر، و محصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال، و تفكرا في خلق السموات و الأرض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته و يستنجزون وعده.

قوله تعالى: "ربنا ما خلقت هذا باطلا"، إنما قيل "هذا" مع كون المشار إليه جمعا و مؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها و أسمائها، و الجميع في أنها خلق واحد، و هذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر: "الأنعام: 78"، لعدم علمه بعد بحقيقتها و اسمها سوى أنها شيء.

و الباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض: "الرعد: 17" و لذلك لما نفوا البطلان عن الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء، و أنه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي و هو النار، و لا راد يرد مصلحة العقاب و إلا لبطل الخلقة، و هذا معنى قولهم: فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار.

قوله تعالى: "ربنا إننا سمعنا مناديا"، المراد بالمنادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: أن آمنوا.

بيان للنداء و أن تفسيرية، و لما ذكروا إيمانهم بالمنادي و هو الرسول و هو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب و السيئات و الموت على الكفر و الذنب، و يرغبهم في بعضها كالمغفرة و الرحمة و تفاصيل الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم و يكفر عن سيئاتهم و يتوفاهم مع الأبرار و سألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة و الرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا: فاغفر لنا ذنوبنا "إلخ" فقوله تعالى: على رسلك أي حملته على رسلك و ضمنه عليك الرسل، و قوله: و لا تخزنا، أي بإخلاف الوعد، و لذا عقبه بقوله: إنك لا تخلف الميعاد.

و قد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله و اليوم الآخر و بأن لله رسلا بالنظر في الآيات و أما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة، و على السمع و الطاعة فيما فيه ذلك.

قوله تعالى: "فاستجاب لهم ربهم" "إلخ" التعبير بالرب و إضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الإلهية و يدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله: أني لا أضيع عمل عامل منكم، فلا فرق عنده تعالى بين عمل و عمل، و لا بين عامل و عامل.

و على هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: فالذين هاجروا و أخرجوا من ديارهم و أوذوا "إلخ" في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها، و الواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.

و الآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة و تبالغ في التحريض و الترغيب فيها، و هو إيثار الدين على الوطن و تحمل الأذى في سبيل الله و الجهاد.

و الظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك و العشيرة و الوطن لإطلاق اللفظ، و لمقابلته قوله: و أخرجوا من ديارهم، و هو هجرة خاصة، و لقوله بعده: لأكفرن عنهم سيئاتهم، فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب و التوبة، فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك.

قوله تعالى: "لا يغرنك تقلب" إلخ، هذا بمنزلة دفع الدخل و التقدير: هذا حال أبرار المؤمنين و هذا أجرهم، و أما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال و ترف الحياة و در المعاش فلا يغرنك ذلك الخطاب للنبي و المقصود به الناس لأنه متاع قليل لا دوام له.



قوله تعالى: لكن الذين اتقوا ربهم إلخ، النزل ما يعد للنازل من طعام و شراب و غيرهما، و المراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية، و هذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل.

قوله تعالى: و إن من أهل الكتاب إلخ، المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب، و الغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب و إن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله و برسله فلو آمنوا كانوا هم و المؤمنون سواء.

و قد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات و هو التفريق بين رسل الله، و كتمان ما أخذ ميثاقهم لبيانه اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا.

بحث فلسفي و مقايسة

المشاهدة و التجربة تقضيان أن الرجل و المرأة فردان من نوع جوهري واحد، و هو الإنسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق، و بروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك، نعم يختلف الصنف بشدة و ضعف في بعض الآثار المشتركة و هو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد، و بذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، و منها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان و الطاعات و القربات، و بذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة و أجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه: "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض".

و إذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين ففي سفر الجامعة من التوراة،: "درت أنا و قلبي لأعلم و لأبحث و لأطلب حكمة و عقلا، و لأعرف الشر أنه جهالة، و الحماقة أنها جنون، فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، إلى أن قال: رجلا واحدا بين ألف وجدت إما امرأة فبين كل أولئك لم أجد" و قد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله سبحانه، و كانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان، و كانت ترى الروم و بعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية، و قرر مجمع فرنسا سنة 586 م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل، و كانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبا لا تعد جزء المجتمع الإنساني، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء و العقائد و آداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.

بحث روايي

في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله: أقول: و روي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله بن سلام و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الرواية مروية من طرق الشيعة أيضا و المراد بالتفكر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه و قد قال تعالى: "و لا يحيطون به علما": طه - 110، و أما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى يعرف بها، و قد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة.

و فيه، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.

أقول: و في بعض الروايات: من عبادة ليلة، و في بعضها: من عبادة سنة، و هو مروي من طرق الشيعة أيضا.

و قد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى: فاستجاب لهم ربهم، الآية نزلت في أم سلمة لما قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله: فاستجاب لهم، الآية.

و ورد من طرق الشيعة: أن قوله: فالذين هاجروا و أخرجوا الآية، نزلت في علي (عليه السلام) لما هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فاطمة بنت الزبير، ثم لحق بهم في ضجنان أم أيمن و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نزلت الآيات.

و ورد من طرق أهل السنة: أنها نزلت في المهاجرين، و ورد أيضا أن قوله: لا يغرنك تقلب الآيات، نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال و ورد أيضا أن قوله: و إن من أهل الكتاب الآية، نزل في النجاشي و نفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه يصلي على من ليس في دينه فأنزل الله: و إن من أهل الكتاب، الآية.

فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص، و ليست بأسباب للنزول حقيقة.


3 سورة آل عمران - 200
يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اصبرُوا وَ صابِرُوا وَ رَابِطوا وَ اتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

بيان


الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة، و فيه تخلص منه بأخذ النتيجة و إعطائها.

قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا اصبروا و صابروا" "إلخ"، الأوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، و الصبر في طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و على أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.

و المصابرة هي التصبر و تحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال و يشتد الوصف و يتضاعف تأثيره، و هذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد، و في حال الاجتماع و التعاون بإيصال القوى بعضها ببعض و سنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.

قوله تعالى: و رابطوا أعم معنى من المصابرة و هي إيجاد الجماعة، الارتباط بين قواهم و أفعالهم في جميع شئون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة و حال الرخاء و لما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا و الآخرة - و إلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا و ليست بحقيقة السعادة - عقب هذه الأوامر بقوله تعالى: و اتقوا الله لعلكم تفلحون يعني الفلاح التام الحقيقي.

كلام في المرابطة في المجتمع الإسلامي

1 - الإنسان و الاجتماع:

كون النوع الإنساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، و لم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ و الآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها و يحكم على هذه الأرض.

و قد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا الآية: "الحجرات: 13"، و قال تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا: "الزخرف: 32"، و قال تعالى: بعضكم من بعض: "آل عمران: 195"، و قال تعالى: و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا: "الفرقان: 54"، إلى غير ذلك.

2 - الإنسان و نموه في اجتماعه:

الاجتماع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية و ما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء و الزيادة بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية و المعنوية و على الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون و أكمله بل هي كسائر الخواص الإنسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم و الإرادة تدريجية الكمال في الإنسان و الذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي و هو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذي و غيره ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام و هو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته و تحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل و رئيس العشيرة و رئيس القبيلة و رئيس الأمة و بالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم و أشجعهم ثم أشجعهم، و أكثرهم مالا و ولدا و هكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة و السياسة و هذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية و قيامها على ساقها حتى اليوم و سنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و خاصة الاجتماع بتمام أنواعها المنزلي و غيره و إن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار و لو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلا بل كانت تعيش و تنمو بتبع الخواص الأخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام و الدفاع و نحو ذلك.

و القرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلا و اعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى: و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا: "يونس: 19"، و قال: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: "البقرة: 213"، حيث ينبىء أن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات و بانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء و أنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف، و يردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.

و قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه: "الشورى: 13"، فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس و إيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين و عدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.

و الآية - كما ترى - تحكي هذه الدعوة دعوة الاجتماع و الاتحاد عن نوح (عليه السلام) و هو أقدم الأنبياء أولي الشريعة و الكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى (عليه السلام) و قد كان في شريعة نوح و إبراهيم النزر اليسير من الأحكام، و أوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى و تتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن و هو ظاهر الأناجيل و ليس في شريعة موسى - على ما قيل - إلا ستمائة حكم تقريبا.

فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن، و التاريخ يصدقه على ما سيجيء.

3 - الإسلام و عنايته بالاجتماع:

لا ريب أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا و لم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شئونه فانظر - إن أردت زيادة تبصر في ذلك - إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة و إلى تشعبها إلى أجناسها و أنواعها و أصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها و إحاطتها بها و بسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ.

ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى حتى تعاين النسبة و تعرف المنزلة.

و أما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية و الصابئة و المانوية و الثنوية و غيرها فالأمر فيها أظهر و أجلى.

و أما الأمم المتمدنة و غيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام، و اجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد و السلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي و الوطني و الإقليمي يعيش تحت راية الملك و الرئاسة، و يهتدي بهداية عوامل الوراثة و المكان و غيرهما من غير أن يعتني أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره، و تجعله موردا للبحث و العمل، حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين و أخذت في إشراقها و إنارتها أعني إمبراطورية الروم و الفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية و كسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك و السلطنة و يتبعها الاجتماع في رشده و نموه و يمكث بمكثها.

نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط و أفلاطون و أرسطو و غيرهم إلا أنها كانت أوراقا و صحائف لا ترد مورد العمل، و مثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين و الخارج، و التاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.



فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني و دعي به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الإهمال و حكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة و السلام، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة و طيب العيش مجتمعين، قال تعالى: و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم: "الأنعام: 153"، و قال: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا، إلى أن قال: و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق و الانشعاب و أولئك هم المفلحون و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات: "آل عمران: 105"، و قال: إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء: "الأنعام: 159"، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع و الاتحاد.

و قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم: "الحجرات: 10"، و قال: و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم: "الأنفال: 46"، و قال: و تعاونوا على البر و التقوى: "المائدة: 2"، و قال: و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر: "آل عمران: 104" إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق و الاتحاد في حيازة منافعها و مزاياها المعنوية و المادية و الدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإيضاح.

4 - اعتبار الإسلام رابطة الفرد و المجتمع:

الصنع و الإيجاد يجعل أولا أجزاء ابتدائية لها آثار و خواص ثم يركبها و يؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة فالإنسان مثلا له أجزاء و أبعاض و أعضاء و قوى لها فوائد متفرقة مادية و روحية ربما ائتلفت فقويت و عظمت كثقل كل واحد من الأجزاء و ثقل المجموع و التمكن و الانصراف من جهة إلى جهة و غير ذلك، و ربما لم تأتلف و بقيت على حال التباين و التفرق كالسمع و البصر و الذوق و الإرادة و الحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الإنسان -، و عند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه و هي فوائد جمة من قبيل الفعل و الانفعال و الفوائد الروحية و المادية، و من فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها و تربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله و محتده من الأفعال المادية و الروحية فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان و هو واحد، و أفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا و هي تجتمع و تأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد و هي ذات خواص كثيرة نوعها واحد و كلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة و عظم الأثر.

و قد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع و هدايتها إلى سعادتها الحقيقة هذا المعنى الحقيقي فيها و لا مناص من اعتباره، قال تعالى: و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا: "الفرقان: 54"، و قال: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى: "الحجرات: 13"، و قال: بعضكم من بعض: "آل عمران: 195".

و هذه الرابطة الحقيقية بين الشخص و المجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة أخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم و قواهم و خواصهم و آثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود و خواص الوجود و هو ظاهر مشهود، و لذلك اعتبر القرآن للأمة وجودا و أجلا و كتابا و شعورا و فهما و عملا و طاعة و معصية فقال: و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون: "الأعراف: 34"، و قال: كل أمة تدعى إلى كتابها: "الجاثية: 28"، و قال: زينا لكل أمة عملهم: "الأنعام: 108"، و قال: منهم أمة مقتصدة: "المائدة: 66"، و قال: أمة قائمة يتلون آيات الله: "آل عمران: 113"، و قال: و همت كل أمة برسولهم ليأخذوه و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب: "غافر: 5"، و قال: و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط: "يونس: 47".

و من هنا ما نرى أن القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك و العظماء، و لم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم و المجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي و ابن خلدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي بتبديل الأشخاص أمما، و أول من سنه على ما يقال: "أغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة 1857 ميلادية".

و بالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى و خواص اجتماعية قوية تقهر القوى و الخواص الفردية عند التعارض و التضاد، على أن الحس و التجربة يشهدان بذلك في القوى و الخواص الفاعلة و المنفعلة معا، فهمة الجماعة و إرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات و في الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة و لا مضادة من واحد من أشخاصها و أجزائها، فلا مفر للجزء من أن يتبع كله و يجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور و الفكر من أفراده و أجزائه، و كذا الخوف العام و الدهشة العامة كما في موارد الانهزام و انسلاب الأمن و الزلزلة و القحط و الوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة و الأزياء القومية و نحوهما تضطر الفرد على الاتباع و تسلب عنه قوة الإدراك و الفكر.

و هذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد و لن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الأخر و لا في سنن الملل المتمدنة و لعلك لا تكاد تصدق ذلك، فإن تربية الأخلاق و الغرائز في الفرد و هو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق و الغرائز المعارضة و المضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس و التقدير.

فوضع أهم أحكامه و شرائعه كالحج و الصلاة و الجهاد و الإنفاق و بالجملة التقوي الديني على أساس الاجتماع، و حافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة و حدودها، و مضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الإسلامي - و كل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية و القرب و المنزلة عند الله، و هذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان و سره - فضلا عما في ظاهره - و إن خفي على طائفة الدعاة و جماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هذا هو الذي ذكرنا أن الإسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن و الطرائق.

5 - هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء و البقاء؟

و لعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناء و أتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية و كسروية - و تحول إمبراطورية أفجع و أشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.

و هذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى و سنتهم في الاجتماع أتقن و أشد استحكاما، و قد وضعوا سنتهم الاجتماعية و قوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة و اقتراح الطباع و الميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر و اقتراحهم، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة، و غلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية و الأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام، و كذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل و دون الأقل فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض و بحسب السنن و القوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر و أما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض و مثالا عقليا غير جائز النيل.

و قد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع و سعادتها و تهذب الأفراد و طهارتهم من الرذائل و هي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب و الخيانة و الظلم و الجفاء و الجفاف و نحو ذلك.

و هذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين و خاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية و النفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر، و لتوضيح ذلك نقول: أما قولهم: إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة، و معناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن و ظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع و الشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه، فانتهضت و نازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة و ربما اضطهدت و انهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا و ثالثا حتى غلبت و تمكنت و ملكت سيطرتها و ربما بادت و انقرضت إذ لم يساعدها العوامل و الشرائط بعد، و التاريخ يشهد بذلك في جميع السنن الدينية و الدنيوية حتى في مثل الديمقراطية و الاشتراك، و إلى مثله يشير قوله تعالى: "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ": - آل عمران: 137، يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.



فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه و فساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل و الانفعال و تنازع العوامل المختلفة.

و الإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي و الاجتماعي و ليس بمستثنى من هذه الكلية، فحاله من حيث التقدم و التأخر و الاستظهار بالعوامل و الشرائط حال سائر السنن و ليس حال الإسلام اليوم - و قد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر و نشب في قلوبهم - بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح و إبراهيم و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة و لم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت و تعرقت و عاشت و اتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم.

و قد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة و لم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل و امرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد و اليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح و التقوى و مكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان.

و هذا الأنموذج اليسير على قصر عمره و ضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل من نصف قرن على مشارق الأرض و مغاربها، و حول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا و ستدوم ثم تدوم.

و لا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية و النفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب و العامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية و طلوعها و لم يهمل جل الباحثين من أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية و كيف يسع لباحث خبير - لو أنصف النظر - أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية و يعد المسيح (عليه السلام) قائدها و حامل لوائها و المسيح يصرح بأنه إنما يهتم بأمر الروح و لا يشتغل بأمر الجسم و لا يتعرض لشأن الدولة و السياسة؟ و هو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع و التآلف و يتصرف في جميع شئون المجتمع الإنساني و أفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح و الإغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام و يأبى الله إلا أن يتم نوره و إخماد ناره عن القلوب بغيا و عدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة.

و بالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم و طيب حياتهم، و ما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية، و لا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقية و قد تقدم في تفسير قوله: كان الناس أمة واحدة: "البقرة: 213" أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته و ينال بغيته و هي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا و توليه التام أمر المجتمع الإنساني، و قد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون في الله لومة لائم: "المائدة: 54" و قال: وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا الآية: "النور: 55"، و قال: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون: "الأنبياء: 105"، إلى غير ذلك من الآيات.

و هنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم و هي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر و العمل، و الاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه و يريده الأكثر، و هذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها و فيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه، و هي الراحة الكبرى و إن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا و لذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق، و شدد في المنع عما يفسد العقل السليم و ألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال و الأخلاق و المعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة و الولاية الإسلامية من إجراء السياسات و الحدود و غيرها، و هذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس و يدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء و الأماني الذي نشاهده من كافة المترفين و المعدمين و يسلب حريتهم في الاستلذاذ و التلهي و السبعية و الافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة و بسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة و تدرب كاف و تحفظ على ذلك مستدام.

و أما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة و من الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته و غرضه.

و لذلك كانت القوانين تتبع في وضعها و إجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع و ميول طباعهم، و ينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال، و أما الأخلاق و المعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها بل الناس في التلبس بها و تبعيتها و عدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.

و لازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة و الغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين، و أن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق و المعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية.

و لازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي العاطفي فربما كان الفجور و الفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول و الإحساسات و سمي فتوة و بشرا و حسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان، و بين الرجال و النساء المحصنات أو الأبكار، و بين النساء و الكلاب، و بين الرجال و أولادهم و محارمهم، و ما يجري في الاحتفالات و مجالس الرقص و غير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين.

و ربما كان عاديات الطريق الديني غرائب و عجائب مضحكة عندهم و بالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة و الإدراك باختلاف الطريق و لا يستفاد في هذه السنن الإحساسية من التعقل - كما عرفت - إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع و التلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شيء و لا يمنع منها شيء إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال "الانتحار" و "دئل" و غيرهما، فللنفس ما تريده و تهواه إلا أن يزاحم ما يريده و يهواه المجتمع!.

إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة و الحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.

و لو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.

و الذي ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق: "التوبة: 33" و قال تعالى: و الله يقضي بالحق: "المؤمن: 20" و قال في وصف المؤمنين: و تواصوا بالحق: "العصر: 3" و قال: لقد جئناكم بالحق و لكن أكثركم للحق كارهون: "الزخرف: 78" فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين و أهواءهم، ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يئول إلى الفساد فقال: بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون، و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون: "المؤمنون: 71" و لقد صدق جريان الحوادث و تراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية.



و قال تعالى: فما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون: "يونس: 32" و الآيات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة جدا و إن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا و عشرين مرة.

و أما قولهم: إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة، فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور: أحدها أن الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الإنسان العلمية و العملية تتبع في تكونها و أقسام تحولها نظام العلية و المعلولية و هو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم و النظر و شهد به القرآن على ما مر، فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام و الثبات حتى أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها "سخونتها الغالبية" أثر دائم لها و هكذا، و هذا هو الحق.

و الثاني: أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا ألقي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.

و الثالث: أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله، و أما نظر الإنسان و إدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.

إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية و هي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع في الطبيعة الراجعة إلى الدوام و الثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم و الإدراك، و بعبارة أخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم، فالوقوع الدائمي و الأكثري أيضا بوجه من الحق، و أما آراء الأكثرين و أنظارهم و اعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع و ربما لم تكن إذا لم تطابق و حينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان و لا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم و إن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه، و من أحسن البيان في أن رأي الأكثر و نظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى: بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون: "المؤمنون: 70" فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق و يعارضوه.

و بهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم و الفكر و الذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته و حركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله و أعماله على الصلاح الأكثري و عليه جرى القرآن في حكم تشريعاته و مصالحها، قال تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون: "المائدة: 6"، و قال تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون: "البقرة: 183" إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.

و أما قولهم: إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع و هذب الأفراد طهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط و الاشتباه و كان مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها و قوتها و تعاليها في استفادتها من المنابع المادية و قد عرفت كرارا أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة و البحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح و البدن و هي تنعم الإنسان من النعم المادية و تحليه بفضائل الأخلاق و المعارف الحقة الإلهية و هي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا و الحياة الأخرى و أما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.

و أما استعجابهم بما يرون من الصدق و الصفاء و الأمانة و البشر و غير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه، و ذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي و إنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه و دفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه و هو التفكر الفردي، و يستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.

و هذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى و أما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك و لا مستقل عن المجتمع و أن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه و شره شر نفسه و كل وصف و حال له وصفا و حالا لنفسه فهذا الإنسان يتفكر نحوا آخر من التفكر و لا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه و أما اشتغاله بأجزاء مجتمعة فلا يهتم به و لا يقدره شيئا.

و استوضح ذلك بما نورده من المثال: الإنسان مجموع مؤلف من أعضاء و قوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الإنسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا و فعلا تحت استقلاله فالعين و الأذن و اليد و الرجل تبصر و تسمع و تبطش و تمشي للإنسان، و إنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الإنسان به، و كل واحدة من هذه الأعضاء و القوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الإحسان أو الإساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا، و أما معاملة بعضها مع بعض و الجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسيء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.

فهذا حال أجزاء الإنسان و هي تسير سيرا واحدا اجتماعيا، و في حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم و تقواهم أو فسادهم و إجرامهم و إحسانهم و إساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة و هكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم و الأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود و الأعراب و عدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين، و يعاتب الحاضرين و يوبخهم بأعمال الغائبين و الماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا، و في القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم و إن عاشوا بينهم و اختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد و المرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع، و أشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله و بنيته، و هكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء و الأبرار.

و يتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح و الطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الأخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم و مخالطتهم فيما بينهم و عيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها و مصاكتها سائر الأمم الضعيفة و مخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم.

فهذه هي التي يجب أن تراعى و تعتبر في القضاء بصلاح المجتمع و طلاحه و سعادته و شقائه و على هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاءوا فليستعجبوا و إن شاءوا فليتعجبوا.

و لعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوربية و تعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم و الأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلئوا رأفة و نصحا للبشر يفدون بالدماء و الأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع و إعطاء الحرية و الأخذ بيد المظلوم المهضوم حقا و إلغاء سنة الاسترقاق و الأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر، و يوما بالاستعمار، و يوما بالاستملاك، و يوما بالقيمومة، و يوما باسم حفظ المنافع المشتركة، و يوما باسم الإعانة على حفظ الاستقلال، و يوما باسم حفظ الصلح و دفع ما يهدده، و يوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة و يوما... و يوما... و المجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة و إن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين و حكم الوحي و النبوة من معنى السعادة.



و كيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم و أعراضهم و أموالهم، و يسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم و وجودهم و التصرف في إدراكهم و إرادتهم بما لم يلقه و لا قاساه إنسان القرون الأولى، و المعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم و ما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي ما عندهم سعادة و صلاحا فلتكن بمعنى التحكم و إطلاق المشية.

6 - بما ذا يتكون و يعيش الاجتماع الإسلامي؟

لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق و يحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة و هو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد، و هذه الغاية و الغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد و هي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع.

و الفرق بين التمتع الاجتماعي و الانفرادي من حيث الخاصية أن الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له و لا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه و إن اشتهاه، و لا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه و أعضائه إلى بعض، و أما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله، و لا تحديد فعل من أفعاله و عمل من أعماله.

و هذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع و ساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته و أعماله لأدى ذلك إلى التمانع و التزاحم الذي فيه فساد العيش و هلاك النوع و قد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان.

و هذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر و رؤية و إنما يكون الآداب و السنن فيها المشاجرات و المنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ، و لما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض و الإبطال تتغير سريعا و تنقرض، و لكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية و الحضارة فيرفعون به التضاد و التمانع الواقع بين الإرادات و أعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود و قيود لها ثم ركز القدرة و القوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.

و من هنا يظهر أولا: أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس و أعمالهم برفع التزاحم و التمانع من بينهما بتحديدها.

و ثانيا: أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الإنسان بالشعور و الإرادة بعد التعديل، و لذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الإلهية و الأخلاق، و صار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان و يتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي، و لذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضي عليه و تدحضه، و يوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته، و يوما تطوي عنه كشحا فتخليه و شأنه.

و ثالثا: أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون و إن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أن منبع القدرة و السلطان لو مال عن الحق و حول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع و انقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل، و على هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا و هو زمان الثقافة و المدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية، و أضف إلى هذا النقص نقصا آخر و هو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته، و لنرجع إلى أول الكلام.

و بالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة.

الدنيا و هي السعادة عندهم، لكن الإسلام لما كان يرى أن الحياة الإنسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة، و يرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد، و يرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق و طهارة النفس من كل رذيلة، و يرى أن هذه الأخلاق لا تتم و لا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه و الخضوع لما تقتضيه ربوبيته و معاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ أعني الإسلام الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري و يتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد، و لم يكتف فيه على تعديل الإرادات و الأفعال فقط بل تممه بالعباديات و أضاف إليها المعارف الحقة و الأخلاق الفاضلة.

ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولا، ثم في عهدة المجتمع ثانيا، و ذلك بالتربية الصالحة علما و عملا و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و من أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين، و روح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع، فالجميع من أجزاء الدين الإسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد، و التوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق و الأعمال، فلو نزل لكان هي و لو صعدت لكانت هو، إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه.

فإن قلت: ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الإسلام و أوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين و زوال سيطرته على المجتمع الإسلامي، و ليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما!.

قلت: حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس و علوما تحفظها الصدور و إنما ترد مورد العمل و تقع موقع الحس بالإرادات الإنسانية تتعلق بها، فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين، و إنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع حتى تقوم القوانين على ساقها و القوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات أعني إرادة الأكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة، فمهما كانت الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون و إذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس و هرم يطرأ على بنية المجتمع، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور و الإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي و توسعه في الإتراف و التمتع، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية.

و كذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة أمنيتها من جريان القانون و انحفاظ المجتمع عن التفاسد و التلاشي، و عمدة الانشعابات الواقعة في الأمم الأوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى و الثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب.

و ليس ذلك أعني انتقاض القوانين و تفاسد المجتمع و تلاشيه إلا لأن المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها و سيطرتها و هي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الإرادة في بقائها و استدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع و اعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

و اعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع و حرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة و فقد النصفة، و السخط و تراكم الغيظ و الحنق، و كذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة و هي تهدد الإنسانية ثالثة و قد أفسدت الأرض و أهلكت الحرث و النسل و لا عامل لها إلا غريزة الاستكبار و الشره و الطمع، هذا.



و لكن الإسلام بنى سنته الجارية و قوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق و بالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها و على عهدتها فهي مع الإنسان في سره و علانيته و خلوته و جلوته تؤدي وظيفتها و تعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم.

نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة و تبذل جهدها في حض الناس و ترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا.

أما أولا فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الإسراف و الإفراط في التمتع المادي و الحرمان البالغ فيه، و قد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا و حرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق و الترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين؟.

على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا، و لا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة و دحض حقوقهم، و التمتع بما في أيديهم، و استرقاق نفوسهم، و التوسع في التحكم عليهم ما قدروا، و الدعوة إلى الصلاح و التقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.

و أما ثانيا: فلأن الأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها و استقرارها إلى ضامن يضمن حفظها و كلاءتها و ليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم و هو يحب الخير و الصلاح، و يبغض الشر و الفساد و سيجمع الجميع لفصل القضاء و توفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته، و من الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى و الكف عن حظوظ النفس الطبيعية فإنما الطبيعة الإنسانية تريد و تشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها أحسن التأمل فيه.

ففيما كان للإنسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير و لا رادع يردعه و لا مجازي يجازيه و لا لائم معاتب يلومه و يعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة و ارتكاب المظلمة و إن عظمت ما عظمت؟ و أما ما يتوهم - و كثيرا ما يخطىء فيه الباحث - من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن و حب النوع و الثناء الجميل و نحو ذلك فإنما هي عواطف قلبية و نزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم و التربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية و أمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلما ذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده و هو يرى أن الموت فناء و بطلان؟ و الثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين و لا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته.

و بالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء و لا يعود إليه منه نفع، و الذي يعده و يمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن و الثناء الجميل الخالد و الفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به و خدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته و عواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته و بطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به و ليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو و يبذل من نفسه و عرضه و ماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا و عقل، و هو سكران لا يعقل و يعد ذلك فتوة و هو سفه و جنون.

فهذه العثرات و أمثالها مما لا حصن للإنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه و لذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شئونه القول بالمعاد، و لازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان و يجتنب الإساءة أينما كان و متى ما كان سواء علم به أو لم يعلم، و سواء حمده حامد أو لم يحمد، و سواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت و وراءه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء، و فيه تجزى كل نفس بما كسبت.

7 - منطقان منطق التعقل و منطق الإحساس:

أما منطق الإحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي و يبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع و أحس به الإنسان فالإحساس متوقد شديد التوقان في بعثه و تحريكه، و إذا لم يحس الإنسان بالنفع فهو خامد هامد، و أما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق و يرى أنه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحس مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس فإن ما عند الله خير و أبقى، و قس في ذلك بين قول عنترة و هو على منطق الإحساس: و قولي كلما جشأت و جاشت.

مكانك تحمدي أو تستريحي.

يريد أني استثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز و المواقف المهولة من القتال بقولي لها: اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات و عدم الانهزام، و إن قتلت العدو استرحت و نلت بغيتك فالثبات خير على أي حال، و بين قوله تعالى - و هو على منطق التعقل -: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون: "التوبة: 52"، يريد أن أمر ولايتنا و انتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شيء مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له و الالتزام لدينه كما قال تعالى: لا يصيبهم ظمأ و لا نصب و لا مخمصة في سبيل الله و لا يطئون موطئا يغيظ الكفار و لا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين و لا ينفقون نفقة صغيرة و لا كبيرة و لا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون: "التوبة: 121".

و إذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شيء كان لنا عظيم الأجر و العاقبة الحسنى عند ربنا و إن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب و العاقبة الحسنى و التمكن في الدنيا من عدونا، فنحن على أي حال سعداء مغبوطون و لا تتحفون لنا في قتالنا و لا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى و السعادة على أي حال و أنتم على السعادة و نيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين، و في إحدى الحالين و هو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم و أنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا و يسعدنا.

فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات و عدم الزوال على مبنى إحساسي و هو أن للثابت أحد نفعين: إما حمد الناس و أما الراحة من العدو، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة، أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد و تساوى عندهم الخدمة و الخيانة، أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي و لا الخيانة، أو لم يسترح الإحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي و اللكنة.

و هذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي و خيانة و جناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون: أن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها و إن الخادم و الخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا و أنعم عيشا، و يرى كل باغ و جان أنه سيتخلص من قهر القانون و أن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفي أمره و يلتبس على الناس شخصه، و يعتذر كل من يتثبط و يتثاقل في إقامة الحق و الثورة على أعدائه و يداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس، و يضحك منه الدنيا الحاضرة، و يعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكرته بشرافة النفس و طهارة الباطن رد عليك قائلا: ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش و ذلة الحياة هذا.

و أما المنطق الآخر و هو منطق الإسلام فهو يبني أساسه على اتباع الحق و ابتغاء الأجر و الجزاء من الله سبحانه و إنما يتعلق الغرض بالغايات و المقاصد الدنيوية في المرتبة التالية و بالقصد الثاني، و من المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد، و لا يسقط كليته من العموم و الاطراد، فالعمل - أعم من الفعل و الترك - إنما يقع لوجهه تعالى و إسلاما له و اتباعا للحق الذي أراده و هو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة و لا نوم، و لا عاصم منه و لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء و الله بما تعملون خبير.

فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت، رقيب شهيد قائم بما كسبت، سواء شهده الناس أو لا، حمدوه أو لا، قدروا فيه على شيء أو لا.



و قد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعترفون عنده بجرائمهم و جناياتهم بالتوبة و يذوقون مر الحدود التي تقام عليهم القتل فما دونه ابتغاء رضوان الله و تطهيرا لأنفسهم من قذارة الذنوب و درن السيئات، و بالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الديني في نفوس الناس و تعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء و أعزها عندهم و هي الحياة و ما في تلوها و لو لا أن البحث قرآني لأوردنا طرفا من الأمثلة التاريخية فيه.

8 - ما معنى ابتغاء الأجر عند الله و الإعراض عن غيره؟

ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الأخروي و هو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية يوجب سقوط الأغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية و فيه فساد نظام الاجتماع، و الانحطاط إلى منحط الرهبانية، و كيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الأخرى؟ و هل هذا إلا تناقض؟.

لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الإلهية و الأسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب، قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: "الروم: 30.

و حاصلة: أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها و توفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيئت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح و الاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه و تسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك و الشقاء و هذا لو تفهمه المتوهم هو الدين الإسلامي بعينه و لما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر لأمرها فيما دق و جل و هو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له و الخضوع لأمره و هذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي.

و من هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد و الإسلام لله و ابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طرا و إعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك و لا غفلة فعند المرء المسلم غايات و أغراض دنيوية و أخرى أخروية و له مقاصد مادية و أخرى معنوية لكنه لا يعتنى في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء و الاهتمام و لذلك بعينه نرى أن الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه و الانقطاع إليه و الإخلاص له و الإعراض عن كل سبب دونه و مبتغي غيره و مع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة و الجري على المجاري الطبيعية.

و من هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا و في الآخرة و أن غايتهم و هو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت و استوثرت.

و من هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر و هو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين و الغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية و العباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين و لو لم يتلبس بعقيدة و لا عبودية.

و الباحث المتدبر في الكتاب و السنة و خاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مئونة زائدة و تكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي يتضمن إسقاط التوحيد و كرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع، و قد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الأخرى لا في أصلها و لا في فروعها و ثمراتها.

9 - ما معنى الحرية في الإسلام؟

كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون و لعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلا في الأذهان و أمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة.

و الأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس و الشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية.

غير أن الإنسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع و إلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات و فعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات و الأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة و العمل هي بعينها تحدد الإرادة و العمل و تقيد ذلك الإطلاق الابتدائي و الحرية الأولية.

و القوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها و بلوازمها، و في أمر الأخلاق و في ما وراء القوانين من كل ما يريده و يختاره الإنسان من الإرادات و الأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم.

و أما الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير و خطير من الأعمال الفردية و الاجتماعية كائنة ما كانت فلا شيء مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا و للشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال و لا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه.

نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه و هذا و إن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الإسلامية و السيرة العملية التي تندب إليها و تقرها بين أفراد المجتمع و طبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد و السيادة و التحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها و أفرادها أنفسها و بين كل أمة قوية و ضعيفة.

و أما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق و مزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق الآية: "الأعراف: 32"، و قال تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا: "البقرة: 29"، و قال تعالى: و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه: "الجاثية: 13".

و من عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين و المفسرين و تكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الإسلام بقوله تعالى: لا إكراه في الدين: "البقرة: 256"، و ما يشابهه من الآيات الكريمة.



و قد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة و الذي نضيف إليها هاهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الإسلامية و مع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد؟ و هل ذلك إلا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه.

و بعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملا اختياريا للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير، و إنما الذي يقبل الحظر و الإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة و إقناع الناس بها و كتابتها و نشرها و إفساد ما عند الناس من العقيدة و العمل المخالفين لها، فهذه هي التي تقبل المنع و الجواز، و من المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون و لم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد التوحيد و النبوة و المعاد و هو الذي يجتمع عليه المسلمون و اليهود و النصارى و المجوس أهل الكتاب فليست الحرية إلا فيها و ليست فيما عداها إلا هدما لأصل الدين، نعم هاهنا حرية أخرى و هي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث و سنبحث عنها في الفصل 14 الآتي.

10 - ما هو الطريق إلى التحول و التكامل في المجتمع الإسلامي؟

ربما أمكن أن يقال: هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة، و المجتمع الإسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها و انتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع و وقوفه عن التحول و التكامل و هو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشيء و تفاعلها حتى تولد بالكسر و الانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الإسلام يرفع الأضداد و النواقص و خاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.

أقول: و هو من إشكالات المادية التحولية ماترياليسم ديالكتيك و فيه خلط عجيب فإن العقائد و المعارف الإنسانية على نوعين نوع يقبل التحول و التكامل و هو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية و تذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضية و الطبيعية و غيرهما، و هذه العلوم و الصناعات و ما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك.

و نوع آخر لا يقبل التحول و إن كان يقبل التكامل بمعنى آخر و هو العلوم و المعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدإ و المعاد و السعادة و الشقاء و غير ذلك قضاء قاطعا واقفا غير متغير و لا متحول و إن قبلت الارتقاء و الكمال من حيث الدقة و التعمق و هذه العلوم و المعارف لا تؤثر في الاجتماعات و سنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف و الآراء و ثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراء كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا: إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته، و إن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان، و إن الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع، و قولنا: إن العالم موجود حقيقة لا وهما و إن الإنسان جزء من العالم، و إن الإنسان جزء من العالم الأرضي و إن الإنسان ذو أعضاء و أدوات و قوى إلى غير ذلك من الآراء و المعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها و وقوفها وقوف الاجتماعات و ركودها و من هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة و سيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم، و هذه هي الكلمة الوحيدة التي بني عليها الإسلام مجتمعه و تحفظ عليها كل التحفظ و من المعلوم أنه مما لا يوجب باصطكاك ثبوته و نفيه و إنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا و هذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا و خسة.

و الحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول و التكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة، و هذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم و تطبيق العمل على العلم دائما و الإسلام لا يمنع من ذلك شيئا.

و أما تغير طريق إدارة المجتمعات و سنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكي و الديمقراطية و الكمونيزم و نحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها و قصورها عن إيفاء الكمال الإنساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط و الصواب لا فرق الناقص و الكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الإنسان بفطرته و هو العدالة الاجتماعية و استظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع و العمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم و العمل و لا يزالون يتكاملون و يزيدون تمكنا و اتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك؟ و مجرد وجوب التحول على الإنسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر و بصيرة.

فإن قلت: لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات و الأخلاق الكلية و نحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية و المحيطات المختلفة و مرور الأزمنة فلا يجوز أن ينكر أن الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم، و كذا الإنسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الإستوائية و القطبية و النقاط المعتدلة، و كذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم و مخدوم و بدوي و حضري و مثر و معدم و فقير و غني و نحو ذلك، فالأفكار و الآراء تختلف باختلاف العوامل و تتحول بتحول الأعصار بلا شك كائنة ما كانت.

قلت: الإشكال مبني على نظرية نسبية العلوم و الآراء الإنسانية و لازمها كون الحق و الباطل و الخير و الشر أمورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدإ و المعاد و كذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للإنسان و كون العدل خيرا حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الأزمنة و الأوضاع و الأحوال، و قد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها.

و حاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية و قسم من الآراء الكلية العملية.

و كفى في بطلان كليتها أنها لو صحت أي كانت كلية مطلقة ثابتة أثبتت قضية مطلقة غير نسبية و هي نفسها، و لو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال، و بعبارة أخرى لو صح أن "كل رأي و اعتقاد يجب أن يتغير يوما" وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك.

11 - هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟

ربما يقال: هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شئون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية و جميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية فالحياة الثقافية و العيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء و التكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ و كيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى.

و الجواب: أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شئونها، و إنما هو من حيث المصاديق و الموارد و بعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به، و لباس يلبسه، و دار يقطن فيه و يسكنه، و وسائل تحمله و تحمل أثقاله و تنقلها من مكان إلى مكان، و مجتمع يعيش بين أفراده، و روابط تناسلية و تجارية و صناعية و عملية و غير ذلك، و هذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة و البنية و ما دام حياته هذه الحياة الإنسانية، و الإنسان الأولي و إنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.

و إنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية و من حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها و بوسائل رفعها.



فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه و النبات و لحم الصيد على وجه بسيط ساذج، و هو اليوم يهيىء منها ببراعته و ابتداعه ألوفا من ألوان الطعام و الشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته، و ألوان يستلذ منها بصره، و طعوم يستطيبها ذوقه، و كيفيات يتنعم بها لمسه، و أوضاع و أحوال أخرى يصعب إحصاؤها و هذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعة و إطفاء نائرة شهوته.

و كما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة و استدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير و انحراف و أما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم و العصر الحديث.

و أما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا و زمانا و تتغير سريعا بالطبع كالأحكام المالية و الانتظامية المتعلقة بالدفاع و طرق تسهيل الارتباطات و المواصلات و الانتظامات البلدية و نحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي و متصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم و يجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته و فيما أمره إليه، فلولي الأمر أن يعزم على أمور من شئون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى: و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله: "آل عمران: 159"، كل ذلك في الأمور العامة.

و هذه أحكام و عزمات جزئية تتغير بتغير المصالح و الأسباب التي لا تزال يحدث منها شيء و يزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب و السنة و لا سبيل للنسخ إليها و لبيانه التفصيلي محل آخر.

12 - من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام و ما سيرته؟

كان ولاية أمر المجتمع الإسلامي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و افتراض طاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس و اتباعه صريح القرآن الكريم.

قال تعالى: و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول: "التغابن: 12"، و قال تعالى: لتحكم بين الناس بما أريك الله: "النساء: 105"، و قال تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم: "الأحزاب: 6"، و قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله: "آل عمران: 31"، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتضمن كل منها بعض شئون ولايته العامة في المجتمع الإسلامي أو جميعها.

و الوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) و يمتلىء منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق و القوانين المشرعة في الأحكام العبادية و المعاملات و السياسات و سائر المرابطات و المعاشرات، فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي و البيان الوافي ما لا يوجد في الجملة و الجملتين من الكلام البتة.

و هاهنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها، و هو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات و القيام بأمر الجهاد و إجراء الحدود و القصاص و غير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، كقوله تعالى: و أقيموا الصلاة: "النساء: 77"، و قوله: و أنفقوا في سبيل الله: "البقرة: 195"، و قوله: كتب عليكم الصيام: "البقرة: 183"، و قوله: و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر: "آل عمران: 104"، و قوله: و جاهدوا في سبيله: "المائدة: 35"، و قوله: و جاهدوا في الله حق جهاده: "الحج: 78"، و قوله: الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما: "النور: 2"، و قوله: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما: "المائدة: 38"، و قوله: و لكم في القصاص حيوة: "البقرة: 179"، و قوله: و أقيموا الشهادة لله: "الطلاق: 2"، و قوله: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا: "آل عمران: 103" و قوله: أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه: "الشورى: 13"، و قوله: و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين: "آل عمران: 144" إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و يستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس و لا يرضى لعباده الكفر، و لم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير مزية في ذلك لبعضهم و لا اختصاص منهم ببعضهم، و النبي و من دونه في ذلك سواء، قال تعالى: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: "آل عمران: 195"، فإطلاق الآية يدل على أن التأثير الطبيعي الذي لأجزاء المجتمع الإسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا و أنه تعالى لا يضيعه، و قال تعالى: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين: "الأعراف: 128".

نعم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة و الهداية و التربية، قال تعالى: يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة: "الجمعة: 2"، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة و ولاية أمورهم في الدنيا و الآخرة و للإمامة لهم ما دام حيا.

لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش و عباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء و يحكم فيهم ما يريد و ليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديمقراطية و غيرها فإن بينها و بين الإسلام فروقا بينة مانعة من التشابه و التماثل.

و من أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام و الاستثمار و هو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الإنسان و عمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان، و يبيح له طريق الوصول إليه و التسلط على ما يهواه و يأمله منه لنفسه، و هذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة و قد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية و إجحافاتهم و تحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة و على ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة و القياصرة و الأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه و لعبه كل ما يريده و يهواه.

و يعتذر - لو اعتذر - إن ذلك من شئون السلطنة و لصلاح المملكة و تحكيم أساس الدولة، و يعتقد أن ذلك حق نبوغه و سيادته، و يستدل عليه بسيفه، كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الأمم و ضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ و حوادثه كرت علينا و لن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي و الروح هي الروح و الهوى هو الهوى و أما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء و دليله السيرة النبوية في فتوحاته و عهوده.

و منها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود و مضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه و المقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الإسلامي مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض و لا تفاضل و لا تفاخر و لا كرامة و إنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية و لا تسكت عنه إنما هو في التقوى و أمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، و قال تعالى: فاستبقوا الخيرات: "البقرة: 148" فالحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و الرئيس و المرءوس و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الغني و الفقير و الصغير و الكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم و من حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشئون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام و التحية.

و منها أن القوة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هناك فروق أخر لا يخفى على الباحث المتتبع.



هذا كله في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين و الشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله و رسوله و هم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام.

و لكن على أي حال أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال، و الذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي سنة الإمامة دون الملوكية و الإمبراطورية و السير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير، و التولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت و المحل كما تقدم و الدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافة إلى قوله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة: "الأحزاب: 21".

13 - ثغر المملكة الإسلامية هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية

ألغى الإسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية و العيش بعيشة القبائل و البطون أو اختلاف منطقة الحياة و الوطن الأرضي، و هذان أعني البدوية و اختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة و برودة و جدب و خصب و غيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الإنساني شعوبا و قبائل و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم على ما بين في محله.

ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة و بأسهم و شدتهم و تخصيصها بأنفسهم و تسميتها وطنا يألفونه و يذبون عنه بكل مساعيهم.

و هذا و إن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة و تألفها و تقويها بالتراكم و التوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم و أصلح، و هذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا.

و الانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الأخرى فيصير واحدا منفصل الروح و الجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى فتنعزل الإنسانية عن التوحد و التجمع و تبتلي من التفرق و التشتت بما كانت تفر منه و يأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة أعني الآحاد الاجتماعية بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام و استثمار و غير ذلك، و التجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك و ما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.

و هذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات و التشتتات و التميزات، و بنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية و القومية و الوطن و نحو ذلك، حتى في مثل الزوجية و القرابة في الاستمتاع و الميراث، فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل و الوطن مثلا.

و من أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الأحوال، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته و اهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين و لا يتفرقوا فيه، و عليه عند الاضطهاد و المغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين و إعلاء كلمته و على هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به و يعمل منه ما يستطيعه و لو كان بعقد القلب في الاعتقاديات و الإشارة في الأعمال المفروضة عليه.

و من هنا يظهر أن المجتمع الإسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال و على كل التقادير من حاكمية و محكومية و غالبية و مغلوبية و تقدم و تأخر و ظهور و خفاء و قوة و ضعف.

و يدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان الآية: "النحل: 106" و قوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة: "آل عمران: 28" و قوله: فاتقوا الله ما استطعتم و قوله: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون: "آل عمران: 102".

14 - الإسلام اجتماعي بجميع شئونه:

يدل على ذلك قوله تعالى: و صابروا و رابطوا لعلكم تفلحون الآية على ما مر بيانه و آيات أخر كثيرة.

و صفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس و الأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع و بحسب ما يمكن فيه من الأمر و الحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معا في بحثه: فالجهة الأولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع و هذا نوع، و شرع وجوب الصوم و الحج مثلا للمستطيع غير المعذور و لازمه اجتماع الناس للصيام و الحج و تمم ذلك بالعيدين: الفطر و الأضحى، و الصلاة المشروعة فيهما، و شرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة و تدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ.

و هذا نوع آخر.

و الجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت و ألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة و على الناس أن يقيموا السنة.

و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.

و هذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم و بأي قيمة حصلت.

و هذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب و السنة و المتصدي لبيانها الفقه الإسلامي.

و أهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى و هي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال العبادية و المعاملية و السياسية و من الأخلاق الكريمة و من المعارف الأصلية.

نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه و الآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد، و هذا أول التآلف و التآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها و تعلقها بقيود الأخلاق و الغرائز لا تختلف في أن "الحق يجب اتباعه".

ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة و لم تتضح له المحجة و إن قرعت سمعه الحجة قال تعالى: ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة: "الأنفال: 42" و قال تعالى: إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا: "النساء: 99" انظر إلى إطلاق الآية و مكان قوله: لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، و هذا يعطي الحرية التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث و التنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين و يتعمق في تفهمها و النظر فيها.



على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث و الترغيب في التفكر و التعقل و التذكر.

و من المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية و الخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها و تصديقها و نيلها و قضائها و هذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الإسلامي كما تقدم.

إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس و فن الأخلاق و فن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور إما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية و الصفات الباطنة من الملكات الفاضلة و الردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم و المعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف و قضاؤه الذهني كإدراك الشموس المتعسف، و لا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول و المتعصب و صاحب الهوى و الهمجي الذي يتبع كل ناعق و الغوي الذي لا يدري أين يريد؟ و لا أنى يراد به، و التربية الدينية تكفي مئونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية من المعارف و العلوم، و تستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول و هي مكارم الأخلاق قال تعالى: كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم: "الأحقاف: 30" و قال تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم: "المائدة: 16" و قال تعالى: و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين: "العنكبوت: 69" و انطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر.

و إما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي و أقسام التهوسات الإنسانية و من هذا القبيل أقسام الإغواء و الوساوس يلقن الإنسان و خاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة و يعد ذهنه لدبيب الشبهات و تسرب الآراء الباطلة فيه و تختلف إذ ذاك الأفهام و تتخلف عن اتباع الحق! و قد كفى مئونة هذا أيضا الإسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا، و كلف المجتمع بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثانيا، و أمر بهجرة أرباب الزيغ و الشبهات ثالثا.

قال تعالى: و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر الآية: "آل عمران: 104" فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق و تقرها في القلوب بالتلقين و التذكير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس، و قال تعالى: و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره و إما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء و لكن ذكرى لعلهم يتقون و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و غرتهم الحيوة الدنيا و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت الآيات: "الأنعام: 70"، ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية و الحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء و لو بنحو الاستلزام أو التلويح، و يذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في معارفه، و أخذه بالهزل و اللعب و اللهو، و أن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا، و أن علاجه التربية الصالحة و التذكير بمقامه تعالى.

و إما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار و عدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلا صحيحا كالجربزة و البلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج و علاجه تعميم التبليغ و الإرفاق في الدعوة و التربية، و هذان من خصائص السلوك التبليغي في الإسلام، قال تعالى: قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني: "يوسف: 108"، و من المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب و أنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين و المستمعين فلا يبذل أحد إلا مقدار ما يعيه منه، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما رواه الفريقان: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم، و قال تعالى: فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون: "التوبة: 122"، فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع.

و قد قرر الإسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد و الانحلال فقد قال تعالى: و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: "الأنعام: 153"، فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم و تحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق و يحفظ لهم الاتحاد و الاتفاق، ثم قال: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا: "آل عمران: 103"، و قد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين، أو هو و الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يظهر من قوله تعالى قبله: يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم ءايات الله و فيكم رسوله و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم: "آل عمران: 101".

تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين و يرابطوا أفكارهم و يمتزجوا في التعليم و التعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم و التدبر فيها لحسم مادة الاختلاف و قد قال تعالى: أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا: "النساء: 82"، و قال: و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون: "العنكبوت: 43" و قال: فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون: "النحل: 43" فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين.

و تدل على أن الإرجاع إلى الرسول و هو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف و يبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه، قال تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون: "النحل: 44"، و قريب منه قوله تعالى: و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: "النساء: - 83"، و قوله: يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا: "النساء: 59"، فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الإسلام.

و منه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر، و يرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين و يجتهدوا في معارفه تفكرا و اجتهادا بالاجتماع و المرابطة، و إن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه و معارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به و إنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا، قال تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب: "الزمر: 18".

و الحرية في العقيدة و الفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر و إشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.

هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية، و أما تحميل الاعتقاد على النفوس و الختم على القلوب و إماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوة و قهرا و التوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير و الهجرة و ترك المخالطة فحاشا ساحة الحق و الدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده، و إنما هو خصيصة نصرانية و قد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها و تحكماتها في هذا الباب - و خاصة فيما بين القرن الخامس و بين القرن السادس عشر الميلاديين - بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة و الطواغيت و أقساه.

و لكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة و ما لزمها الاجتماع الفكري و حرية العقيدة كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فحكمت فينا سيرة الكنيسة و استتبع ذلك أن تفرقت القلوب و ظهر الفتور و تشتت المذاهب و المسالك يغفر الله لنا و يوفقنا لمرضاته و يهدينا إلى صراطه المستقيم.

15 - الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة

و العاقبة للتقوى فإن النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية و هو استواؤه على عرش حياته الروحية و الجسمية معا حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي و الأخروي و قد عرفت أن هذا هو الإسلام و دين التوحيد.

و أما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته و في ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطإ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة، و الغاية التي يعقبها الصنع و الإيجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل، قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا و إن علمته فطرتهم إجمالا، "إلى أن قال": ليكفروا بما ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون،" إلى أن قال": ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون: "الروم: 30 41"، و قال تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم: "المائدة: 54"، و قال تعالى: و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون: "الأنبياء: 105" و قال تعالى: و العاقبة للتقوى: "طه: 132"، فهذه و أمثالها آيات تخبرنا أن الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إن الإسلام و إن ظهر ظهورا ما و كانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية و اعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها و صورها و غاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني و لن يقبله أبدا و لم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا و حكومته على النوع تامة.

و ذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني و كماله الذي هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر و التجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة، و الإنسان غير مستثنى من هذه الكلية.

على أن شيئا من السنن و الطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية لم يتك في حدوثه و بقائه و حكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس، و كذا ما أتى به برهما و بوذا و ماني و غيرهم، و تلك سنن المدنية المادية كالديمقراطية و الكمونيسم و غيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الإنسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.

و إنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها و رسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة و همم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي و لا نصب، و لا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد و المسعى قد يخيب، و لا فرق في ذلك بين الغايات و المآرب الرحمانية و الشيطانية.

بحث روايي

في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا الآية: اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة. و رابطوا على من تقتدون به.

و في تفسير العياشي، عنه (عليه السلام): اصبروا على دينكم، و صابروا عدوكم، و رابطوا إمامكم.

أقول: و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الكافي، عنه (عليه السلام): اصبروا على الفرائض، و صابروا على المصائب و رابطوا على الأئمة.

و في المجمع، عن علي (عليه السلام): رابطوا الصلوات قال أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذ.

أقول: اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الأوامر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن حيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، و يكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط: أقول: و رواه بطرق أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى.


4 سورة النساء - 1
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيهَا النّاس اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِى خَلَقَكم مِّن نّفْسٍ وَحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنهَا زَوْجَهَا وَ بَث مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتّقُوا اللّهَ الّذِى تَساءَلُونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

بيان


غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات و محرمات النكاح و غير ذلك، و أحكام المواريث، و فيها أمور أخرى من أحكام الصلاة و الجهاد و الشهادات و التجارة و غيرها، و تعرض لحال أهل الكتاب.

و مضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة، و ظاهرها أنها نزلت نجوما لا دفعة واحدة و إن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها.

و أما هذه الآية في نفسها فهي و عدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى و النساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث و المحارم و أما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه و إن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمي الذي وقع في الآية كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم" إلى قوله: "و نساء" يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم و هم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم و المرأة و الصغير و الكبير و العاجز و القوي حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة و لا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم و الأحكام و القوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم، و حفظ وجودهم و بقائهم فرادى و مجتمعين.

و من هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة و كذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال: اتقوا الله و نحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني قوله: الذي خلقكم من نفس واحدة "إلخ" يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين، و هو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير و التكميل لا من شئون الألوهية.

و أما قوله تعالى: "الذي خلقكم من نفس واحدة" "إلخ" فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشيء يقال: جاءني فلان نفسه و عينه و إن كان منشأ تعين الكلمتين - النفس و العين - لهذا المعنى ما به الشيء شيء مختلفا، و نفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان، و هو مجموع روح الإنسان و جسمه في هذه الحياة الدنيا و الروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: "البقرة: 154".

و ظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم (عليه السلام)، و من زوجها زوجته، و هما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه و إليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها: "الزمر: 6"، و قوله تعالى: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة: "الأعراف: 27"، و قوله تعالى: حكاية عن إبليس: لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا: "إسراء: 62".

و أما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة و زوجها في الآية مطلق الذكور و الإناث من الإنسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيئول المعنى إلى نحو قولنا: خلق كل واحد منكم من أب و أم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، حيث إن ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه: ذكر و أنثى.

ففيه فساد ظاهر و قد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء و آية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانية، و نفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب و أم إنسانين فلا ينبغي أن يتكبر أحدهم على الآخرين و لا يتكرم إلا بالتقوى، و أما آية النساء فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، و أنهم على كثرتهم رجالا و نساء إنما اشتقوا من أصل واحد و تشعبوا من منشإ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله: و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و هذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة و زوجها مطلق الذكر و الأنثى الناسلين من الإنسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه.

و أما قوله: و خلق منها زوجها فقد قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخف و النعل، و لكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، إلى أن قال: و زوجه لغة رديئة، انتهى.

و ظاهر الجملة أعني قوله: و خلق منها زوجها أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل و أن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية و الآية في مساق قوله تعالى: و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة: - الروم 21، و قوله تعالى: و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا و جعل لكم من أزواجكم بنين و حفدة: - النحل 72، و قوله تعالى: فاطر السموات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه: - الشورى 11، و نظيرها قوله: و من كل شيء خلقنا زوجين: - الذاريات 49، فما في بعض التفاسير: أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها و خلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار: أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية.

و أما قوله: و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، البث هو التفريق بالإثارة و نحوها قال تعالى: فكانت هباء منبثا: - الواقعة 6، و منه بث الغم و لذلك ربما يطلق البث و يراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الإنسان بالطبع، قال تعالى: قال إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله: - يوسف 86، أي غمي و حزني.

و ظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته من غير أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال: و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و لم يقل: منهما و من غيرهما، و يتفرع عليه أمران: أحدهما: أن المراد بقوله: رجالا كثيرا و نساء أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل: و بثكم منهما أيها الناس.

و ثانيهما: أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم و زوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الإخوة و الأخوات ازدواج البنين بالبنات إذ الذكور و الإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ، و لا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما و يحرمه آخر، قال تعالى: و الله يحكم لا معقب لحكمه: - الرعد 41، و قال: إن الحكم إلا لله: - يوسف 40، و قال: و لا يشرك في حكمه أحدا: - الكهف 26، و قال: و هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه ترجعون: - القصص 70.



قوله تعالى: "و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام" المراد بالتساؤل سؤال بعض الناس بعضا بالله، يقول أحدهم لصاحبه: أسألك بالله أن تفعل كذا و كذا هو إقسام به تعالى، و التساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الإنسان إنما يقسم بشيء يعظمه و يحبه.

و أما قوله: و الأرحام فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة، و المعنى: و اتقوا الأرحام، و ربما قيل: إنه معطوف على محل الضمير في قوله: به و هو النصب يقال: مررت بزيد و عمرا، و ربما أيدته قراءة حمزة: و الأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور - و إن ضعفه النحاة - فيصير المعنى: و اتقوا الله الذي تساءلون به و بالأرحام يقول أحدكم لصاحبه: أسألك بالله و أسألك بالرحم، هذا ما قيل، لكن السياق و دأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله: و الأرحام إن جعل صلة مستقلة للذي، و كان تقدير الكلام: و اتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام كان خاليا من الضمير و هو غير جائز، و إن كان المجموع منه و مما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه و بين الأرحام في أمر العظمة و العزة و هي تنافي أدب القرآن.

و أما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء الأرحام إلى صنعه و خلقه تعالى، و قد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله: "البقرة: 281"، و قوله: و اتقوا النار التي أعدت للكافرين: "آل عمران: 131"، و قوله: و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة: "الأنفال: 25".

و كيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق و التضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله: يا أيها الناس اتقوا إلى قوله: و نساء، فإن محصل معنى الشطر الأول: أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم، و من جهة خلقه و جعله إياكم - معاشر أفراد الإنسان - من سنخ واحد محفوظ فيكم و مادة محفوظة متكثرة بتكثركم، و ذلك هو النوعية الجوهرية الإنسانية، و محصل معنى هذا الشطر: أن اتقوا الله من جهة عظمته و عزته عندكم و ذلك من شئون الربوبية و فروعها و اتقوا الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم و الرحم شعبة من شعب الوحدة و السنخية السارية بين أفراد الإنسان.

و من هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى و إعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة و هي إفادة الاهتمام التام بأمر الأرحام.

و الرحم في الأصل رحم المرأة و هي العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا، ثم استعير للقرابة بعلاقة الظرف و المظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة، فالرحم هو القريب و الأرحام الأقرباء، و قد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم و الأمة، فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير، و قد اعتنى القرآن بأمر المجتمع و عده حقيقة ذات خواص و آثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان و عده حقيقة ذات خواص و آثار تستمد من الوجود، قال تعالى: و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا: "الفرقان: 54"، و قال تعالى: و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا: "الحجرات: 13"، و قال تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: "الأحزاب: 6"، و قال تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم: "سورة محمد: 22"، و قال تعالى: و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: "النساء: 9"، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: "إن الله كان عليكم رقيبا" الرقيب الحفيظ و المراقبة المحافظة، و كأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم، أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته و مد عنقه، و ليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته و سكناته لإصلاح موارد الخلل و الفساد أو ضبطها، فكأنه حفظ الشيء مع العناية به علما و شهودا و لذا يستعمل بمعنى الحراسة و الانتظار و المحاذرة و الرصد، و الله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها، قال تعالى: و ربك على كل شيء حفيظ: "سبأ: 21"، و قال: الله حفيظ عليهم و ما أنت عليهم بوكيل: "الشورى: 6"، و قال: فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: "الفجر: 14".

و في تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانية السارية بين أفراده و حفظ آثارها اللازمة لها، بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير و التخويف بالمخالفة، و بالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغي و الظلم و الفساد في الأرض و الطغيان و غير ذلك، و ما وقع فيها من التهديد و الإنذار، بهذا الغرض الإلهي و هو وقاية الوحدة الإنسانية من الفساد و السقوط.

كلام في عمر النوع الإنساني و الإنسان الأولي

يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة و الاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا و أنثى زوجين اثنين من هذا النوع و فرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن و الخصب و الرفاهية و مساعدة سائر العوامل و الشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما و قد تزوجا و تناسلا و توالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين و البنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا و هو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد رأس المائة الألف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الإنسان من العوامل المضادة له في الوجود و البلايا العامة لنوعه من الحر و البرد و الطوفان و الزلزلة و الجدب و الوباء و الطاعون و الخسف و الهدم و المقاتل الذريعة و المصائب الأخرى غير العامة، و أعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ، و بالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة و تسعة و تسعين إلى الألف، و أنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد و هو واحد من ألف.

ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة 70 قرنا وجدناه تجاوز بليونين و نصفا، و هو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي.



فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي علم طبقات الأرض ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين، و قد وجدوا من الفسيلات الإنسانية و الأجساد و الآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه، فهذا ما عندهم، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الأمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر و نما و عاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور و الانقراض و دار الأمر على ذلك عدة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

و أما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها؟ و إن كان ربما يستشم من قوله تعالى: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء الآية: "البقرة: 30"، سبق دورة إنسانية أخرى على هذه الدورة الحاضرة، و قد تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآية.

نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما يثبت للإنسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة و سيجيء في البحث الروائي.

كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم و زوجته

ربما قيل: إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان و عمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا و أوربا، و السواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية، و الصفرة كلون أهل الصين و اليابان، و الحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء و على هذا فالمبادي الأول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

و ربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت و لها أهل و هم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى و لا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد و أم واحدة، و الدليلان - كما ترى - مدخولان: أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع، و مع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع و قد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها، و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء.

و أما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، و الذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة، و إذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات، و هناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين و المنطقة على ما يشرحه علوم طبقات الأرض و الهيئة و الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا.

و أما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر و أنثى هما الأب و الأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم، و أما زوجته فلم يسمها في كتابه و لكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى: و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين: "الم السجدة: 8" و قال تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: "آل عمران: 59" و قال تعالى: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون و علم آدم الأسماء كلها الآية: "البقرة: 31" و قال تعالى: إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين الآيات: "ص: 72" فإن الآيات - كما ترى - تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أن آدم خلق من تراب و أن الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته مما لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل.

و ربما قيل: إن المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة آدم النوعي دون الشخصي كان مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سمي بآدم، و ربما استظهر ذلك من قوله تعالى: و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم: "الأعراف: 11" فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق و التصوير و قد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال: و لقد خلقناكم ثم صورناكم، و هكذا قوله تعالى: قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي "إلى أن قال": قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين "إلى أن قال": قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: "ص: 83" حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا.

و يرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى - بعد سرد قصة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس في سورة الأعراف: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما: "الأعراف: 27" فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.

و كذا قوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أ أسجد لمن خلقت طينا قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا: "إسراء: 62"، و كذا الآية المبحوث عنها: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء الآية، بالتقريب الذي مر بيانه.

فالآيات - كما ترى - تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة باعتبار آخر و خاصة في مثل قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" الآية، و إلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية.

فالقول بآدم النوعي في حد التفريط، و الإفراط الذي يقابله قول بعضهم: إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر.

ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة.

كلام في أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر

الآيات السابقة تكفي مئونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبين أنهما خلقا من تراب فالإنسانية تنتهي إليهما و هما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنما حدثا حدوثا.

و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنسانا و هذه الفرضية بخصوصها و إن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام و اعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية و هي "أن الإنسان حيوان تحول إنسانا" مما تسلموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.



فإنهم فرضوا أن الأرض - و هي أحد الكواكب السيارة - قطعة من الشمس مشتقة منها و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية و أرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور.

و هذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص و الآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتصال بينها بالتطور و قصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها و لوازمها و أعراضها.

و استقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، و إنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علمي.

كلام في تناسل الطبقة الثانية من الإنسان

الطبقة الأولى من الإنسان و هي آدم و زوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين و بنات إخوة و أخوات فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم و هم إخوة و أخوات أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى: و بث منهما رجالا كثيرا و نساء الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الإنسان إنما ينتهي إلى آدم و زوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى و لم يذكر القرآن للبث إلا إياهما، و لو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: و بث منهما و من غيرهما، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ، و من المعلوم أن انحصار مبدإ النسل في آدم و زوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما.

و أما الحكم بحرمته في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح و المفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير، و زمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

و القول بأنه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطري، قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: "الروم: 30"، فاسد فإن الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها عن هذا النوع من المباشرة مباشرة الأخ الأخت و إنما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنساني، و من المعلوم أن هذا النوع من التماس و المباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالمي اليوم، و أما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الإخوة و الأخوات و المشية الإلهية متعلقه بتكثرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

و الدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة على ما يقصه التاريخ و شيوعه قانونيا في روسيا على ما يحكى و كذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في أوربا.

و ربما يقال: إنه مخالف للقوانين الطبيعية و هي التي تجري في الإنسان قبل عقده المجتمع الصالح لإسعاده فإن الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق و الميل الغريزي بين الإخوة و الأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق.

و فيه أنه ممنوع كما تقدم أولا، و مقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، و متكفلة لسعادة المجتمعين و إلا فمعظم القوانين المعمولة و الأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية.

بحث روايي

في التوحيد، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى و الله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين.

أقول: و نقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه، و رواه الصدوق في الخصال أيضا.

و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أن الله عز و جل عالما غيرهم.

و فيه، عن أبي جعفر (عليه السلام): لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه، الحديث.

و في نهج البيان، للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من أي شيء خلق الله حواء؟ فقال (عليه السلام): أي شيء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال: كذبوا أ كان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك من أي شيء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه و كلتا يديه يمين فخلق منها آدم، و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء: أقول: و رواه الصدوق عن عمرو مثله، و هناك روايات أخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم.

و في الإحتجاج، عن السجاد (عليه السلام) في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل و تزويج قابيل بأقليما أخت هابيل، قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم، فقال له القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال: إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثم قال له: لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت، أ ليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك، الحديث.

أقول: و هذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار، و هناك روايات أخر تعارضها و هي تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجان و قد عرفت الحق في ذلك.

و في المجمع، في قوله تعالى: و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام، عن الباقر (عليه السلام): و اتقوا الأرحام أن تقطعوها.

أقول: و بناؤه على قراءة النصب.

و في الكافي، و تفسير العياشي،: هي أرحام الناس إن الله عز و جل أمر بصلتها و عظمها، أ لا ترى أنه جعلها معه؟ أقول: قوله: أ لا ترى "إلخ" بيان لوجه التعظيم، و المراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى: و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام.



و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: الذي تساءلون به و الأرحام قال: قال ابن عباس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا و خير لكم في آخرتكم.

أقول: قوله: فإنه أبقى لكم "إلخ"، إشارة إلى ما ورد مستفيضا: أن صلة الرحم تزيد في العمر و قطعها بالعكس من ذلك، و يمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى: و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: "النساء: 9".

و يمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوى بذلك الإنسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا و المصائب و الأعداء.

و في تفسير العياشي، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت، و إنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادي: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني و ذلك قول الله في كتابه: و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان بكم رقيبا، و أيما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان.

أقول: و الرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب و أم أو أحدهما، و هي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية و خلقية، و روحية و جسمية غير قابلة الإنكار و إن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتى يلحق بالعدم و لن يبطل من رأس.

و كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة، مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد، و لذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى و أشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب، و كذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثرا منها في مورد الأجانب.

و بذلك يظهر معنى قوله (عليه السلام): فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه "إلخ"، فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها و تقوية لجانبها فتتنبه بسببه و تحرك لحكمها و يتجدد أثرها بظهور الرأفة و المحبة.

و كذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: و أيما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض "إلخ"، فإن الغضب إذا كان عن طيش النفس و نزقها كان في ظهوره و غليانه مستندا إلى هواها و إغفال الشيطان إياها و صرفها إلى أسباب واهية وهمية، و في تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأن نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب و لذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس، عن الصادق عن أبيه (عليه السلام): أنه ذكر الغضب فقال: إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا، و يدخل بذلك النار، فأيما رجل غضب و هو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، و إن كان جالسا فليقم، و أيما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه و ليدن منه و ليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت، أقول: و تأثيره محسوس مجرب.

قوله (عليه السلام): و إنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد "إلخ" أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، و في الصحاح: الإنقاض صويت مثل النقر، و قد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش: أن المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث و هو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث و متفرقات الأسباب و العلل الكونية فهي تحرك وحدها سلاسل العلل و الأسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها و شئونها و أشكالها تجتمع في عرش الملك و الكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى و المقامات الفعالة في المملكة و تظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل و الأثر.

و الرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت و اضطهدت لاذت بما تعلقت به و استنصرت، و هو قوله (عليه السلام): تنقضه انتقاض الحديد، و هو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش و الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس و الجامات و غيرها.

قوله (عليه السلام): فتنادي اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، حكاية لفحوى التجائها و استنصارها، و في الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر و أن قطعها يقطعه و قد مر في البحث عن ارتباط الأعمال و الحوادث الخارجية من أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض و الغايات الصالحة، و لن يهمل في ذلك، و إذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف و الإزالة، و قاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره و قطع دابره، و أما أن الإنسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة و أمثالها فلا غرو لأن الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت و تشابهت و أزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الألم و العذاب.

4 سورة النساء - 2 - 6
وَ ءَاتُوا الْيَتَمَى أَمْوَلهَُمْ وَ لا تَتَبَدّلُوا الخَْبِيث بِالطيِّبِ وَ لا تَأْكلُوا أَمْوَلَهُمْ إِلى أَمْوَلِكُمْ إِنّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطوا فى الْيَتَمَى فَانكِحُوا مَا طاب لَكُم مِّنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلَث وَ رُبَعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَنُكُمْ ذَلِك أَدْنى أَلا تَعُولُوا (3) وَ ءَاتُوا النِّساءَ صدُقَتهِنّ نحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً (4) وَ لا تُؤْتُوا السفَهَاءَ أَمْوَلَكُمُ الّتى جَعَلَ اللّهُ لَكمْ قِيَماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اكْسوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً (5) وَ ابْتَلُوا الْيَتَمَى حَتى إِذَا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ ءَانَستُم مِّنهُمْ رُشداً فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَلَهُمْ وَ لا تَأْكلُوهَا إِسرَافاً وَ بِدَاراً أَن يَكْبرُوا وَ مَن كانَ غَنِيّا فَلْيَستَعْفِف وَ مَن كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيهِمْ أَمْوَلَهُمْ فَأَشهِدُوا عَلَيهِمْ وَ كَفَى بِاللّهِ حَسِيباً (6)

بيان


الآيات تتمة التمهيد و التوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكون المجتمع و بقائه فإن النكاح يتعين به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع و العوامل التي تكونه، و الإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتنى عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه.

و قد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله و هو أمر المواليد و أمر المال.

و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني و نشبت في أصوله و جذوره.

و صرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر.

و هذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الإنساني يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربي و دارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام بالخصوص، و في كيفية تدرج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلامية في تشريعها.

كلام في الجاهلية الأولى

القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، و ليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كل شيء الباطل و سفر الرأي دون الحق، و كذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم، قال تعالى: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية: آل عمران 154، و قال: أ فحكم الجاهلية يبغون: - المائدة 50، و قال: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: - الفتح 26، و قال: "و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى: - الأحزاب 33.

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانية، و في مغربها إمبراطورية الروم و هي نصرانية، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية و النصرانية و المجوسية و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى: و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن و إن هم إلا يخرصون: - الأنعام 116.

و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون بالغزوات و شن الغارات و اختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.

أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحمية الجاهلية و الكبر و الغرور و اتباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.

و أما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهن عملا و لا يملكن ميراثا و يتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود و بعض الوثنية و مع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهن و فشا فيهن الزنا و السفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، و من عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.

و أما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفى، و يحرم الصغار ذكورا و إناثا و النساء.

غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتا تزوجوها و أكلوا مالها ثم طلقوها و خلوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.

و كان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق "الأنعام آية 151"، و كانوا يئدون البنات "التكوير آية 8"، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى "الزخرف آية 17".

و أما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربما تبدل الوضع بالسلطنة.

فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، و يظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الأمية و فقدان التعليم و التعلم في بلادهم فضلا عن العشائر و القبائل.

و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية و الخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات و البيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام و قوته بالمدينة ثانيا، و في الأوصاف التي تصفهم بها، و الأمور التي تذمها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجهة إليهم في شدتها و ضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك.

على أن التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه.

و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل.

هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

و أما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه.



أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية و التحكمات الفردية من الملوك و الرؤساء و الحكام و العمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف.

و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة و الجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الأول و الناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى رب البيت و مربوبيه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرية الإرادة و العمل في جميع شئون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال و لو يسيرا.

و جوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: "آل عمران: 64" و قد أدرجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران.

و كذا قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، و قوله في ما وصى به التزوج بالإماء و الفتيات: بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: "النساء: 25، و قوله في النساء: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: "آل عمران: 195"، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنية و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شئون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى: و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء: "الأنبياء: 109"، و قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ: "الأنعام: 19".

كيف ظهرت الدعوة الإسلامية؟

كان وضع المجتمع الإنساني يومئذ عهد الجاهلية ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شئون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق و يوليه عليهم تولية مطلقة، و يطهر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره.

و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج و لكن يريد ليطهرهم و ليتم نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان و بأي وسيلة تيسر كما قيل: إن أهمية الغاية تبيح المقدمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسي الذي يستعمله أهل السياسة.

و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الإيصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجري في باب الحق الصريح و هو الذي تؤمه الدعوة الإسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقا و ينتج السقيم صحيحا و الوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه؟.

و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدر و التعين و التمتع بأي نحو اتفق، و على أي وصف من أوصاف الخير و الشر و الحق و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحق، و لكن الدعوة الحقة لا تبتغي إلا الغرض الحق، و لو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاء و إنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة.

و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرين من آله (عليه السلام).

و بذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة و لو يسيرا في أمر الدين، قال تعالى: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين: "سورة الكافرون: 61" و قال تعالى و فيه لحن التهديد. و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات: "الإسراء: 75" و قال تعالى: و ما كنت متخذ المضلين عضدا: "الكهف: 51" و قال تعالى - و هو مثل وسيع المعنى -: و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا: "الأعراف: 58".

و إذا كان الحق لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعبأه ثقل الدعوة بالرفق و التدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعو و المدعو إليه من ثلاث جهات.

الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة و القوانين المشرعة التي من شأنها إصلاح شئون المجتمع الإنساني، و قطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيما إذا عمت كلمة الدين و دعوته جميع شئون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانية و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء كما أنه شأن الإسلام فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادي.

و صعوبة هذا الأمر و مشقته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسه و آثر عند شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين و الشرائع الإلهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما.

و بالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الذي ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فإنه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الإلهية و القوانين المشرعة في مكيتها و مدنيتها.



الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول، و المدنية - و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت - تفصل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام التي سبقت في المكية كلياتها و مجملاتها، قال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أ رأيت إن كذب و تولى أ لم يعلم بأن الله يرى: "العلق: 14" و الآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة.

و قال تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر: "المدثر: 3" و هي أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة، و قال تعالى: و نفس و ما سويها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكيها و قد خاب من دسيها: "الشمس: 10"، و قال تعالى: قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى: "الأعلى: 15" و قوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروه و ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة و هم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا و علموا الصالحات لهم أجر غير ممنون: "حم السجدة: 8" و هذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة.

و قال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى و بعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: "الأنعام: 153" فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا، و في الأوامر الشرعية ثانيا، و إنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكف عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإن العواطف الغريزية من الإنسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات أخر يعثر عليها المتدبر و يرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.

و كيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية، و مع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام و القوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا و نجوما.

و يكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى: و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا: "النحل: 67"، و الآية مكية ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلا ما في قوله: و رزقا حسنا من الإيماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم: "الأعراف: 33" و الآية أيضا مكية تحرم الإثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدت عظامهم، ثم قال: "يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما": البقرة - 219، و الآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الإثم الذي حرمته آية الأعراف، و لسان الآية - كما ترى - لسان رفق و نصح، ثم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون: "المائدة: 91"، و الآية مدنية ختم بها أمر التحريم.

و نظيرها الإرث فقد آخى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا بين أصحابه و ورث أحد الأخوين الآخر في أول الأمر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة، ثم نزل قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين: "الأحزاب: 6" و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة.

ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذا بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقي بالقبول، قال تعالى: و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا: "الإسراء: 106" و لو كان القرآن نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: "النحل: 44"، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية و الأخلاقية و كليات الأحكام العبادية و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصورها و حملها فضلا عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذي هيأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى: و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا: "الفرقان: 32" و في الآية دلالة على أنه سبحانه كان يرفق برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بأمته فتدبر في ذلك و تأمله و في ذيل الآية قوله: و رتلناه ترتيلا.

و من الواجب أن يتذكر أن السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر.

الثانية: السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان و مرجع الأخيرين إلى الأول في الحقيقة البتة قال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات و الأرض: "الأعراف: 158" و قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ: "الأنعام: 19" و قال تعالى: و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: "الأنبياء: 107". على أن التاريخ يحكي دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضا.



على أن قوله تعالى: و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: "حم السجدة: 42" و قوله تعالى: و لكن رسول الله و خاتم النبيين: "الأحزاب: 40" تدلان على عموم النبوة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضا، و البحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.

و كيف كان فالنبوة عامة، و المتأمل في سعة المعارف و القوانين الإسلامية و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة.

بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى: و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم: "إبراهيم: 4" و قال: و لو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين: "الشعراء: 199" و الآيات التي تدل على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله: و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية، و قوله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن: "يوسف: 3" و قوله: و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين: "الشعراء: 195" فاللسان العربي هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنية أتم إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال: إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون: "الزخرف: 3".

و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال: و أنذر عشيرتك الأقربين: "الشعراء: 214" فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك علي (عليه السلام) فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات و كتب التاريخ و السير، ثم لحق به أناس من أهله كخديجة زوجته و عمه حمزة بن عبد المطلب و عبيد و عمه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك و إنما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكن من حمايته (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله: و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها: "الشورى: 7" و قوله: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون: "الم السجدة: 3" و قوله: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ، و هذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنما بدأ بهم حكمة و مصلحة.

ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين و غيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" و قوله: "و لكن رسول الله و خاتم النبيين" و غيرهما مما تقدم.

الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبية و الجهاد.

أما الدعوة بالقول فهي مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الإنسانية و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي: "الكهف: 110" و قال: و اخفض جناحك للمؤمنين: "الحجر: 88" و قال: و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم: "حم السجدة: 34" و قال: و لا تمنن تستكثر: "المدثر: 6" إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن: "النحل: 125".

و أما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى: لكم دينكم و لي دين: "الكافرون: 6" و قال: فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون: "هود: 113" و قال: فلذلك فادع و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب و أمرت لأعدل بينكم الله ربنا و ربكم لنا أعمالنا و لكم أعمالكم لا حجة بيننا و بينكم الله يجمع بيننا و إليه المصير: "الشورى: 15" و قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق "إلى أن قال": لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون: "الممتحنة: 9" و الآيات في معنى التبري و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي - كما ترى - تشرح معنى هذا التبري و كيفيته و خصوصيته.

و أما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلامي و مفاخره و المرتبة الأولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال: "فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء".

و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوره و لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الإلهية يوم القيامة فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيات و الرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها.

فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنية و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطليموسي و رد أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا و خربت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض.



و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن و الحرية!! و هؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية و يقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إن الإنسان لربه لكنود.

و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الأعاظم في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشر و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع: 1 - وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلفات و النشرات، و هذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن، و قوله: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و هذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة، إلى أن قال: 2 - وسائل المقاومة السلمية و السلبية كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصادية و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى: و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، و لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء و في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكد عليها النبي الهندي بوذا، و المسيح (عليه السلام)، و الأديب الروسي "تولستوي" و الزعيم الهندي الروحي "غاندي".

3 - الحرب و الثورة و القتال.

و الإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة: "الأولى" الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم "فالثانية" المقاطعة السلمية أو السلبية و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تجد و تنفع "فالثالثه" الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل و الراضي الساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إن الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإن الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنما تخضع للحجة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".

و الإسلام إنما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق، أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جل شأنه: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختيارا و إنما يحرجه الأعداء فيلتجىء إليه اضطرارا و لا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السم و قطع الماء عن الأعداء كما يحرم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرم الهجوم على العدو ليلا "فانبذ إليهم على سواء" و يحرم القتل على الظنة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال التي يأباها الشرف و المروءة و التي تنبعث من الخسة و القسوة و الدناءة و الوحشية.

كل تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شيء منها مع الأعداء في كل ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلا و الهجوم ليلا بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيين الآمنين، و أباح القتل بالجملة.

أ لم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان ألوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية ألوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرية على المدن اليابانية؟!.

و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرية و الهيدروجينية لا يعلم إلا الله ما ذا يحل بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى.

قوله تعالى: "و آتوا اليتامى أموالهم" إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللاحقتين: و لا تتبدلوا "إلخ" أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيد أن الجملة الأولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين.

و أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج.

و أما قوله تعالى: "و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب" أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لأنفسكم و تردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم.

و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال - كما قيل - لكن المعنى الأول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله: و لا تتبدلوا إلخ و قوله: و لا تأكلوا إلخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز و قوله: و آتوا اليتامى إلخ تمهيد لبيانهما معا، و أما قوله: إنه كان حوبا كبيرا الحوب الإثم مصدر و اسم مصدر.



قوله تعالى: "و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء" قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب - و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل - كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن فيتزوجون بهن و يأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن و ربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به و لا راغب فيهن فيتزوج بهن و ينفق عليهن، و قد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا: "النساء: 10"، و قوله تعالى: و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا الآية: "النساء: 2"، فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم - كما قيل - و خافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقهم، و من أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك و سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك و شكوا إليه فنزل: و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم فإخوانكم و الله يعلم المفسد من المصلح و لو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم: "البقرة: 220"، فأجاز لهم أن يأووهم و يمسكوهم إصلاحا لشأنهم و أن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم و فرج همهم.

إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى: و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا "إلخ" و هو واقع عقيب قوله: و آتوا اليتامى أموالهم الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى - و الله أعلم -: اتقوا أمر اليتامى، و لا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهن و تتزوجوا بهن فدعوهن و انكحوا نساء غيرهن ما طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع.

فالشرطية أعني قوله: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن و انكحوا نساء غيرهن فقوله: فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي، و قوله: ما طاب لكم، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن، و قد قيل: ما طاب لكم و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله: مثنى و ثلاث إلخ و وضع قوله: إن خفتم ألا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله: ما طاب لكم، هذا.

و قد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.

و منها: أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى و لا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا و لا يعدلون بينهن، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.

و منها: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا و انكحوا ما طاب لكم من النساء.

و منها: أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قرباتكم مثنى و ثلاث و رباع.

و منها: أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهن و لا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: "مثنى و ثلاث و رباع" بناء مفعل و فعال في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا، و لما كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس و قد جيء بواو التفصيل بين مثنى و ثلاث و رباع الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع.

و بذلك و بقرينة قوله بعده: و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأن لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العي - جل كلامه عن ذلك و تقدس -.

قوله تعالى: "و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" أي فانكحوا واحدة لا أزيد، و قد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور - و لتسويل النفس فيها أثر بين - لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانكم" و هي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين و ليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن و إتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن سيتعرض لها في ما سيجيء من قوله: و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات الآية: "النساء: 25".

قوله تعالى: "ذلك أدنى ألا تعولوا" العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل و لا تتعدوا عليهن في حقوقهن، و ربما قيل: إن العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظا و معنى.

و في ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: "و آتوا النساء صدقاتهن نحلة" الصدقة بضم الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطية من غير مثامنة.

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شيء من المال أو أي شيء له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي، و هو الخطبة كما أن المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الري و هو في الشراب كالهنيء في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معا، فإذا قيل: هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام و الري بالشراب.



قوله تعالى: "و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" السفه خفة العقل، و كان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي رديء النسج ثم غلب في خفة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها و إنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أن المراد بقوله: أموالكم، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، و إن كان و لا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم و غير اليتيم لكن الأول أرجح.

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أموالكم، أموال اليتامى و إنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنهم مجتمع واحد و المال كله لمجتمعهم، و على كل واحد منهم أن يكلأه و يتحفظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى: و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم: "النساء: 25"، و من المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع و هو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتجار و الاسترباح و يرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله: "فيها" دون أن يقول: "منها" كما ذكره الزمخشري.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجد فعليه التولي و المباشرة، و إلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

كلام في أن جميع المال لجميع الناس

هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام و قوانين هامة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما و معاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير و لا يتبدل و هبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرفهم أمورا كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الذي يراعى حاله و يتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أما مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.

و يتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا: "البقرة: 29"، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: "و ارزقوهم فيها و اكسوهم و قولوا لهم قولا معروفا" قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب: "آل عمران: 27" و قوله: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، كقوله: و على المولود له رزقهن و كسوتهن: "البقرة: 233" فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر و البرد غير أن لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا الآية.

و أما قوله: "و قولوا لهم قولا معروفا" فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله: و قولوا لهم قولا معروفا.

كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى: "و قولوا للناس حسنا": "البقرة: 83".

قوله تعالى: "و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم" إلى قوله: "أموالهم" الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الأنس، و الرشد خلاف الغي و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه و إقباضه له كأن الولي يدفعه إليه و يبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتى إذا بلغوا النكاح، متعلق بقوله: و ابتلوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبي في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح.



و قوله: فإن آنستم إلخ تفريع على قوله: و ابتلوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرف، و قد فصل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح و اشترط في نفوذ التصرفات المالية و الأقارير و نحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرفات المالية و نحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرفاتهم و أقاريرهم مفضيا إلى غرور الأفراد الفاسدة إياهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الأمور، و أما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإن إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: "و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا" اه الإسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشيء و قوله و بدارا أن يكبروا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا: "النساء: 176" أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافا و الأكل بدارا أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة و الأكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد أجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعة أو يعمل لليتيم و يسد حاجته الضرورية من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الذي ذكره بقوله: من كان غنيا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فليستعفف أي ليطلب طريق العفة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم و من كان فقيرا فليأكل منها بالمعروف، و ذكر بعض المفسرين أن المعنى: فليأكل بالمعروف من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغني و الفقير.

و أما قوله تعالى: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم" فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للأمر و رفعا لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الولي عليه، ثم ذيل الجميع بقوله تعالى: و كفى بالله حسيبا ربطا للحكم بمنشئه الأصلي الأولي أعني محتد كل حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميما للتربية الدينية الإسلامية فإن الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعا غالبا للخلاف و النزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوي هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي و الشهود و اليتيم الذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رءوس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهماتها: من كيفية الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرف و الرد و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله و هو أن المال لله جعله قياما للإنسان على ما تقدم بيانه.

و ثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الذي ذكره تعالى بقوله: و قولوا لهم قولا معروفا.

و ثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية و الأخلاقية و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العملية و الدستورات الأخلاقية من حيث الأثر، و هو الذي ذكره بقوله: و كفى بالله حسيبا.

بحث روايي

في الدر المنثور، في قوله تعالى: و آتوا اليتامى أموالهم الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية: و آتوا اليتامى أموالهم، الحديث.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنه (عليه السلام): إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمد بن سنان: و من علل النساء الحرائر و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال فلما نظر و الله أعلم يقول الله عز و جل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع، فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغني و الفقير فيتزوج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرم على المرأة إلا زوجها و أحل للرجل أربعا فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة و يحل للرجل معها ثلاثا.

أقول: و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغير الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهي من فطريات الإنسان، و الإسلام دين مبني على الفطرة تؤخذ فيه الأمور التي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا أخر - و الدين مبني على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة و سيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتي عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضي طار عليهن لا غريزي فطري.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا؟ و قال: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.



و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله يقول في كتابه: و نزلنا من السماء ماء مباركا، و قال: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، و قال: فإن طبن لكم منه شيئا فكلوه هنيئا مريئا، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي: أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه (عليه السلام) و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: لا خير في كثير من نجويهم - إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، و قال: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما، و قال: و لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.

و في تفسير العياشي، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال: كل من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما يقول: معاشا الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبي قبل أن يرشد و المرأة المتلهية المتهوسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة "أموالكم" و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الأصل ثم لكل من الأشخاص ثانيا و للمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشده، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله.

و فيه، عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: و ابتلوا اليتامى الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنه (عليه السلام): في قول الله: و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال: فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثل مالا و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و غيرهم، و هناك مباحث فقهية و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العياشي، عن رفاعة عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: فليأكل بالمعروف، قال (عليه السلام): كان أبي يقول: إنها منسوخة.

و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النحاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال: نسختها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أما قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الأكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف، و في تلك الآية المحرمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلما، فالحق أن الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): في قول الله: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم.

<<        الفهرس        >>