جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 أفضل من اجتهاد المجتهدين، و ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، و لا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، و العقلاء هم أولوا الألباب، قال الله تبارك و تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب.

و عن الصادق (عليه السلام) قال: الحكمة ضياء المعرفة و ميزان التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمة أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت، قال الله عز و جل: يؤتي الحكمة من يشاء - و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا - و ما يذكر إلا أولوا الألباب.

أقول: و في قوله تعالى: و ما أنفقتم الآية في الصدقة و النذر و الظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إن شاء الله.

و في الدر المنثور، بعدة طرق عن ابن عباس و ابن جبير و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم: أن رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام و أن المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.

أقول: قد مر أن قوله: هداهم إنما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول، على أن تعيين المورد في قوله: للفقراء الذين أحصروا الآية لا يلائمه كثير ملاءمة، و أما مسألة الإنفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله عز و جل: و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء - فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكاة، أن الزكاة علانية غير سر.

و فيه، عنه (عليه السلام): كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره و ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه.

أقول: و في معنى الحديثين أحاديث أخرى و قد تقدم ما يتضح به معناها.

و في المجمع،: في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية: قال قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت الآية في أصحاب الصفة.

قال: و كذلك رواه الكلبي عن ابن عباس:، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، و لا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، و قالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل و عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.



و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أن الله يبغض الملحف.

و في المجمع،: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت معه أربعة دراهم، فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية،: قال الطبرسي: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، و المفيد في الاختصاص، و الصدوق في العيون،.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم - بالليل و النهار سرا و علانية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما و بالنهار درهما و سرا درهما و علانية درهما.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس و السدي و مجاهد و الكلبي و أبي صالح و الواحدي و الطوسي و الثعلبي و الطبرسي و الماوردي و القشيري و الثمالي و النقاش و الفتال و عبد الله بن الحسين و علي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فسمى كل درهم مالا و بشره بالقبول.

و في بعض التفاسير: أن الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل و عشرة بالنهار و عشرة بالسر و عشرة بالعلانية.

أقول: ذكر الآلوسي في تفسيره، في ذيل هذا الحديث: أن الإمام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين ألف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه، عن عائشة و ليس فيه ذكر من نزول الآية، و كان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قبض أبو بكر و استخلف عمر خطب الناس فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، و إن بعض اليأس غنى، و إنكم تجمعون ما لا تأكلون، و تؤملون ما لا تدركون، و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، و قرأ الآية الكريمة و أنت تعلم أنها لا دلالة فيها على نزولها في حقه انتهى.

و في الدر المنثور، بعدة طرق عن أبي أمامة و أبي الدرداء و ابن عباس و غيرهم أن الآية نزلت في أصحاب الخيل.

أقول: و المراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا و نهارا، لكن لفظ الآية أعني قوله: سرا و علانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم و الترديد في الإنفاق على الخيل أصلا.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.

أقول: و الإشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الإشكال في سابقه.

2 سورة البقرة - 275 - 281

الّذِينَ يَأْكلُونَ الرِّبَوا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الّذِى يَتَخَبّطهُ الشيْطنُ مِنَ الْمَس ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا وَ أَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرّمَ الرِّبَوا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظةٌ مِّن رّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سلَف وَ أَمْرُهُ إِلى اللّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَوا وَ يُرْبى الصدَقَتِ وَ اللّهُ لا يُحِب كلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ ءَاتَوُا الزّكوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَ رَسولِهِ وَ إِن تُبْتُمْ فَلَكمْ رُءُوس أَمْوَلِكمْ لا تَظلِمُونَ وَ لا تُظلَمُونَ (279) وَ إِن كانَ ذُو عُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسرَةٍ وَ أَن تَصدّقُوا خَيرٌ لّكمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللّهِ ثُمّ تُوَفى كلّ نَفْسٍ مّا كسبَت وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (281)

بيان

الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا و التشديد على المرابين و ليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف و لسانها غير لسان التشريع: و إنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:" آل عمران - 130، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، و سياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و ترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، و من هنا يظهر معنى قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله الآية على ما سيجيء بيانه.

و قد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم و هي مكية: "و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:" الروم - 39، و من هنا يظهر أن الربا كان أمرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها، و من هنا يظهر: أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.

على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله: "و أخذهم الربا و قد نهوا عنه:" النساء - 161، و يشعر به قوله: - حكاية عنهم - "ليس علينا في الأميين سبيل:" آل عمران - 75، مع تصديق القرآن لكتابهم و عدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإسلام.

و الآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا و يربي الصدقات، و قوله: و أن تصدقوا خير لكم، و كذا ما وقع من ذكره في سورة الروم و في سورة آل عمران مقارنا لذكر الإنفاق و الصدقة و الحث عليه و الترغيب فيه.

على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد و المقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، و الآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة و تحاذيها على الكلية من غير تخلف و استثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة و المحبة، و إقامة أصلاب المساكين و المحتاجين، و نماء المال، و انتظام الأمر و استقرار النظام و الأمن في الصدقة و خلاف ذلك في الربا.

و قد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أما سائر الكبائر فإن القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم، و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولي أعداء الدين.

و ليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشئومة، و لا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلا في الأعمال و الأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانية و يسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح.

و قد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة و التولي و التحاب و التمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم: لا يملكون مالا و لا عرضا و لا نفسا، و لا يستحقون موتا و لا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، و لا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، و هجرهم الدين، و ارتحلت عنهم عامة الفضائل.

و حيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، و انقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد و المعدم الشقي، و بان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدد الإنسانية بالانهدام، و الدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.

و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، و للإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال و حركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، و هذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها و نظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية و الاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، و يقصد الشرب إذا عطش، و الفراش إذا اشتهى النكاح، و الاستراحة إذا تعب، و الاستظلال إذا أراد السكن و هكذا، و ينبسط لأمور و ينقبض عن أخرى في معاشرته، و يريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، و إذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه.

و هذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة و مجموعها طريق حياته.

و إنما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير و الشر و النافع و الضار و الحسن و القبيح و قد مر بعض الكلام في ذلك.

و أما الإنسان الممسوس و هو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن و القبيح و النافع و الضار و الخير و الشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن و القبح و غيرهما فإنه بالأخرة إنسان ذو إرادة، و من المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا و الحسن قبيحا و الخير و النافع شرا و ضارا و بالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام و تعيين الموارد.

و هو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء و أفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة و غيره و صار ما يتخيله و يريده هو المتبع عنده، فالعادي و غير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط و تضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.

و هذا حال المرابي في أخذه الربا إعطاء الشيء و أخذ ما يماثله و زيادة بالأجل فإن الذي تدعو إليه الفطرة و يقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، و أما إعطاء المال و أخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة و أساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين و تجمعه و تراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، و لا ينمو إلا من مال الغير، فهو بالانتفاص و الانفصال من جانب، و الزيادة و الانضمام إلى جانب آخر.

و ينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة و كلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص و يتداركه، و في ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن و التعادل الاجتماعي و يفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

و هذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة و المعاوضة فلا يفرق بين البيع و الربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا و يأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا و أخذ البيع، و لذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنما البيع مثل الربا.



و من هذا البيان يظهر: أولا: أن المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقومون إلا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة و القيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: "ليقوم الناس بالقسط:" الحديد - 25، و قال تعالى: "أن تقوم السماء و الأرض بأمره:" الروم - 25، و قال تعالى: "و أن تقوموا لليتامى بالقسط:" النساء - 127، و أما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، و لا يستقيم عليه معنى الآية.

و ثانيا: أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، و هو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع و الربا، و بناء عمله عليه، و محصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، و كم من فرق بينهما و بين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة!.

و ثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن و سيجيء توضيحه.

و رابعا: أن التشبيه أعني قوله: الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية و إن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، و كذلك الآية و إن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس و على شرار الجن و شرار الإنس، و إبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.

و ما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، و لا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، و أما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.

ففيه: أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه و رده على قائله، و قد قال تعالى: في وصف كلامه "كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:" فصلت - 42، و قال تعالى: "إنه لقول فصل و ما هو بالهزل:" الطارق - 14.

و أما إن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.

على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال.

لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، و إنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق و سنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحا و بالعكس، أو يرى الحق باطلا و بالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، و أما ذهاب القوة المميزة و فساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.

على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة و من غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب و الآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، و قد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: "إني مسني الشيطان بنصب و عذاب:" ص - 41، و إذ قال: "إني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين:" الأنبياء - 83، و الضر هو المرض و له أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.

و هذا و ما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية و إقامة لما وراء الطبيعة مقامها، و لم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، و قد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.

و خامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة و أنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون.

و وجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، و الرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، و إنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.

قال في تفسير المنار:، و أما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.

أقول: و هذا هو المتبادر و لكن ذهب الجمهور إلى خلافه و قالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، و إن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، و رووا ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا: إياك و الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، و الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.

ثم قال: و المتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، و لا قرينة تدل على أن المراد به البعث، و هذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، و هي لم تنزل مع القرآن، و لا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، و لولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع.

ثم قال: و كان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، و قلما يصح في التفسير شيء، انتهى ما ذكره.

و لقد أصاب فيما ذكره من خطإهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال و استعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، و جعلوه مقصودا لذاته، و تركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، و يظهر ذلك في حركاتهم و تقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة و المغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط و الانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة.

و هذا هو وجه الشبه بين حركاتهم و بين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط و هو ضرب غير منتظم و كخبط العشواء، انتهى.

فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال و الانتظام و إن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، و لا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية و إخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية و الوقار النفساني، و تأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، و تعقب ذلك اضطراب حركاتهم، و هذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا و إن لم يمس الربا طول حياته.



و أما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم و فساد النظم في أعمالهم.

فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط و الاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، و المعروف عند العقلاء و المنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر و الرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، و لو قال: إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، و لم يكن معنى كلامه إبطال المزية و إهماله كما يراه الممسوس، و هذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، و لو أنه قال: إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.

و الظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك و إن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، و هذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: إنما البيع مثل الربوا نظمهما في سلك واحد، و إنما قلبوا التشبيه و جعلوا الربا أصلا و شبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله: و مهمة مغبرة أرجاؤه.

كأن لون أرضه سماؤه.

و كذا فساد ما ذكره آخرون: أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه: أن البيع إنما حل لأجل الكسب و الفائدة، و ذلك في الربا متحقق و في غيره موهوم.

و وجه الفساد ظاهر مما تقدم.

قوله تعالى: و أحل الله البيع و حرم الربوا، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد.

يقال: جاءني زيد و قد ضرب عمرا، و لا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله و ظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع و حرم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية و الحرمة و قبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية و إنما هي مستأنفة.

و هذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:" آل عمران - 130، فالجملة أعني قوله: و أحل الله "إلخ" لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإخبار عن حكم سابق و توطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جاءه موعظة من ربه إلخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.

و قد قيل: إن قوله: و أحل الله البيع و حرم الربوا مسوق لإبطال قولهم: إنما البيع مثل الربوا، و المعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل أحدهما و حرم الآخر.

و فيه أنه و إن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة، و أحل الله "إلخ"، حالية و ليست بحال.

و أضعف منه ما ذكره آخرون: أن معنى قوله: و أحل الله "إلخ" إنه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني أحللت البيع و حرمت الربا، و الأمر أمري، و الخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، و أستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي.

و فيه: أنه أيضا مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد ارتباط السببية و المسببية، و بعبارة أخرى على نفي العلية و المعلولية بين الأشياء و إسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، و الضرورة تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه و شرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: و ذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين الآية، و قوله: لا تظلمون الآية، و قوله: الذين يأكلون الربوا إلى قوله مثل الربوا، تدل على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة و الخلقة و لتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة، و كونه منافيا غير ملائم للإيمان بالله تعالى، و كونه ظلما.

قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله، تفريع على قوله: و أحل الله البيع "إلخ"، و الكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، و المعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم و من جاءه موعظة "إلخ" فإن انتهيتم فلكم ما سلف و أمركم إلى الله.

و من هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لما قبل زمان بلوغه، و من قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.

و اعلم: أن أمر الآية عجيب، فإن قوله: فمن جاءه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.

إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات و رد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفا عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك، فإن قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أول التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.

و أما قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، و يلازم ذلك الإصرار على الذنب و عدم القبول للحكم و هذا هو الكفر أو الردة باطنا و لو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب و لم ينته عنه و لو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا و لا يفلح أبدا.



فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة و بين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.

و من هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب.

فإن الآية و إن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم و لا محذور فيه.

و قد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، و في قوله: و أمره إلى الله، و قوله: و من عاد "إلخ" وجوه من المعاني و الاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ.

قوله تعالى: يمحق الله الربوا و يربي الصدقات "إلخ"، المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجا، و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مر معنى الإثم.

و قد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات و محق الربا، و قد تقدم أن إرباء الصدقات و إنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة.

فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة و تورث المحبة و حسن التفاهم و تألف القلوب و تبسط الأمن و الحفظ، و تصرف القلوب عن أن تهم بالغضب و الاختلاس و الإفساد و السرقة، و تدعو إلى الاتحاد و المساعدة و المعاونة، و تنسد بذلك أغلب طرق الفساد و الفناء الطارئة على المال، و يعين جميع ذلك على نماء المال و دره أضعافا مضاعفة.

كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال و يفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة و الخسارة، و يورث البغض و العداوة و سوء الظن، و يفسد الأمن و الحفظ، و يهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، و تدعو إلى التفرق و الاختلاف، و تنفتح بذلك أغلب طرق الفساد و أبواب الزوال على المال و قلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.

و كل ذلك لأن هذين الأمرين

<<        الفهرس        >>