جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء:" الأعراف - 64.

و جملة القول فيه: أن الشبهة ناشئة عن سوء الفهم و عدم التنبه لمقاصد القرآن و أهله، فهم لا يريدون بقولهم: "إن الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا" إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، و لا تشريك الأعمال مع العوامل المادية، كما أن الإلهيين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلية و المعلولية العام و إثبات الاتفاق و المجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية و استناد بعض الأمور إليه و البعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علة في طول علة، و عامل معنوي فوق العوامل المادية، و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب: أولا و ثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان و إلى يده.

و مغزى الكلام: هو أن سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجودية و كماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، و من المعلوم أن من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو إشراف سائره إلى الهلاك و البوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفق له أصلح المحل و إن عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به.

و قد دلت المشاهدة و التجربة على أن الصنع و التكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات و الفسادات المتوجه إليه، و لا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه و فرده عن هذه الكلية! و دلتا أيضا على أن التكوين يعارض كل موجود نوعي بأمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده و يوصله غايته و سعادته التي هيأها له فما بال الإنسان لا يعتني في شأنه بذلك؟.

و هذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى "و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون:" الدخان - 39، و قوله تعالى: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا:" ص - 27، فكما أن صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا و من غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه و بين مصنوعه بمجرد إيجاده، و لم يبال: إلى ما يئول أمره؟ و ما ذا يصادفه من الفساد و الآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لأمره شاهدا على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لأجلها و ركب أجزاءه للوصول إليها أصلح حاله و تعرض لشأنه بزيادة و نقيصة أو بإبطاله من رأس و تحليل تركيبه و العود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السموات و الأرض و ما بينهما و من جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، و لم يوجده هباء، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: "أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون:" المؤمنون - 115، و قال تعالى: "و أن إلى ربك المنتهى:" النجم - 42، و من الضروري حينئذ أن تتعلق العناية الربانية إلى إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة و الإرشاد، ثم بالامتحان و الابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة و سقطت عنه الهداية، فإن في ذلك إتقانا للصنع في الفرد و النوع و ختما للأمر في أمة و إراحة الآخرين، قال تعالى: "و ربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين:" الأنعام - 133، انظر إلى موضع قوله تعالى: و ربك الغني ذو الرحمة.

و هذه السنة الربانية أعني سنة الابتلاء و الانتقام هي التي أخبر الله عنها أنها سنة غير مغلوبة و لا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير:" الشورى - 31، و قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:" الصافات - 173.

و من أحكام الأعمال من حيث السعادة و الشقاء: أن قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، و من خواص قبيل السعادة كل صفة و خاصة جميلة كالفتح و الظفر و الثبات و الاستقرار و الأمن و التأصل و البقاء، كما أن مقابلاتها من الزهاق و البطلان و التزلزل و الخوف و الزوال و المغلوبية و ما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.

و الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، و يكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: "كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:" إبراهيم - 27، و قوله تعالى: "ليحق الحق و يبطل الباطل:" الأنفال - 8، و قوله تعالى: "و العاقبة للتقوى:" طه - 132، و قوله تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:" الصافات - 173، و قوله تعالى: "و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون:" يوسف - 21، إلى غير ذلك من الآيات.

و تذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: و لكن أكثر الناس لا يعلمون، مشعر بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، و لو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، و إنما جهلها من جهلها، و أنكرها من أنكرها من جهتين:.

الأولى: أن الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده و لا يغيب عنه، يتكلم عن الحال و يغفل عن المستقبل، و يحسب دولة يوم دولة، و يعد غلبة ساعة غلبة، و يأخذ عمره القصير و متاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه و هو المحيط بالزمان و المكان، و الحاكم على الدنيا و الآخرة و القيوم على كل شيء إذا حكم حكم فصلا، و إذا قضى قضى حقا، و الأولى، و العقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، و لا يعجل في أمر، فمن الممكن بل الواقع ذلك أن يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمة، فيظن الجاهل أن الأمر أعجزه تعالى و أن الله سبحانه مسبوق مغلوب ساء ما يحكمون لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، و يحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم، قال تعالى: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم و بئس المهاد:" آل عمران - 196.



و الثانية: أن غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات و قهرها أن تتسلط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، و بسط الكره و الإجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، و يأسرون آخرين، و يفعلون ما يشاءون بالتحكم و التهكم، و قد دل التجارب و حكم البرهان على أن الكره و القسر لا يدوم، و أن سلطة الأجانب لا يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، و إنما هي رهينة أيام قلائل.

و أما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، و بأن تربي أفرادا تعتقدها و تؤمن بها، فليس فوق الإيمان التام درجة و لا كإحكامه حصن، فإذا استقر الإيمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا و إن استخفى يوما أو برهة، و لذلك نجد أن الدول المعظمة و المجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر مما تعتني بشأن العدة و القوة فسلاح المعنى أشد بأسا.

هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شئونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال و الوهم، و أما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح و أبين.

فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال و الباطل، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال، و من المعلوم أن الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل.

و الحق من حيث تأثيره و إيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف و لا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، و إن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره و الاضطرار، و وافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: "إلا أن تتقوا منهم تقية:" آل عمران - 28، و إن قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: "و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون:" البقرة - 154.

فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، إما ظاهرا و باطنا، و إما باطنا فقط، قال تعالى: "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين:" التوبة - 52.

و من هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا و باطنا معا، أما ظاهرا: فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الإنساني هداية تكوينية إلى الحق و السعادة، و سوف يبلغ غايته، فإن الظهور المتراءى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، و إنما هو مقدمة لظهور الحق و لما ينقض سلسلة الزمان و لما يفن الدهر، و النظام الكوني غير مغلوب البتة، و أما باطنا: فلما عرفت أن الغلبة لحجة الحق.

و أما إن لحق القول و الفعل كل صفة جميلة كالثبات و البقاء و الحسن، و لباطل القول و الفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل و الزوال و القبح و السوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الأبحاث: أن المستفاد من قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كلشيء:" المؤمن - 62، و قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه:" الم السجدة - 7، و قوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:" النساء - 79، أن السيئات أعدام و بطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، و لذلك كان القول الحسن و الفعل الحسن منشأ كل جمال و حسن، و منبع كل خير و سعادة كالثبات و البقاء، و البركة و النفع دون السيىء من القول و الفعل، قال تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:" الرعد - 17.

و من أحكام الأعمال:

أن الحسنات من الأقوال و الأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الأفعال و الأقوال، و قد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل و نعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحق و الباطل، و يميز به الحسن من السيىء.

و لذلك أوصى باتباعه و نهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر و القمار و اللهو و الغش و الغرر في المعاملات، و كذا نهى عن الكذب و الافتراء و البهتان و الخيانة و الفتك و جميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الأفعال و الأعمال توجب خبط العقل الإنساني في عمله و قد ابتنيت الحياة الإنسانية على سلامة الإدراك و الفكر في جميع شئون الحياة الفردية و الاجتماعية.

و أنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية و الفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت أن الأساس فيها هي الأعمال التي يبطل بها حكومة العقل، و أن بقية المفاسد و إن كثرت و عظمت مبنية عليها، و لتوضيح الأمر في هذا المقام محل آخر سيأتي إن شاء الله تعالى.

بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر و إن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين و قد قرأت القرآن؟ قال و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم - و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم - و الله يعلم و أنتم لا تعلمون أقول: و في الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع و التكوين و إنما يختلف باختلاف الاعتبار، و أما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، و قد مر أن عسى في القرآن بمعناه اللغوي و هو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شيء في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب! و أعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أن كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن طلقكن، و في بني إسرائيل عسى ربكم أن يرحمكم.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن جرير من طريق السدي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية و فيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، و فيهم عمار بن ياسر، و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و سعد بن أبي وقاص، و عتبة بن صفوان السلمي حليف لبني نوفل، و سهل بن بيضاء، و عامر بن فهيرة، و واقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، و كتب مع ابن جحش كتابا و أمره أن لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض و ليوص فإني موص و ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار و تخلف عنه سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، و سار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة بن عثمان، و عمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة و انفلت المغيرة، و قتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين و ما غنموا من الأموال، قال المشركون محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: "يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه - قل قتال فيه كبير"، لا يحل و ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و صددتم عنه محمدا، و الفتنة و هي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: و صد عن سبيل الله و كفر به.



أقول: و الروايات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة من طرقهم، و روي هذا المعنى أيضا في المجمع، و في بعض الروايات: أن السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن جحش إلى نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش و لم يأمره بقتال، و ذلك في الشهر الحرام، و كتب له كتابا قبل أن يعلمه أنه يسير، فقال: اخرج أنت و أصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك و انظر فيه، فما أمرتك به فامض له، و لا تستكرهن أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعا و طاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه يطلبانه، و مضى القوم حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان و عثمان و المغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف: أدم و زيت، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله و كان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، و ائتمر القوم بهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم أنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام و لئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، و استأسر عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان، و هرب المغيرة فأعجزهم، و استاقوا العير فقدموا بها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: و الله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين و العير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قال سقط في أيديهم و ظنوا أن قد هلكوا و عنفهم إخوانهم من المسلمين، و قالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء: قد سفك محمد الدم الحرام و أخذ المال، و أسر الرجال و استحل الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العير و فدى الأسيرين فقال المسلمون: يا رسول الله! أ تطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا - و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، و كانوا ثمانية و أميرهم التاسع عبد الله بن جحش.

أقول: و في كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا الآية، نازلة في أمر أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، و الآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، و تدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب.

و في الروايات إشارة إلى أن المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، و يؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض (صلى الله عليه وآله وسلم)، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام الرواية، و يؤيد ذلك أن الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم.

2 سورة البقرة - 219 - 220

يَسئَلُونَك عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كبِيرٌ وَ مَنَفِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكبرُ مِن نّفْعِهِمَا وَ يَسئَلُونَك مَا ذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَتِ لَعَلّكمْ تَتَفَكّرُونَ (219) فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ يَسئَلُونَك عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصلاحٌ لّهُمْ خَيرٌ وَ إِن تخَالِطوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصلِح وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

بيان

قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر و الميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، و الأصل في معناه الستر، و سمي به لأنه يستر العقل و لا يدعه يميز الحسن من القبح و الخير من الشر، و يقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، و يقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، و يقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، و سميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى و تخمر من قبل، و قد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب و التمر و الشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، و الجميع خمر.

و الميسر لغة هو القمار و يسمى المقامر ياسرا و الأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب و العمل، و قد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، و هو الضرب بالقداح و هي السهام، و تسمى أيضا: الأزلام و الأقلام.

و أما كيفيته فهي أنهم كانوا يشترون جزورا و ينحرونه، ثم يجزءونه ثمانية و عشرين جزءا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام و هي الفذ، و التوأم، و الرقيب، و الحلس، و النافس، و المسبل، و المعلى، و المنيح، و السنيح، و الرغد، فللفذ جزء من الثمانية و العشرين جزءا، و للتوأم جزءان، و للرقيب ثلاثة أجزاء، و للحلس أربعة، و للنافس خمسة، و للمسبل ستة، و للمعلى سبعة، و هو أكثر القداح نصيبا، و أما الثلاثة الأخيرة و هي المنيح و السنيح و الرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، و صاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، و يتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء و السهام.

قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، و قرىء إثم كثير بالثاء المثلثة، و الإثم يقارب الذنب و ما يشبهه معنى و هو حال في الشيء أو في العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء و الحرمان في أمور أخرى و يفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى و هذان على هذه الصفة.

أما شرب الخمر فمضراته الطبية و آثاره السيئة في المعدة و الأمعاء و الكبد و الرئة و سلسلة الأعصاب و الشرايين و القلب و الحواس كالباصرة و الذائقة و غيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما و حديثا، و لهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.

و أما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق و تأديته الإنسان إلى الفحش، و الإضرار و الجنايات، و القتل، و إفشاء السر، و هتك الحرمات، و إبطال جميع القوانين و النواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، و خاصة ناموس العفة في الأعراض و النفوس و الأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول و لا يشعر بما يفعل، و قل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا و نغصت عيشة الإنسان إلا و للخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.

و أما مضرته في الإدراك و سلبه العقل و تصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان و تغييره مجرى الإدراك حين السكر و بعد الصحو فمما لا ينكره منكر و ذلك أعظم ما فيه من الإثم و الفساد، و منه ينشأ جميع المفاسد الآخر.

و الشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، و نهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، و الميسر، و الغش، و الكذب، و غير ذلك، و من أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال و قول الكذب و الزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل و على رأسها السياسات المبتنية على السكر و الكذب هي التي تهدد الإنسانية، و تهدم بنيان السعادة و لا تأتي بثمرة عامة إلا و هي أمر من سابقتها، و كلما زاد الحمل ثقلا و أعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، و خسر العمل، و لو لم يكن لهذه المحجة البيضاء و الشريعة الغراء إلا البناء على العقل و المنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، و للكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.

و لم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق و الحقيقة، و انعقدت العادات على تناولها و شق تركها و الجري على نواميس السعادة الإنسانية، و لذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، و كلفهم بالرفق و الإمهال.

و من جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق:" الأعراف - 33، و الآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، و في الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو و أن في الخمر إثما كبيرا.

و لعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق و التسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: "و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا:" النحل - 67، و الآية أيضا مكية، و كان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة و أنتم سكارى:" النساء - 43، و الآية مدنية و هي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب و السكر في أفضل الحالات و في أفضل الأماكن و هي الصلاة في المسجد.

و الاعتبار و سياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة و آيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، و لا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.

ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: "و يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما" و هذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه و تشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر "فيهما إثم كبير" و تقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.

و من هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: "قل فيهما إثم كبير" لا يدل على أزيد من أن فيه إثما و الإثم هو الضرر، و تحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة و منفعة من جهة أخرى، و لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم و أصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: "إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون".

وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا و ليس الإثم هو الضرر و مجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، و كيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: "و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:" النساء - 47، و قوله تعالى: "فإنه آثم قلبه:" البقرة - 283، و قوله تعالى: "أن تبوء بإثمي و إثمك:" المائدة - 29، و قوله تعالى: "لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم:" النور - 11، و قوله تعالى: "و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه:" النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، و لو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، و لفظها صريح في ذلك حيث يقول "و إثمهما أكبر من نفعهما" و إرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.



و أما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم و هي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية!.

على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم و هذه الآية قيدت الإثم بالكبر و لا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام و مصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، و قد وصف القرآن القتل و كتمان الشهادة و الافتراء و غير ذلك بالإثم و لم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر و في الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: "و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:" النساء - 48، و بالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.

ثم نزلت آيتا المائدة: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون:" المائدة - 91، و ذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر و لم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.

و أما الميسر: فمفاسده الاجتماعية و هدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، و العيان يغني عن البيان، و سنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير و منافع للناس، قد مر الكلام في معنى الإثم، و أما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، و الكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه و هو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، و لو لا المقايسة و الإضافة لم يكن كبر و لا صغر كما لا يكون كثرة و لا قلة، و يشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة و هي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر و الصغر فيها، قال تعالى: "إنها لإحدى الكبر:" المدثر - 35، و قال تعالى: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم:" الكهف - 5، و قال تعالى: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه:" الشورى - 13، و العظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.

و النفع خلاف الضرر و يطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير و الشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، و المراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع و الشرى و العمل و التفكه و التلهي، و لما قوبل ثانيا بين الإثم و المنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع و إلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: و إثمهما أكبر من نفعهما و لم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة و العفو بمعنى إمحاء الأثر و العفو بمعنى التوسط في الإنفاق، و هذا هو المقصود في المقام، و الله العالم.

و الكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و الأقربين الآية.

قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا و الآخرة، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا و الآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون و ليس بظرف له، و المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين و ما يرتبط بكم من حقيقتهما، و أن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها و تكسبوا ما ينفعكم في مقركم و هو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.

و في الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود و معارف المبدإ و المعاد و أسرار الطبيعة، و التفكر في طبيعة الاجتماع و نواميس الأخلاق و قوانين الحياة الفردية و الاجتماعية، و بالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدإ و المعاد و ما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان و شقاوته.

و ثانيا: أن القرآن و إن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله و رسوله من غير أي شرط و قيد، غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام و المعارف التي يعطيها على العمى و الجمود المحض من غير تفكر و تعقل يكشف عن حقيقة الأمر، و تنور يستضاء به الطريق في هذا السير و السري.

و كان المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام و القوانين، و إيضاح أصول المعارف و العلوم.

قوله تعالى: و يسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف و التسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل و لو شاء الله لأعنتكم، و هذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش و الاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، و الأمر على ذلك، فإن هاهنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله "تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا:" النساء - 10، و قوله تعالى: "و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا:" النساء - 2، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، و بذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، و في قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الإصلاح، دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح و لو كان إصلاحا في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، و يشعر به قوله تعالى - ذيلا -: و الله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: و إن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد و الاستضعاف و الاستذلال و الاستكبار و أنواع البغي و الظلم، و بذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، و المعادلة بين اليتيم ا

<<        الفهرس        >>