جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 376

و مثل هذه الآية أيضا قد تقدم ذكره و مر تفسيره .
* وَ إِذِ ابْتَلى إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكلِمَت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنى جَاعِلُك لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِى الظلِمِينَ(124)

القراءة

قرأ ابن عامر إبراهام هاهنا و في مواضع من القرآن و الباقون « إبراهيم » و قرأ حمزة و حفص عهدي بإرسال الياء و الباقون بفتحها .

الحجة

في إبراهيم خمس لغات إبراهيم و إبراهام و إبراهم فحذفت الألف استخفافا قال الشاعر :
عذت بما عاذ به إبراهم و إبراهم قال أمية :
مع إبراهم التقي و موسى ) و أبرهم قال :
نحن آل الله في كعبته
لم يزل ذاك على عهد أبرهم و الوجه في هذه التغييرات ما تقدم ذكره من قولهم إن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و تلعبت بحروفه فتغيرها و أما قوله « عهدي » فإنما فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها لأن أصل هذه الياء الحركة فإنها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء و من أسكنها فإنه يحتج بأن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام كما كرهت الحركتان الأخريان فيها أ لا ترى أنهم قد أسكنوها في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين و ذلك قولهم قالي قلا و بادي و بدا و معديكرب فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر الاسمين نحو حضرموت و قد أسكنت كما أسكنت في الجر و الرفع .

اللغة

الابتلاء الاختبار و التمام و الكمال و الوفاء نظائر و ضد التمام النقصان يقال تم تماما و أتمه و تممه تتميما و تتمة و التم الشيء التام و لكل حاملة تمام بفتح التاء و كسرها و بدر تمام و ليل تمام بالكسر و الذرية و النسل و الولد نظائر و بعض العرب يكسر منها الذال فيقول ذرية و روي أنه قراءة زيد بن ثابت و بعضهم فتحها فقال ذرية و في أصل الكلمة أربعة مذاهب من الذرء و من الذر و الذرو و الذري فإن جعلته من الذرء فوزنه فعلية كمريق ثم ألزمت
مجمع البيان ج : 1 ص : 377 التخفيف أو البدل كنبي في أكثر اللغة و البرية و إن أخذته من الذر فوزنه فعلية كقمرية أو فعيلة نحو ذريرة فلما كثرت الراءات أبدلت الأخيرة ياء و أدغم الياء الأولى فيها نحو سرية فيمن أخذها من السر و هو النكاح أو فعولة نحو ذرورة فأبدلوا الراء الأخيرة لما ذكرنا فصار ذروية ثم أدغم فصار ذرية و إن أخذته من الذرو أو الذري فوزنه فعولة أو فعيلة و فيه كلام كثير يطول به الكتاب ذكره ابن جني في المحتسب و النيل و اللحاق و الإدراك نظائر و النيل و النوال ما نلته من معروف إنسان و أناله معروفه و نوله أعطاه قال طرفة :
إن تنوله فقد تمنعه
و تريه النجم يجري بالظهر و قولهم نولك أن تفعل كذا معناه حقك أن تفعل .

الإعراب

اللام في قوله « للناس » تتعلق بمحذوف تقديره إماما استقر للناس فهو صفة لإمام فلما قدمه انتصب على الحال و يجوز أن تتعلق بجاعلك و قوله « إماما » مفعول ثان لجعل « و من ذريتي » تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتي .

المعنى

« و » اذكروا « إذ ابتلى إبراهيم ربه » أي اختبر و هو مجاز و حقيقته أنه أمر إبراهيم ربه و كلفه و سمي ذلك اختبار لأن ما يستعمل الأمر منا في مثل ذلك يجري على جهة الاختبار و الامتحان فأجرى على أمره اسم أمور العباد على طريق الاتساع و أيضا فإن الله تعالى لما عامل عباده معاملة المبتلي المختبر إذ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل منهم كما لا يجازى المختبر للغير ما لم يقع الفعل منه سمي أمره ابتلاء و حقيقة الابتلاء تشديد التكليف و قوله « بكلمات » فيه خلاف فروي عن الصادق أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب فأتمها إبراهيم و عزم عليها و سلم لأمر الله فلما عزم الله ثوابا له لما صدق و عمل بما أمره الله « إني جاعلك للناس إماما » ثم أنزل عليه الحنيفية و هي الطهارة و هي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس و خمسة منها في البدن فأما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال و أما التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة و هو قوله و اتبع ملة إبراهيم حنيفا ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره و قال قتادة و هو إحدى الروايتين عن ابن عباس أنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه سنة في شريعتنا المضمضة و الاستنشاق و فرق الرأس و قص الشارب و السواك في الرأس و الختان و حلق العانة و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الاستنجاء بالماء في البدن و في الرواية الأخرى
مجمع البيان ج : 1 ص : 378
عن ابن عباس أنه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام لم يبتل أحدا بها فأقامها كلها إبراهيم فأتمهن فكتب له البراءة فقال و إبراهيم الذي وفى و هي عشر في سورة براءة التائبون العابدون إلى آخرها و عشر في الأحزاب إن المسلمين و المسلمات إلى آخرها و عشر في سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون إلى قوله أولئك هم الوارثون و روي و عشر في سورة سأل سائل إلى قوله و الذين هم على صلاتهم يحافظون فجعلها أربعين و في رواية ثالثة عن ابن عباس أنه أمره بمناسك الحج و قال الحسن ابتلاه الله بالكوكب و القمر و الشمس و الختان و بذبح ابنه و بالنار و بالهجرة فكلهن وفى الله فيهن و قال مجاهد ابتلاه الله بالآيات التي بعدها و هي قوله « إني جاعلك للناس إماما » إلى آخر القصة و قال أبو علي الجبائي أراد بذلك كلما كلفه من الطاعات العقلية و الشرعية و الآية محتملة لجميع هذه الأقاويل التي ذكرناها و كان سعيد بن المسيب يقول كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف و أول الناس اختتن و أول الناس قص شاربه و استحد و أول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا و هذا أيضا قد رواه السكوني عن أبي عبد الله و لم يذكر أول من قص شاربه و استحد و زاد فيه و أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم و أول من أخرج الخمس إبراهيم و أول من اتخذ النعلين إبراهيم و أول من اتخذ الرايات إبراهيم و روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز و جل « و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » ما هذه الكلمات قال هي الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه فتاب عليه و هو أنه قال يا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين إلا تبت علي فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم فقلت له يا ابن رسول الله فما يعني بقوله « فأتمهن » قال أتمهن إلى القائم اثني عشر إماما تسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) قال المفضل فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني عن كلمة الله عز و جل و جعلها كلمة باقية في عقبه قال يعني بذلك الإمامة جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة فقلت له يا ابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن (عليه السلام) و هما جميعا ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و سبطاه و سيدا شباب أهل الجنة فقال إن موسى و هارون نبيان مرسلان أخوان فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى و لم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك و أن الإمامة خلافة الله عز و جل ليس لأحد أن يقول
مجمع البيان ج : 1 ص : 379
لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن الله عز و جل هو الحكيم في أفعاله لا يسأل عما يفعل و هم يسألون و قال الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله و لقوله تعالى « و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » وجه آخر فإن الابتلاء على ضربين ( أحدهما ) مستحيل على الله تعالى ( و الآخر ) جائز فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيام عنه و هذا ما لا يصح لأنه سبحانه علام الغيوب و الآخر أن يبتليه حتى يصبر فيما يبتليه به فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق و لينظر إليه الناظر فيقتدي به فيعلم من حكمة الله عز و جل أنه لم تكن أسباب الإمامة إلا إلى الكافي المستقل بها الذي كشفت الأيام عنه فأما الكلمات سوى ما ذكرناه فمنها اليقين و ذلك قوله عز و جل و ليكون من الموقنين و منها المعرفة بالتوحيد و التنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس و منها الشجاعة بدلالة قوله فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم و مقاومته و هو واحد ألوفا من أعداء الله تعالى و منها الحلم و قد تضمنه قوله عز و جل إن إبراهيم لحليم أواه منيب و منها السخاء و يدل عليه قوله هل أتيك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ثم العزلة عن العشيرة و قد تضمنه قوله و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله ثم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بيان ذلك في قوله يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر الآيات ثم دفع السيئة بالحسنة في جواب قول أبيه لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا ثم التوكل و بيان ذلك في قوله الذي خلقني فهو يهدين الآيات ثم المحنة في النفس حين جعل في المنجنيق و قذف به في النار ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل ثم المحنة في الأهل حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي في الخبر المشهور ثم الصبر على سوء خلق سارة ثم استقصاره النفس في الطاعة بقوله و لا تخزني يوم يبعثون ثم الزلفة في قوله ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا الآية ثم الجمع لشروط الطاعات في قوله إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي إلى قوله و أنا أول المسلمين ثم استجابه الله دعوته حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ثم اصطفاه الله سبحانه إياه في الدنيا ثم شهادته له في العاقبة أنه من الصالحين في قوله و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين ثم اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله و وصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين الآية و في قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا انتهى كلام الشيخ أبي جعفر رحمه الله و قوله « فأتمهن » معناه وفى بهن في قول الحسن و عمل بهن على التمام في قول قتادة و الضمير في أتمهن عائد إلى الله تعالى في قول أبي القاسم البلخي و هو اختيار
مجمع البيان ج : 1 ص : 380
الحسين بن علي المغربي قال البلخي و الكلمات هي الإمامة على ما قاله مجاهد قال لأن الكلام متصل و لم يفصل بين قوله « إني جاعلك للناس إماما » و بين ما تقدمه بواو العطف و أتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته و اضطلاعه بما ابتلاه و قوله « قال إني جاعلك للناس إماما » معناه قال الله تعالى ( إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك و أقوالك ) لأن المستفاد من لفظ الإمام أمران ( أحدهما ) أنه المقتدى به في أفعاله و أقواله ( و الثاني ) أنه الذي يقوم بتدبير الأمة و سياستها و القيام بأمورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها و إقامة الحدود على مستحقيها و محاربة من يكيدها و يعاديها فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا و هو إمام و على الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدفاع عن حوزة الدين و مجاهدة الكافرين فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن جعله إماما للأنام جزاء له على ذلك و الدليل عليه أن قوله « جاعلك » عمل في قوله « إماما » و اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل و لو قلت أنا ضارب زيدا أمس لم يجز فوجب أن يكون المراد أنه جعله إماما إما في الحال أو في الاستقبال و النبوة كانت حاصلة له قبل ذلك و قوله « قال و من ذريتي » أي و اجعل من ذريتي من يوشح بالإمامة و يوشح بهذه الكرامة و قيل إنما قال ذلك على جهة التعرف ليعلم هل يكون في عقبه أئمة يقتدى بهم و الأولى أن يكون ذلك على وجه السؤال من الله تعالى أن يجعلهم كذلك و قوله « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال مجاهد العهد الإمامة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أي لا يكون الظالم إماما للناس فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما لأنه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقول في الجواب لا أو لا ينال عهدي ذريتك و قال الحسن معناه أن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا و إن كانوا قد يعاهدون في الدنيا فيوفى لهم و قد كان يجوز في العربية أن يقال لا ينال عهدي الظالمون لأن ما نالك فقد نلته و قد روي ذلك في قراءة ابن مسعود و استدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم و من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه و إما لغيره فإن قيل إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه فإذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله فالجواب أن الظالم و إن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها و الآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت
مجمع البيان ج : 1 ص : 381
فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينالها الظالم و إن تاب فيما بعد .
وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصلًّى وَ عَهِدْنَا إِلى إِبْرَهِيمَ وَ إِسمَعِيلَ أَن طهِّرَا بَيْتىَ لِلطائفِينَ وَ الْعَكِفِينَ وَ الرُّكع السجُودِ(125)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و اتخذوا مفتوحة الخاء و قرأ الباقون « و اتخذوا » مكسورة الخاء .

الحجة

من قرأ بكسر الخاء فإنه على الأمر و الإلزام و يكون عطفا على قوله يا بني إسرائيل اذكروا و يجوز أن يكون عطفا على قوله « و إذ جعلنا البيت مثابة للناس » من طريق المعنى لأن معناه ثوبوا و اتخذوا و من قرأ بالفتح عطفه على ما تقدمه من الفعل الذي أضيف إليه إذ فكأنه قال و إذ اتخذوا .

اللغة

البيت و المأوى و المنزل نظائر و البيت من أبيات الشعر سمي بذلك لضمه الحروف و الكلام كما يضم البيت من بيوت الناس أهله و البيت من بيوتات العرب و هي أحياؤها و امرأة الرجل بيته قال الراجز :
ما لي إذا أجذبها صايت
أ كبر قد غالني أم بيت المثابة هاهنا الموضع الذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة و مثابا و ثؤبا إذا رجع قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم :
مثاب لإفناء القبائل كلها
تخب إليها اليعملات الطلائح و منه ثاب إليه عقله أي رجع بعد عزوبه و أصل مثابة مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء ثم قلبت ألفا على ما قبلها و قيل إن التاء فيه للمبالغة كما قيل نسابة و قيل إن معناهما واحد
مجمع البيان ج : 1 ص : 382
كمقامة و مقام قال زهير :
و فيهم مقامات حسان وجوهها
و أندية ينتابها القول و الفعل و جمع المقام مقاوم قال :
و إني لقوام مقاوم لم يكن
جرير و لا مولى جرير يقومها و الطائف و الجائل و الداثر نظائر و يقال طاف يطوف طوفا إذا دار حول الشيء و أطاف به إطافة إذا ألم به و أطاف به إذا أحاط به و الطائف العاس و الطوافون المماليك و الطائف طائف الجن و الشيطان و هو كل شيء يغشى القلب من وسواسه و هو طيف أيضا و العاكف المقيم على الشيء اللازم له و عكف يعكف عكفا و عكوفا قال النابغة :
عكوف على أبياتهم يثمدونها
رمى الله في تلك الأكف الكوانع و العاكف المعتكف في المسجد و قل ما يقولون عكف و إنما يقولون اعتكف و الركع جمع الراكع و السجود جمع الساجد و كل فعل مصدره على فعول جاز في جمع الفاعل منه أن يكون على فعول كالقعود و الركوع و السجود و نحوها .

المعنى

قوله « و إذ جعلنا » عطف على قوله و إذ ابتلى و ذلك معطوف على قوله يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي و « البيت » الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام و هو الكعبة و روي أنه سمي البيت الحرام لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه و سمي الكعبة لأنها مربعة و صارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع و صار البيت المعمور مربعا لأنه بحذاء العرش و هو مربع و صار العرش مربعا لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع و هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قوله « مثابة للناس » ذكر فيه وجوه فقيل أن الناس يثوبون إليه كل عام أي ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس عن الحسن و قيل معناه أنه لا ينصرف منه أحد و هو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه عن ابن عباس و قد ورد في الخبر أن من رجع من مكة و هو ينوي الحج من
مجمع البيان ج : 1 ص : 383
قابل زيد في عمره و من خرج من مكة و هو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله و قيل معناه يحجون إليه فيثابون عليه و قيل مثابة معاذا و ملجأ و قيل مجمعا و المعنى في الكل يؤول إلى أنهم يرجعون إليه مرة بعد مرة و قوله « و أمنا » أراد مأمنا أي موضع أمن و إنما جعله الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به و التجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه و بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون من فيه فهو آمن على نفسه و ماله و إن كانوا يتخطفون الناس من حوله و لعظم حرمته لا يقام في الشرع الحد على من جنى جناية فالتجأ إليه و إلى حرمه لكن يضيق عليه في المطعم و المشرب و البيع و الشراء حتى يخرج منه فيقام عليه الحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه لأنه هتك حرمة الحرم فهو آمن من هذه الوجوه و كان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له و هذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى أيام نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قوله « و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم و قال عطاء مقام إبراهيم عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم و قال الحسن و قتادة و السدي هو الصلاة عند مقام إبراهيم أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) و قد سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة و نسي أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم فقال يصليها و لو بعد أيام أن الله تعالى قال « و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » و هذا هو الظاهر لأن مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام و في المقام دلالة ظاهرة على نبوة إبراهيم (عليه السلام) فإن الله جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتى دخلت قدمه فيه و كان في ذلك معجزة له و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال نزلت ثلاثة أحجار من الجنة مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل و الحجر الأسود استودعه الله إبراهيم (عليه السلام) حجرا أبيض و كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم .

[ القصة]


ابن عباس قال لما أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر فوضعهما بمكة و أتت على ذلك مدة و نزلها الجرهميون و تزوج إسماعيل امرأة منهم و ماتت هاجر و استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم (عليه السلام) و قد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ليس هنا ذهب يتصيد و كان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع فقال لها إبراهيم هل عندك ضيافة قالت ليس عندي شيء و ما عندي أحد فقال لها إبراهيم إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له فليغير عتبة بابه و ذهب إبراهيم (عليه السلام) فجاء إسماعيل (عليه السلام) فوجد ريح أبيه فقال لامرأته هل
مجمع البيان ج : 1 ص : 384
جاءك أحد قالت جاءني شيخ صفته كذا و كذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال لي أقرئي زوجك السلام و قولي له فليغير عتبة بابه فطلقها و تزوج أخرى فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له و اشترطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ذهب يتصيد و هو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله قال لها هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن و اللحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا و شعيرا و تمرا فقالت له أنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فبقي أثره فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدمه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسماعيل (عليه السلام) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها و أطيبهم ريحا فقال لي كذا و كذا و قلت له كذا و غسلت رأسه و هذا موضع قدميه على المقام فقال إسماعيل لها ذاك إبراهيم (عليه السلام) و قد روي هذه القصة بعينها علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان عن الصادق (عليه السلام) و إن اختلف بعض ألفاظه و قال في آخرها إذا جاء زوجك فقولي له جاء هاهنا شيخ و هو يوصيك بعتبة بابك خيرا قال فأكب إسماعيل على المقام يبكي و يقبله و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) أن إبراهيم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له أن لا يلبث عنها و أن لا ينزل من حماره فقيل له كيف كان ذلك فقال إن الأرض طويت له و روى عبد الله بن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الركن و المقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما و لو لا أن نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق و المغرب و قوله « مصلى » فيه أقوال قيل مدعى من صليت أي دعوت عن مجاهد و قيل قبلة عن الحسن و قيل موضع صلاة فأمر أن يصلي عنده عن قتادة و السدي و هذا هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و استدل أصحابنا به على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف لأن الله تعالى أمر بذلك و ظاهر الأمر يقتضي الوجوب و لا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف بلا خلاف و قوله « و عهدنا إلى إبراهيم و إسماعيل » أي أمرناهما
مجمع البيان ج : 1 ص : 385
و ألزمناهما « أن طهرا بيتي للطائفين » أي قلنا لهما أن طهرا بيتي لأن أن هذه هي المفسرة التي تكون عبارة عن القول إذا صاحبت من الألفاظ ما يتضمن معنى القول كقوله سبحانه « عهدنا » هنا و ذكر في التطهير هنا وجوه ( أحدها ) أن المراد طهرا من الفرث و الدم الذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم و إسماعيل عن الجبائي ( و ثانيها ) أن المراد طهراه من الأصنام التي كانوا يعلقونها على باب البيت قبل إبراهيم عن مجاهد و قتادة ( و ثالثها ) أن المراد طهراه بنيانا بكماله على الطهارة كما قال سبحانه أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار و إنما أضاف البيت إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع و تمييزا و تخصيصا و قوله « للطائفين و العاكفين » أكثر المفسرين على أن الطائفين هم الدائرون حول البيت و العاكفين هم المجاورون للبيت و قال سعيد بن جبير أن الطائفين هم الطارئون على مكة من الآفاق و العاكفين هم المقيمون فيها و قال ابن عباس العاكفون المصلون و الأول أصح لأنه المفهوم من إطلاق اللفظ و قوله « و الركع السجود » قيل هم المصلون عند البيت يركعون و يسجدون عن قتادة و قيل هم جميع المسلمين لأن من شأن المسلمين الركوع و السجود عن الحسن و قال عطاء إذا طاف به فهو من الطائفين و إذا جلس فهو من العاكفين و إذا صلى فهو من الركع السجود قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن الله عز و جل في كل يوم و ليلة عشرين و مائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون منها للطائفين و أربعون للعاكفين و عشرون للناظرين .
وَ إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَب اجْعَلْ هَذَا بَلَداً ءَامِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ مَنْ ءَامَنَ مِنهُم بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ قَالَ وَ مَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضطرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْس الْمَصِيرُ(126)

القراءة

قرأ ابن عامر فأمتعه بسكون الميم خفيفة من أمتعت و الباقون بالتشديد و فتح الميم من متعت و روي في الشواذ عن ابن عباس فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب
مجمع البيان ج : 1 ص : 386
النار على الدعاء من إبراهيم (عليه السلام) و عن ابن محيصن ثم أطره بإدغام الضاد في الطاء .

الحجة

قال أبو علي التشديد في « أمتعه » أولى لأن التنزيل عليه قال سبحانه يمتعكم متاعا حسنا و كمن متعناه متاع الحياة الدنيا و وجه قراءة ابن عامر إن أمتع لغة قال الراعي :
خليلين من شعبين شتى تجاورا
قديما و كانا بالتفرق أمتعا قال أبو زيد أمتعا أراد تمتعا فأما قراءة ابن عباس فأمتعه فيحتمل أمرين من ابن جني ( أحدهما ) أن يكون الضمير في قال لإبراهيم أي قال إبراهيم أيضا و من كفر فأمتعه يا رب و حسن إعادة قال لطول الكلام و لأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين و الآخر أن يكون الضمير في قال لله تعالى أي فأمتعه يا خالق أو يا إله يخاطب بذلك نفسه عز و جل فجرى ذلك على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه كقول الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحل
و هل تطيق وداعا أيها الرجل .

اللغة

البلد و المصر و المدينة نظائر و أصله من قولهم بلد للأثر في الجلد و غيره و جمعه أبلاد و من ذلك سميت البلاد لأنها مواضع مواطن الناس و تأثيرهم و من ذلك قولهم لكركرة البعير بلدة لأنه إذا برك تأثرت و الاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه إذا كان من جنس مقدوره و لهذا لا يقال فلان مضطر إلى لونه و إن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه لما لم يكن اللون من جنس مقدوره و يقال هو مضطر إلى حركة الفالج و حركة العروق لما كانت الحركة من جنس مقدوره و المصير الحال التي يؤدي إليها أول لها و صار و حال و آل نظائر و صير كل أمر مصيره و صير الباب شقة و في الحديث من نظر في صير باب فقد دمر و صيور الأمر آخره .

الإعراب

قوله « من آمن » محله نصب لأنه بدل من أهله و هو بدل البعض من الكل كما تقول أخذت المال ثلثه و جعلت متاعك بعضه على بعض و قوله « و من كفر » يجوز أن يكون موصولا و صلة في موضع الرفع على الابتداء و يجوز أن يكون من أسماء الشرط في موضع رفع بالابتداء و كفر شرطه و « فأمتعه » الفاء و ما بعده جزاء و معنى حرف الشرط الذي تضمنه من مع الشرط و الجزاء في موضع خبر المبتدأ و على القول الأول فالفاء و ما بعده خبر المبتدأ « و بئس المصير » فعل و فاعل في موضع الرفع لأنه خبر مبتدإ
مجمع البيان ج : 1 ص : 387
محذوف تقديره و بئس المصير النار أو العذاب و انتصب قليلا على أحد وجهين ( أحدهما ) أن يكون صفة للمصدر نحو قوله متاعا حسنا قال سيبويه ترى الرجل يعالج شيئا فيقول رويدا أي علاجا رويدا و إنما وصفه بالقلة مع أن التمتيع يدل على التكثير من حيث كان إلى نفاد و نقص و تناه كقوله سبحانه قل متاع الدنيا قليل ( و الثاني ) أن يكون وصفا للزمان أي زمانا قليلا و يدل عليه قوله سبحانه عما قليل ليصبحن نادمين و تقديره بعد زمان قليل كما يقال عرق عن الحمى و أطعمه عن الجوع أي بعد الحمى و بعد الجوع .

المعنى

« و » اذكر « إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا » أي هذا البلد يعني مكة « بلدا آمنا » أي ذا أمن كما يقال بلد آهل أي ذو أهل و قيل معناه يأمنون فيه كما يقال ليل نائم أي ينام فيه قال ابن عباس يريد حراما محرما لا يصاد طيره و لا يقطع شجرة و لا يختلى خلاؤه و إلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (عليه السلام) من قوله من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط الله عز و جل و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي و لا تحل لأحد من بعدي و لم تحل لي إلا ساعة من النهار فهذا الخبر و أمثاله المشهورة في روايات أصحابنا تدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم (عليه السلام) و إنما تأكدت حرمته بدعائه (عليه السلام) و قيل إنما صار حرما بدعائه (عليه السلام) و قبل ذلك كان كسائر البلاد و استدل عليه بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن إبراهيم حرم مكة و إني حرمت المدينة و قيل كانت مكة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة فالأول بمنع الله إياها من الاصطلام و الائتفاك كما لحق ذلك غيرها من البلاد و بما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها و الهيبة لها و ( الثاني ) بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل فأجابه الله تعالى إلى ما سأل و إنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب و القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع و لا ضرع و لم يسأله أمنها من الائتفاك و الخسف الذي كان حاصلا لها و قيل أنه (عليه السلام) سأله الأمرين على أن يديمهما و إن كان أحدهما مستأنفا و الآخر قد كان قبل و قوله « و ارزق أهله من الثمرات » أي أعط من أنواع الرزق و الثمرات « من آمن منهم بالله و اليوم الآخر » سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن و الخصب فيكونوا في رغد من العيش و روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من
مجمع البيان ج : 1 ص : 388
الآفاق و روي عن الصادق (عليه السلام) قال هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم و إنما خص بذلك من آمن بالله لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقوله « لا ينال عهدي الظالمين » فخص بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدبا بأدب الله تعالى و قيل أنه (عليه السلام) ظن أنه إذا دعا للكفار بالرزق أنهم يكثرون بمكة و يفسدون فربما يصدون الناس عن الحج فخص بالدعاء أهل الإيمان و قوله « قال و من كفر فأمتعه قليلا » أي قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم و من كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته و قيل فأمتعه بالبقاء في الدنيا و قيل أمتعه بالأمن و الرزق إلى خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عن مكة عن الحسن « ثم أضطره إلى عذاب النار » أي أدفعه إلى النار و أسوقه إليها في الآخرة « و بئس المصير » أي المرجع و المأوى و المال .
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسمَعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنت السمِيعُ الْعَلِيمُ(127)

اللغة

الرفع و الإعلاء و الإصعاد نظائر و نقيض الرفع الوضع و نقيض الإصعاد الإنزال يقال رفع يرفع رفعا و ارتفع الشيء نفسه و المرفوع من عدو الفرس دون الحضر و فوق الموضوع يقال ارفع من دابتك و الرفع نقيض الخفض في كل شيء و الرفعة نقيض الذلة و القواعد و الأساس و الأركان نظائر و واحد القواعد قاعدة و أصله في اللغة الثبوت و الاستقرار فمن ذلك القاعدة من الجبل و هي أصله و قاعدة البناء أساسه الذي بني عليه و امرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لم تتزوج و إذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل قد قعدت فهي قاعدة و جمعها قواعد و تأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل و إذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض و قعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام فهي قاعدة و قيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان ( أحدهما ) أنها من الصفات المختصة بالمؤنث نحو الطالق و الحائض فلم يحتج إلى علامة التأنيث ( و الآخر ) و هو الصحيح أن ذلك على معنى النسبة أي ذات قعود كما يقال نابل و دارع أي ذو نبل و ذو درع و لا يراد بذلك تثبيت الفعل .

الإعراب

قوله « من البيت » الجار و المجرور يتعلق بيرفع أو بمحذوف فيكون في
مجمع البيان ج : 1 ص : 389
محل النصب على الحال و ذو الحال القواعد و موضع الجملة من قوله « ربنا تقبل منا » نصب بقول محذوف كأنه قال يقولان ربنا تقبل منا و اتصل بما قبله لأنه من تمام الحال لأن يقولان في موضع الحال .

المعنى

ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت فقال « و إذ يرفع » و تقديره و اذكر إذ يرفع « إبراهيم القواعد من البيت » أي أصول البيت التي كانت قبل ذلك عن ابن عباس و عطاء قالا قد كان آدم (عليه السلام) بناه ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (عليه السلام) و هذا هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و قال مجاهد بل أنشأه إبراهيم (عليه السلام) بأمر الله عز و جل و كان الحسن يقول أول من حج البيت إبراهيم و في روايات أصحابنا أن أول من حج البيت آدم (عليه السلام) و ذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم و روي عن الباقر أنه قال أن الله تعالى وضع تحت العرش أربع أساطين و سماه الضراح و هو البيت المعمور و قال للملائكة طوفوا به ثم بعث ملائكة فقال ابنوا في الأرض بيتا بمثال و قدره و أمر من في الأرض أن يطوفوا بالبيت و في كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال أن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم و كان البيت درة بيضاء فرفعه الله تعالى إلى السماء و بقي أساسه فهو حيال هذا البيت و قال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا فأمر الله سبحانه إبراهيم و إسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن أول شيء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة أنزله الله ياقوتة حمراء ففسق قوم نوح في الأرض فرفعه و قوله « و إسماعيل » أي يرفع إبراهيم و إسماعيل أساس الكعبة يقولان ربنا تقبل منا و في حرف عبد الله بن مسعود و يقولان ربنا تقبل منا و مثله قوله سبحانه و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أي يقولون سلام عليكم و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم أي يقولون و قال بعضهم تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم (عليه السلام) قال لأن إبراهيم وحده رفع القواعد من البيت و كان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها و هو شاذ غير مقبول لشذوذه فإن الصحيح أن إبراهيم و إسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا و قيل كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجر فوصفا بأنهما رفعا البيت عن ابن عباس و في قوله « ربنا تقبل منا » دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا لأنهما التمسا الثواب عليه و الثواب إنما يطلب على الطاعة و معنى « تقبل منا » أثبنا على عمله و هو مشبه بقبول الهدية فإن الملك إذا قبل الهدية من إنسان أثابه على ذلك و قوله « إنك أنت السميع العليم » أي أنت السميع لدعائنا العليم بنا و بما يصلحنا و روي عن الباقر أن إسماعيل أول من شق
مجمع البيان ج : 1 ص : 390
لسانه بالعربية و كان أبوه يقول له و هما يبنيان البيت يا إسماعيل هات ابن أي أعطني حجرا فيقول له إسماعيل بالعربية يا أبة هاك حجرا فإبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجارة و في هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه مندوب إليه كما فعله إبراهيم و إسماعيل (عليهماالسلام) .

[ قصة مهاجرة إسماعيل و هاجر]


روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام عن الصادق قال إن إبراهيم كان نازلا في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمه فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عز و جل فأوحى الله إليه إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته استمتعت به و إن رمت أن تقيمه كسرته و قد قال القائل في ذلك :
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ثم أمره أن يخرج إسماعيل و أمه عنها فقال أي رب إلى أي مكان قال إلى حرمي و أمني و أول بقعة خلقتها من أرضي و هي مكة و أنزل عليه جبرائيل بالبراق فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلا قال يا جبرائيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرائيل لا امض لا امض حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته فلما سرحهم إبراهيم و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع فقال إبراهيم ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ثم انصرف عنهم فلما بلغ كدى و هو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع إلى قوله لعلهم يشكرون ثم مضى و بقيت هاجر فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى فنادت هل في الوادي من أنيس فغاب عنها إسماعيل فصعدت على الصفا و لمع لها السراب في الوادي و ظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي و سعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا و هبطت إلى الوادي
مجمع البيان ج : 1 ص : 391
تطلب الماء فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتى جمعت حوله رملا و أنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله فلذلك سميت زمزم و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير و الوحوش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة و صبي نزول في ذلك الموضع قد استظلوا بشجرة قد ظهر لهم الماء فقال لهم جرهم من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبي قالت أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) و هذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا فقالوا لها أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم فقالت حتى أسأل إبراهيم قال فزارهما إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أ فتأذن لهم في ذلك فقال إبراهيم نعم فأذنت هاجر لجرهم فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم و أنست هاجر و إسماعيل بهم فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية و نظر إلى كثرة الناس حولهم سر بذلك سرورا شديدا فلما تحرك إسماعيل و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة و شاتين و كانت هاجر و إسماعيل يعيشان بها فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت فقال يا رب في أي بقعة قال في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاءت الحرم قال و لم تزل القبة التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمان نوح فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة و غرقت الدنيا و لم تغرق مكة فسمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق فلما أمر الله عز و جل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرائيل فخط له موضع البيت و أنزل عليه القواعد من الجنة و كان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما مسته أيدي الكفار أسود قال فبنى إبراهيم البيت و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشيح و الإذخر و علقت هاجر على بابه كساء كان معها فكانوا يكونون تحته فلما بناه و فرغ حج إبراهيم و إسماعيل و نزل عليهما جبرائيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال يا إبراهيم قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك ثم
مجمع البيان ج : 1 ص : 392
أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل ب آدم فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات الآية .
رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسلِمَينِ لَك وَ مِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسلِمَةً لَّك وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُب عَلَيْنَا إِنَّك أَنت التَّوَّاب الرَّحِيمُ(128)

القراءة

قرأ ابن كثير أرنا بإسكان الراء كل القرآن و وافقه ابن عامر و أبو بكر عن عاصم في السجدة ربنا أرنا الذين و قرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن و الباقون بالكسر .

الحجة

الاختيار كسرة الراء لأنها كسرة الهمزة قد حولت إلى الراء لأن أصله أرانا فنقلت الكسرة إلى الراء و سقطت الهمزة و لأن في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافا بالكلمة و إبطالا للدلالة على الهمزة و من سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد و فخذ و نحو قول الشاعر :
لو عصر منه ألبان و المسك انعصر ) و قال الآخر :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
و اشتر و عجل خادما لبيقا و أما الاختلاس فلطلب الخفة و بقاء الدلالة على حذف الهمزة .

اللغة

الإسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع و الإقرار بجميع ما أوجب الله و هو و الإيمان واحد عندنا و عند المعتزلة و في الناس من قال بينهما فرق و يبطله قوله سبحانه إن الدين عند الله الإسلام و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و المناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج كل متعبد منسك و النسك في اللغة العبادة و رجل ناسك عابد و قد نسك نسكا و النسك الذبيحة يقال من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه و النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك و المنسك أيضا هو النسك نفسه قال سبحانه و لكل أمة جعلنا منسكا و قال ابن دريد النسك أصله الذبائح كانت تذبح في الجاهلية و النسيكة شاة كانوا يذبحونها في المحرم في الإسلام ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الأعشى :
مجمع البيان ج : 1 ص : 393

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه
و لا تعبد الشيطان و الله فاعبدا قال أبو علي الفسوي المناسك جمع منسك و هو المصدر جمع لاختلاف ضروبه .

الإعراب

اللام في لك تعلق بمسلمين « و من ذريتنا » من فيه تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتنا و الجار و المجرور مفعول اجعل و أمة مفعول ثان لأجعل و أرنا يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين و التقدير حذف المضاف كأنه قال أرنا مواضع مناسكنا أي عرفناها لنقضي نسكنا فيها و ذلك نحو مواقيت الإحرام و الموقف بعرفات و موضع الطواف فهذا من رأيت الموضع و أريته إياه ( و الآخر ) أن يكون منقولا من نحو قولهم فلان يرى رأي الخوارج فيكون معناه علمنا مناسكنا و مثله قول الشاعر :
أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا أراد دليني و لم يرد رؤية العين .

المعنى

ثم ذكر تمام دعائهما (عليهماالسلام) فقال سبحانه : « ربنا و اجعلنا مسلمين لك » أي قال ربنا و اجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا بأن توفقنا و تفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام و يجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده و يعرضه لذلك حتى صار أديبا فيجوز أن يقال جعل ولده أديبا و عكس ذلك إذا عرضه للبلاء و الفساد جاز أن يقال جعله ظالما فاسدا و قيل أن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك لا نعبد إلا إياك و لا ندعو ربا سواك و قيل قائمين بجميع شرائع الإسلام مطيعين لك لأن الإسلام هو الطاعة و الانقياد و الخضوع و ترك الامتناع و قوله « و من ذريتنا أمة مسلمة لك » أي و اجعل من ذريتنا أي من أولادنا و من للتبعيض و إنما خصا بعضهم لأنه تعالى أعلم إبراهيم (عليه السلام) أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين لما يرتكبه من الظلم و قال السدي أراد بذلك العرب و الصحيح الأول أمة مسلمة لك أي جماعة موحدة منقادة لك يعني أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بدلالة قوله و ابعث فيهم رسولا منهم و روي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة و قوله « و أرنا مناسكنا » أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها و نقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها قال قتادة فاراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و من جمع و رمي الجمار حتى أكمل بها الدين و قال
مجمع البيان ج : 1 ص : 394
عطاء و مجاهد معنى مناسكنا مذابحنا و الأول أقوى و قوله « و تب علينا » فيه وجوه ( أحدها ) أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح و التعبد و الانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها و هذا هو الصحيح ( و ثانيها ) أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما ( و ثالثها ) أن معناه ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة و ليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر و الصغائر و ليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك « إنك أنت التواب » أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب و قيل الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى « الرحيم » بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام و تكفير السيئات و الآثام و في هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب و الآثام و لا يفارقان الدين و الإسلام .
رَبَّنَا وَ ابْعَث فِيهِمْ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّك أَنت الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ(129)

اللغة

« العزيز القدير » الذي لا يغالب و قيل هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله و نقيض العز الذل و عز يعز عزة و عزا إذا صار عزيزا و عز يعز عزا إذا قهر و منه قولهم من عز بز أي من علب سلب و اعتز الشيء إذا صلب و هو من العزاز من الأرض و هو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة و عز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد و اعتز فلان بفلان إذا تشرف به و الحكيم معناه المدبر الذي يحكم الصنع و يحسن التدبير فعلى هذا يكون من صفات الفعل و يكون بمعنى العليم فيكون من صفات الذات .

الإعراب

ابعث جملة فعلية معطوفة على تب فيهم تتعلق بابعث و يجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره رسولا كائنا فيهم فيكون في موضع نصب على الحال و يتلو منصوب الموضع بكونه صفة قوله رسولا أي تاليا و عليهم تتعلق بيتلو .

المعنى

الضمير في قوله « فيهم » يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن
مجمع البيان ج : 1 ص : 395
يجعلهم من ذريته و المعني به بقوله « ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم » هو نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما روي عنه أنه قال أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى (عليه السلام) يعني قوله مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد و هو قول الحسن و قتادة و جماعة من العلماء و يدل على ذلك أنه دعا بذلك لذريته الذين يكونون بمكة و ما حولها على ما تضمنه الآية في قوله « ربنا و ابعث فيهم » أي في هذه الذرية « رسولا منهم » و لم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قوله « يتلو عليهم آياتك » أي يقرأ عليهم آياتك التي نوحي بها إليه « و يعلمهم الكتاب » أي القرآن و هذا لا يعد من التكرار لأنه خص الأول بالتلاوة ليعلموا بذلك أنه معجز دال على صدقه و نبوته و خص الثاني بالتعليم ليعرفوا ما يتضمنه من التوحيد و أدلته و ما يشتمل عليه من أحكام شريعته و قوله « و الحكمة » قيل هي هاهنا السنة عن قتادة و قيل المعرفة بالدين و الفقه في التأويل عن مالك بن أنس و قيل العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عن ابن زيد و قيل أنه صفة للكتاب كأنه وصفه بأنه كتاب و أنه حكمة و أنه آيات و قيل الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره الله به كما ينور البصر فيدرك المبصر و قيل هي مواعظ القرآن و حرامه و حلاله عن مقاتل و كل حسن و قوله « و يزكيهم » أي يجعلهم مطيعين مخلصين و الزكاء هو الطاعة و الإخلاص لله سبحانه عن ابن عباس و قيل معناه يطهرهم من الشرك و يخلصهم منه عن ابن جريج و قيل معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به من الإيمان و الصلاح عن الجبائي و قيل يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت عن الأصم و قوله « إنك أنت العزيز الحكيم » أي القوي في كمال قدرتك المنيع في جلال عظمتك المحكم لبدائع صنعتك و إنما ذكر هاتين الصفتين لاتصالهما بالدعاء فكأنه قال فزعنا إليك في دعائنا لأنك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا و بما هو أصلح لنا مما لا يبلغه كنه علمنا و قصار بصائرنا و في هذه الآية دلالة على أن إبراهيم و إسماعيل (عليهماالسلام) دعوا لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بجميع شرائط النبوة لأن تحت التلاوة الأداء و تحت التعليم البيان و تحت الحكمة السنة و دعوا لأمته باللطف الذي لأجله تمسكوا بكتابه و شرعه فصاروا أزكياء و هذا لأن الدعاء صدر من إسماعيل (عليه السلام) فعلم بذلك أن النبي المدعو به من ولده لا من ولد إسحاق و لم يكن في ولد إسماعيل نبي غير نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) سيد الأنبياء .
وَ مَن يَرْغَب عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلا مَن سفِهَ نَفْسهُ وَ لَقَدِ اصطفَيْنَهُ فى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فى الاَخِرَةِ لَمِنَ الصلِحِينَ(130)
مجمع البيان ج : 1 ص : 396

اللغة

الرغبة المحبة لما فيه للنفس منفعة و رغبت فيه ضد رغبت عنه و الرغبة و المحبة و الإرادة نظائر و نقيض الرغبة الرهبة و نقيض المحبة البغضة و نقيض الإرادة الكراهة و تقول رغبت فيه رغبة و رغبا و رغبا و رغبي إذا ملت إليه و رغبت عنه إذا صددت عنه و رجل رغيب نهم شديد الأكل و فرس رغيب الشحوة أي كثير الأخذ بقوائمه من الأرض و موضع رغيب واسع و الرغيبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله و الاصطفاء و الاجتباء و الاختيار نظائر و الصفاء و النقاء و الخلوص نظائر و الصفو نقيض الكدر و صفوة كل شيء خالصة و صفي الإنسان أخوه الذي يصافيه المودة و ناقة صفي كثيرة اللبن و نخلة صفية كثيرة الحمل و الجمع الصفايا و اصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة و إنما قلبت التاء طاء لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء و الإطباق و هي من مخرج التاء فأتي بحرف وسط بين الحرفين .

الإعراب

« من يرغب » لفظة من للاستفهام و معناه الجحد فكأنه قال ما يرغب عن ملة إبراهيم و لا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي الذي سفه نفسه فمن الأولى على الاستفهام و الثانية بمعنى الذي و إلا حرف الاستثناء و يجوز أن يكون لنقض النفي و من اسم موصول و سفه نفسه صلته و الموصول و الصلة في محل النصب على الاستثناء أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب و في انتصاب نفسه خلاف قال الأخفش معناه سفه نفسه و قال يونس أراها لغة قال الزجاج أراد أن فعل لغة في المبالغة كما أن فعل كذلك و يجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا و قال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه و أوبق نفسه فهذا كله وجه واحد و الوجه الثاني أن يكون على التفسير كقوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا و هو قول الفراء قال أن العرب توقع سفه على نفسه و هي معرفة و كذلك بطرت معيشتها و أنكر الزجاج هذا الوجه قال إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفته صار مقصودا قصده و هذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين و الوجه الثالث أن يكون على التمييز و الإضافة على تقدير الانفصال كما تقول مررت برجل مثله أي مثل له و الوجه الرابع أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه كقوله سبحانه و لا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم فحذف حرف الجر من غير ظرف و مثله و لا تعزموا عقدة النكاح أي على عقدة النكاح و مثله قول الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيا
 

<<        الفهرس        >>