جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: "الآن حصحص الحق": يوسف - 51، و سيجيء توضيحه قريبا.

على أن الرجل نبي مكلم و آية مبعوثة إلى الناس و الأنبياء معصومون حاشاهم عن الشك و الارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.

قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه، ظاهره توفيه بقبض روحه و إبقاؤه على هذا الحال مائة عام ثم إحياؤه برد روحه إليه.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات و هو أن يفقد الموجود الحي الحس و الشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف و رقودهم ثلاثمائة و تسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة و احتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.

قال: و الذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مائة سنة أمر غير مألوف و خارق للعادة لكن القادر على توفي الإنسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مائة سنة، و لا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى و أخذها على ظاهرها إلا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات و رجوع الحس و الشعور إليه ثانيا بعد سلبه مائة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم ألوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.

و ليت شعري كيف يصح الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات "على تقدير تسليمه" بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ و هل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، و هو أمر الدلالة؟ و إذا جاز أن يلقي الله على رجل سبات مائة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مائة سنة ثم إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق و خارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، و قد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و سيجيء التعرض له.

و بالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مائة عام، من حيث ظهور اللفظ و بالنظر إلى قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، و قوله بعده: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك و قوله: و انظر إلى العظام، مما لا ريب فيه.

قوله تعالى: قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام، اللبث هو المكث و ترديد الجواب بين اليوم و بعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته و إحيائه كأوائل النهار و أواخره، فحسب الموت و الحياة نوما و انتباها، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين و عدم تخللها فقال يوما لو تخللت الليلة أو بعض يوم لو لم تتخلل قال: بل لبثت مائة عام.

قوله تعالى: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه إلى قوله لحما، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات و كان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، و ذكر فيها أمر الطعام و الشراب و الحمار و الظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، و جيء بقوله: و لنجعلك متخللا في الكلام و كان الظاهر أن يتأخر عن جملة: و انظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية - و هو إحياء الموتى بعد طول المدة و عروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة و تنجلي به الشبهة المذكورة.

القصة

التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا لأمره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبين الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، و ظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، إنه كان مأنوسا بالوحي و التكليم، و أن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه و إلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال "إلخ" أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى (عليه السلام): "فلما أتيها نودي يا موسى إني أنا ربك": طه - 12، و قوله تعالى فيه أيضا: "فلما أتيها نودي من شاطىء الوادي الأيمن:" القصص - 30.

و كيف كان فقد كان (عليه السلام) خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها، و الدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، و حمله طعاما و شرابا يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، و لم يكن قاصدا نفس القرية، و إنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها و شملتهم نازلة الموت و عظامهم الرميمة بمرأى و منظر منه (عليه السلام)، فإنه يشير إلى الموتى بقوله: أنى يحيي هذه الله، و لو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها و الإشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: أنى يعمر هذه الله.



على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، و لا أن عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، و لو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين و قد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره و الصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.

ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، و تطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسيا منسيا، و عند ذلك قال: أنى يحيي هذه الله، و قد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: "إحداهما": استعظام طول المدة و الإحياء مع ذلك، "و الثانية": استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبين الله له الأمر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الأولى فبإماتته ثم إحيائه و سؤاله و أما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر و مرأى منه.

فأماته الله مائة عام ثم بعثه، و قد كان الإماتة و الإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف الوقتين، و قد كان موته في الطرف المقدم من النهار و بعثه في الطرف المؤخر منه و لو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه و قال: بل لبثت مائة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.

ثم استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مائة عام بقوله: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك! و ذلك: أن قوله: لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة و قصره، و إنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل و نحوهما، فلما أجيب بقوله تعالى: بل لبثت مائة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه و لم يتغير شيء من هيئة بدنه، و الإنسان إذا مات و مضى عليه مائة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة و الطراوة و كان ترابا و عظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن أن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه و شرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه و أن ينظر إلى الحمار و قد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث و حال الطعام و الشراب يدل على إمكان أن يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير شيء من هيئته عما هي عليه.

و من هنا يظهر أن الحمار أيضا قد أميت و كان رميما و كان السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.

و بالجملة تم عند ذلك البيان الإلهي: أن استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث أخذ الله منه الاعتراف بأن مائة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له أن تخلل الزمان بين الإماتة و الإحياء بالطول و القصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى: "إنهم يرونه بعيدا و نريه قريبا": المعارج - 7، و قال تعالى: "و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر:" النحل - 77.

ثم قال تعالى: و لنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من الغايات، و المعنى أنا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا و كذا و لنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الأمر له نفسه بل هناك غاية أخرى و هي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: و انظر إلى العظام "إلخ" بيان الأمر له فقط و من إماتته و إحيائه بيان الأمر له و جعله آية للناس، و لذلك قدم قوله: و لنجعلك "إلخ" على قوله: و انظر إلى العظام "إلخ".

و مما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية، فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.

و كان في إماتته و إحيائه و بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون:" الروم - 56.

ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: أنى يحيي هذه الله و هو: أنه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات و التحولات الطارئة عليها و استلفت نظره إلى العظام فقال: و انظر إلى العظام كيف ننشزها و الإنشاز الإنماء، و ظاهر الآية أن المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: و لنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين أحياهم الله تعالى!.

و من الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الأبدان الحية فإنها في نمائها و اكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد و النماء بالحياة لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير، و قد احتج الله على البعث بمثلها و هو الأرض الميتة التي يحييها الله بالإنبات، و هذا كما ترى تكلف من غير موجب.

و قد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: أنى يحيي هذه الله.

قوله تعالى: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير، رجوع منه بعد التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه (عليه السلام) لما خطر بباله الخاطر الذي ذكره بقوله: أنى يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الأمر بيان إشهاد و عيان رجع إلى نفسه و صدق ما اعتمد عليه من العلم، و قال لم تزل تنصح لي و لا تخونني في هدايتك و تقويمك و ليس ما لا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلا، بل علم يليق بالاعتماد عليه.

و هذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للإنسان علم بشيء ثم يخطر بباله و يهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك و بطلان العلم، بل لأسباب و عوامل أخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا و ليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه و يطيب نفسه!.

و ليس معنى الكلام: أنه لما تبين له الأمر حصل له العلم و قد كان شاكا قبل ذلك فقال أعلم "إلخ" كما مرت الإشارة إليه لأن الرجل كان نبيا مكلما و ساحة الأنبياء منزه عن الجهل بالله و خاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات أولا: و لأن حق الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدي معناه ثانيا: و لأن حصول العلم بتعلق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء و قد قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده و ذهلت نفسه عن سائر الأمور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع و الاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما و لا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، و على أي حال لا يستحق التعويل و الاعتماد عليه، و حاشا أن يعد الكلام الإلهي مثل هذا الاعتقاد و القول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة: فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، على أنه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياء ثالثا.

قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قد مر أنه معطوف على مقدر و التقدير: و اذكر إذ قال "إلخ" و هو العامل في الظرف، و قد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: قال أ و لم تؤمن، و ترتيب الكلام: أ و لم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني "إلخ" و ليس بشيء.

و في قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة: أولا على أنه (عليه السلام) إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الأنبياء و خاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدرا من أن يعتقد البعث و لا حجة له عليه، و الاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناش عن اختلال فكري و شيء منهما لا ينطبق على إبراهيم (عليه السلام)، على أنه (عليه السلام) إنما سأل ما سأل بلفظ كيف، و إنما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشيء لا عن أصل وجوده فإنك إذا قلت: أ رأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، و إذا قلت: كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه و إنما السؤال عن خصوصيات الرؤية، فظهر أنه (عليه السلام) إنما سأل البيان بالإراءة و الإشهاد لا بالاحتجاج و الاستدلال.



و ثانيا: على أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل أن يشاهد كيفية الإحياء لا أصل الإحياء كما أنه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، و هذا السؤال متصور على وجهين: الوجه الأول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة، و تجمعها بعد التفرق و التبدد، و تصورها بصورة الحي، و يرجع محصله إلى تعلق القدرة بالإحياء بعد الموت و الفناء.

الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات و فعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة، و يرجع محصله إلى السؤال عن السبب و كيفية تأثيره، و هذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:" يس - 83.

و إنما سأل إبراهيم (عليه السلام) عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الأول: أما أولا: فلأنه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الإحياء فسأل عن كيفية الإحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى و هو سبب حياة الحي بأمره، و لم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الأجزاء و عودها إلى صورتها الأولى و قبولها الحياة، و لو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية، و أما ثانيا: فلأنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، و لكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شيء من الحيوان بعد موته، و أما ثالثا: فلأنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: و أعلم أن الله على كل شيء قدير لا بقوله: و اعلم أن الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة و الحكمة فإن العزة و الحكمة - و هما وجدان الذات كل ما تفقده و تستحقه الأشياء و إحكامه في أمره - إنما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها فافهم ذلك.

و مما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء، و أن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: أنه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه أمره بالإحياء، و لا أن إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول: خذ كذا و كذا و أفعل به كذا و كذا يكن حبرا تريد أن هذه كيفيته، و لا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.

قال: و في القرآن شيء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الأمر، و الكلام هاهنا مثل لإحياء الموتى، و معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك و آنسها بك حتى تأنس و تصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها و بعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات و الأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين.

قال: و الدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن، فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها إليك و أنسها بك، و يشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإمالة، و ما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزاء بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، و أما ما قيل: إن قوله: إليك متعلق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهن و المعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.

و ثانيا: أن الظاهر: أن ضمائر فصرهن و منهن و ادعهن و يأتينك جميعا راجعة إلى الطير، و يلزم على قولهم: إن المراد تقطيعها و تفريق أجزائها، و وضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن أن يفرق بين الضمائر فيعود الأولان إلى الطيور، و الثالث و الرابع إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

و أضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها.

و ثالثا: أن إراءة كيفية الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع أجزائها و تغير صورها إلى الصورة الأولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء و مزجه إياها و وضعه على جبل بعيد، جزءا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الأجزاء من الحركات المختلفة و التغيرات المتنوعة، و إن كان المراد إراءة كيفية الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء و حقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن و هو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية.

و رابعا: أن قوله: ثم اجعل، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس و كذلك قوله: فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح و التقطيع.

و خامسا: أنه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه.

و أنت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني و قوله: كيف تحيي و إجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مر بيانها كل ذلك ينافي هذا المعنى، على أن الجزء في قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.

و أما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الأول: أن معنى صرهن قطعهن، و تعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى: "الرفث إلى نسائكم": البقرة - 187، حيث ضمن معنى الإفضاء.

و عن الثاني: أن جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، و الوجه في رجوع ضمير ادعهن و يأتينك إليها مع أنها غير موجودة بأجزائها و صورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:" فصلت - 10، و قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن:" يس - 82، و حقيقة الأمر: أن الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب، و أما الخطاب التكويني فالأمر فيه بالعكس، و المخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب فيه هو الإيجاد و من المعلوم أن الوجود فرع الإيجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشيء المتفرع على قوله كن و هو خطاب الأمر.

و عن الثالث: أنا نختار الشق الثاني و أن السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه و إحيائه لا عن كيفية قبول المادة و حياتها، و قوله: إن البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن و عليه المسلمون.

قلنا: إن الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق و الإحياء و نحوهما، و الذي لا سبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى: "و لا يحيطون به علما:" طه - 110.

فالإراده منتزعة من الفعل، و هو الإيجاد المتحد مع وجود الشيء، و هو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، و قد ذكر الله في تالي الآية أن هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شيء إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء الآية، و قد ذكر الله تعالى أنه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:" الأنعام - 75، و من الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.

و منشأ هذه الشبهة و نظائرها من هؤلاء الباحثين أنهم يظنون أن دعوة إبراهيم (عليه السلام) للطيور في إحيائها، و قول عيسى (عليه السلام) لميت عند إحيائه: قم بإذن الله و جريان الريح بأمر سليمان و غيرها مما يشتمل عليه الكتاب و السنة إنما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية و معانيها و قد خفي عليهم أن ذلك إنما هو عن اتصال باطني بقوة إلهية غير مغلوبة و قدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.



و عن الرابع: أن التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية و التأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع و تفريق الأجزاء و وضعها على الجبال كما هو ظاهر.

و عن الخامس: أن الإشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هو أن الله إنما بين كيفية الإحياء لإبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم أن المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة و الحكمة، و قد عرفت مما قدمنا أن الأنسب على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.

و يظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن إشهاد كيفية الإحياء بمعنى كيفية قبول الأجزاء صورة الحياة.

قال: ما محصله: أن السؤال لم يكن في أمر ديني - و العياذ بالله - و لكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها، و كيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيم (عليه السلام) طلب علم لا يتوقف الإيمان على علمه، و يدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، و موضوعها السؤال عن الحال، و نظير هذا أن يقول القائل كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، و لكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، و لو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال: أ يحكم زيد في الناس، و إنما جاء التقرير أعني قوله، أ و لم تؤمن، بعده لأن تلك الصيغة و إن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع: أنه يحمل ثقلا من الأثقال و أنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنك عاجز عن حمله، و الله سبحانه لما علم براءة إبراهيم (عليه السلام) عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى لكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، و معنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، و عدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجودة، و رؤية الكيفية لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئا، و إنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به.

ثم قال بعد كلام له طويل: إن الآية تدل على فضل إبراهيم (عليه السلام) حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، و أرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مائة عام.

و أنت بالتدبر في الآية و التأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإن السؤال إنما وقع عن كيفية إحيائه تعالى لا عن كيفية قبول الأجزاء الحياة ثانيا فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على أن إجراء الأمر على يد إبراهيم (عليه السلام) يدل على ذلك و لو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إراءة شيء من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و لم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيم (عليه السلام)، و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا: أنهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهية و مصدريتهم للأمور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا: أن لا فرق بين تكون الحياة بيد إبراهيم و تكونه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، و هذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، و كلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق.

أ لا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون و الأشكال المتصورة مع أن هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيم (عليه السلام)، مع أن الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى و هو يريد موتى الإنسان أو الأعم منه و من غيره و الله سبحانه ما أراه إلا تكون الحياة في أربعة من الطير.

ثم ذكر فضل إبراهيم (عليه السلام) على عزير يريد به صاحب القصة في الآية السابقة بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد و هو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها و الجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا، مع أن الآيتين جميعا - على ما فيهما من غرر البيان و دقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.

على أن المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة و الحكمة كما في قوله تعالى: "و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير:" فصلت - 39، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية و قد ختمت بصفة القدرة المطلقة، و نظيره قوله تعالى: "أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير:" الأحقاف - 33، ففيه أيضا بيان الكيفية بإراءة الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.

قوله تعالى: قال: أ و لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي، بلى كلمة يرد به النفي و لذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى: "أ لست بربكم قالوا بلى:" الأعراف - 172، و لو قالوا نعم لكان كفرا، و الطمأنينة و الاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها و اضطرابها، و هو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الأرض و أرض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها و الحجر إذا هبط إليها.

و قد قال تعالى: أ و لم تؤمن، و لم يقل: أ لم تؤمن للإشعار بأن للسؤال و الطلب محلا لكنه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: و لو قيل: أ لم تؤمن دل على أن المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الإيمان، فكان عتابا و ردعا عن مثل هذا السؤال، و ذلك أن الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاما عن أن هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا و ردعا.

و الإيمان مطلق في كلامه تعالى، و فيه دلالة على أن الإيمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الإحياء و البعث، و لا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأن المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ و لا تقييد إطلاقه.

و كذا قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): ليطمئن قلبي، مطلق يدل على كون مطلوبه (عليه السلام) من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق و قطع منابت كل خطور قلبي و أعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية و أحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس و كان جل أحكامها و تصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل، و إن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلية العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها و إن سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الأحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى و تتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، و إن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرها إلا أذى، كما أن من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: أن الميت جماد من غير شعور و إرادة فلا يضر شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة و تستدعي من المتخيلة أن تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، و ربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.

فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الإيمان و التصديق دائما، غير أنها تؤذي النفس، و تسلب السكون و القرار منها، و لا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، و لذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، و قد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم و شاهدهم و عاين أمرهم غضب و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه.

و قد ظهر من هنا و مما مر سابقا أن إبراهيم (عليه السلام) ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه و أمره في إحياء الموتى، و ليس ذلك بمحسوس و إن كان لا ينفك عن الأمر المحسوس الذي هو قبول الأجزاء المادية للحياة بالاجتماع و التصور بصورة الحي، فهو (عليه السلام) إنما كان يسأل حق اليقين.



قوله تعالى: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا.

صرهن بضم الصاد على إحدى القراءتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، و قرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، و تعديته بإلى تدل على تضمين معنى الإمالة.

فالمعنى: أقطعهن مميلا إليك أو أملهن إليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.

و كيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير "إلخ"، جواب عن ما سأله إبراهيم (عليه السلام) بقوله: رب أرني كيف تحيي الموتى، و من المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام و حكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام و خاصة القرآن الذي هو خير كلام ألقاه خير متكلم إلى خير سامع واع، و ليست القصة على تلك البساطة التي تتراءى منها في بادي النظر، و لو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان، و لكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه و ليس كذلك، و لقد أخذ فيها قيود و خصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أريد إحياؤه أن يكون طيرا، و أن يكون حيا، و أن يكون ذا عدد أربعة، و أن يقتل و يخلط و يمزج أجزاؤها، و أن يفرق الأجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل و ذاك الحبل، و أن يكون الإحياء بيد إبراهيم (عليه السلام) نفس السائل بدعوته إياهن، و أن يجتمع الجميع عنده.

فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، و قد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث إلا عجبا يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير.

و كيف كان فهذه الخصوصيات لا بد أن تكون مرتبطة بالسؤال، و الذي يوجد في السؤال - و هو قوله: رب أرني كيف تحيي الموتى - أمران.

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي و هو أن المسئول مشاهدة الإحياء من حيث إنه وصف لله سبحانه لا من حيث إنه وصف لأجزاء المادة الحاملة للحياة.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى

<<        الفهرس        >>