جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 8 ص : 619

الإعراب


« أن تقوموا » في موضع جر على البدل من واحدة و يجوز أن يكون في موضع نصب بحذف حرف الجر و إفضاء الفعل إليه و التقدير أعظكم بطاعة الله لأن تقوموا أو أعظكم بأن تقوموا .
« مثنى و فرادى » نصب على الحال .
« ما سألتكم » ما شرطية و هي في محل النصب بأنها مفعول ثان لسالت و يجوز أن تكون موصولة فيكون التقدير ما سألتكموه فيكون مع الصلة في موضع رفع بالابتداء .
« علام الغيوب » يجوز أن يكون بدلا من الضمير المستكن في يقذف و يجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هو علام الغيوب و لو نصب على أنه نعت لربي لكان جائزا لكن الرفع أجود لأنه جاء بعد تمام الكلام .

المعنى

ثم خاطب سبحانه النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال « قل » يا محمد لهم « إنما أعظكم بواحدة » أي آمركم و أوصيكم بخصلة واحدة و قيل بكلمة واحدة و هي كلمة التوحيد و قيل بطاعة الله عن مجاهد و من قال بالأول قال أنه فسر الواحدة بما بعده فقال « أن تقوموا لله مثنى و فرادى » أي اثنين اثنين و واحدا واحدا « ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة » معناه أن يقوم الرجل منكم وحده أو مع غيره ثم تتساءلون هل جربنا على محمد كذبا أو هل رأينا به جنة ففي ذلك دلالة على بطلان ما ذكرتم فيه و ليس معنى القيام هنا القيام على الأرجل و إنما المراد به القصد للإصلاح و الإقبال عليه مناظرا مع غيره و متفكرا في نفسه لأن الحق إنما يتبين للإنسان بهما و قد تم الكلام عند قوله « تتفكروا » و ما للنفي قال قتادة أي ليس بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) جنون و أن جعلت تمام الكلام آخر الآية فالمعنى ثم تتفكروا أي شيء بصاحبكم من الجنون أي هل رأيتم من منشإه إلى مبعثه وصمة تنافي النبوة من كذب أو ضعف في العقل أو اختلاف في القول و الفعل فيدل ذلك على الجنون « إن هو إلا نذير لكم » أي مخوف من معاصي الله « بين يدي عذاب شديد » يعني عذاب القيامة ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قل » لهم يا محمد « ما
مجمع البيان ج : 8 ص : 620
سألتكم من أجر فهو لكم » يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا فتتهموني فما طلبته منكم من أجر على أداء الرسالة و بيان الشريعة فهو لكم و هذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه ما أعطيتني من أجر فخذه و ما لي في هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء و منه النصح مجان و قال الماوردي معناه أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي و ذخره هو لكم دوني و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) « إن أجري إلا على الله » أي ليس ثواب عملي إلا على الله فهو يثيبني عليه و لا يضيعه « و هو على كل شيء شهيد » أي عليم به لم يغب عنه شيء فيعلم ما يلحقني من أذاكم « قل » يا محمد « إن ربي يقذف بالحق » و يلقيه إلى أنبيائه عن قتادة و مقاتل « علام الغيوب » علم جميع الخفيات و ما غاب عن خلقه في الأرضين و السموات « قل » يا محمد « جاء الحق » و هو أمر الله تعالى بالإسلام و التوحيد و قيل هو الجهاد بالسيف عن ابن مسعود « و ما يبديء الباطل و ما يعيد » أي ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إبداء و لا إعادة و لا إقبال و لا إدبار لأن الحق إذا جاء لا يبقى للباطل بقية و قيل أن الباطل إبليس لا يبديء الخلق و لا يعيدهم عن قتادة و قيل معناه ما يبديء الباطل لأهله خيرا في الدنيا و لا يعيد خيرا في الآخرة عن الحسن و قال الزجاج و يجوز أن يكون ما استفهاما في موضع نصب على معنى و أي شيء يبديء الباطل و أي شيء يعيده قال ابن مسعود دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مكة و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول جاء الحق و زهق الباطل أن الباطل كان زهوقا « جاء الحق و ما يبديء الباطل و ما يعيد » « قل إن ضللت » عن الحق كما تدعون « فإنما أضل على نفسي » أي فإنما يرجع وبال ضلالي علي لأني مأخوذ به دون غيري « و إن اهتديت » إلى الحق « فبما يوحي إلي ربي » أي بفضل ربي حيث أوحى إلي فله المنة بذلك علي دون خلقه « إنه سميع » لأقوالنا « قريب » منا فلا يخفى عليه المحق و المبطل .
وَ لَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْت وَ أُخِذُوا مِن مَّكان قَرِيب(51) وَ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ وَ أَنى لهَُمُ التَّنَاوُش مِن مَّكانِ بَعِيد(52) وَ قَدْ كفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكانِ بَعِيد(53) وَ حِيلَ بَيْنهُمْ وَ بَينَ مَا يَشتهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنهُمْ كانُوا فى شك مُّرِيبِ(54)

مجمع البيان ج : 8 ص : 621

القراءة

قرأ أبو عمرو و أهل الكوفة غير عاصم التناؤش بالمد و الهمز و الباقون بغير مد و لا همز .

الحجة

التناؤش التناول من قولهم نشت أنوش قال الشاعر :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا
نوشا به تقطع أجواز الفلا فمن لم يهمز جعله تفاعلا منه و من همز احتمل أمرين ( أحدهما ) أنه أبدل من الواو و الهمز لانضمامها مثل أقتت و أدؤر و نحو ذلك ( و الآخر ) يكون من الناش و هو الطلب قال رؤبة :
أقحمني جار أبي الخاموش
إليك ناش القدر المنئوش و الناش الحركة في الإبطاء قال الشاعر :
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني
و قد حدثت بعد الأمور أمور أي تمنى مدة مديدة فنصب نئيشا على الظرف .

المعنى


ثم قال سبحانه « و لو ترى » يا محمد « إذ فزعوا » أي عند البعث « فلا فوت » أي فلا يفوتني منهم أحد و لا ينجو مني ظالم « و أخذوا من مكان قريب » يعني القبور و حيث كانوا فهم من الله قريب لا يفوتونه و جواب لو محذوف و يدل الكلام عليه و التقدير لرأيت أمرا عظيما و قيل إذ فزعوا في الدنيا حين رأوا بأس الله عند معاينة الملائكة لقبض أرواحهم عن قتادة و قيل هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فرارا من العذاب و لا رجوعا إلى التوبة عن الضحاك و السدي و قال أبو حمزة الثمالي سمعت علي بن الحسين (عليهماالسلام) و الحسن بن الحسن بن علي (عليهماالسلام) يقولان هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم قال و حدثني عمرو بن مرة و حمران بن أعين أنهما سمعا مهاجرا المكي
مجمع البيان ج : 8 ص : 622
يقول سمعت أم سلمة تقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعوذ عائذ بالبيت فيبعث الله إليه جيشا حتى إذا كانوا بالبيداء بيداء المدينة خسف بهم و روي عن حذيفة بن اليمان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق و المغرب قال فبينا هم كذلك يخرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فور ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق و آخر إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة يعني بغداد فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف و يفضحون أكثر من مائة امرأة و يقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فيخرج راية هدي من الكوفة فيلحق ذلك الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر و يستنقذون ما في أيديهم من السبي و الغنائم و يحل الجيش الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام بلياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرائيل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم عندها و لا يفلت منهم إلا رجلان من جهينة فلذلك جاء القول و عند جهينة الخبر اليقين فذلك قوله « و لو ترى إذ فزعوا » إلى آخره أورده الثعلبي في تفسيره و روى أصحابنا في أحاديث المهدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و أبي جعفر (عليه السلام) مثله « و قالوا » أي و يقولون في ذلك الوقت و هو يوم القيامة أو عند رؤية البأس أو عند الخسف في حديث السفياني « آمنا به و أنى لهم التناوش » أي و من أين لهم الانتفاع بهذا الإيمان الذي ألجئوا إليه بين سبحانه أنهم لا ينالون به نفعا كما لا ينال أحد التناوش « من مكان بعيد » و قيل معناه أنهم طلبوا المرد إلى الدنيا فالمراد أنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال و لم يرد بعد المكان و إنما أراد بعد انتفاعهم بذلك و بعدهم عن الصواب « و قد كفروا به من قبل » المعنى و كيف تقبل توبتهم أو يردون إلى الدنيا و قد كفروا بالله من قبل ذلك « و يقذفون بالغيب من مكان بعيد » أي و يرجمون بالظن فيقولون لا جنة و لا نار و لا بعث و هذا أبعد ما يكون من الظن عن قتادة و قيل معناه يرمون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالظنون من غير يقين و ذلك قولهم هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون و جعله قذفا لخروجه في غير حق و قيل معناه و يبعدون أمر الآخرة فيقولون لأتباعهم هيهات هيهات لما توعدون و ذلك كالشيء يرى في موضع بعيد المرمى « و حيل بينهم و بين ما يشتهون » أي و فرق بينهم و بين مشتهياتهم بالموت الذي حل بهم كما حل بأمثالهم عن أبي مسلم و قيل مشتهاهم هو التوبة و الإيمان أو الرد إلى الدنيا و قد منعوا منه و قيل هو نعيم الجنة عن الجبائي و قيل معناه منعوا من كل مشتهى
مجمع البيان ج : 8 ص : 623
فيلحق الله تعالى فيهم النفار فلا يدركون شيئا إلا و يتألمون به « كما فعل » مثل ذلك « بأشياعهم من قبل » أي بأمثالهم من الكفار و قيل معناه بموافقيهم و أهل دينهم من الأمم الماضية حين لم تقبل منهم التوبة وقت رؤية البأس و العذاب قال الضحاك المراد بذلك أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة « إنهم كانوا في شك » من البعث و النشور و قيل في شك من وقوع العذاب بهم « مريب » أي مشكك كما قالوا عجب عجيب .

مجمع البيان ج : 8 ص : 624
( 35 ) سورة فاطر مكية و آياتها خمس و أربعون ( 45 )
مكية قال الحسن إلا آيتين « إن الذين يتلون كتاب الله » الآية « ثم أورثنا الكتاب » الآية .

عدد آيها

ست و أربعون آية شامي و المدني الأخير و خمس في الباقين .

اختلافها

سبع آيات « الذين كفروا لهم عذاب شديد » بصري شامي « جديد » و « البصير » و « النور » ثلاثهن غير البصري « من في القبور » غير شامي « أن تزولا » بصري « تبديلا » بصري شامي و المدني الأخير .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنة أن أدخل من أي الأبواب شئت .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه السورة المتقدمة بالرد على أهل الشرك و الشك و العنود افتتح هذه السورة بذكر كمال قدرته و وحدانيته و دلائل التوحيد فقال : .
سورة فاطر
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَْمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَئكَةِ رُسلاً أُولى أَجْنِحَة مَّثْنى وَ ثُلَث وَ رُبَعَ يَزِيدُ فى الخَْلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(1) مَّا يَفْتَح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة فَلا مُمْسِك لَهَا وَ مَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ(2) يَأَيهَا النَّاس اذْكُرُوا نِعْمَت اللَّهِ عَلَيْكمْ هَلْ مِنْ خَلِق غَيرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السمَاءِ وَ الأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنى تُؤْفَكُونَ(3) وَ إِن يُكَذِّبُوك فَقَدْ كُذِّبَت رُسلٌ مِّن قَبْلِك وَ إِلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(4) يَأَيهَا النَّاس إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقُّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَْيَوةُ الدُّنْيَا وَ لا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)

مجمع البيان ج : 8 ص : 625

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم و أبو جعفر غير الله بالجر و الباقون بالرفع .

الحجة

قال أبو علي من قرأ غير الله بالجر جعله صفة على اللفظ و الخبر « يرزقكم من السماء و الأرض » و من قرأ « غير الله » بالرفع احتمل وجوها ( أحدها ) أن يكون خبر المبتدأ ( و الآخر ) أن يكون صفة على الموضع و الخبر مضمر تقديره هل خالق غير الله في الوجود أو العالم ( و الثالث ) أن يكون غير استثناء و الخبر مضمر كأنه قال هل من خالق إلا الله و يدل على جواز الاستثناء قوله ما من إله إلا الله .


اللغة

الفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحس و فاطر السموات خالقها .

الإعراب

« مثنى و ثلاث و رباع » صفة لأجنحة معدولة عن اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة .
« ما يفتح الله » ما شرطية في محل النصب لكونها مفعول يفتح .

المعنى

« الحمد لله فاطر السماوات و الأرض » أي خالقهما مبتدئا على غير مثال سبق حمد سبحانه نفسه ليعلمنا كيف نحمده و ليبين لنا أن الحمد كله له « جاعل الملائكة رسلا » إلى الأنبياء بالرسالات و الوحي « أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع » تقدم تفسيرها و إنما جعلهم أولي أجنحة ليتمكنوا بها من العروج إلى السماء و من النزول إلى الأرض فمنهم من له جناحان و منهم من له ثلاثة أجنحة و منهم من له أربعة أجنحة عن قتادة قال و يزيد فيها ما يشاء و هو قوله « يزيد في الخلق ما يشاء » قال ابن عباس رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) جبرائيل ليلة المعراج و له ستمائة جناح و هذا اختيار الزجاج و الفراء و قيل أراد بقوله « يزيد في الخلق ما يشاء »
مجمع البيان ج : 8 ص : 626
حسن الصوت عن الزهري و ابن جريج و قيل هو الملاحة في العينين عن قتادة و روى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال هو الوجه الحسن و الصوت الحسن و الشعر الحسن « إن الله على كل شيء قدير » لا شيء إلا و هو قادر عليه بعينه أو قادر على مثله ثم بين سبحانه أنعامه على خلقه فقال « ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها » أي ما يأتيهم به من مطر أو عافية أو أي نعمة شاء فإن أحدا لا يقدر على إمساكه « و ما يمسك » من ذلك « فلا مرسل له من بعده » أي فإن أحدا لا يقدر على إرساله و قيل معناه ما يرسل الله من رسول إلى عباده في وقت دون وقت فلا مانع له لأن إرسال الرسول رحمة من الله كما قال « و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » و ما يمسكه في زمان الفترة أو عمن يقترحه من الكفار فلا مرسل له عن الحسن و اللفظ محتمل للجميع « و هو العزيز » أي القادر الذي لا يعجز « الحكيم » في أفعاله أن أنعم و أن أمسك لأنه يفعل ما تقتضيه الحكمة ثم خاطب المؤمنين فقال « يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم » الظاهرة و الباطنة التي من جملتها أنه خلقكم و أوجدكم و أحياكم و أقدركم و شهاكم و خلق لكم أنواع الملاذ و المنافع « هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض » هذا استفهام تقرير لهم و معناه النفي ليقروا بأنه لا خالق إلا الله يرزق من السماء بالمطر و من الأرض بالنبات و هل يجوز إطلاق لفظ الخالق على غير الله سبحانه فيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا تطلق هذه اللفظة على أحد سواه و إنما يوصف به غيره على جهة التقييد و إن جاز إطلاق لفظ الصانع و الفاعل نحوهما على غيره ( و الآخر ) أن المعنى لا خالق يرزق و يخلق الرزق إلا الله تعالى « لا إله إلا هو » أي لا معبود يستحق العبادة سواه سبحانه « فأنى تؤفكون » أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال و قيل معناه أنى يعدل بكم عن هذه الأدلة التي أقمتها لكم على التوحيد مع وضوحها ثم سلى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن تكذيب قومه إياه فقال « و إن يكذبوك » يا محمد « فقد كذبت رسل من قبلك و إلى الله ترجع الأمور » فيجازي من كذب رسله و ينصر من كذب من رسله ثم خاطب الخلق فقال « يا أيها الناس أن وعد الله » من البعث و النشور و الجنة و النار و الجزاء و الحساب « حق » صدق كائن لا محالة « فلا تغرنكم الحياة الدنيا » فتغترون بملاذها و نعيمها و لا يخدعنكم حب الرياسة و طول البقاء فإن ذلك عن قليل نافد بائد و يبقى الوبال و الوزر « و لا يغرنكم بالله الغرور » و هو الذي عادته أن يغر غيره و الدنيا و زينتها بهذه الصفة لأن الخلق يغترون بها و قيل أن الغرور الشيطان الذي هو إبليس عن الحسن و مجاهد .

مجمع البيان ج : 8 ص : 627
إِنَّ الشيْطنَ لَكمْ عَدُوُّ فَاتخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصحَبِ السعِيرِ(6) الَّذِينَ كَفَرُوا لهَُمْ عَذَابٌ شدِيدٌ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُم مَّغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7) أَ فَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ وَ يهْدِى مَن يَشاءُ فَلا تَذْهَب نَفْسك عَلَيهِمْ حَسرَت إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصنَعُونَ(8) وَ اللَّهُ الَّذِى أَرْسلَ الرِّيَحَ فَتُثِيرُ سحَاباً فَسقْنَهُ إِلى بَلَد مَّيِّت فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا كَذَلِك النُّشورُ(9) مَن كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصعَدُ الْكلِمُ الطيِّب وَ الْعَمَلُ الصلِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السيِّئَاتِ لهَُمْ عَذَابٌ شدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولَئك هُوَ يَبُورُ(10)

القراءة

قرأ أبو جعفر فلا تذهب بضم التاء نفسك بالنصب و الباقون « فلا تذهب نفسك » و الوجه فيهما ظاهر .

الإعراب

حسرات مصدر فعل محذوف تقديره فلا تذهب نفسك تتحسر عليهم حسرات و جميعا نصب على الحال و العامل فيه ما يتعلق به اللام من لله « و مكر أولئك هو يبور » هو فصل بين المبتدأ و خبره .

المعنى

ثم أنه سبحانه حذرهم الشيطان فقال « إن الشيطان لكم عدو » يدعوكم إلى ما فيه الهلاك و الخسر و يصرفكم عن أفعال الخير و البر و يدعوكم إلى الشر « فاتخذوه عدوا » أي فعادوه و لا تتبعوه بأن تعملوا على وفق مراده و تذعنوا لانقياده « إنما يدعو
مجمع البيان ج : 8 ص : 628
حزبه » أي أتباعه و أولياءه و أصحابه « ليكونوا من أصحاب السعير » أي النار المسعرة و المعنى أنه لا سلطان له على المؤمنين و لكنه يدعو أتباعه إلى ما يستحقون به النار ثم بين سبحانه حال من أجابه و حال من خالفه فقال « الذين كفروا لهم عذاب شديد » جزاء على كفرهم « و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة » من الله لذنوبهم « و أجر كبير » أي ثواب عظيم ثم قال سبحانه مقررا لهم « أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا » يعني الكفار زينت لهم نفوسهم أعمالهم السيئة فتصوروها حسنة أو زينها الشيطان لهم بأن أمالهم إلى الشبه المضلة و ترك النظر في الأدلة و أغواهم حتى تشاغلوا بما فيه عاجل اللذة و طرح الكلفة و خبر قوله « أ فمن زين له سوء عمله » محذوف أي أ هو كمن علم الحسن و القبيح و عمل بما علم و لم يزين له سوء عمله و قيل تقديره كمن هداه الله و قيل كمن زين له صالح عمله « فإن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء » مر بيانه « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » أي لا تهلك نفسك يا محمد عليهم حسرة و لا يغمك حالهم إذ كفروا و استحقوا العقاب و هو مثل قوله « لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين » و الحسرة شدة الحزن على ما فأت من الأمر « إن الله عليم بما يصنعون » فيجازيهم عليه ثم عاد سبحانه إلى ذكر أدلة التوحيد فقال « و الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا » أي تهيجه و تزعجه من حيث هو « فسقناه » أي فسقنا السحاب « إلى بلد ميت » أي قحط و جدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد « فأحيينا به » أي بذلك المطر و الماء « الأرض بعد موتها » بأن أنبتنا فيها الزرع و الكلأ بعد أن لم يكن « كذلك النشور » أي كما فعل هذا بهذه الأرض الجدبة من إحيائها بالزرع و النبات ينشر الخلائق بعد موتهم و يحشرهم للجزاء من الثواب و العقاب « من كان يريد العزة فلله العزة جميعا » اختلف في معناه فقيل المعنى من كان يريد علم العزة و هي القدرة على القهر و الغلبة لمن هي فإنها لله جميعا عن الفراء و قيل معناه من أراد العزة فليتعزز بطاعة الله فإن الله تعالى يعزه عن قتادة يعني أن قوله « فلله العزة جميعا » معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة كما يقال من أراد المال فالمال لفلان أي فليطلبه من عنده يدل على صحة هذا ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه قال أن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز « إليه يصعد الكلم الطيب » و الكلم جمع الكلمة يقال هذا كلم و هذه كلم فيذكر و يؤنث و كل جمع ليس بينه و بين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث و معنى الصعود هاهنا القبول من صاحبه و الإثابة عليه و كلما يتقبله الله سبحانه من الطاعات يوصف بالرفع و الصعود لأن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم و يرفعونها إلى حيث شاء الله تعالى و هذا كقوله إن كتاب الأبرار لفي عليين و قيل معنى إليه يصعد إلى سمائه و إلى حيث لا يملك الحكم
مجمع البيان ج : 8 ص : 629
سواه فجعل صعوده إلى سمائه صعودا إليه تعالى كما يقال ارتفع أمرهم إلى السلطان و الكلم الطيب الكلمات الحسنة من التعظيم و التقديس و أحسن الكلم لا إله إلا الله « و العمل الصالح يرفعه » قيل فيه وجوه ( أحدها ) العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله فالهاء من يرفعه يعود إلى الكلم و هو معنى قول الحسن ( و الثاني ) على القلب من الأول أي و العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب و المعنى أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد عن ابن عباس ( و الثالث ) أن المعنى العمل الصالح يرفعه الله لصاحبه أي يقبله عن قتادة و على هذا فيكون ابتداء إخبار لا يتعلق بما قبله ثم ذكر سبحانه من لا يوحد الله سبحانه فقال « و الذين يمكرون السيئات » أي يعملون السيئات عن الكلبي و قيل يمكرون أن يشركون بالله و قيل يعني الذين مكروا برسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في دار الندوة عن أبي العالية و هو قوله و إذ يمكر بك الذين كفروا الآية « لهم عذاب شديد » في الآخرة ثم أخبر سبحانه أن مكرهم يبطل فقال « و مكر أولئك هو يبور » أي يفسد و يهلك و لا يكون شيئا و لا ينفذ فيما أرادوه .
وَ اللَّهُ خَلَقَكم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطفَة ثُمَّ جَعَلَكمْ أَزْوَجاً وَ مَا تحْمِلُ مِنْ أُنثى وَ لا تَضعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّر وَ لا يُنقَص مِنْ عُمُرِهِ إِلا فى كِتَب إِنَّ ذَلِك عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ(11) وَ مَا يَستَوِى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سائغٌ شرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِن كلّ تَأْكلُونَ لَحْماً طرِيًّا وَ تَستَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسونَهَا وَ تَرَى الْفُلْك فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ(12) يُولِجُ الَّيْلَ فى النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فى الَّيْلِ وَ سخَّرَ الشمْس وَ الْقَمَرَ كلُّ يجْرِى لأَجَل مُّسمًّى ذَلِكمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْك وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطمِير(13) إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسمَعُوا دُعَاءَكمْ وَ لَوْ سمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكمْ وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْككُمْ وَ لا يُنَبِّئُك مِثْلُ خَبِير(14) * يَأَيهَا النَّاس أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنىُّ الْحَمِيدُ(15) إِن يَشأْ مْ ْهِبْكمْ وَ يَأْتِ بخَلْق جَدِيد(16) وَ مَا ذَلِك عَلى اللَّهِ بِعَزِيز(17)

مجمع البيان ج : 8 ص : 630

القراءة

قرأ روح و زيد عن يعقوب و لا ينقص بفتح الياء و هو قراءة الحسن و ابن سيرين و الباقون « و لا ينقص » على البناء للمفعول به و قرأ قتيبة عن الكسائي و الذين يدعون بالياء و الباقون بالتاء و في الشواذ قراءة عيسى الثقفي سيغ شرابه .

الحجة

من قرأ ينقص فالتقدير و لا ينقص الله من عمره و القراءة المشهورة « و لا ينقص » و هي أوفق لما تقدمه من قوله « و ما يعمر من معمر » و كذلك قراءة « تدعون » على الخطاب أوفق بما تقدم من الكلام و ما تأخر و يدعون بالياء على الغيبة و من قرأ سيغ شرابه فإنه على التخفيف من سيغ بالتشديد على فيعل و أصله سيوغ مثل هين و هين و ميت و ميت .

اللغة

النطفة الماء القليل و الماء الكثير و هو من الأضداد و منه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لما قيل له أن الخوارج عبروا جسر النهروان مصارعهم دون النطفة و العمر البقاء و أصله طول المدة و قولهم لعمر الله بالفتح لا غير و القطمير لفافة النواة و قيل الحبة في بطن النواة و الجديد القريب العهد بانقطاع العمل عنه و أصله من القطع .

الإعراب

« لا ينقص » تقديره لا ينقص من عمره شيء فمفعول ما لم يسم فاعله محذوف و قوله « إلا في كتاب » الجار و المجرور في موضع خبر لمبتدء محذوف تقديره إلا هو كائن في كتاب .
« تلبسونها » يجوز أن يكون جملة منصوبة الموضع على الحال من « تستخرجون » و يجوز أن يكون صفة لحلية أي حلية ملبوسة و اللام من قوله « لتبتغوا » يتعلق بمواخر لأن المعنى أن الفلك يشق الماء للابتغاء من فضل الله و قوله « من دونه » في موضع الحال من الضمير المحذوف من قوله « تدعون » و التقدير و الذين تدعونهم كائنين من دونه .

المعنى

ثم نسق سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد فقال « و الله خلقكم من تراب » بأن خلق أباكم آدم منه فإن الشيء يضاف إلى أصله و قيل أراد به آدم (عليه السلام) نفسه « ثم من نطفة » أي ماء الرجل و المرأة « ثم جعلكم أزواجا » أي ذكورا و إناثا و قيل ضروبا
مجمع البيان ج : 8 ص : 631
و أصنافا « و ما تحمل من أنثى و لا تضع إلا بعلمه » أي و ما تحصل من الإناث حاملة ولدها في بطنها إلا بعلم الله تعالى و المعنى إلا و هو عالم بذلك « و ما يعمر من معمر » معناه و ما يمد في عمر معمر أي و لا يطول عمر أحد « و لا ينقص من عمره » أي من عمر ذلك المعمر بانقضاء الأوقات عليه عن أبي مالك يعني و لا يذهب بعض عمره بمضي الليل و النهار و قيل معناه و لا ينقص من عمر غير ذلك المعمر عن الحسن و الضحاك و ابن زيد و قيل هو ما يعلمه الله تعالى إن فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا و إذا عصى نقص عمره فلا يبقى فالنقصان على ثلاثة أوجه إما أن يكون من عمر المعمر أو من عمر معمر آخر أو يكون بشرط « إلا في كتاب » أي إلا و ذلك مثبت في الكتاب و هو الكتاب المحفوظ أثبته الله تعالى قبل كونه قال سعيد بن جبير مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ثم يكتب أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخر عمره « إن ذلك على الله يسير » يعني أن تعمير من يعمره و نقصان من ينقصه و إثبات ذلك في الكتاب سهل على الله تعالى غير متعذر ثم قال « و ما يستوي البحران » يعني العذب و المالح ثم ذكرهما فقال « هذا عذب فرات » أي طيب بارد « سائغ شرابه » أي جائز في الحلق هنيء « و هذا ملح أجاج » شديد الملوحة عن ابن عباس و ما بعد هذا مفسر في سورة النحل إلى آخر الآية « يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل » أي يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة و النقصان « و سخر الشمس و القمر » أي يجريهما كما يريد « كل يجري لأجل مسمى » أي لوقت معلوم و قد مضى تفسيره « ذلكم الله ربكم » أي مدبر هذه الأمور هو الله خالقكم « له الملك » في الدنيا و الآخرة « و الذين تدعون من دونه » أي تدعونهم آلهة من الأصنام و الأوثان و توجهون عبادتكم إليهم « و ما يملكون من قطمير » أي قشر نواة عن ابن عباس أي لا يقدرون من ذلك على قليل و لا كثير « إن تدعوهم » لكشف ضر « لا يسمعوا دعاءكم » لأنها جماد لا تنفع و لا تضر « و لو سمعوا » بأن يخلق الله لها سمعا « ما استجابوا لكم و يوم القيامة يكفرون بشرككم » أي يتبرءون عن عبادتكم ينطقهم الله يوم القيامة لتوبيخ عابديها فيقولون لم عبدتمونا و ما دعوناكم إلى ذلك قال البلخي و يجوز أن يكون المراد به الملائكة و عيسى و يكون معنى قوله « لا يسمعوا دعاءكم » أنهم بحيث لا يسمعونه أو أنهم مشتغلون عنهم لا يلتفتون إليهم و يجوز أن يكون المراد به الأصنام و يكون ما يظهر من بطلان ما ظنوه كفرا بشركهم و جحودا له كما أن ما يحصل في الجماد من الدلالة على الله تسبيح منهم « و لا ينبئك مثل خبير » أي لا يخبرك بما فيه الصلاح و الفساد و المنافع و المضار مثل الله سبحانه العليم بالأشياء كلها « يا أيها الناس أنتم الفقراء » المحتاجون « إلى الله و الله هو الغني »
مجمع البيان ج : 8 ص : 632
عن عبادتكم لا يحتاج إلى شيء « الحميد » المستحق للحمد على جميع أفعاله فلا يفعل إلا ما يستحق به حمدا ثم أخبر عن كمال قدرته فقال « إن يشأ يذهبكم » و يفنكم « و يأت بخلق جديد » سواكم كما خلقكم و لم تكونوا شيئا « و ما ذلك على الله بعزيز » أي ممتنع بل هو عليه هين يسير .
وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ إِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِهَا لا يحْمَلْ مِنْهُ شىْءٌ وَ لَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يخْشوْنَ رَبهُم بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ مَن تَزَكى فَإِنَّمَا يَتزَكى لِنَفْسِهِ وَ إِلى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18) وَ مَا يَستَوِى الأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ(19) وَ لا الظلُمَت وَ لا النُّورُ(20) وَ لا الظلُّ وَ لا الحَْرُورُ(21) وَ مَا يَستَوِى الأَحْيَاءُ وَ لا الأَمْوَت إِنَّ اللَّهَ يُسمِعُ مَن يَشاءُ وَ مَا أَنت بِمُسمِع مَّن فى الْقُبُورِ(22) إِنْ أَنت إِلا نَذِيرٌ(23) إِنَّا أَرْسلْنَك بِالحَْقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِن مِّنْ أُمَّة إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ(24) وَ إِن يُكَذِّبُوك فَقَدْ كَذَّب الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتهُمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَبِ الْمُنِيرِ(25) ثُمَّ أَخَذْت الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْف كانَ نَكِيرِ(26)

اللغة

الحرور السموم و هي الريح الحارة قال الفراء السموم لا يكون إلا بالنهار و الحرور يكون بالليل و النهار و الاستواء حصول أحد الشيئين على مقدار الآخر و منه الاستواء في العود و الطريق خلاف الاعوجاج لممره على مقدار وضع له من غير انعدال و الأسماع إيجاد المسموع بحيث يدركه السامع .

مجمع البيان ج : 8 ص : 633

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن عدله في حكمه فقال « و لا تزر وازرة وزر أخرى » أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره و إنما يؤاخذ كل بما يقترفه من الآثام « و أن تدع مثقلة إلى حملها » أي و أن تدع نفس مثقلة بالآثام غيرها إلى أن يتحمل عنها شيئا من إثمها « لا يحمل منه شيء » أي لا يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل « و لو كان ذا قربى » أي و لو كان المدعو إلى التحمل ذا قرابة منها و أقرب الناس إليها ما حمل عنها شيئا فكل نفس بما كسبت رهينة قال ابن عباس يقول الأب و الأم يا بني احمل عني فيقول حسبي ما علي « إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب » أي و هم غائبون عن أحكام الآخرة و أهوالها و هذا كقوله إنما أنت منذر من يخشاها و المعنى إن إنذارك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار و قيل الذين يخشون ربهم في خلواتهم و غيبتهم عن الخلق « و أقاموا الصلاة » أي أداموها و قاموا بشرائطها و إنما عطف الماضي على المستقبل إشعارا باختلاف المعنى لأن الخشية لازمة في كل وقت و الصلاة لها أوقات مخصوصة « و من تزكى » أي فعل الطاعات و قام بما يجب عليه من الزكاة و غيرها من الواجبات و قيل تطهر من الآثام « فإنما يتزكى لنفسه » لأن جزاء ذلك يصل إليه دون غيره « و إلى الله المصير » أي مرجع الخلق كلهم إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله سبحانه فيجازي كلا على قدر عمله « و ما يستوي الأعمى و البصير » أي لا يتساوى الأعمى عن طريق الحق و الذي اهتدى إليه قط و قيل المشرك و المؤمن « و لا الظلمات » أي ظلمات الشرك و الضلال « و لا النور » أي نور الإيمان و الهداية و في قوله « و لا النور » و ما بعده من الزيادة لا قولان ( أحدهما ) أنها زائدة مؤكدة للنفي ( و الثاني ) إنها نافية لاستواء كل واحد منهما لصاحبه على التفصيل « و لا الظل و لا الحرور » يعني الجنة و النار عن الكلبي و قيل يعني ظل الليل و السموم بالنهار « و ما يستوي الأحياء و لا الأموات » يعني المؤمنين و الكافرين و قيل يعني العلماء و الجهال و قال بعضهم أراد نفس الأعمى و البصير و الظل و الحرور و الظلمات و النور على طريق ضرب المثل أي كما لا يستوي هذه الأشياء و لا يتماثل و لا يتشاكل فكذلك عبادة الله لا تشبه عبادة غيره و لا يستوي المؤمن و الكافر و الحق و الباطل و العالم و الجاهل « إن الله يسمع من يشاء » أي ينفع بالأسماع من يشاء أن يلطف له و يوفقه و لم يرد به نفي حقيقة السماع لأنهم كانوا يسمعون آيات الله « و ما أنت بمسمع من في القبور » أي إنك لا تقدر على أن تنفع الكفار بإسماعك إياهم إذ لم يقبلوا كما لا تسمع من في القبور من الأموات « إن أنت إلا نذير » أي ما أنت إلا مخوف لهم بالله « إنا أرسلناك بالحق » أي بالدين الصحيح « بشيرا و نذيرا » أي مبشرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين
مجمع البيان ج : 8 ص : 634
« و إن من أمة » أي و ما من أمة من الأمم الماضية « إلا خلا فيها نذير » أي مضى فيها مخوف يخوفهم و ينذرهم فأنت مثلهم نذير لمن جحد بشير لمن وحد قال الجبائي و في هذا دلالة على أنه لا أحد من المكلفين إلا و قد بعث إليه الرسول و إنه سبحانه أقام الحجة على جميع الأمم ثم قال تعالى تسلية لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و إن يكذبوك » يا محمد و لم يصدقوك « فقد كذب الذين من قبلهم » من الكفار أنبياء أرسلهم الله إليهم « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالمعجزات الباهرات و الحجج الواضحات « و بالزبر » أي و بالكتب « و بالكتاب المنير » أي الواضح البين و إنما كرر ذكر الكتاب و عطفه على الزبر لاختلاف الصفتين فإن الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب لأنه يكون منقرا منقشا فيه كالنقر في الحجر « ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير » أي فلما كذبوا رسلهم و لم يعترفوا بنبوتهم أخذتهم بالعذاب و أهلكتهم و دمرت عليهم فكيف كان تعييري و إنكاري عليهم و إنزالي العقاب بهم .
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَت مخْتَلِفاً أَلْوَنهَا وَ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَنهَا وَ غَرَابِيب سودٌ(27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَاب وَ الأَنْعَمِ مخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ كَذَلِك إِنَّمَا يخْشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَب اللَّهِ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ أَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تجَرَةً لَّن تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شكورٌ(30)

اللغة

واحد الجدد جدة و أما الجدد فجمع جديد قال المبرد الجدد الطرائق و الخطوط قال امرؤ القيس :
مجمع البيان ج : 8 ص : 635

كان سراته و جدة متنه
كنائن يجري بينهن دليص يعني الخطة السوداء في ظهر حمار الوحش و كل طريقة جدة و جادة و قال الفراء هي الطرائق تكون في الجبال كالعروق بيض و سود و حمر و الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لون الغراب .

الإعراب

« مختلفا » صفة لثمرات و « ألوانها » مرفوع بأنه فاعله « مختلف ألوانه » خبر مبتدإ محذوف تقديره ما هو مختلف ألوانه فالهاء في ألوانه عائد إلى هو و يجوز أن يكون الهاء عائدا إلى موصوف لمختلف تقديره جنس مختلف ألوانه و هو الأصح « سرا و علانية » يجوز أن يكون نصبهما على الحال على تقدير أنفقوا مسرين و معلنين و يجوز أن يكون على صفة مصدر أنفق تقديره أنفقوا إنفاقا مسرا و معلنا و « يرجون » في موضع نصب على الحال .

المعنى


ثم عاد الكلام إلى ذكر دلائل التوحيد فقال سبحانه « أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء » أي غيثا و مطرا « فأخرجنا » أخبر عن نفسه بنون الكبرياء و العظمة « به » أي بذلك الماء « ثمرات » جمع ثمرة و هي ما تجتنى من الشجر « مختلفا ألوانها » و طعومها و روائحها اقتصر على ذكر الألوان لأنها أظهر و لدلالة الكلام على الطعوم و الروائح « و من الجبال جدد » أي و مما خلقنا من الجبال جدد « بيض و حمر » أي طرق بيض و طرق حمر « مختلف ألوانها و غرابيب سود » أي و من الجبال غرابيب سود على لون واحد لا خطط فيها قال الفراء و هذا على التقديم و التأخير تقديره و سود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب و أسود حالك و أقول ينبغي أن يكون سود عطف بيان يبين غرابيب به و الأجود أن يكون تأكيدا إذ الغرابيب لا تكون إلا سودا فيكون كقولك رأيت زيدا زيدا و هذا أولى من أن يحمل على التقديم و التأخير « و من الناس » أيضا « و الدواب » التي تدب على وجه الأرض « و الأنعام » كالإبل و الغنم و البقر خلق « مختلف ألوانه كذلك » أي كاختلاف الثمرات و الجبال و تم الكلام ثم قال « إنما يخشى الله من عباده العلماء » أي ليس يخاف الله حق خوفه و لا يحذر معاصيه خوفا من نقمته إلا العلماء الذين يعرفونه حق معرفته و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال يعني بالعلماء من صدق قوله فعله و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم و عن ابن عباس قال يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي و عزتي و سلطاني و في الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله قال مسروق كفى بالمرء علما أن يخشى الله و كفى بالمرء
مجمع البيان ج : 8 ص : 636
جهلا أن يعجب بعلمه و إنما خص سبحانه العلماء بالخشية لأن العالم أحذر لعقاب الله من الجاهل حيث يختص بمعرفة التوحيد و العدل و يصدق بالبعث و الحساب و الجنة و النار و متى قيل فقد نرى من العلماء من لا يخاف الله و يرتكب المعاصي ( فالجواب ) أنه لا بد من أن يخافه مع العلم به و إن كان يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذة « إن الله » تعالى « عزيز » في انتقامه من أعدائه « غفور » لزلات أوليائه ثم وصف سبحانه العلماء فقال « إن الذين يتلون كتاب الله » أي يقرءون القرآن في الصلاة و غيرها أثنى سبحانه عليهم بقراءة القرآن قال مطرف بن عبد الله الشخير هذه آية القراء « و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم » أي ملكناهم التصرف فيه « سرا و علانية » أي في حال سرهم و في حال علانيتهم و عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي قال قام رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله ما لي لا أحب الموت قال أ لك مال قال نعم قال فقدمه قال لا أستطيع قال فإن قلب الرجل مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به و إن أخره أحب أن يتأخر معه « يرجون تجارة لن تبور » أي راجين بذلك تجارة لن تكسد و لن تفسد و لن تهلك « ليوفيهم أجورهم » أي قصدوا بأعمالهم الصالحة و فعلوها لأن يوفيهم الله أجورهم بالثواب « و يزيدهم » على قدر استحقاقهم « من فضله أنه غفور » لذنوبهم « شكور » لحسناتهم عن الزجاج و قال الفراء خبر إن قوله « يرجون تجارة لن تبور » و روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال في قوله « و يزيدهم من فضله » هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا و عن الضحاك قال يفسح لهم في قبورهم و قيل معنى شكور أنه يقبل اليسير و يثيب عليه الكثير تقول العرب أشكر من بروقة و تزعم أنها شجرة عارية من الورق تغيم السماء فوقها فتخضر و تورق من غير مطر .
وَ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقُّ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرُ بَصِيرٌ(31) ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَب الَّذِينَ اصطفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَ مِنهُم مُّقْتَصِدٌ وَ مِنهُمْ سابِقُ بِالْخَيرَتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِك هُوَ الْفَضلُ الْكبِيرُ(32) جَنَّت عَدْن يَدْخُلُونهَا يحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَساوِرَ مِن ذَهَب وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَ قَالُوا الحَْمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَب عَنَّا الحَْزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شكُورٌ(34) الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسنَا فِيهَا نَصبٌ وَ لا يَمَسنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)

مجمع البيان ج : 8 ص : 637

القراءة

قرأ أبو عمرو يدخلونها بضم الياء على ما لم يسم فاعله ليشاكل قوله « يحلون » و الباقون بفتح الياء لأنهم إذا أدخلوا فقد دخلوا و قد ذكرنا اختلافهم في « لؤلؤا » في سورة الحج .

اللغة

المقامة الإقامة و موضع الإقامة و إذا فتحت الميم كان بمعنى القيام و موضع القيام قال الشاعر :
يومان يوم مقامات و أندية
و يوم سير إلى الأعداء تأويب و النصب التعب و فيه لغتان النصب و النصب لغتان كالرشد و الرشد و الحزن و الحزن و اللغوب الإعياء من التعب .

الإعراب

« من الكتاب » في موضع الحال من الضمير المنصوب المحذوف من الصلة و التقدير و الذي أوحيناه إليك كائنا من الكتاب « جنات عدن يدخلونها » خبر مبتدإ محذوف و يجوز أن يكون بدلا من قوله « الفضل الكبير » « يدخلونها » في موضع نصب على الحال و كذلك « يحلون فيها من أساور » من يتعلق بيحلون « من ذهب » في موضع الصفة لأساور أي أساور كائنة من ذهب و المعنى ذهبية « لا يمسنا » في موضع نصب على الحال .

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « و الذي أوحينا إليك » يا محمد و أنزلناه « من الكتاب » و هو القرآن « هو الحق » أي الصحيح الذي لا يشوبه فساد و الصدق الذي لا يمازجه كذب و العقل يدعو إلى الحق و يصرف عن الباطل « مصدقا لما بين يديه » أي لما قبله من الكتب لأنه جاء موافقا لما بشرت به تلك الكتب من حاله و حال من أتى به « إن الله بعباده لخبير » أي عالم « بصير » بأحوالهم « ثم أورثنا الكتاب » يعني القرآن و قيل
مجمع البيان ج : 8 ص : 638
هو التوراة عن أبي مسلم و قيل أراد الكتب لأن الكتاب يطلق و يراد به الجنس عن الجبائي و الصحيح الأول لأن ظاهر لفظ الكتاب لا يطلق إلا على القرآن « الذين اصطفينا من عبادنا » أي اخترناهم و معنى الإرث انتهاء الحكم إليهم و مصيره لهم كما قال و تلك الجنة التي أورثتموها و قيل معناه أورثناهم الإيمان بالكتب السالفة إذ الميراث انتقال الشيء من قوم إلى قوم و الأول أصح و اختلف في الذين اصطفاهم الله تعالى عن عباده في الآية فقيل هم الأنبياء اختارهم الله برسالته و كتبه عن الجبائي و قيل هم المصطفون الداخلون في قوله إن الله اصطفى آدم إلى قوله و آل إبراهيم و آل عمران يريد بني إسرائيل عن أبي مسلم قال لأن الأنبياء لا يرثون الكتب بل يورث علمهم و قيل هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أورثهم الله كل كتاب أنزله عن ابن عباس و قيل هم علماء أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما ورد في الحديث العلماء ورثة الأنبياء و المروي عن الباقر و الصادق (عليهماالسلام) أنهما قالا هي لنا خاصة و إيانا عنى و هذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء و الاجتباء و إيراث علم الأنبياء إذ هم المتعبدون بحفظ القرآن و بيان حقائقه و العارفون بجلائله و دقائقه « فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات » اختلف في أن الضمير في منهم إلى من يعود على قولين ( أحدهما ) أنه يعود إلى العباد و تقدير الكلام فمن العباد ظالم و روي نحو ذلك عن ابن عباس و الحسن و قتادة و اختاره المرتضى قدس الله روحه من أصحابنا قال و الوجه فيه أنه لما علق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده بين عقيبه أنه إنما علق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأن فيهم من هو ظالم لنفسه و من هو مقتصد و من هو سابق بالخيرات ( و القول الثاني ) أن الضمير يعود إلى المصطفين من العباد عن أكثر المفسرين ثم اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين ( أحدهما ) إن جميعهم ناج و يؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يقول في الآية أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب و أما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا و أما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا « الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » و عن عائشة أنها قالت كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالجنة و أما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم و أما الظالم فمثلي و مثلكم و روي عنها أيضا أنها قالت السابق الذي أسلم قبل الهجرة و المقتصد الذي أسلم بعد الهجرة و الظالم نحن و روي عن عمر بن الخطاب أنه قال سابقنا سابق و مقتصدنا ناج و ظالمنا مغفور له و قيل إن الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد الذي استوى ظاهره و باطنه و السابق الذي باطنه خير من ظاهره و قيل منهم ظالم لنفسه بالصغائر و منهم مقتصد بالطاعات في الدرجة الوسطى و منهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا عن جعفر بن حرب و روى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) أنه قال
مجمع البيان ج : 8 ص : 639
الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام و المقتصد منا العارف بحق الإمام و السابق بالخيرات هو الإمام و هؤلاء كلهم مغفور لهم و عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال و أما الظالم لنفسه منا فمن عمل عملا صالحا و آخر سيئا و أما المقتصد فهو المتعبد المجتهد و أما السابق بالخيرات فعلي و الحسن و الحسين (عليهماالسلام) و من قتل من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) شهيدا و القول الآخر أن الفرقة الظالمة لنفسها غير ناجية قال قتادة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة و المقتصد أصحاب الميمنة و السابق بالخيرات هم السابقون المقربون من الناس كلهم كما قال سبحانه و كنتم أزواجا ثلاثة و قال عكرمة عن ابن عباس إن الظالم هو المنافق و المقتصد و السابق من جميع الناس و قال الحسن السابقون هم الصحابة و المقتصدون هم التابعون و الظالمون هم المنافقون فإن قيل لم قدم الظالم و أخر السابق و إنما يقدم الأفضل فالجواب أنهم يقدمون الأدنى في الذكر على الأفضل قال سبحانه يولج الليل في النهار و قال يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور و قال خلق الموت و الحياة و قال فمنكم كافر و منكم مؤمن و قيل إنما قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته و أخر السابق لئلا يعجب بعلمه و قيل إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاث معصية و غفلة ثم التوبة ثم القربة فإذا عصى فهو ظالم و إذا تاب فهو مقتصد و إذا صحت توبته و كثرت مجاهدته اتصل بالله و صار من جملة السابقين و قوله « بإذن الله » أي بأمره و توفيقه و لطفه « ذلك هو الفضل الكبير » معناه أن إيراث الكتاب و اصطفاء الله إياهم هو الفضل العظيم من الله عليهم « جنات عدن يدخلونها » هذا تفسير للفضل كأنه قيل ما ذلك الفضل فقال هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال ذلك دخول جنات « يحلون فيها من أساور » جمع أسورة و هي جمع سوار « من ذهب و لؤلؤا » و من قرأ « و لؤلؤا » فالمعنى و يحلون فيها لؤلؤا « و لباسهم فيها حرير » و هو الإبريسم المحض و إذا قلنا إن المراد به الفرق الثالث فالظالم إنما يدخلها بفضل الله تعالى أو بالشفاعة « و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » أخبر سبحانه عن حالهم أنهم إذا دخلوا الجنة يقولون الحمد لله اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف و شكرا له على أن أذهب الغم الذي كانوا عليه مستحقين لذلك فإذا تفضل الله عليهم بإسقاط عقابهم و أدخلهم الجنة حمدوه على ذلك و شكروه « إن ربنا لغفور » لذنوب عباده و قبيح أفعالهم « شكور » يقبل اليسير من محاسن أعمالهم و قيل إن شكره سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له و القيام بطاعته و إن كان حقيقة الشكر لا يجوز عليه سبحانه من حيث كان اعترافا بالنعمة و لا يصح أن يكون سبحانه منعما عليه « الذي
مجمع البيان ج : 8 ص : 640
أحلنا دار المقامة » أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون و لا يتحولون عنها « من فضله » أي ذلك بتفضله و كرمه « لا يمسنا فيها نصب » لا يصيبنا في الجنة عناء و مشقة « و لا يمسنا فيها لغوب » أي و لا يصيبنا فيها إعياء و متعبة في طلب المعاش و غيره .
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يخَفَّف عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِك نجْزِى كلَّ كفُور(36) وَ هُمْ يَصطرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صلِحاً غَيرَ الَّذِى كنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظلِمِينَ مِن نَّصِير(37) إِنَّ اللَّهَ عَلِمُ غَيْبِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ(38) هُوَ الَّذِى جَعَلَكمْ خَلَئف فى الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكَفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبهِمْ إِلا مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكَفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَساراً(39) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ شرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونى مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لهَُمْ شِرْكٌ فى السمَوَتِ أَمْ ءَاتَيْنَهُمْ كِتَباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَت مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظلِمُونَ بَعْضهُم بَعْضاً إِلا غُرُوراً(40)

القراءة

قرأ أبو عمر و خلف وحده يجزي كل كفور على ما لم يسم فاعله و الباقون « نجزي » بالنون كل بالنصب و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و حفص و خلف « على بينة » بالتوحيد و الباقون « بينات » بالجمع .

الحجة

من قرأ « نجزي » بالنون فإنه على وجه الإخبار من الله تعالى عن نفسه و من قرأ
مجمع البيان ج : 8 ص : 641
على بناء الفعل للمفعول به فحجته أن ما قبله « لا يقضى عليهم » و « لا يخفف عنهم » و الوجه في قراءة « بينة » على الإفراد أنه يجعل ما في الكتاب أو ما يأتي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بينة كما قال أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و قد جاءتكم بينة من ربكم و من قرأ بالجمع فإن لكل نبي بينة فإذا جمعوا جمعت البينة بجمعهم على أن في الكتاب ضروبا من البينة فجمع لذلك .

اللغة

الاصطراخ الصياح و النداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها و إنما فعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء و الإطباق و يوافق التاء في المخرج و المقت البغض مقته يمقته و هو ممقوت و مقيت .

الإعراب

« فيموتوا » جواب النفي و يموتوا منصوب بإضمار أن و علامة النصب سقوط النون « ما يتذكر فيه من تذكر » الموصول و الصلة في محل النصب على أنه ظرف زمان لأن المعنى أو لم نعمركم زمانا طويلا يتذكر فيه من تذكر و الهاء فيه يعود إلى ما و قل ما يجيء ما في معنى الظرف و هو اسم و إنما يجيء حرفا مصدريا .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر ما أعده لأهل الجنة من أنواع الثواب عقبه بذكر ما أعده للكفار من أليم العقاب فقال « و الذين كفروا » بوحدانية الله و جحدوا نبوة نبيه « لهم نار جهنم » جزاء على كفرهم « لا يقضى عليهم » بالموت « فيموتوا » فيستريحوا « و لا يخفف عنهم من عذابها » أي و لا يسهل عليهم عذاب النار « كذلك » أي و مثل هذا العذاب و نظيره « نجزي كل كفور » جاحد كثير الكفران مكذب لأنبياء الله « و هم يصطرخون فيها » أي يتصايحون بالاستغاثة يقولون « ربنا أخرجنا » من عذاب النار « نعمل صالحا » أي نؤمن بدل الكفر و نطع بدل المعصية و المعنى ردنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات التي تأمرنا بها « غير الذي كنا نعمل » من المعاصي فوبخهم الله تعالى فقال « أ و لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر » أي أ لم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن يتفكر و يعتبر و ينظر في أمور دينه و عواقب حاله من يريد أن يتفكر و يتذكر و اختلف في هذا المقدار فقيل هو ستون سنة و هو المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة و هو إحدى الروايتين عن ابن عباس و روي عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أيضا مرفوعا أنه قال من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه و قيل هو أربعون سنة عن ابن عباس و مسروق و قيل هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة عن وهب و قتادة و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام) « و جاءكم النذير » أي المخوف من عذاب الله و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن زيد و الجبائي و جماعة و قيل النذير القرآن عن زيد بن علي و قيل النذير الشيب عن عكرمة و سفيان بن عيينة و منه قيل :
مجمع البيان ج : 8 ص : 642

رأيت الشيب من نذر المنايا
لصاحبه و حسبك من نذير
و قائلة تبيض و الغواني
نوافر عن معاينة القتير
فقلت لها المشيب نذير عمري
و لست مسودا وجه النذير و قال عدي بن زيد :
و ابيضاض السواد من نذر الموت
و هل بعده يجيء نذير و قيل النذير موت الأهل و الأقارب و قيل كمال العقل « فذوقوا » أي فذوقوا العذاب و حسرة الندم « فما للظالمين من نصير » يدفع عنهم العذاب « إن الله عالم غيب السماوات و الأرض » فلا يخفى عليه شيء مما يغيب عن الخلائق علمه « إنه عليم بذات الصدور » أي فلا تضمروا في أنفسكم ما يكرهه سبحانه فإنه عالم به « هو الذي جعلكم خلائف في الأرض » أي جعلكم معاشر الكفار أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن عن قتادة و قيل جعلكم خلائف القرون الماضية بأن أحدثكم بعدهم و أورثكم ما كان لهم « فمن كفر فعليه كفره » أي فعليه ضرر كفره و عقاب كفره « و لا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا » أي أشد البغض « و لا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا » أي خسرانا و هلاكا « قل » يا محمد « أ رأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ما ذا خلقوا من الأرض » معناه أخبروني أيها المشركون عن الأوثان الذين أشركتموهم مع الله في العبادة أروني ما ذا خلقوا من الأرض أي بأي شيء أوجبتم له شركا مع الله تعالى في العبادة أ بشيء خلقوه من الأرض « أم لهم شرك في السماوات » أي شركة في خلقها ثم ترك هذا النظم فقال « أم آتيناهم كتابا » أي أم أنزلنا عليهم كتابا يصدق دعواهم فيما هم عليه من الشرك « فهم على بينة » أي فهم على دلالات واضحات « منه » أي من ذلك الكتاب أراد فإن جميع ذلك محال لا يمكنهم إقامة حجة و لا شبهة على شيء منه و قيل أم آتيناهم كتابا بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به « بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا » معناه ليس شيء من ذلك لكن ليس يعد بعض الظالمين بعضا إلا غرورا لا حقيقة له يغرونهم يقال غره يغره غرورا إذا أطمعه فيما لا يطمع فيه .

النظم

اتصال قوله « إن الله عالم غيب السماوات و الأرض » الآية بما قبله إن المعنى يعلم الله إنه لو ردكم إلى الدنيا لعدتم إلى كفركم فاتصل بقوله « نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل » و اتصل قوله « هو الذي جعلكم خلائف في الأرض » بما قبله على معنى أنه
 

Back Index Next