جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان جلد 2

مجمع البيان ج : 2 ص : 489
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِب عَلَيْكمُ الصيَامُ كَمَا كُتِب عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)

اللغة

الصوم في اللغة الإمساك و منه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام قال ابن دريد كل شيء سكنت حركته فقد صام صوما و قال النابغة :
خيل صيام و خيل غير صائمة
تحت العجاج و أخرى تملك اللجما أي قيام و صامت الريح أي ركدت و صامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار و صام النهار أيضا بمقدار قال امرؤ القيس :
فدعها و سل الهم عنك بجسرة
ذمول إذا صام النهار و هجرا و الصوم ذرق النعام و أصل الباب الإمساك و هو في الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص فالاسم شرعي و فيه معنى اللغة و الصيام بمعنى الصوم يقال صمت صوما و صياما .

الإعراب

الصيام رفع بما لم يسم فاعله و قوله « كما كتب » أي مثل ما كتب فما هذه مصدرية و تقدير الكلام كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على الذين من قبلكم فحذف المصدر و أقيم صفته مقامه و يحتمل أن يكون موضع الكاف نصبا على الحال من
مجمع البيان ج : 2 ص : 490
الصيام و تقديره كتب عليكم الصيام مفروضا أي في هذه الحال .

المعنى

ثم بين سبحانه فريضة أخرى فقال « يا أيها الذين آمنوا » أي يا أيها المصدقون و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال : لذة ما في الندا أزال تعب العبادة و العنا و قال الحسن : إذا سمعت الله عز و جل يقول « يا أيها الذين آمنوا » فارع لها سمعك فإنها لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه « كتب عليكم الصيام » أي فرض عليكم العبادة المعروفة في الشرع و إنما خص المؤمنين بالخطاب لقبولهم لذلك و لأن العبادة لا تصح إلا منهم و وجوبه عليهم لا ينافي وجوبه على غيرهم و قوله « كما كتب على الذين من قبلكم » فيه أقوال ( أحدها ) أنه شبه فرض صومنا بفرض صوم من تقدمنا من الأمم أي كتب عليكم صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام و ليس فيه تشبيه عدد الصوم المفروض علينا و لا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم أو وقته و هو اختيار أبي مسلم و الجبائي ( و ثانيها ) أنه فرض علينا صوم شهر رمضان كما كان فرض صوم شهر رمضان على النصارى و كان يتفق ذلك في الحر الشديد و البرد الشديد فحولوه إلى الربيع و زادوا في عدده عن الشعبي و الحسن و قيل كان الصوم علينا من العتمة إلى العتمة ثم اختلف فيه فقال بعضهم كان يحرم الطعام و الشراب من وقت صلاة العتمة إلى وقت صلاة العتمة و قال بعضهم كان يحرم من وقت النوم إلى وقت النوم ثم نسخ ذلك فالمراد بقوله « الذين من قبلكم » النصارى على قول الحسن و الشعبي و أهل الكتاب من اليهود و النصارى على قول غيرهما و قوله « لعلكم تتقون » أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم عن الجبائي و قيل لتكونوا أتقياء بما لطف لكم في الصيام فإنه أقوى الوسائل و الوصل إلى الكف عن المعاصي كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : خصاء أمتي الصوم و سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله عن علة الصيام فقال إنما فرض الصيام ليستوي به الغني و الفقير و ذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير فأراد الله سبحانه أن يذيق الغني مس الجوع ليرق على الضعيف و يرحم الجائع .
أَيَّاماً مَّعْدُودَت فَمَن كانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلى سفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ وَ عَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طعَامُ مِسكِين فَمَن تَطوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَيرٌ لَّهُ وَ أَن تَصومُوا خَيرٌ لَّكمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)

مجمع البيان ج : 2 ص : 491

القراءة

قرأ أبو جعفر و نافع و ابن عامر فدية طعام مساكين على إضافة فدية إلى طعام و جمع المساكين و قرأ الباقون « فدية » منونة « طعام » رفع « مسكين » موحد مجرورا و قرأ حمزة و الكسائي و من يطوع خيرا و الباقون « تطوع » و قد مضى ذكره و روي في الشواذ يطوقونه عن ابن عباس بخلاف و عائشة و سعيد بن المسيب و عكرمة و عطا يطوقونه على معنى يتطوقونه عن مجاهد و عن ابن عباس و عن عكرمة و روي عن ابن عباس أيضا يتطيقونه و يطيقونه أيضا .

الحجة

من قرأ « فدية طعام مسكين » فطعام مسكين عطف بيان لفدية و إفراد مسكين جائز و إن كان المعنى على الكثرة لأن المعنى على كل واحد طعام مسكين قال أبو زيد يقال أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة و أعطانا كلنا مائة و أما من أضاف الفدية إلى طعام كإضافة البعض إلى ما هو بعض له فإنه سمى الطعام الذي يفدي به فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية و غيرها و هو على هذا من باب خاتم حديد و أما من قرأ يطوقونه فإنه يفعلونه من الطاقة فهو كقوله يجشمونه و يكلفونه و يجعل لهم كالطوق في أعناقهم و يطوقونه كقولك يتكلفونه و يتجشمونه و أما من قرأ يطيقونه فإنه يتطيقونه يتفعلونه إلا أن العينين أبدلتا ياء كما قالوا في تصور الجرف تهير و يطيقونه يفعلونه منه .

اللغة

السفر أصله من السفر الذي هو الكشف تقول سفر يسفر سفرا و انسفرت الإبل إذا انكشفت ذاهبة و سفرت الريح السحاب قال العجاج :
سفر الشمال الزبرج المزبرجا ) الزبرج السحاب الرقيق و في السفر يظهر ما لا يظهر إلا به و ينكشف من أخلاق الناس ما لا ينكشف إلا به و العدة فعلة من العد و هي بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون و الحمل بمعنى المحمول و الطوق الطاقة و هي القوة يقال طاق الشيء يطوقه طوقا و طاقة و الطاق إطاقة إذا قوي عليه و طوقه تطويقا ألبسه الطوق و هو معروف من ذهب كان أو من فضة لأنه يكسبه قوة بما يعطيه من الجلالة و كل شيء استدار فهو طوق و طوقه الأمير أي جعله كالطوق في عنقه .

الإعراب

« أياما » قال الزجاج يجوز في انتصابه وجهان ( أحدهما ) أن يكون ظرفا كأنه كتب عليكم الصيام في أيام و العامل فيه الصيام كان المعنى كتب عليكم أن تصوموا أياما و قال بعض النحويين أنه مفعول ما لم يسم فاعله نحو قولك أعطي زيد المال قال و ليس هذا بشيء لأن الأيام هاهنا متعلقة بالصوم و زيد و المال مفعولان لأعطي ذلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل و ليس في هذا إلا نصب أيام بالصيام قال أبو علي « أياما » يجوز في
مجمع البيان ج : 2 ص : 492
انتصابه وجهان ( أحدهما ) أن ينتصب على الظرف و الآخر أن ينتصب انتصاب المفعول به على السعة فإذا انتصب على أنه ظرف جاز أن يكون العامل فيه كتب فيكون التقدير كتب عليكم الصيام في أيام و إن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به فتقول على هذا يا مكتوب أيام عليه أو يا كاتب أيام الصيام و إنما جاز إضافة اسم الفاعل أو المفعول إلى أيام لإخراجك إياه عن أن يكون ظرفا و اتساعك في تقديره اسما و إذا كان الأمر على ما ذكرناه كان ما منعه أبو إسحاق من إجازة من أجاز أن كتب عليكم الصيام أياما بمنزلة أعطى زيد المال جائز غير ممتنع قال و لا يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام على أن يكون المعنى كتب عليكم الصيام في أيام لأن ذلك و إن كان مستقيما في المعنى فهو في اللفظ ليس كذلك أ لا ترى أنك إذا حملته على ذلك فصلت بين الصلة و الموصول بأجنبي منهما و ذلك أن أياما تصير من صلة الصيام و قد فصلت بينهما بمصدر كتب لأن التقدير كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم فالكاف في كما متعلقة بكتب و قد فصلت بها بين المصدر و صلته و ليس من واحد منهما و أقول أنه يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام إذا جعلت الكاف من قوله « كما كتب على الذين من قبلكم » في موضع نصب على الحال أي مفروضا مثل ما فرض عليهم فيكون ما موصولا و كتب صلته و في كتب ضمير يعود إلى ما و الموصول و صلته في موضع جر بإضافة الكاف إليه و الكاف موضع النصب بأنه صفة للمحذوف الذي هو الحال من الصيام فعلى هذا لم يفصل بين الصلة و الموصول ما هو أجنبي منهما على ما ذكره الشيخ أبو علي و قوله « فعدة من أيام أخر » تقديره فعليه عدة فيكون ارتفاع عدة على الابتداء على قول سيبويه و على قول الأخفش يكون مرتفعا بالظرف على ما تقدم بيانه و يجوز أن يكون تقديره فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أخر فيكون عدة خبر الابتداء و أخر لا ينصرف لأنه وصف معدول عن الألف و اللام لأن نظائرها من الصغر و الكبر لا يستعمل إلا بالألف و اللام لا يجوز نسوة صغر و إن تصوموا في موضع رفع بالابتداء و خير خبر له و لكم صفة الخبر .

المعنى

« أياما معدودات » أي معلومات محصورات مضبوطات كما يقال أعطيت مالا معدودا أي محصورا متعينا و يجوز أن يريد بقوله « معدودات » أنها قلائل كما قال سبحانه دراهم معدودة يريد أنها قليلة و اختلف في هذه الأيام على قولين ( أحدهما ) أنها غير شهر رمضان و كانت ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ عن معاذ و عطا و عن ابن عباس
مجمع البيان ج : 2 ص : 493
و روي ثلاثة أيام من كل شهر و صوم عاشوراء عن قتادة ثم قيل أنه كان تطوعا و قيل بل كان واجبا و اتفق هؤلاء على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان و الآخر أن المعني بالمعدودات شهر رمضان عن ابن عباس و الحسن و اختاره الجبائي و أبو مسلم و عليه أكثر المفسرين قالوا أوجب سبحانه الصوم أولا فأجمله و لم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر ثم بين أنها أيام معلومات و أبهم ثم بينه بقوله « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » قال القاضي و هذا أولى لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى و لأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » عطف قوله « على سفر » و هو ظرف على قوله « مريضا » و هو اسم مع أن الظرف لا يعطف على الاسم لأنه و إن كان ظرفا فهو بمعنى الاسم و تقديره فمن كان منكم مريضا أو مسافرا فالذي ينوب مناب صومه عدة من أيام أخر و فيه دلالة على أن المسافر و المريض يجب عليهما الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء بنفس السفر و المرض و من قدر في الآية فأفطر فقد خالف الظاهر و قد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و عبد الرحمن بن عوف و أبي هريرة و عروة بن الزبير و هو المروي عن أئمتنا فقد روي أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه و روى يوسف بن الحكم قال سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال أ رأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك أ لا تغضب فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم و روى عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله الصائم في السفر كالمفطر في الحضر و روي عن ابن عباس أنه قال الإفطار في السفر عزيمة و روى أصحابنا عن أبي عبد الله أنه قال الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر و عنه (عليه السلام) قال لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت عليه و عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من سافر أفطر و قصر إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد أو في معصية الله و روى العياشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله قال لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوعا و لا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير فدعا رسول الله بإناء فيه ماء فشرب و أمر الناس أن يفطروا فقال قوم قد توجه النهار و لو تممنا يومنا هذا فسماهم رسول الله العصاة فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله « و على الذين يطيقونه » الهاء يعود إلى الصوم عند أكثر أهل العلم أي يطيقون الصوم خير الله المطيقين الصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا و لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 494
يكفروا و بين أن يفطروا و يكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ ذلك بقوله « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » و قيل أن الهاء يعود إلى الفداء عن الحسن و أبي مسلم و أما المعني بقوله « الذين يطيقونه » ففيه ثلاثة أقوال ( أولها ) أنه سائر الناس كما قدمنا ذكره من التخيير و النسخ بعده و هو قول ابن عباس و الشعبي ( و ثانيها ) أن هذه الرخصة كانت للحوامل و المراضع و الشيخ الفاني ثم نسخ من الآية الحامل و المرضع و بقي الشيخ الكبير عن الحسن و عطاء ( و ثالثها ) أن معناه و على الذين كانوا يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه و لا نسخ فيه عن السدي و قد رواه بعض أصحابنا عن أبي عبد الله أن معناه و على الذين كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش و شبه ذلك فعليهم كل يوم مد و روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (عليه السلام) و على الذين يطيقونه فدية من مرض في شهر رمضان فأفطر ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر رمضان آخر فعليه أن يقتضي و يتصدق لكل يوم مدا من طعام و قوله « فدية طعام مسكين » اختلف في مقدار الفدية فقال أهل العراق نصف صاع عن كل يوم و قال الشافعي عن كل يوم مد و عندنا إن كان قادرا فمدان فإن لم يقدر أجزأه مد واحد و قوله « فمن تطوع خيرا فهو خير له » قيل معناه من أطعم أكثر من مسكين واحد عن عطا و طاووس و قيل أطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية حتى يزيده على نصف صاع عن مجاهد و يجمع بين القولين قول ابن عباس من تطوع بزيادة الإطعام و قيل معناه من عمل برا في جمع الدين فهو خير له عن الحسن و قيل من صام مع الفدية عن الزهري و قوله « و إن تصوموا خير لكم » أي و صومكم خير لكم من الإفطار و الفدية و كان هذا مع جواز الفدية فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز أصلا و قيل معناه الصوم خير لمطيقة و أفضل ثوابا من التكفير لمن أفطر بالعجز « إن كنتم تعلمون » إن الصوم خير لكم من الفدية و قيل إن كنتم تعلمون أفضل أعمالكم و في قوله سبحانه « و على الذين يطيقونه » دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل .

مجمع البيان ج : 2 ص : 495
شهْرُ رَمَضانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ بَيِّنَت مِّنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ فَمَن شهِدَ مِنكُمُ الشهْرَ فَلْيَصمْهُ وَ مَن كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكمُ الْيُسرَ وَ لا يُرِيدُ بِكمُ الْعُسرَ وَ لِتُكمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكبرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكمْ تَشكُرُونَ(185)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم و لتكملوا بالتشديد و الباقون « لتكملوا » بالتخفيف و قرأ أبو جعفر العسر و اليسر بالتثقيل فيهما و الباقون بالتخفيف .

الحجة

حجة من قرأ « و لتكملوا » قوله اليوم أكملت لكم دينكم و من قرأ و لتكملوا فلأن فعل و أفعل كثيرا ما يستعمل أحدهما موضع الآخر قال النابغة :
فكملت مائة منها حمامتها
و أسرعت حسبة في ذلك العدد .

اللغة

الشهر معروف و جمعه في القلة أشهر و في الكثرة شهور و أصله من اشتهاره بالهلال يقال شهرت الحديث أظهرته و شهرت السيف انتضيته و أتان شهيرة عريضة ضخمة و أصل الباب الظهور و أصل رمضان من الرمض و هو شدة وقع الشمس على الرمل و غيره و إنما سموه رمضان لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق رمضان أيام رمض الحر و قد جمعوا رمضان على رمضانات و قيل أن رمضان اسم من أسماء الله فروي عن مجاهد لا تقل رمضان و لكن قل شهر رمضان فإنك لا تدري ما رمضان و قد جاء في الأخبار المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و قيل إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها و القرآن أصله الجمع لقولهم ما قرأت الناقة سلا قط أي ما جمعت رحمها على سلا و منه القراءة و القارىء لأنه يجمع الحروف و الفرقان الذي يفرق بين الحق و الباطل و الإرادة أصلها الواو لأنك تقول راودته على أن يفعل كذا مراودة و منه راد يرود رودا فهو رائد و في المثل الرائد لا يكذب أهله و أصل الباب الطلب و الإرادة بمعنى الطلب للمراد لأنها كالسبب له و اليسر ضد العسر و اليسار الغنى و السعة و اليسار اليد اليسرى و اليسر الجماعة يجتمعون على الجزور في الميسر و الجمع الإيسار و أصل الباب السهولة و أصل العسر الصلابة يقال عسر الشيء عسرا و رجل أعسر يعمل بشماله و أعسر الرجل إذا افتقر و ضده اليسر و يقال كمل الشيء و أكملته و كملته أي تممته .

الإعراب

« شهر رمضان » في ارتفاعه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن يكون خبر مبتدإ
مجمع البيان ج : 2 ص : 496
محذوف يدل عليه قوله أياما أي هي شهر رمضان ( و الثاني ) أن يكون بدلا من الصيام فكأنه قال كتب عليكم شهر رمضان ( و الثالث ) أن يرتفع بالابتداء و يكون خبره « الذي أنزل فيه القرآن » و إن شئت جعلت الذي أنزل فيه القرآن صفة له و أضمرت الخبر حتى كأنه قال و فيما كتب عليكم شهر رمضان أي صيام شهر رمضان و لا ينصرف رمضان للتعريف و زيادة الألف و النون المضارعتين لألفي التأنيث و يجوز في العربية شهر رمضان بالنصب من وجهين ( أحدهما ) صوموا شهر رمضان و الآخر على البدل من قوله أياما فقوله « هدى » في موضع النصب على الحال أي هاديا للناس و قوله « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » فالشهر ينتصب على أنه ظرف لا على أنه مفعول به لأنه لو كان مفعولا به للزم الصيام المسافر كما يلزم المقيم من حيث أن المسافر يشهد الشهر شهادة المقيم فلما لم يلزم المسافر علمنا أن معناه فمن شهد منكم المصر في الشهر و لا يكون مفعولا به كما لو قلت أحييت شهر رمضان يكون مفعولا به فإن قلت كيف جاء ضميره متصلا في قوله « فليصمه » إذا لم يكن مفعولا به قلنا لأن الاتساع وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا على ما تقدم بيان أمثاله و إنما عطف الظرف على الاسم في قوله « و من كان مريضا أو على سفر » لأنه بمعنى الاسم فكأنه قال أو مسافرا كقوله سبحانه « دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما » أي دعانا مضطجعا و أما العطف باللام في قوله « و لتكملوا العدة » ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه عطف جملة على جملة لأن بعده محذوفا و تقديره و لتكملوا العدة شرع ذلك أو أريد ذلك و مثله قوله « و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين » أي و ليكون من الموقنين أريناه ذلك ( و الثاني ) أن يكون عطفا على تأويل محذوف و دل عليه ما تقدم من الكلام لأنه لما قال « يريد الله بكم اليسر » دل على أنه قد فعل ذلك ليسهل عليكم فجاز و لتكملوا العدة عطفا عليه قال الشاعر :
بادت و غير آيهن مع البلى
إلا رواكد جمرهن هباء
و مشجج إما سواء قذاله
فبدا و غيب مماره المعزاء أي سائرة فعطف على تأويل الكلام كأنه قال بها رواكد و مشجج هذا قول الزجاج و الأول قول الفراء .

المعنى

ثم بين سبحانه وقت الصوم فقال « شهر رمضان » أي هذه الأيام
مجمع البيان ج : 2 ص : 497
المعدودات شهر رمضان أو كتب عليكم شهر رمضان أو شهر رمضان هو الشهر « الذي أنزل فيه القرآن » فبين أنه خصه بالصوم فيه لاختصاصه بالفضائل المذكورة و هو أنه « أنزل فيه القرآن » الذي عليه مدار الدين و الإيمان ثم اختلف في قوله « أنزل فيه القرآن » فقيل أن الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ثم أنزل على النبي بعد ذلك نجوما في طول عشرين سنة عن ابن عباس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و هو المروي عن أبي عبد الله و قيل إن الله تعالى ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان عن ابن إسحاق و قيل أنه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور و الأيام عن السدي يسنده إلى ابن عباس و روى الثعلبي بإسناده عن أبي ذر الغفاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أنزلت صحف إبراهيم لثلاث مضين من شهر رمضان و في رواية الواحدي في أول ليلة منه و أنزلت توراة موسى لست مضين من شهر رمضان و أنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان و أنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان و أنزل الفرقان على محمد لأربع و عشرين من شهر رمضان و هذا بعينه رواه العياشي عن أبي عبد الله عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل المراد بقوله « أنزل فيه القرآن » أنه أنزل في فرضه و إيجاب صومه على الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه .
كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا يريد في فرضها ثم وصف سبحانه القرآن بقوله « هدى للناس » أي هاديا للناس و دالا لهم على ما كلفوه من العلوم « و بينات من الهدى » أي و دلالات من الهدى و قيل المراد بالهدى الأول الهدى من الضلالة و بالثاني بيان الحلال و الحرام عن ابن عباس و قيل أراد بأول ما كلف من العلم و بالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء و شرائعهم و أخبارهم لأنها لا تدرك إلا بالقرآن عن الأصم و القاضي و قوله « و الفرقان » أي و مما يفرق بين الحق و الباطل و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به و روى الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن أبي الورد عن أبي جعفر قال خطب رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس : إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر و هو شهر رمضان فرض الله صيامه و جعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور و جعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير و البر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله فيما سواه و من أدى فيه فريضة من فرائض الله كان كمن أدى سبعين فريضة ] من فرائض [ فيما سواه من
مجمع البيان ج : 2 ص : 498
الشهور و هو شهر الصبر و إن الصبر ثوابه الجنة و هو شهر المواساة و هو شهر يزيد الله فيه من رزق المؤمنين و من فطر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند الله عتق رقبة و مغفرة لذنوبه فيما مضى فقيل له يا رسول الله ليس كلنا نقدر على أن نفطر صائما قال فإن الله كريم يعطي هذا الثواب من لم يقدر منكم إلا على مذقة من لبن يفطر بها صائما أو شربة من ماء عذب أو تميرات لا يقدر على أكثر من ذلك و من خفف فيه عن مملوكه خفف الله عليه حسابه و هو شهر أوله رحمة و أوسطه مغفرة و آخره إجابة و العتق من النار و لا غنى بكم فيه عن أربع خصال خصلتين ترضون الله بهما و خصلتين لا غنى بكم عنهما فأما اللتان ترضون الله بهما فشهادة أن لا إله إلا الله و إني رسول الله و أما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله فيه حوائجكم و الجنة و تسألون الله فيه العافية و تتعوذون به من النار و في رواية سلمان الفارسي فاستكثروا فيه من أربع خصال خصلتان ترضون بهما ربكم و خصلتان لا غنى بكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون ربكم بهما فشهادة أن لا إله إلا الله و تستغفرونه و أما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة و تتعوذون به من النار و قال رسول الله نوم الصائم عبادة و صمته تسبيح و دعاؤه مستجاب و عمله مضاعف و قوله « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » فيه وجهان ( أحدهما ) فمن شهد منكم المصر و حضر و لم يغب في الشهر و الألف و اللام في الشهر للعهد و المراد به شهر رمضان فليصم جميعه و هذا معنى ما رواه زرارة عن أبي جعفر أنه قال لما سئل عن هذه ما أبينها لمن عقلها قال من شهد شهر رمضان فليصمه و من سافر فيه فليفطر و قد روي أيضا عن علي و ابن عباس و مجاهد و جماعة من المفسرين أنهم قالوا من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر و هو حاضر فعليه أن يصوم الشهر كله ( و الثاني ) من شاهد منكم الشهر مقيما مكلفا فليصم الشهر بعينه و هذا نسخ للتخيير بين الصوم و الفدية و إن كان موصولا به في التلاوة لأن الانفصال لا يعتبر عند التلاوة بل عند الإنزال و الأول أقوى و قوله « و من كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » قد مضى تفسيره في الآية المتقدمة و حد المرض الذي يوجب الإفطار ما يخاف الإنسان معه الزيادة المفرطة في مرضه و روى أبو بصير قال سألت أبا عبد الله عن حد المرض الذي على صاحبه فيه الإفطار قال هو مؤتمن عليه مفوض إليه فإن وجد ضعفا فليفطر و إن وجد قوة فليصم كان المرض على ما كان و روي أيضا أن ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاته و به قال الحسن و في ذلك اختلاف بين الفقهاء و أما السفر الذي يوجب الإفطار عندنا فما كان مباحا أو طاعة و كانت المسافة ثمانية فراسخ أربعة و عشرين ميلا و عند الشافعي ستة عشر فرسخا و عند أبي حنيفة أربعة و عشرين فرسخا و اختلف في العدة
مجمع البيان ج : 2 ص : 499
من الأيام الأخر فقال الحسن و جماعة هي على التضييق إذا برأ المريض أو قدم المسافر و قال أبو حنيفة موسع فيها و عندنا موقت بما بين رمضانين و تجوز متتابعة و متفرقة و التتابع أفضل فإن فرط حتى لحقه رمضان آخر لزمه الفدية و القضاء و به قال الشافعي و قوله « يريد الله بكم اليسر » أي في الرخصة للمريض و المسافر إذا لم يوجب الصوم عليهما و قيل يريد الله بكم اليسر في جميع أموركم « و لا يريد بكم العسر » أي التضييق عليكم و فيه دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه بين أن في أفعال المكلفين ما يريده سبحانه و هو اليسر و فيها ما لا يريده و هو العسر و لأنه إذا كان لا يريد بهم العسر فإن لا يريد تكليف ما لا يطاق أولى و قوله « و لتكملوا العدة » تقديره يريد الله لأن يسهل عليكم و لأن تكملوا أي تتموا عدة ما أفطرتم فيه و هي أيام السفر و المرض بالقضاء إذا أقمتم و برأتم فتصوموا للقضاء بعدد أيام الإفطار و على القول الآخر فتقديره و لإكمال العدة شرع الرخصة في الإفطار و يحتمل أن يكون معناه و لتكملوا عدة الشهر لأنه مع الطاقة و عدم العذر يسهل عليه إكمال العدة و المريض و المسافر يتعسر عليهما ذلك فيكملان العدة في وقت آخر و من قال أن شهر رمضان لا ينقص أبدا استدل بقوله « و لتكملوا العدة » و قال بين تعالى أن عدة شهر رمضان محصورة يجب صيامها على الكمال و لا يدخلها نقصان و لا اختلال فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن المراد أكملوا العدة التي وجب عليكم صيامها و قد يجوز أن يكون هذه العدة تارة ثلاثين و تارة تسعة و عشرين ( و الآخر ) ما ذكرناه من أن المراد راجع إلى القضاء و يؤيده أنه سبحانه ذكره عقيب ذكر السفر و المرض و قوله « و لتكبروا الله على ما هداكم » المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات المغرب و العشاء الآخرة و الغداة و صلاة العيد على مذهبنا و قال ابن عباس و جماعة التكبير يوم الفطر و قيل المراد به و لتعظموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين « و لعلكم تشكرون » أي لتشكروا الله على نعمه .
وَ إِذَا سأَلَك عِبَادِى عَنى فَإِنى قَرِيبٌ أُجِيب دَعْوَةَ الدَّاع إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لى وَ لْيُؤْمِنُوا بى لَعَلَّهُمْ يَرْشدُونَ(186)

اللغة

أجاب و استجاب بمعنى قال الشاعر :
و داع دعا يا من يحب لي الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي لم يجبه و قال المبرد بينهما فرق و هو أن في الاستجابة معنى الإذعان و ليس ذلك في
مجمع البيان ج : 2 ص : 500
الإجابة و أصله من الجواب و هو القطع يقال جاب البلاد يجوبها جوبا إذا قطعها و اجتاب الظلام بمعناه و الجابة و الإجابة بمعنى و الصحيح أن الجابة و الطاعة و الطاقة و نحوها أسماء بمعنى المصادر و أجاب عن السؤال جوابا و انجاب السحاب إذا انقشع و أصل الباب القطع فإجابة السائل القطع بما سأل لأن سؤاله على الوقف أ يكون أم لا يكون و الرشد نقيض الغي رشد يرشد رشدا و رشد يرشد رشدا و رجل رشيد و ولد فلان لرشدة خلاف لزنية و أصل الباب إصابة الخير و منه الإرشاد و هو الدلالة على وجه الإصابة للخير .

الإعراب

إذا ظرف زمان للفعل الذي يدل عليه قوله « فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » تقديره فأخبره يا محمد إني بهذه الصفة و لا يجوز أن يعمل فيه قريب أو أجيب لأن معمول إن لا يجوز أن يعمل فيما قبل إن لما بين في موضعه و قوله أجيب في موضع رفع بأنه خبر إن أيضا فهو خبر بعد خبر .

النزول

روي عن الحسن أن سائلا سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية و قال قتادة نزلت جوابا لقوم سألوا النبي كيف ندعو .

المعنى

لما ذكر سبحانه الصوم عقبه بذكر الدعاء و مكانه منه و إجابته إياه فقال « و إذا سألك عبادي عني » الأقرب أن يكون السؤال عن صفته سبحانه لا عن فعله لقوله سبحانه « فإني قريب » و فيه حذف أي فقل إني قريب فدل بهذا على أنه سبحانه لا مكان له إذ لو كان له مكان لم يكن قريبا من كل من يناجيه و قيل معناه إني أسمع دعاء الداعي كما يسمعه القريب المسافة منهم فجاءت لفظة قريب بحسن البيان بها فأما قريب المسافة فلا يجوز عليه سبحانه لأن ذلك إنما يتصور فيمن كان متمكنا في مكان و ذلك من صفات المحدثات و قوله « أجيب دعوة الداع إذا دعان » مفهوم المعنى و قوله « فليستجيبوا لي » قال أبو عبيدة معناه فليجيبوني فيما دعوتهم إليه و قال المبرد و السراج معناه فليذعنوا للحق بطلب موافقة ما أمرتهم به و نهيتهم عنه و قال مجاهد معناه فليستجيبوا لي بالطاعة و قيل معناه فليدعوني و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أعجز الناس من عجز عن الدعاء و أبخل الناس من بخل بالسلام « و ليؤمنوا بي » أي و ليصدقوا بجميع ما أنزلته و روي عن أبي عبد الله أنه قال « و ليؤمنوا بي » أي و ليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه « لعلهم يرشدون » أي لعلهم يصيبون الحق و يهتدون إليه فإذا سئل فقيل نحن نرى كثيرا من الناس يدعون الله فلا يجيبهم فما معنى قوله « أجيب دعوة الداع إذا دعان » فالجواب أنه ليس أحد يدعو الله على ما
مجمع البيان ج : 2 ص : 501
توجبه الحكمة إلا أجابه الله فإن الداعي إذا دعاه يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه و لا يكون فيه مفسدة له و لا لغيره و يشترط ذلك بلسانه أو ينويه بقلبه فالله سبحانه يجيبه إذا اقتضت المصلحة إجابته أو يؤخر الإجابة إن كانت المصلحة في التأخير و إذا قيل إن ما تقتضيه الحكمة لا بد أن يفعله فما معنى الدعاء و إجابته فجوابه أن الدعاء عبادة في نفسها يعبد الله سبحانه بها لما في ذلك من إظهار الخضوع و الانقياد إليه سبحانه و أيضا فإنه لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنما صار مصلحة بعد الدعاء و لا يكون مصلحة قبل الدعاء ففي الدعاء هذه الفائدة و يؤيد ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري قال قال النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) ما من مسلم دعا الله سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم و لا إثم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل دعوته و إما أن يؤخر له في الآخرة و إما أن يدفع عنه من السوء مثله قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر و في رواية أنس بن مالك الله أكثر و أطيب ثلاث مرات و روي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله إن العبد ليدعو الله و هو يحبه فيقول يا جبرائيل لا تقض لعبدي هذا حاجته و أخرها فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته و أن العبد ليدعو الله و هو يبغضه فيقول يا جبرائيل اقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه و عجلها فإني أكره أن أسمع صوته و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال ربما أخرت عن العبد إجابة الدعاء ليكون أعظم لأجر السائل و أجزل لإعطاء الأمل و قيل لإبراهيم بن أدهم ما بالنا ندعو الله سبحانه فلا يستجيب لنا فقال لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه و عرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته و عرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه و أكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها و عرفتم الجنة فلم تطلبوها و عرفتم النار فلم تهربوا منها و عرفتم الشيطان فلم تحاربوه و وافقتموه و عرفتم الموت فلم تستعدوا له و دفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم و تركتم عيوبكم و اشتغلتم بعيوب الناس .

مجمع البيان ج : 2 ص : 502
أُحِلَّ لَكمْ لَيْلَةَ الصيَامِ الرَّفَث إِلى نِسائكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَ أَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكمْ كُنتُمْ تخْتَانُونَ أَنفُسكمْ فَتَاب عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنكُمْ فَالْئَنَ بَشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مَا كتَب اللَّهُ لَكُمْ وَ كلُوا وَ اشرَبُوا حَتى يَتَبَينَ لَكُمُ الْخَيْط الأَبْيَض مِنَ الخَْيْطِ الأَسوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصيَامَ إِلى الَّيْلِ وَ لا تُبَشِرُوهُنَّ وَ أَنتُمْ عَكِفُونَ فى الْمَسجِدِ تِلْك حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِك يُبَينُ اللَّهُ ءَايَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)

اللغة

الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف و قيل أن أصله القول الفاحش فكفي به عن الجماع قال العجاج :
عن اللغا و رفث التكلم قال الأخفش إنما عديت بالي في الآية لأنه بمعنى الإفضاء و اللباس الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان و يشبه به الأغشية فيقال لبس السيف بالحلية و العرب تسمي المرأة لباسا و إزارا قال الشاعر :
إذا ما الضجيع ثنى عطفه
تثنت فكانت عليه لباسا و قال :
أ لا أبلغ أبا حفص رسولا
فدى لك من أخي ثقة إزاري قال أهل اللغة معناه امرأتي و الاختيان الخيانة يقال خانه يخونه خونا و خيانة و اختانه اختيانا « و خائنة الأعين » مسارقة النظر إلى ما لا يحل و أصل الباب منع الحق ، و المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة و هي ظاهر الجلد و الابتغاء طلب البغية « و الخيط الأبيض » بياض الفجر « و الخيط الأسود » سواد الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء قال أبو داود :
فلما أضاءت لنا غدوة
و لاح من الصبح خيط أنارا و الخيط في اللغة معروف يقال خاطه يخيطه خيطا و خياطة و الخيط القطيع من النعام و نعامة خيطاء قيل خيطها طول قصبها و عنقها و قيل اختلاط سوادها ببياضها و السواد و البياض لونان كل واحد منهما أصل بنفسه و بيضة الإسلام مجتمعة و ابتاضوهم أي استأصلوهم بمعنى اقتلعوا بيضتهم و السواد و المساودة المسارة لأن الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل و سواد العراق سمي به لكثرة الماء و الشجر الذي تسود به الأرض و سواد كل شيء شخصه و سويداء القلب و سواده دمه الذي فيه و قيل حبة القلب و العكوف و الاعتكاف أصله اللزوم يقال عكفت بالمكان أي أقمت به ملازما له قال الطرماح :
مجمع البيان ج : 2 ص : 503

فبات بنات الليل في الليل عكفا
عكوف البواكي بينهن صريع و هو في الشرع عبارة عن اللبث في مكان مخصوص للعبادة و الحد على وجوه الحد المنع و حدود الله فرائضه قال الزجاج هي ما منع الله من مخالفتها و الحد جلد الزاني و غيره و الحد حد السيف و غيره و الحد حد الدار و الحد فرق بين الشيئين و الحد نهاية الشيء التي تمنع من أن يدخله ما ليس منه أو أن يخرج عنه ما هو منه و قال الخليل الحد الجامع المانع و الحداد البواب قال الأعشى :
فقمنا و لما يصح ديكنا
إلى جونة عند حدادها يعني صاحبها الذي يحفظها و يمنعها و كل من منع شيئا فهو حداد و من ذلك أحدت المرأة على زوجها معناه امتنعت من الزينة و الحديد إنما سمي حديدا لأنه يمتنع به من الأعداء فأصل الباب المنع .

النزول

روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد الله قال كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم و كان النكاح حراما بالليل و النهار في شهر رمضان و كان رجل من أصحاب رسول الله يقال له مطعم بن جبير أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة و فارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب و كان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا و كان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله قد حرم علي الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله فرق له و كان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله هذه الآية فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر و اختلفت العامة في اسم هذا الرجل من الأنصار فقال بعضهم قيس بن صرمة و قيل أبو صرمة و قيل أبو قيس بن صرمة و قيل صرمة بن إياس و قالوا جاء إلى رسول الله فقال عملت في النخل نهاري أجمع حتى إذا أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني فأبطأت فنمت فأيقظوني و قد حرم علي الأكل و قد أمسيت و قد جهدني الصوم فقال عمر يا رسول الله أعتذر إليك من مثله رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فأتيت امرأتي و قام رجال و اعترفوا بمثل الذي سمعوا فنزلت الآية عن ابن عباس و السدي .

مجمع البيان ج : 2 ص : 504

المعنى

ثم بين سبحانه وقت الصيام و ما يتعلق به من الأحكام فقال « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » أي الجماع و قال ابن عباس أن الله سبحانه حيي يكني بما شاء أن الرفث و اللباس و المباشرة و الإفضاء هو الجماع و قال الزجاج الرفث هو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة و هذا يقتضي تحريما متقدما أزيل عنهم و المراد بليلة الصيام الليلة التي يكون في غدها الصوم و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر إلا أول ليلة من شهر رمضان فإنه يستحب ذلك لمكان الآية و الأشبه أن يكون المراد به ليالي الشهر كله و إنما وحده لأنه اسم جنس يدل على الكثرة « هن لباس لكم و أنتم لباس لهن » أي هن سكن لكم و أنتم سكن لهن كما قال « و جعلنا الليل لباسا » أي سكنا عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و المعنى تلابسونهن و تخالطونهن بالمساكنة أي قل ما يصبر أحد الزوجين عن الآخر و قيل إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا لصاحبه و قال الربيع هن فراش لكم و أنتم لحاف لهن « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم » لما حرم عليهم الجماع و الأكل بعد النوم و خالفوا في ذلك ذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك التحريمة فقال « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم » بالمعصية أي لا تؤدون الأمانة بالامتناع عن المباشرة و قيل معنى تختانون تنقصون أنفسكم من شهواتها و تمنعونها من لذاتها باجتناب ما نهيتم عنه فخففه الله عنكم « فتاب عليكم » أي قبل توبتكم و قيل معناه فرخص لكم و أزال التشديد عنكم « و عفا عنكم » فيه وجهان ( أحدهما ) غفر ذنوبكم ( و الآخر ) أزال تحريم ذلك عنكم و ذلك عفو عن تحريمه عليهم « فالآن باشروهن » بالليل أي جامعوهن لفظه أمر و معناه الإباحة « و ابتغوا ما كتب الله لكم » فيه قولان ( أحدهما ) اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد عن الحسن و أكثر المفسرين و هو أن يجامع الرجل أهله رجاء أن يرزقه الله ولدا يعبده و يسبح له ( و الآخر ) اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بينه في كتابه فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه و قوله « و كلوا و اشربوا » إباحة للأكل و الشرب « حتى يتبين لكم » أي ليظهر و يتميز لكم على التحقيق الخيط الأبيض من الخيط الأسود أي النهار من الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني و قيل بياض الفجر من سواد الليل و قيل بياض أول النهار من سواد آخر الليل و إنما شبه ذلك بالخيط لأن القدر الذي يحرم الإفطار من البياض يشبه الخيط فيزول به مثله من السواد و لا اعتبار بالانتشار « من الفجر » يحتمل - من - معنيين
مجمع البيان ج : 2 ص : 505
( أحدهما ) أن يكون بمعنى التبعيض لأن المعنى من بعض الفجر و ليس الفجر كله عن ابن دريد ( و الآخر ) أنه للتبيين لأنه بين الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر و روي أن عدي بن حاتم قال للنبي إني وضعت خيطين من شعر أبيض و أسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي فضحك رسول الله حتى رؤيت نواجذه ثم قال يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار و سواد الليل فابتداء الصوم من هذا الوقت ثم بين تعالى الانتهاء فقال « ثم أتموا الصيام إلى الليل » أي من وقت طلوع الفجر الثاني و هو المستطيل المعترض الذي يأخذ الأفق و هو الفجر الصادق الذي يجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل و هو بعد غروب الشمس و علامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق و إقبال السواد منه و إلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة و عدم الجبال و الروابي فقد دخل الليل و قوله « و لا تباشروهن » في معناه قولان هاهنا ( أحدهما ) أنه أراد به الجماع عن ابن عباس و الحسن و قتادة ( و الثاني ) أنه أراد الجماع و كل ما دونه من قبلة و غيرها من مالك و ابن زيد و هو مذهبنا و قوله « و أنتم عاكفون في المساجد » أي معتكفون أي لا تباشروهن في حال اعتكافكم في المساجد و الاعتكاف لا يصح عندنا إلا في أحد المساجد الأربعة المسجد الحرام و مسجد النبي و مسجد الكوفة و مسجد البصرة و عند سائر الفقهاء يجوز في سائر المساجد إلا أن مالكا قال أنه يختص بالجامع و لا يصح الاعتكاف عندنا إلا بصوم و به قال أبو حنيفة و مالك و عند الشافعي يصح بغير صوم و عندنا لا يكون إلا في ثلاثة أيام و عند أبي حنيفة يوم واحد و عند مالك عشرة أيام لا يجوز أقل منه و عند الشافعي ما شاء و لو ساعة واحدة و في الآية دلالة على تحريم المباشرة في الاعتكاف ليلا و نهارا لأنه علق المباشرة بحال الاعتكاف و قوله « تلك حدود الله » تلك إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية حدود الله حرمات الله عن الحسن و قيل معناه معاصي الله عن الضحاك و قيل ما منع الله منه عن الزجاج « فلا تقربوها » أي فلا تأتوها و قيل معناه تلك فرائض الله فلا تقربوها بالمخالفة « كذلك » أي مثل هذا البيان الذي ذكر « يبين الله آياته للناس » أي حججه و أدلته على ما أمرهم به و نهاهم عنه « لعلهم يتقون » أي لكي يتقوا معاصيه و تعدي حدوده فيما أمرهم به و نهاهم عنه و أباحهم إياها و في هذا دلالة على أن الله تعالى أراد التقوى من جميع الناس .

مجمع البيان ج : 2 ص : 506
وَ لا تَأْكلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلى الحُْكامِ لِتَأْكلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَلِ النَّاسِ بِالاثْمِ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188)

اللغة

الباطل الذاهب الزائل يقال بطل إذا ذهب و قيل الباطل هو ما تعلق بالشيء على خلاف ما هو به خبرا كان أو اعتقادا أو ظنا أو تخيلا و الحكم هو الذي يفصل بين الخصمين يمنع كل واحد من منازعة الآخر و يقال أدلى فلان بحجته إذا أقامها و هو من قولهم أدليت الدلو في البئر إذا أرسلتها و دلوتها إذا أخرجتها فمعنى قولهم أدلى بحجته أرسلها و أتى بها على صحة و في تشبيه الخصومة بإرسال الدلو في البئر وجهان ( أحدهما ) أنه تعلق بسبب الحكم كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل ( الثاني ) أنه يمضي فيه من غير تثبيت كمضي الدلو في الإرسال من غير تثبيت و الفريق القطيعة المعزولة من الجملة سواء كان من الناس أو من غيرهم و الإثم الفعل الذي يستحق به الذم .

الإعراب

و تدلوا محله جزم على النهي عطفا على قوله « و لا تأكلوا » و يحتمل أن يكون نصبا على الظرف و يكون نصبه بإضمار أن يقول الشاعر :
لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم أي لا تجمع بينهما .

المعنى

ثم بين سبحانه شريعة من شرائع الإسلام نسقا على ما تقدم من بيان الحلال و الحرام فقال « و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب و الظلم و الوجوه التي لا تحل كقوله « و لا تقتلوا أنفسكم » أي و لا يقتل بعضكم بعضا و قيل معناه لا تأكلوا أموالكم باللهو و اللعب مثل ما يؤخذ في القمار و الملاهي لأن كل ذلك من الباطل و روي عن أبي جعفر أنه يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال و روي عن أبي عبد الله قال كانت قريش يقامر الرجل في أهله و ماله فنهاهم الله و الأولى حمله على الجميع لأن الآية تحتمل الكل « و تدلوا بها إلى الحكام » و تلقوا بها إلى القضاة و قيل فيه أقوال ( أحدهما ) أنه الودائع و ما لا يقوم عليه بينة عن ابن عباس و الحسن و قتادة ( و ثانيها ) أنه مال اليتيم في يد الأوصياء لأنهم يدفعونه إلى الحكام إذا طولبوا به ليقطعوا بعضه و تقوم لهم في الظاهر حجة عن الجبائي ( و ثالثها ) أنه ما يؤخذ بشهادة الزور عن الكلبي و الأولى أن يحمل على الجميع « لتأكلوا فريقا من أموال الناس
مجمع البيان ج : 2 ص : 507
بالإثم » أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالفعل الموجب للإثم بأن يحكم الحاكم بالظاهر و كان الأمر في الباطن بخلافه « و أنتم تعلمون » أن ذلك الفريق من المال ليس بحق لكم و أنتم مبطلون و هذا أشد في الزجر و قال أبو عبد الله (عليه السلام) علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتحاكموا إليهم و هم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق و هذا يدل على أن الإقدام على المعصية مع العلم أو مع التمكن من العلم أعظم .
* يَسئَلُونَك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَقِيت لِلنَّاسِ وَ الْحَجّ وَ لَيْس الْبرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوت مِن ظهُورِهَا وَ لَكِنَّ الْبرَّ مَنِ اتَّقَى وَ أْتُوا الْبُيُوت مِنْ أَبْوَبِهَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ(189)

القراءة

قرأ ابن كثير و ابن ذكوان و الكسائي البيوت و الشيوخ و أخواتهما بكسر أوائلها إلا الغيوب و قرأ حمزة و حماد و يحيى عن عاصم كلها بالكسر إلا الجيوب و قالون يكسر منها البيوت فقط و الباقون بالضم .

الحجة

من كسر أوائل هذه الكلمات إنما فعل ذلك لأجل الياء أبدل من الضمة الكسرة لأن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة لها كما كسر الفاء من عيينة و نييب في تصغير عين و ناب و إن لم يكن في أبنية التصغير على هذا الوزن لتقريب الحركة مما بعدها .
و من ضمها فعلى الأصل لأنها فعول .

اللغة

الأهلة جمع هلال و اشتقاقه من قولهم استهل الصبي إذا بكى حين يولد أو صاح و قولهم أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية و إنما قيل هلال لأنه حين يرى يهل الناس بذكره يقال أهل الهلال و استهل و لا يقال أهل و يقال أهللنا الهلال و أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه و قد اختلف في تسميته هلالا كم يسمى و متى يسمى قمرا فقال بعضهم يسمى هلالا ليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالا إلى أن يعود في الشهر الثاني و قال آخرون يسمى هلالا ثلاث ليال ثم يسمى قمرا و قال بعضهم يسمى هلالا حتى يحجر و تحجيره أن
مجمع البيان ج : 2 ص : 508
يستدير بخطة دقيقة و هذا قول الأصمعي و قال بعضهم يسمى هلالا حتى يبهر ضوءه سواد الليل ثم يقال قمر و هذا يكون في الليلة السابعة و اسم القمر عند العرب الزبرقان و اسم دارته الهالة و اسم ضوئه الفخت و الميقات مقدار من الزمان جعل علما لما يقدر من العمل و التوقيت تقدير الوقت و كلما قدرت غايته فهو موقت و الميقات منتهى الوقت و الآخرة ميقات الخلق و الإهلال ميقات الشهر و الحج ذكرنا معناه فيما مضى و البر النفع الحسن و الظهر الصفحة القابلة لصفحة الوجه و الباب المدخل يقول منه بوبه تبويبا إذا جعله أبوابا و البواب الحاجب لأنه يلزم الباب و البابة القطعة من الشيء كالباب من الجملة .

الإعراب

قوله « للناس » في موضع رفع صفة لمواقيت تقديره هي مواقيت كائنة للناس و الباء في قوله « بأن تأتوا » مزيدة لتأكيد النفي و أن تأتوا في موضع الجر بالباء و الجار و المجرور في موضع النصب بأنهما خبر ليس و قوله « و لكن البر من اتقى » قيل فيه وجهان ( أحدهما ) أن تقديره « و لكن البر من اتقى » كما قلناه في قوله « و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر » ( و الآخر ) إن تقديره و لكن البار من اتقى وضع المصدر موضع الصفة .

النزول

روي إن معاذ بن جبل قال يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله هذه الآية و قال قتادة ذكر لنا أنهم سألوا رسول الله لم خلقت هذه الأهلة فأنزل الله هذه الآية .

المعنى

ثم بين شريعة أخرى فقال « يسألونك عن الأهلة » أي أحوال الأهلة في زيادتها و نقصانها و وجه الحكمة في ذلك « قل » يا محمد « هي مواقيت للناس و الحج » أي هي مواقيت يحتاج الناس إلى مقاديرها في صومهم و فطرهم و عدد نسائهم و محل ديونهم و حجهم فبين سبحانه أن وجه الحكمة في زيادة القمر و نقصانه ما تعلق بذلك من مصالح الدين و الدنيا لأن الهلال لو كان مدورا أبدا مثل الشمس لم يمكن التوقيت به و فيه أوضح دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد و أنه يثبت بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت و الدلالة على الشهور فلو كانت الشهور إنما تعرف بطريق العدد لخص التوقيت بالعدد دون رؤية الأهلة لأن عند أصحاب العدد لا عبرة برؤية الأهلة في معرفة المواقيت و قوله « و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » فيه وجوه ( أحدها ) أنه كان المحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها و لكنهم كانوا ينقبون في ظهر بيوتهم أي في مؤخرها نقبا يدخلون و يخرجون منه فنهوا عن التدين بذلك عن ابن عباس و قتادة و عطا
مجمع البيان ج : 2 ص : 509
و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل إلا أن الحمس و هو قريش و كنانة و خزاعة و ثقيف و جشم و بنو عامر بن صعصعة كانوا لا يفعلون ذلك و إنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم و الحماسة الشدة و قيل بل كانت الحمس تفعل ذلك و إنما فعلوا ذلك حتى لا يحول بينهم و بين السماء شيء ( و ثانيها ) إن معناه ليس البر أن تأتوا البيوت من غير جهاتها و ينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها أي الأمور كان و هو المروي عن جابر عن أبي جعفر ( و ثالثها ) إن معناه ليس البر طلب المعروف من غير أهله و إنما البر طلب المعروف من أهله « و لكن البر من اتقى » قد مر معناه « و أتوا البيوت من أبوابها » قد مضى معناه و قال أبو جعفر آل محمد أبواب الله و سبله و الدعاة إلى الجنة و القادة إليها و الأدلاء عليها إلى يوم القيامة و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنا مدينة العلم و علي بابها و لا تؤتى المدينة إلا من بابها و يروى أنا مدينة الحكمة « و اتقوا الله لعلكم تفلحون » معناه و اتقوا ما نهاكم الله عنه و زهدكم فيه لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين .

النظم

و وجه اتصال قوله « ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » بقوله « يسألونك عن الأهلة » أنه لما بين أن الأهلة مواقيت للناس و الحج و كانوا إذا أحرموا يدخلون البيوت من ورائها عطف عليها قوله « و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » و قيل أنه لما بين أن أمورنا مقدرة بأوقات قرن به قوله « و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » أي فكما أن أموركم مقدرة بأوقات فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به و الانتهاء عما نهى عنه لأن اتباع ما أمر به خير من اتباع ما لم يأمر به .
وَ قَتِلُوا فى سبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ(190)

اللغة

القتال و المقاتلة محاولة الرجل قتل من يحاول قتله و التقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر و الاعتداء مجاوزة الحد يقال عدا طوره إذا جاوز حده .

النزول

عن ابن عباس نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أن رسول الله لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فصاروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و يخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف
مجمع البيان ج : 2 ص : 510
بالبيت و يفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أصحابه لعمرة القضاء و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم و كره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية و عن الربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله و يكف عمن كف عنه حتى نزلت « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » فنسخت هذه الآية .

المعنى

ثم بين سبحانه أمر الجهاد فقال مخاطبا للمؤمنين « و قاتلوا » أي مع الكفار « في سبيل الله » أي دين الله و هو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه على أمرهم به و دعاهم إليه « الذين يقاتلونكم » قيل أمروا بقتال المقاتلين دون النساء و قيل أنهم أمروا بقتال أهل مكة و الأولى حمل الآية على العموم إلا من أخرجه الدليل « و لا تعتدوا » أي و لا تجاوزوا من قتال من هو من أهل القتال إلى قتال من لم تؤمروا بقتاله و قيل معناه لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال « إن الله لا يحب المعتدين » ظاهره يقتضي أن يسخط عليهم لأنه على جهة الذم لهم و قد ذكرنا معنى المحبة لهم فيما مضى و اختلف في الآية هل هي منسوخة أم لا فقال بعضهم منسوخة على ما ذكرناه و روي عن ابن عباس و مجاهد أنها غير منسوخة بل هي خاصة في النساء و الذراري و قيل أمر بقتال أهل مكة و روي عن أئمتنا (عليهم السلام) أن هذه الآية ناسخة لقوله « كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة » و كذلك قوله « و اقتلوهم حيث ثقفتموهم » ناسخ لقوله « و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم » .
وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْث ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْث أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقَتِلُوهُمْ عِندَ المَْسجِدِ الحَْرَامِ حَتى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِك جَزَاءُ الْكَفِرِينَ(191)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و لا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم كل بغير ألف و الباقون بألف في جميع ذلك .

مجمع البيان ج : 2 ص : 511

الحجة

من قرأها بغير ألف فإنما اتبع المصحف لأنه كتب في المصاحف بغير الألف و من قرأ بالألف فقال إنما تحذف الألف في الخط كما في الرحمن .

اللغة

ثقفته أثقفه ثقفا و ثقافة أي وجدته و منه قولهم رجل ثقف لقف أي يجد ما يطلبه و ثقف الرجل ثقافة فهو ثقف و ثقف ثقفا بالتحريك فهو ثقف إذا كان سريع التعلم و الثقاف حديدة يقوم بها الرماح المعوجة و التثقيف التقويم و الفتنة أصلها الاختبار ثم ينصرف إلى معان منها الابتلاء نحو قوله « فتناك فتونا » أي ابتليناك ابتلاء على إثر ابتلاء و منها العذاب كقوله جعل فتنة الناس كعذاب الله و منها الصد عن الدين نحو قوله « و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك » و المراد بها في الآية الشرك بالله و برسوله .

الإعراب

حيث فيه ثلاث لغات ضم الثاء و فتحها و كسرها فالضم لشبهها بالغاية نحو قبل و بعد لأنه منع الإضافة إلى المفرد مع لزومه معنى الإضافة إياه فيجري لذلك مجرى قبل و بعد في البناء على الضم و الفتح لأجل البناء كما فتحت أين و كيف .
و الكسر لأجل أنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين و الجملة بعد حيث في موضع جر بإضافة حيث إليها في الموضعين و تقاتلوا منصوب بإضمار أن و هو صلة أن و الموصول و الصلة في محل جر بحتى و حتى يتعلق بتقاتلوهم .

النزول

نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه أن الفتنة في الدين و هو الشرك أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز .

المعنى

ثم خاطب الله تعالى المؤمنين مبينا لهم كيفية القتال مع الكافرين فقال « و اقتلوهم » أي الكفار « حيث ثقفتموهم » أي وجدتموهم « و أخرجوهم من حيث أخرجوكم » يعني أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها « و الفتنة أشد من القتل » أي شركهم بالله و برسوله أعظم من القتل في الشهر الحرام و سمي الكفر فتنة لأن الكفر يؤدي إلى الهلاك كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك و قيل لأن الكفر فساد يظهر عند الاختبار و قوله « و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » نهي عن ابتدائهم بقتال أو قتل في الحرم حتى يبتدىء المشركون بذلك « فإن قاتلوكم » أي بدءوكم بذلك « فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين » أن يقتلوا حيث ما وجدوا و في الآية دلالة على وجوب إخراج الكفار من مكة كقوله حتى لا تكون فتنة و السنة قد وردت أيضا بذلك و هو قوله لا يجتمع
مجمع البيان ج : 2 ص : 512
في جزيرة العرب دينان .
فَإِنِ انتهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(192)

اللغة

الانتهاء الامتناع و النهي الزجر عن الفعل بصيغة لا تفعل مع كراهة الناهي لذلك الفعل و الأمر الدعاء إلى الفعل بصيغة افعل مع إرادة الأمر لذلك و النهي الغدير لمنعه الماء أن يفيض و النهي بمنزلة المنع و نهاية الشيء غايته و النهى جمع نهية و هي العقل و التناهي هي المواضع التي تنهبط فيتناهى إليها ماء السماء واحدها تنهية و الإنهاء إبلاغ الشيء الشيء نهايته و المغفرة تغطية الذنب بما يصير به بمنزلة غير الواقع في الحكم .

المعنى

« فإن انتهوا » أي امتنعوا من كفرهم بالتوبة منه عن مجاهد و غيره « فإن الله غفور رحيم » فاختصر الكلام لدلالة ما تقدم من الشرط عليه و فيه الدلالة على أنه يقبل توبة القاتل عمدا لأنه بين عز اسمه أنه يقبل توبة المشرك و الشرك أعظم من القتل .
وَ قَتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتهَوْا فَلا عُدْوَنَ إِلا عَلى الظلِمِينَ(193)

اللغة

الدين هاهنا الإذعان بالطاعة كما في قول الأعشى :
هودان الرباب إذ كرهوا
الدين دراكا بغزوة و صيال و قيل هو الإسلام و أصل الدين العادة قال الشاعر :
تقول إذا درأت لها وضيني
أ هذا دينه أبدا و ديني و قد استعمل بمعنى الطاعة في قوله « ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك » و بمعنى الإسلام في قوله « إن الدين عند الله الإسلام » لأن الشريعة يجب أن يجري فيها على عادة مستمرة .

مجمع البيان ج : 2 ص : 513

المعنى

ثم بين تعالى غاية وجوب القتال و قال يخاطب المؤمنين « و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة » أي شرك عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) « و يكون الدين لله » و حتى تكون الطاعة لله و الانقياد لأمر الله و قيل حتى يكون الإسلام لله أي حتى لا يبقى الكفر و يظهر الإسلام على الأديان كلها « فإن انتهوا » أي امتنعوا من الكفر و أذعنوا للإسلام « فلا عدوان إلا على الظالمين » أي فلا عقوبة عليهم و إنما العقوبة بالقتل على الكافرين المقيمين على الكفر فسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة على العدوان و هو الظلم كما قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه و جزاء سيئة سيئة مثلها و إن عاقبتم فعاقبوا و حسن ذلك لازدواج الكلام و المزاوجة هنا إنما حصلت في المعنى لأن التقدير فإن انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين و هذا الوجه مروي عن قتادة و الربيع و عكرمة و قيل معنى العدوان الابتداء بالقتال عن مجاهد و السدي و هذه الآية ناسخة للأولى التي تضمنت النهي عن القتال في المسجد الحرام حتى يبدءوا بالقتال فيه لأن فيها إيجاب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الإسلام عن الحسن و الجبائي و على ما ذكرناه في الآية الأولى عن ابن عباس أنها غير منسوخة فلا تكون هذه الآية ناسخة بل تكون مؤكدة و قيل بل المراد بها أنهم إذا ابتدأوا بالقتال في الحرم يجب مقاتلتهم حتى يزول الكفر .
الشهْرُ الحَْرَامُ بِالشهْرِ الحَْرَامِ وَ الحُْرُمَت قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194)

اللغة

إنما سمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال و نحوه و الحرمات جمع حرمة و هي ما يجب حفظه و يحرم هتكه و الحرام هو القبيح الممنوع من فعله و الحلال المطلق المأذون فيه و القصاص الأخذ للمظلوم من الظالم من أجل ظلمه إياه و اعتدى عليه و عدي عليه بمعنى مثل قرب و اقترب و جلب و اجتلب و قيل إن في افتعل مبالغة ليست في فعل .

المعنى

ثم بين الله تعالى القتال في الشهر الحرام فقال « الشهر الحرام بالشهر الحرام » المراد بها هاهنا ذو القعدة و هو شهر الصد عام الحديبية و الأشهر الحرم أربعة
مجمع البيان ج : 2 ص : 514

ثلاثة سرد ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و واحد فرد و هو رجب كانوا يحرمون فيها القتال حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه أو أخيه لم يتعرض له بسوء و إنما قيل ذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال و قيل في تقديره وجهان ( أحدهما ) أنه قتال شهر الحرام أي في الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و قيل أنه الشهر الحرام على جهة العوض لما فأت في السنة الأولى و معناه الشهر الحرام ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكة و اعتمرتم و قضيتم منها وطركم في سنة سبع بالشهر الحرام ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت و منعتم عن مرادكم في سنة ست « و الحرمات قصاص » قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن الحرمات قصاص بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام قال مجاهد لأن قريشا فخرت بردها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عام الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته و أقصه بما حيل بينه و بينه و هو معنى قتادة و الضحاك و الربيع و عبد الرحمن بن زيد و روي عن ابن عباس و أبي جعفر الباقر مثله ( و الثاني ) أن الحرمات قصاص بالقتال في الشهر الحرام أي لا يجوز للمسلمين إلا قصاصا قال الحسن إن مشركي العرب قالوا لرسول الله أ نهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم و إنما أراد المشركون أن يغروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله هذا أي أن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم و به قال الزجاج و الجبائي و إنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر حرمة البلد و حرمة الإحرام و قيل لأن كل حرمة تستحل فلا يجوز إلا على وجه المجازاة « فمن اعتدى عليكم » أي ظلمكم « فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » أي فجازوه باعتدائه و قابلوه بمثله ( و الثاني ) ليس باعتداء على الحقيقة و لكن سماه اعتداء لأنه مجازاة اعتداء و جعله مثله و إن كان ذلك جورا و هذا عدلا لأنه مثله في الجنس و في مقدار الاستحقاق و لأنه ضرر كما أن ذاك ضرر فهو مثله في الجنس و المقدار و الصفة « و اتقوا الله » فيما أمركم به و نهاكم عنه « و اعلموا أن الله مع المتقين » بالنصرة لهم أو يريد أن نصرة الله معهم و أصل « مع » المصاحبة في المكان أو الزمان و في هذه الآية دلالة على أن من غصب شيئا و أتلفه يلزمه رد مثله ثم أن المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال و من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .

<<        الفهرس        >>