جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج1 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 1 ص : 257
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الغنى غنى النفس و قال ابن زيد أبدل الله اليهود بالعز ذلا و بالنعمة بؤسا و بالرضا عنهم غضبا جزاء لهم بما كفروا ب آياته و قتلوا أنبياءه و رسله اعتداء و ظلما « و باءو بغضب من الله » أي رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد وجب عليهم من الله الغضب و حل بهم منه السخط و قال قوم الغضب هو ما حل بهم في الدنيا من البلاء و النقمة بدلا من الرخاء و النعمة و قال آخرون هو ما ينالهم في الآخرة من العقاب على معاصيهم ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال « ذلك » أي ذلك الغضب و ضرب الذلة و المسكنة حل بهم لأجل « أنهم كانوا يكفرون ب آيات الله » أي يجحدون حجج الله و بيناته و قيل أراد ب آيات الله الإنجيل و القرآن و لذلك قال فباءوا بغضب على غضب الأول لكفرهم بعيسى و الإنجيل و الثاني لكفرهم بمحمد و القرآن و قيل آيات الله صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قوله « و يقتلون النبيين بغير الحق » أي بغير جرم كزكريا و يحيى و غيرهما و قوله « بغير الحق » لا يدل على أنه قد يصح أن يقتل النبيون بحق لأن هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم و أنه لا يكون إلا ظلما بغير حق كقوله تعالى « و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به » و معناه أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان و كقول الشاعر :
على لاحب لا يهتدى بمنارة ) و معناه ليس هناك منار يهتدى به و في أمثاله كثرة و قوله « ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون » ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء و عدوهم السبت و قيل بنقضهم العهد و اعتدائهم في قتل الأنبياء و المراد إني فعلت بهم ما فعلت من ذلك بعصيانهم أمري و تجاوزهم حدي إلى ما نهيتهم عنه .

سؤال

إن قيل كيف يجوز التخلية بين الكفار و قتل الأنبياء ] فالجواب [ إنما جاز ذلك لتنال أنبياء الله سبحانه من رفع المنازل و الدرجات ما لا ينالونه بغير القتل و ليس ذلك بخذلان لهم كما أن التخلية بين المؤمنين و الأولياء و المطيعين و بين قاتليهم ليست بخذلان لهم و قال الحسن أن الله تعالى لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه و إنما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال و الصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله لأنه لو مكن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف و فيما لهم من الألطاف و المصالح فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه و بين قاتليه و لم يجب عليه المنع من قتله و روى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا و اختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة .

مجمع البيان ج : 1 ص : 258
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ النَّصرَى وَ الصبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ عَمِلَ صلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ(62)

القراءة

قرأ نافع بترك الهمزة من الصابئين و الصابئون في كل القرآن و الباقون يهمزون .

الحجة

ترك الهمزة يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء و الآخر قلب الهمزة قال أبو علي و لا يسهل أن يأخذه من صبا يصبو لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تدين به مع صبوة إليه فإذا بعد هذا و كان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه لم يستقم أن يكون إلا من صبات الذي معناه انتقال من دينهم إلى دين لم يشرع لهم فيكون على قلب الهمز و قلب الهمز على هذا الحد لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر فدل على أن القائل لذلك غير فصيح و أنه مخلط في لغته فالاختيار الهمز و لأنه قراءة الأكثر و إلى التفسير أقرب .

اللغة

هادوا أي صاروا يهودا و دانوا باليهودية و هاد يهود هودا أي تاب و اختلف في اشتقاق اسم اليهود فقيل هو من الهود أي التوبة و منه قوله « إنا هدنا إليك » عن ابن جريج و سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل و قال زهير :
سوى مربع لم يأت فيه مخافة
و لا رهقا من عابد متهود أي تائب و قيل إنما سموا يهودا لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب فعربت الذال دالا و قيل إنما سموا يهودا لأنهم هادوا أي مالوا عن الإسلام و عن دين موسى و قيل سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة و يقولون أن السماوات و الأرض تحركت حين آتى الله موسى (عليه السلام) التوراة و اليهود اسم جمع واحدهم يهودي كالزنجي و الزنج و الرومي و الروم و النصارى جمع نصران كقولهم سكران و سكارى و ندمان و ندامى
مجمع البيان ج : 1 ص : 259
هذا قول سيبويه قال الشاعر :
تراه إذا كان العشي محنفا
يضحى لديه و هو نصران شامس و هو الممتلىء نصرا كما أن الغضبان هو الممتلىء غضبا و قيل في مؤنثه نصرانة كما قال :
كما سجدت نصرانة لم تحنف ) .
و قيل أن واحد النصارى نصرى مثل مهري و مهارى و اختلفوا في اشتقاق هذا الاسم فقال ابن عباس هو من ناصرة قرية كان يسكنها عيسى (عليه السلام) فنسبوا إليها و قيل سموا بذلك لتناصرهم أي نصرة بعضهم بعضا و قيل إنما سموا بذلك لقوله « من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله » و الصابئون جمع صابىء و هو من انتقل إلى دين آخر و كل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره سمي في اللغة صابئا قال أبو علي قال أبو زيد صبا الرجل في دينه يصبا صبوبا إذا كان صابئا و صبا ناب الصبي يصبا صبا إذا طلع و صبات عليهم تصبأ صبا و صبوءا إذا طلعت عليهم و طرأت مثله فكان معنى الصابيء التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره كما أن الصابيء على القوم تارك لأرضه و منتقل إلى سواها و الدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها قال قتادة و هم قوم معروفون و لهم مذهب يتفردون به و من دينهم عبادة النجوم و هم يقرون بالصانع و بالمعاد و ببعض الأنبياء و قال مجاهد و الحسن الصابئون بين اليهود و المجوس لا دين لهم و قال السدي هم طائفة من أهل الكتاب يقرءون الزبور و قال الخليل هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار يزعمون أنهم على دين نوح و قال ابن زيد هم أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة جزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله و لم يؤمنوا برسول الله فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم و قال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب و الفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم و عندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا بأهل كتاب .

الإعراب

خبر إن جملة قوله « من آمن بالله و اليوم الآخر » الآية لأن معناه من آمن منهم بالله و اليوم الآخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه و قوله « فلهم أجرهم عند ربهم » إلى آخر الآية في موضع الجزاء و إنما رفع و لا خوف لتكرير لا كقول الشاعر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 260

و ما صرمتك حتى قلت معلنة
لا ناقة لي في هذا و لا جمل و هذا كأنه جواب لمن قال أ ناقة لك في هذا أم جمل فأما النكرة المفردة ففيه الفتح لا غير نحو لا رجل في الدار و هو جواب هل من رجل في الدار ، و إنما قال « من آمن » فوحد ثم قال « فلهم أجرهم » فجمع لأن من موحد اللفظ مجموع المعنى على ما تقدم بيانه .

المعنى

« إن الذين آمنوا » اختلف في هؤلاء المؤمنين من هم فقال قوم هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا و لم ينتصروا و لم يصباوا و انتظروا خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل هم طلاب الدين منهم حبيب النجار و قس بن ساعدة و زيد بن عمرو بن نفيل و ورقة بن نوفل و البراء الشني و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و بحير الراهب و وفد النجاشي آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل مبعثه فمنهم من أدركه و تابعه و منهم من لم يدركه و قيل هم مؤمنوا الأمم الماضية و قيل هم المؤمنون من هذه الأمة و قال السدي هو سلمان الفارسي و أصحابه النصارى الذين كان قد تنصر على أيديهم قبل مبعث رسول الله و كانوا قد أخبروه بأنه سيبعث و أنهم يؤمنون به أن أدركوه و اختلفوا في قوله « من آمن بالله و اليوم الآخر » فقال قوم هو خبر عن الذين هادوا و النصارى و الصابئين و الضمير يرجع إليهم لأن الذين آمنوا قد كانوا مؤمنين فلا معنى أن يشرط فيهم استئناف الإيمان فكأنه قال أن الذين آمنوا و من آمن من اليهود و النصارى و الصابئين بالله و اليوم الآخر فلهم أجرهم و قال آخرون من آمن منهم الضمير راجع إلى الكل و يكون رجوعه إلى الذين آمنوا بمعنى الثبات منهم إيمانهم و الاستقامة و ترك التبديل و إلى الذين هادوا و النصارى و الصابئين بمعنى استئناف الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما جاء به و قال بعضهم أراد من آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد الإيمان بالله و بالكتب المتقدمة لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر و نظيره قوله « و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد » و روي عن ابن عباس أنه قال أنها منسوخة بقوله « و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه » و هذا بعيد لأن النسخ لا يجوز أن يدخل الخبر الذي هو متضمن للوعد و إنما يجوز دخوله في الأحكام الشرعية التي يجوز تغيرها و تبدلها بتغير المصلحة فالأولى أن يحمل على أنه لم يصح هذا القول عن ابن عباس و قال قوم أن حكمها ثابت و المراد بها أن الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم من المنافقين و اليهود و النصارى و الصابئين إذا آمنوا بعد النفاق و أسلموا بعد العناد كان لهم أجرهم عند ربهم كمن آمن في أول استدعائه إلى الإيمان من غير نفاق و لا عناد لأن قوما من المسلمين قالوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 261
أن من أسلم بعد نفاقه و عناده كان ثوابه أنقص و أجره أقل فأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر و الثواب و قوله « بالله » أي بتوحيد الله و صفاته و عدله « و اليوم الآخر » يعني يوم القيامة و البعث و النشور و الجنة و النار « و عمل صالحا » أي عمل ما أمره الله به من الطاعات و إنما لم يذكر ترك المعاصي لأن تركها من الأعمال الصالحة « فلهم أجرهم » أي جزاؤهم و ثوابهم « عند ربهم » أي معد لهم عنده و قوله « و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون » مضى تفسيره قبل و قيل معناه لا خوف عليهم فيما قدموا و لا هم يحزنون على ما خلفوا و قيل لا خوف عليهم في العقبي و لا يحزنون على الدنيا و في هذه الآية دلالة على أن الإيمان هو التصديق و الاعتقاد بالقلب لأنه تعالى قال : « من آمن بالله » ثم عطف عليه بقوله « و عمل صالحا » و من حمل ذلك على التأكيد أو الفضل فقد ترك الظاهر و كل شيء يذكرونه مما عطف على الأول بعد دخوله فيه مثل قوله « فيهما فاكهة و نخل و رمان » و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح فإن جميع ذلك على سبيل المجاز و الاتساع و لو خلينا و الظاهر لقلنا أنه ليس بداخل في الأول .
وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَكُم بِقُوَّة وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63)

اللغة

الميثاق هو مفعال من الوثيقة أما بيمين و أما بعهد أو غير ذلك من الوثائق و الطور الجبل في اللغة قال العجاج :
داني جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذ البازي كسر و قيل أنه اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى (عليه السلام) عن ابن عباس و القوة القدرة و هي عرض يصير به الحي قادرا و كل جسم قادر بقدرة لا يصح منه فعل الجسم و الأخذ ضد الإعطاء و أصل خذ أؤخذ و كذا كل أصله أؤكل و إنما لزم الحذف فيها تخفيفا لكثرة الاستعمال و كذلك مر و قد جاء فيه أومر على الأصل .

الإعراب

« خذوا ما آتيناكم » محله نصب على تقدير و قلنا لكم خذوا كما تقول أوجبت عليه قم أي أوجبت عليه فقلت قم قال الفراء أخذ الميثاق قول و لا حاجة بالكلام
مجمع البيان ج : 1 ص : 262
إلى إضمار القول فيه غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول أن يكون معه أن كقوله « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك » قال و يجوز حذف أن و موضع ما هاهنا نصب .

المعنى

ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل فقال « و » اذكروا « إذ أخذنا ميثاقكم » أي عهدكم و العهد هو الذي فطر الله الخلق عليه من التوحيد و العدل و نصب لهم من الحجج الواضحة و البراهين الساطعة الدالة على ذلك و على صدق الأنبياء و الرسل و قيل أنه أراد به الميثاق الذي أخذه الله على الرسل في قوله و إذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه الآية و قيل هو أخذ التوراة عن موسى « و رفعنا فوقكم الطور » قال أبو زيد هذا حين رجع موسى من الطور فأتى بالألواح فقال لقومه جئتكم بالألواح و فيها التوراة و الحلال و الحرام فاعملوا بها قالوا و من يقبل قولك فأرسل الله عز و جل الملائكة حتى نتقوا الجبل فوق رءوسهم فقال موسى (عليه السلام) إن قبلتم ما آتيتكم به و إلا أرسلوا الجبل عليكم فأخذوا التوراة و سجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم قيل و هذا هو معنى أخذ الميثاق و كان في حال رفع الجبل فوقهم لأن في هذه الحال قيل لهم « خذوا ما آتيناكم » يعني التوراة « بقوة » أي بجد و يقين لا شك فيه و هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و قريب منه ما روى العياشي أنه سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل « خذوا ما آتيناكم بقوة » أ بقوة بالأبدان أم بقوة بالقلوب فقال بهما جميعا و قيل أخذه بقوة هو العمل بما فيه بعزيمة و جد و قيل بقدرة و أنتم قادرون على أخذه عن أبي علي و الأصم « و اذكروا ما فيه » يعود الضمير من فيه إلى ما من قوله « ما آتيناكم » و هو التوراة يعني احفظوا ما في التوراة من الحلال و الحرام و لا تنسوه و قيل معناه اذكروا ما في تركه من العقوبة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل معناه اعملوا بما فيه و لا تتركوه و قيل المعنى في ذلك أن ما آتيناكم فيه من وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب تدبروه و اعتبروا به و أقبلوه « لعلكم تتقون » أي كي تتقوني إذا فعلتم ذلك و تخافوا عقابي و تنتهوا إلى طاعتي و تنزعوا عما أنتم عليه من المعصية .

مجمع البيان ج : 1 ص : 263
ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِك فَلَوْ لا فَضلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الخَْسِرِينَ(64)

اللغة

توليتم أعرضتم و هو مطاوع قولهم ولاه فلان دبره إذا استدبر عنه و جعله خلف ظهره ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة آمر و معرض بوجهه عنه فيقال تولى فلان عن طاعة فلان و تولى عن صداقته و منه قوله « فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا » أي خالفوا ما وعدوا الله من قولهم لنصدقن و لنكونن من الصالحين و الخاسر هو الذي ذهب رأس ماله و رأس مال الإنسان نفسه و ما سواها مما يحصل له من المنافع فهو كله ربح .

المعنى

معنى الآية ثم نبذتم العهد الذي أخذناه عليكم بعد إعطائكم المواثيق وراء ظهوركم و أعرضتم عنه « فلو لا فضل الله عليكم » أي فلو لا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه إذ رفع فوقكم الطور و أنعم عليكم بالإسلام « و رحمته » التي رحمكم بها فتجاوز منكم خطيئتكم بمراجعتكم طاعة ربكم « لكنتم من الخاسرين » و قال أبو العالية فضل الله الإيمان و رحمته القرآن فيكون معناه لو لا إقداري لكم على الإيمان و إزاحة علتكم فيه حتى فعلتم الإيمان لكنتم من الخاسرين و إنما جعل الإيمان فضلا و توبته التي بها نجوا و لم يكونوا بها خاسرين فضلا منه من حيث كان هو الداعي إليه و المقدر عليه و المرغب فيه و يحتمل أن يكون المعنى فلو لا فضل الله عليكم بإمهاله إياكم بعد توليكم عن طاعته حتى تاب عليكم برجوع بعضكم عن ذلك و توبته لكنتم من الخاسرين و يحتمل أن يريد فلو لا فضلي عليكم في رفع الجبل فوقكم للتوفيق و اللطف الذي تبتم عنده حتى زال العذاب عنكم و سقوط الجبل لكنتم من الخاسرين .
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فى السبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَسِئِينَ(65)

اللغة

علمتم أي عرفتم هنا تقول علمت أخاك و لم أكن أعلمه أي عرفته و لم أكن أعرفه كقوله تعالى : « و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم » أي لا تعرفونهم الله يعرفهم و « الذين اعتدوا » في موضع نصب لأنه مفعول به و الفرق بينه و بين ما يتعدى إلى مفعولين إن المعرفة تنصرف إلى ذات المسمى و العلم ينصرف إلى أحواله فإذا قلت علمت زيدا فالمراد عرفت شخصه و إذا قلت علمت زيدا كريما أو لئيما فالعلم يتعلق بأحواله من
مجمع البيان ج : 1 ص : 264
فضل و نقص و اعتدوا أي ظلموا و جاوزوا ما حد لهم و السبت من أيام الأسبوع قال الزجاج السبت قطعة من الدهر فسمي بذلك اليوم و قال أبو عبيدة سمي بذلك لأنه يوم سبت فيه خلق كل شيء أي قطع و فرغ قوله منكم في موضع نصب حالا من الذين اعتدوا أي المعتدين كائنين منكم قوله « في السبت » متعلق باعتدوا و أصل السبت مصدر يقال يسبت سبتا إذا قطع ثم سمي اليوم سبتا و قد يقال يوم السبت فيخرج مصدرا على أصله و قد قالوا اليوم السبت فجعلوا اليوم خبرا عن السبت كما يقال اليوم القتال فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف تقديره في يوم السبت و قال قوم إنما سمي بذلك لأن اليهود يسبتون فيه أي يقطعون فيه الأعمال و قال آخرون سمي بذلك لما لهم فيه من الراحة لأن أصل السبت هو السكون و الراحة و منه قوله « و جعلنا نومكم سباتا » و يقال للنائم مسبوت لاستراحته و سكون جسده و القردة جمع قرد و الأنثى قردة و الخاسىء المبعد المطرود يقال خسأت الكلب أخسأه خسأ و خسىء الكلب يخسأ خسأ تقول خسأته و خسىء و انخسأ قال الراجز
كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ أي إن طردته انطرد .

المعنى

خاطب اليهود فقال « و لقد علمتم » أي عرفتم « الذين اعتدوا منكم في السبت » أي الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت و كان الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها فحبسوها في السبت و أخذوها في الأحد فاعتدوا في السبت أي ظلموا و تجاوزوا ما حد لهم لأن صيدها هو حبسها و روي عن الحسن أنهم اصطادوا يوم السبت مستحلين بعد ما نهوا عنه « فقلنا لهم كونوا قردة » و هذا إخبار عن سرعة فعله و مسخه إياهم لا أن هناك أمرا و معناه و جعلناهم قردة كقوله تعالى : « فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين » و لم يكن هناك قول و إنما أخبر عن تسهل الفعل عليه و تكوينه بلا مشقة قال ابن عباس فمسخهم الله تعالى عقوبة لهم و كانوا يتعاوون و بقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا و لم يشربوا و لم يتناسلوا ثم أهلكهم الله تعالى و جاءت ريح فهبت بهم و ألقتهم في الماء و ما مسخ الله أمة إلا أهلكها و هذه القردة و الخنازير ليست من نسل أولئك و لكن مسخ أولئك على صورة هؤلاء يدل عليه إجماع المسلمين على أنه ليس في القردة و الخنازير من هو من أولاد آدم و لو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم و قال مجاهد لم يمسخوا قردة و إنما هو مثل ضربه الله كما قال كمثل الحمار يحمل أسفارا و حكي عنه أيضا أنه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا و لا تتقي زجرا و هذان القولان يخالفان الظاهر الذي أكثر المفسرين عليه من غير ضرورة تدعو إليه و قوله « خاسئين » أي مبعدين عن الخير و قيل أذلاء صاغرين مطرودين عن مجاهد و في هذه
مجمع البيان ج : 1 ص : 265
الآيات احتجاجات من الله تعالى على اليهود بنعمه المترادفة على آبائهم و إخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عناد أسلافهم مرة بعد أخرى و كفرانهم و عصيانهم ثانية بعد أولى مع ظهور الآيات اللائحة و المعجزات الواضحة تعزية له (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تثبيتا لفؤاده و تسليته إياه عما يقاسيه من مخالفة اليهود و كيدهم و براءة من جحودهم و كفرهم و عنادهم و ليكون وقوفه على ما وقف عليه من أخبار سلفهم تنبيها لهم و حجة عليهم في إخلادهم إلى الهوى و إلحادهم و تحذيرا لهم من أن يحل بهم ما حل ب آبائهم و أجدادهم .
فجَعَلْنَهَا نَكَلاً لِّمَا بَينَ يَدَيهَا وَ مَا خَلْفَهَا وَ مَوْعِظةً لِّلْمُتَّقِينَ(66)

اللغة

النكال الإرهاب للغير و أصله المنع لأنه مأخوذ من النكل و هو القيد و هو أيضا اللجام و سميت العقوبة نكالا لأنها تمنع عن ارتكاب مثله ما ارتكبه من نزلت به و نكل فلان بفلان تنكيلا و نكالا و الموعظة الوعظ و أصله التخويف يقال وعظت فلانا موعظة و عظة .

المعنى

« فجعلناها » الضمير يعود إلى الأمة التي مسخت و هم أهل إيلة قرية على شاطىء البحر و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو إلى المسخة عن الزجاج أو إلى العقوبة أي جعلنا تلك العقوبة عن ابن عباس أو إلى القرية التي اعتدى أهلها فيها « نكالا » أي عقوبة و قيل اشتهار أو فضيحة و قيل تذكرة و عبرة و قوله « لما بين يديها و ما خلفها » ذكر فيه وجوه ( أحدها ) ما روي عن ابن عباس رواه الضحاك عنه « لما بين يديها » للأمم التي تراها و « ما خلفها » ما يكون بعدها و هو يقارب المأثور المروي عن الباقر و الصادق (عليهماالسلام) أنهما قالا « لما بين يديها » أي لما معها ينظر إليها من القرى و « ما خلفها » نحن و لنا فيها موعظة فعلى هذا يكون ما بمعنى من أي نكالا للخلق الذين كانوا معهم و لجميع من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة لئلا يفعلوا مثل فعلهم ( و ثانيها ) أن يكون معناه جعلناها عقوبة للذنوب التي تقدمت على الاصطياد و الذنوب التي تأخرت عنه و هذا يقتضي أن يكون الله تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة عقيب الاصطياد عن ابن عباس أيضا فيكون اللام بمعنى السبب أي بسبب ذلك ( و ثالثها ) أن يكون المراد لما بين يديها من القرى و ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 266
خلفها من القرى عن عكرمة ] عن ابن عباس [ ( و رابعها ) أن يكون المراد « لما بين يديها » ما مضى من خطاياهم و ب « ما خلفها » خطاياهم التي أهلكوا بها « و موعظة للمتقين » معناه أنه إنما يتعظ بها المتقون فكأنها موعظة لهم دون غيرهم و هذا كقوله سبحانه « هدى للمتقين » و في هذه الآية دلالة على أن من فعل مثل أفعال هؤلاء ممن تقدمهم أو تأخر عنهم يستحق من العقاب مثل ما حل بهم من التشويه و تغيير الخلقة إذ كان نكالا لهم جميعا و تحذيرا و تنبيها للمتقين لكي لا يواقعوا من المعاصي ما واقع أولئك فيستحقوا ما استحقوه نعوذ بالله من سخطه .
وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَْهِلِينَ(67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَين لَّنَا مَا هِىَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوَانُ بَينَ ذَلِك فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَين لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنهَا بَقَرَةٌ صفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسرُّ النَّظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَين لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشبَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِن شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْض وَ لا تَسقِى الحَْرْث مُسلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْئََنَ جِئْت بِالْحَقِّ فَذَبحُوهَا وَ مَا كادُوا يَفْعَلُونَ(71)

القراءة

قرأ حمزة و إسماعيل عن نافع و عباس عن أبي عمرو هزءا و كفوءا
مجمع البيان ج : 1 ص : 267
بالتخفيف و الهمز في كل القرآن و قرأ حفص عن عاصم بضم الزاي و الفاء غير مهموز و قرأ يعقوب « هزوا » بضم الزاي كفوا بسكون الفاء و الباقون بالتثقيل و الهمز .

الحجة

قال أبو الحسن زعم عيسى أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله و منهم من يخففه نحو العسر و اليسر و الحلم و مما يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع مثل كتب و رسل قد استمر فيه الوجهان حتى جاء ذلك في المعتل العين الواوي نحو سوك الأسحل قال :
و في الأكف اللامعات سور و حكى أبو زيد قول قوم و أما فعل في جمع أفعل نحو أحمر و حمر فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين و قد جاء فيه التحريك في الشعر فإذا كان الأمر على هذا وجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو الكفء و الهزء فإذا خفف الهمزة و ثقل العين لزم أن تقلب الهمزة واوا فيقول هزوا و لم يكن له كفوا أحد و إن خفف فأسكن العين قال هزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها و إن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى كما قالوا لقضو الرجل فأبقوا الواو و لم يردوا اللام التي هي ياء من قضيت لأن الضمة مرادة في المعنى و كذلك قالوا رضي زيد فيمن قال علم زيد فلم يردوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة لأنها مقدرة مرادة و إن كانت محذوفة من اللفظ و كذلك تقول هزوا و كفوا فتثبت الواو و إن كنت حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها و إذا كان الأمر على هذا فقراءة من قرأ بالضم و تحقيق الهمز في الجواز و الحسن كقراءة من قرأ بالإسكان و قلب الهمزة واوا لأنه تخفيف قياسي و قد روى أبو زيد عن أبي عمرو أنه خير بين التخفيف و التثقيل .

اللغة

البقرة اسم للمؤنث من هذا الجنس و اسم الذكر منه الثور و هذا يخالف صيغة المذكر منه صيغة الأنثى كالحمل و الناقة و الرجل و المرأة و الجدي و العناق و أصل البقر الشق يقال بقرت بطنه أي شققته و سمي البقر بقرا لأن من شأنه شق الأرض بالكراب و الهزء اللعب و السخرية يقال هزأت به هزءا و مهزأة و أعوذ بالله ألجأ إلى الله عوذا و عياذا و حقيقة العياذ استدفاع ما يخاف من شره بما يطمع ذلك منه و الجهل نقيض العلم و قيل هو نقيض الحلم و الصحيح أنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به كما أن العلم اعتقاد الشيء على ما هو و التبيين التعريف و أصله من البين و هو الفراق فكل من بين شيئا فقد ميزه
مجمع البيان ج : 1 ص : 268
عما يلتبس به حتى يعرفه غيره قال سيبويه أبان الشيء و أبنته و بين و بينته و استبان و استبنته و المعنى واحد و الفارض الكبيرة المسنة يقال فرضت البقرة تفرض فروضا إذا أسنت قال الشاعر :
لعمري قد أعطيت جارك فارضا
تساق إليه ما تقوم على رجل و قيل إن الفارض التي ولدت بطونا كثيرة فيتسع لذلك جوفها لأن معنى الفارض في اللغة الواسع الضخم و هو قول بعض المتأخرين و استشهد بقول الراجز :
يا رب ذي ضغن علي فارض
له قروء كقروء الحائض و يقال لحيته فارضة أي عظيمة و البكر الصغيرة التي لم تحمل و البكر من بني آدم و من البهائم ما لم يفتحله الفحل و البكر من كل شيء أوله و البكر التي ولدت واحدا و بكرها أول أولادها قال :
يا بكر بكرين و يا خلب الكبد
أصبحت مني كذراع من عضد و ضربة بكر أي قاطعة لا تنثني و حدث ابن عائشة عن أبيه عن جده قال كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكارا كان إذا اعتلى قد و إذا اعترض قط ذكره ابن فارس في مجمل اللغة و البكر بفتح الباء الفتي من الإبل و العوان دون المسنة و فوق الصغيرة و هي النصف التي ولدت بطنا أو بطنين قال الفراء يقال من العوان عونت المرأة تعوينا إذا بلغت ثلاثين سنة و منه قيل للحرب عوان إذا لم يكن أول حرب بين القوم و كانوا قد قاتلوا قبله و بين اسم يستعمل على ضربين مصدر و ظرف قال أبو علي و هما عندي و جميع بابهما يرجعان إلى أصل واحد و هو الافتراق و الانكشاف و سيأتيك بيانه في الأعراب إن شاء الله و اللون عرض يتعاقب على الجوهر تعاقب المتضاد و هو عبارة عما إذا وجد حصلت به الجواهر على هيئة مخصوصة لولاه لما حصلت على تلك الهيأة و لا يدخل تحت مقدور العباد فاقع لونها أي شديدة الصفرة يقال أصفر فاقع و أحمر ناصع و أخضر ناضر و أحمر قانىء و أبيض يقق و لهق و لهاق و أسود حالك و حلوك و حلكوك و غربيب و دجوجي فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان و قيل إنه أراد بصفراء هاهنا سوداء شديدة السواد كما يقال صفراء أي سوداء و قال الشاعر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 269

تلك خيلي منه و تلك ركابي
هن صفر أولادها كالزبيب و الأول أصح فإن الإبل إن وصفت به فلا يوصف البقر به و أيضا فإن السواد لا يوصف بالفقوع و إنما يوصف بالحلوكة و غيرها على ما ذكرناه و البقر جمع بقرة و كذلك الباقر جمع كالجامل جمع جمل قال الأعشى :
و ما ذنبه إن عافت الماء باقر
و ما إن تعاف الماء إلا ليضربا و قال آخر :
لهم جامل لا يهدأ الليل سامره ) أي جمال و نحو هذا عندهم اسم مفرد مصوغ للكثرة كاسم الجنس و مثله العبيد و الكليب و الضئين في جمع عبد و كلب و ضان و قوله لا ذلول يقال للدابة قد ذللها الركوب و العمل دابة ذلول بين الذل بكسر الذال و يقال في مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل بضم الذال و الذلة بكسرها و المذلة و الإثارة إظهار الشيء بالكشف و أثار الأرض أي كربها و قلبها و الحرث كل أرض ذللته للزرع قال الخليل الحرث قذف البذر في الأرض للازدراع و الزرع الإنبات و الإنماء قال عز اسمه « أ فرأيتم ما تحرثون أ أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » مسلمة مبرأة من العيوب مفعلة من السلامة الشية اللون في المشي يخالف عامة لونه و الوشي خلط اللون باللون و « لا شية فيها » أي لا وضح فيها يخالف لون جلدها يقال وشيت الثوب أشيه شية و وشيا و منه قيل لمن يسعى بالرجل إلى السلطان واش لكذبه عليه عنده و تحسينه كذبه بالأباطيل و يقال منه وشيت به وشاية قال كعب بن زهير :
تسعى الوشاة بجنبيها و قولهم
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول يعني أنهم يتقولون بالأباطيل و يقولون إنه إن لحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قتله و الذبح فري الأوداج و ذلك في البقر و الغنم و النحر في الإبل و لا يجوز فيها عندنا غير ذلك و فيه خلاف بين الفقهاء و قيل للصادق (عليه السلام) إن أهل مكة يذبحون البقرة في اللبة فما ترى في أكل لحومها فسكت هنيهة ثم قال قال الله تعالى « فذبحوها و ما كادوا يفعلون » لا تأكل إلا ما ذبح من مذبحه .

الإعراب

حذفت الفاء من قوله « قالوا أ تتخذنا هزوا » لاستغناء ما قبله من الكلام عنه و حسن الوقف على قوله « أن تذبحوا بقرة » كما حسن إسقاطها من قوله قال « فما خطبكم
مجمع البيان ج : 1 ص : 270
أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا » و لم يقل فقالوا و لو قيل بالفاء لكان حسنا و لو قلت قمت ففعلت لم يجز إسقاط الفاء لأنها عطف لا استفهام يحسن السكوت عليه و قوله « هزوا » لا يخلو من أحد أمرين ( أحدهما ) أن يكون المضاف محذوفا لأن الهزء حدث و المفعول الثاني من تتخذ يكون الأول نحو قوله « لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء » ( و الثاني ) أن يكون الهزء بمعنى المهزوء به مثل الصيد في قوله تعالى « أحل لكم صيد البحر » و نحوه و كما يقال رجل رضي أي مرضي أقام المصدر مقام المفعول و أما قوله تعالى « لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا » فلا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف لأن الدين ليس بعين و قوله « أعوذ بالله » أصله أعوذ فنقلت الضمة من الواو إلى الساكن قبلها من غير استثقال لذلك غير أنه لما أعلت عين الماضي لتحركها و انفتاح ما قبلها أعلت عين المضارع أيضا ليجري الباب على سنن واحد و كذلك القول في أعاذ يعيذ و استعاذ يستعيذ و الأصل أعوذ يعوذ و استعوذ يستعوذ و قوله « لا فارض و لا بكر » قال الأخفش ارتفع و لم ينتصب كما ينتصب المنفي لأنه صفة لبقرة و قوله « عوان » مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف كأنه قال هي عوان و قال الزجاج ارتفع فارض بإضمار هي أي هي لا فارض و لا بكر قال و إنما جاز « بين ذلك » و بين لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن الحمل تقول ظننت زيدا قائما فيقول القائل قد ظننت ذاك و ظننت ذلك قال أبو علي لا يخلو ذلك فيما ذكره من قولهم ظننت ذلك من أن يكون إشارة إلى المصدر كما ذهب إليه سيبويه أو يكون إشارة إلى أحد مفعولي ظننت و أن تكون نائبة عن الجملة كما قاله أبو إسحاق و لا يجوز أن يكون إشارة إلى أحد المفعولين لأنه لو كان كذلك للزم أن يذكر الآخر كما لو أنك ذكرت اسم المشار إليه للزم فيه ذلك و كما أنك إذا ذكرت المبتدأ لزمك ذكر الخبر أو يعلم من الحال ما يقوم مقام ذكرك له و لا يجوز أن تكون نائبة عن الجملة هنا و لا إشارة إليها كما لم ينب عن الجملة في غير هذا الموضع من المواضع التي تقع فيها الجملة نحو صلة الذي و وصف النكرات فثبت أن ذاك في قولهم ظننت ذاك إشارة إلى المصدر الذي هو الظن و لا يجوز أن يقع اسم مفرد موقع جملة و لو كان سائغا أن ينوب ذلك عن الحمل لما جاز وقوعه هنا لأن هذا الموضع ليس من مواضع الجمل أ لا ترى أن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما دل عليه قوله « لا فارض و لا بكر » و هو البكارة و الفروض فإنما يدل قوله ذلك عليهما فلو كان واقعا موقع جملة ما دل عليهما لأن الجملة يسند فيها الحدث إلى المحدث عنه و ليس واحد من الفروض و البكارة يسند
مجمع البيان ج : 1 ص : 271
إلى الآخر أ لا ترى أن المعنى بين هذين الوصفين و هذا واضح و اعلم أن الاسم الذي يضاف إليه بين لا يخلو من أن يكون دالا على واحد أو على أكثر من الواحد فإذا كان دالا على الواحد غير دال على أكثر منه عطف عليه اسم آخر لما ذكرنا من أن أصله الافتراق فكما يمتنع أن يقول افتراق و اجتماع زيد حتى تضيف إليه ما يزيد به على الإفراد لذلك لا تقول بين زيد حتى تضيف إليه آخر بالواو دون غيرها من الحروف العاطفة و إذا كان الاسم دالا على الكثرة و إن كان مفردا جاز أن يضاف بين إليه و أما قوله « عوان بين ذلك » فإنما أضيف فيه بين إلى ذلك من حيث جاز إضافته إلى القوم و ما أشبه ذلك من الأسماء التي تدل على الكثرة و إنما جاز أن يكون قولنا ذلك يراد به مرة الانفراد و مرة الجمع و الكثرة لمشابهته الموصولة كالذي و ما أ لا ترى أن البابين يشتبهان في دلالة كل واحد منهما على غير شيء بعينه فجاز أن يراد به الواحد مرة و أكثر من الواحد مرة و يدل على ما ذكرناه من قصدهم بذلك الجمع و ما زاد على الواحد أن رؤبة لما قال له أبو عبيدة في قوله :
فيه خطوط من سواد و بلق
كأنه في الجلد توليع البهق .
إن أردت الخطوط وجب أن تقول كأنها و إن أردت السواد و البلق وجب أن تقول كأنهما قال أردت كان ذلك فعلم به أنهم يقصدون ذلك غير المفرد و يدل عليه أيضا قول القائل :
إن للخير و للشر مدى
و كلا ذلك وجه و قبل أ لا ترى أن كلا لا تضاف إلى المفرد فلو لا أن المراد بذلك غير الإفراد لما أضيف كلا إليه فكذلك القول في « عوان بين ذلك » و المراد بذلك الزيادة على الواحد أ لا ترى أنه إشارة إلى ما تقدم من قوله مما دل على الفروض و البكارة و موضع ما من قوله « ما هي » و « ما لونها » رفع لأنه خبر المبتدأ لأن تأويله الاستفهام أي أي شيء هو و أي لون لونها « قال إنه يقول » إنها ما بعد القول من باب إن مكسورة أبدا كأنك لم تذكر القول في صدر كلامك و إنما وقعت قلت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ تقول قلت زيد منطلق كأنك حكيت زيد منطلق و كذلك أن زيدا منطلق إذا حكيته تقول قلت إن زيدا منطلق و قوم من العرب و هم بنو سليم يجعلون باب قلت كباب ظننت فيقولون قلت زيدا منطلقا و قوله « فاقع لونها » ارتفع لونها بأنه فاعل فاقع و هو صفة البقرة مثل صفراء و كذلك « تسر الناظرين » جملة مرفوعة الموضع بكونها صفة
مجمع البيان ج : 1 ص : 272
لبقرة و يقال فقع لونه فقوعا و فقع يفقع إذا خلصت صفرته و قوله « إن البقر تشابه علينا » كل جمع يكون واحده بالهاء .
نحو البقر و النخل و السحاب فإنه يؤنث و يذكر قال الله تعالى « كأنهم أعجاز نخل خاوية » و في موضع آخر نخل منقعر و التذكير الغالب و قوله « تثير الأرض » في موضع رفع بكونه صفة لذلول و هو داخل في معنى النفي أي بقرة ليست بذلول مثيرة للأرض و لا ساقية للحرث و مسلمة صفة لبقرة أيضا و « لا شية فيها » جملة في موضع رفع أيضا بأنها صفة البقرة و شية مصدر من وشيت و أصلها وشي فلما أسقطت الواو منها عوضت الهاء في آخرها قالوا وشيته شية كما قالوا وزنته زنة و وصلته صلة فوزنها علة « قالوا الآن » و فيه وجوه أجودها إسكان اللام من الآن و حذف الواو من اللفظ و يجوز قال لأن على إلغاء الهمزة و فتح اللام من الآن و ترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين و لا يعتد بفتح اللام و يجوز قالوا لأن بإظهار الواو لحركة اللام لأنهم إنما حذفوا الواو لسكونها فلما تحركت ردوها و الأجود في العربية حذفها و لا ينبغي أن يقرأ إلا بما وردت به رواية صحيحة فإن القراءة سنة متبعة قال أبو علي إنما بني الآن لتضمنه معنى الحرف و هو تضمن معنى التعريف لأن التعريف حكمه أن يكون بحرف و ليس تعرفه بما فيه من الألف و اللام لأنه لو كان كذلك للزم أن يكون قبل دخول اللام عليه نكرة كرجل و الرجل و كذلك الذي فإن فيه الألف و اللام و ليس تعرف الاسم بهما إنما تعرفه بغيرهما و هو كونه موصولا مخصوصا و لو كان تعرفه باللام لوجب أن يكون سائر الموصولات المتعرفة بالصلات نحو من و ما غير متعرفة و يقوي زيادة اللام ما رواه المبرد عن المازني قال سألت الأصمعي عن قول الشاعر :
و لقد جنيتك أكمؤا و عساقلا
و لقد نهيتك عن بنات الأوبر لم أدخل اللام قال أدخله زيادة للضرورة كقول الآخر :
بإعدام العمرو عن أسيرها ) و أنشد ابن الأعرابي :
يا ليت أم العمرو كانت صاحبي
مكان من أنشأ على الركائب فكما أن اللام في الذي و في هذه الحكاية زائدة كذلك في الآن زائدة و قوله « و ما كادوا يفعلون » كاد يدل على مقاربة مباشرة و يفعلون في موضع نصب بأنه خبر كاد و الفصيح لا يدخل عليه أن لأن أن حرف يركب مع الفعل فيقوم مقام المصدر و إنما يسند إلى أن أفعال غير ثابتة و لا مستقرة مثل الطمع و الرجاء نحو عسى أن تفعل و دليل على ذلك أن أن لا تدخل على فعل الحال بل على ما يتوقع في المستأنف فلهذا كانت أن لازمة لعسى و لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 273
يلزم كاد لأن كاد قريب من الحال و قد استعمل كاد مع أن في الشعر أنشد الأصمعي :
كادت النفس أن تفيض عليه
إذ ثوى حشو ريطة و برود .

[ القصة]


كان السبب في أمر الله تعالى بذبح البقرة فيما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام) أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله قال ائتوني ببقرة « قالوا أ تتخذنا هزوا » الآية و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض و لا بكر عوان بين ذلك » أي لا صغيرة و لا كبيرة إلى قوله « قالوا الآن جئت بالحق » فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملء مسكها ذهبا فجاؤوا إلى موسى فقالوا له قال فاشتروها قال و قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعض أصحابه أن هذه البقرة ما شأنها فقال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و أنه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه فوجده نائما و الإقليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك و استيقظ أبوه فأخبره فقال له أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك عوض لما فاتك قال فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) انظروا إلى البر ما بلغ بأهله و قال ابن عباس كان القتيل شيخا مثريا قتله بنو أخيه و ألقوه على باب بعض الأسباط ثم ادعوا عليهم القتل فاحتكموا إلى موسى (عليه السلام) فسأل من عنده في ذلك علم فقالوا أنت نبي الله و أنت أعلم منا فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة فأمرهم موسى (عليه السلام) أن يذبحوا بقرة و يضرب القتيل ببعضها فيحيي الله القتيل فيبين من قتله و قيل قتله ابن عمه استبطاء لموته فقتله ليرثه و قيل إنما قتله ليتزوج بنته و قد خطبها فلم ينعم له و خطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له فقعد له فقتله ثم حمله إلى موسى فقال يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل فقال موسى من قتله قال لا أدري و كان القتل في بني إسرائيل عظيما فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) و هذا هو المروي عن الصادق (عليه السلام) .

المعنى

هذه الآيات معطوفة على ما تقدمها من الآيات الواردة في البيان لنعم الله تعالى على بني إسرائيل و مقابلتهم لها بالكفران و العصيان فقال و اذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي الذي أخذته عليكم بالطاعة « إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أ تتخذنا هزوا » قال قوم موسى له أ تسخر بنا حيث سألناك عن القتيل فتأمرنا بذبح بقرة و إنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين في الظاهر مع جهلهم بوجه الحكمة فيما أمرهم به لأن موسى (عليه السلام) أمرهم بالذبح و لم يبين لهم أن الذبح لأي معنى فقالوا أي اتصال لذبح البقرة بما ترافعنا فيه إليك فهذا استهزاء بنا « قال أعوذ بالله أن أكون من
مجمع البيان ج : 1 ص : 274
الجاهلين » أي معاذ الله أن أكون من المستهزءين و إنما قال « من الجاهلين » ليدل على أن الاستهزاء لا يصدر إلا عن جاهل فإن من استهزأ بغيره لا يخلو إما أن يستهزىء بخلقته أو بفعل من أفعاله فأما الخلقة فلا معنى للاستهزاء بها و أما الفعل فإذا كان قبيحا فالواجب أن ينبه فاعله على قبحه لينزجر عنه فأما إن يستهزىء به فلا فالاستهزاء على هذا يكون كبيرة لا يقع إلا عن جاهل به أو محتاج إليه فإذا قيل لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها فقد قيل فيه لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه فيزول ما كان في نفوسهم من عبادته و إنما أحيا الله القتيل بقتل حي ليكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها فلما علموا أن ذبح البقرة فرض من الله تعالى سألوا عنها فبدأوا بسنها فقالوا « ادع لنا ربك » أي سل من أجلنا ربك « يبين لنا ما هي » و لم يظهر في السؤال أن المسئول عنه سن البقرة و إنما ظهر ذلك في الجواب « قال » موسى (عليه السلام) « إنه يقول » أي إن الله عز اسمه يقول « إنها بقرة لا فارض و لا بكر » أي ليست بكبيرة هرمة و لا صغيرة « عوان بين ذلك » أي هي وسط بين الصغيرة و الكبيرة و هي أقوى ما يكون و أحسن من البقر و الدواب عن ابن عباس و قيل وسط ولدت بطنا أو بطنين عن مجاهد « فافعلوا ما تؤمرون » أي اذبحوا ما أمرتم بذبحه فلما بين سبحانه سن البقرة سألوا عن لونها « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها » أي سل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها « قال » موسى « إنه » سبحانه و تعالى « يقول إنها بقرة صفراء » حتى قرنها و ظلفها أصفران عن الحسن و سعيد بن جبير « فاقع لونها » أي شديدة صفرة لونها و قيل خالص الصفرة و قيل حسن الصفرة و قوله « تسر الناظرين » أي تعجب الناظرين و تفرحهم بحسنها عن قتادة و غيره و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها كما قال الله تعالى « صفراء فاقع لونها تسر الناظرين » و لما بين سبحانه سن البقرة و لونها سألوا عن صفتها ف « قالوا » يا موسى « ادع لنا ربك يبين لنا ما هي » أي من العوامل أم من السوائم « إن البقر تشابه علينا » أي اشتبه علينا صفة البقرة التي أمرنا الله بذبحها « و إنا إن شاء الله لمهتدون » إلى صفة البقرة بتعريف الله إيانا و بما يشاؤه لنا من اللطف و الزيادة في البيان و روى ابن جريج و قتادة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنهم أمروا بأدنى بقرة و لكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم و أيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد « قال » يعني موسى (عليه السلام) « إنه » يعني الله تعالى « يقول أنها بقرة » أي البقرة التي أمرتم بذبحها « لا ذلول تثير الأرض » أي لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها « و لا تسقي الحرث » أي لا يستقي عليها الماء فتسقي الزرع « مسلمة » أي بريئة من العيوب
مجمع البيان ج : 1 ص : 275
عن قتادة و عطاء و قيل مسلمة من الشية ليس لها لون يخالف لونها عن مجاهد و قيل سليمة من آثار العمل لأن ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه و بدنه و قال الحسن أنها كانت وحشية « لا شية فيها » قال أهل اللغة لا وضح فيها يخالف لون جلدها و قيل لا لون فيها سوى لونها عن قتادة و مجاهد « قالوا الآن جئت بالحق » أي ظهر لنا الحق الآن و هي بقرة فلان و هذا يدل على أنهم جوزوا أنه قبل ذلك لم يجيء بالحق على التفصيل و إنما أتى به على وجه الجملة و قال قتادة الآن بينت الحق و هذا يدل على أنه كان فيهم من يشك في أن موسى (عليه السلام) ما بين الحق « فذبحوها » يعني ذبحوا البقرة على ما أمروا به « و ما كادوا يفعلون » أي قرب أن لا يفعلوا ذلك مخافة اشتهار فضيحة القاتل و قيل كادوا لا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها فقد حكي عن ابن عباس أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا من مال المقتول و عن السدي بوزنها عشر مرات ذهبا قال عكرمة و ما ثمنها إلا ثلاثة دنانير و نذكر هاهنا فصلا موجزا ينجذب إلى الكلام في أصول الفقه اختلف العلماء في هذه الآيات فمنهم من ذهب إلى أن التكليف فيها متغاير و أنهم لما قيل لهم اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا من غير تعيين بصفة و لو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر فلما لم يفعلوا كان المصلحة أن يشدد عليهم التكليف و لما راجعوا المرة الثانية تغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فمنهم من قال في التكليف الأخير أنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني و الثالث ضم تكليف إلى تكليف زيادة في التشديد عليهم لما فيه من المصلحة و منهم من قال إنه يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم و على هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول و التكليف الثالث نسخا للثاني و قد يجوز نسخ الشيء قبل الفعل لأن المصلحة تجوز أن يتغير بعد فوات وقته و إنما لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت الفعل لأن ذلك يؤدي إلى البداء و ذهب آخرون إلى أن التكليف واحد و أن الأوصاف المتاخرة هي للبقرة المتقدمة و إنما تأخر البيان و هو مذهب المرتضى قدس الله روحه و استدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة قالوا لموسى (عليه السلام) « ادع لنا ربك يبين لنا ما هي » فلا يخلو قولهم ما هي من أن يكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها أو عن التي أمروا بها ثانيا و الظاهر من قولهم ما هي يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها لأنه لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 276
علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها و إذا صح ذلك فليس يخلو قوله « إنها بقرة لا فارض و لا بكر » من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى أو عن غيرها و ليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية لأن الظاهر يقتضي أن تكون الكناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم و لأنه لو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن جوابا لهم و قول القائل في جواب من سأله ما كذا و كذا أنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه هذا مع قولهم « إن البقر تشابه علينا » فإنهم لم يقولوا ذلك إلا و قد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين و لو كان الأمر على ما ذهب إليه القوم فلم لم يقل لهم و أي تشابه عليكم و إنما أمرتم في الابتداء بذبح بقرة أي بقرة كانت و في الثاني بما يختص بالسن المخصوص و في الثالث بما يختص باللون المخصوص من أي البقر كان و أما قوله « فذبحوها و ما كادوا يفعلون » فالظاهر أن ذمهم مصروف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام و هو غير مقتض ذمهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة فلا دلالة في الآية على ذلك .
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّرَأْتُمْ فِيهَا وَ اللَّهُ مخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِك يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)

اللغة

ادارأتم اختلفتم و أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال بعد أن سكنت ثم جعلوا قبلها همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن و أصل الدرء الدفع و منه الحديث ادرءوا الحدود بالشبهات و منه قوله و يدرأ عنها العذاب و قال رؤبة :
أدركتها قدام كل مدرة
بالدفع عني درء كل عنجة و قيل الدارأ العوج و منه قول الشاعر :
فنكب عنهم درء الأعادي
و داووا بالجنون من الجنون .

مجمع البيان ج : 1 ص : 277

المعنى

ثم بين الله سبحانه المقصود من الأمر بالذبح فبدأ بذكر القتل و قال « و إذ قتلتم نفسا » ذكر فيه وجهان ( أحدهما ) أنه متقدم في المعنى على الآيات المتقدمة في اللفظ فعلى هذا يكون تأويله و إذ قتلتم نفسا « فادارأتم فيها » فسألتم موسى فقال لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فقدم المؤخر و أخر المقدم و نحو ذا كثير في القرآن و الشعر قال سبحانه « الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما » تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و قال الشاعر :
إن الفرزدق صخرة ملمومة
طالت فليس ينالها الأوعالا أي طالت الأوعال ( و الوجه الآخر ) أن الآية قد تعلقت بما هو متأخر في الحقيقة و هو قوله « فقلنا اضربوه ببعضها » الآية فكأنه قال فذبحوها و ما كادوا يفعلون و لأنكم قتلتم نفسا فادرأتم فيها أمرناكم أن تضربوه ببعضها لينكشف أمره و المراد و اذكروا إذ قتلتم نفسا و هذا خطاب لمن كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد به أسلافهم على عادة العرب في خطاب الأبناء و الأحفاد بخطاب الأسلاف و الأجداد و خطاب العشيرة بما يكون من أحدها فقالت فعلت بنو تميم كذا و إن كان الفاعل واحدا و يحتمل أن يكون خطابا لمن كان في زمن موسى (عليه السلام) و تقديره و قلنا لهم و إذ قتلتم نفسا و قيل إن اسم المقتول عاميل « فادارأتم فيها » الهاء من فيها يعود إلى النفس أي كل واحد دفع قتل النفس عن نفسه و قيل إنها تعود إلى القتلة أي اختلفتم في القتلة لأن قوله « قتلتم » يدل على المصدر و عودها إلى النفس أولى و أشبه بالظاهر « و الله مخرج ما كنتم تكتمون » أي مظهر ما كنتم تسرون من القتل و قيل معناه أنه مخرج من غامض أخباركم و مطلع من معايبكم و معايب أسلافكم على ما تكتمونه أنتم و هو خطاب لليهود في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فقلنا اضربوه ببعضها » أي قلنا لهم اضربوا القتيل ببعض البقرة و اختلفوا في البعض المضروب به القتيل فقيل ضرب بفخذ البقرة فقام حيا و قال قتلني فلان ثم عاد ميتا عن مجاهد و قتادة و عكرمة و قيل ضرب بذنبها عن سعيد بن جبير و قيل بلسانها عن الضحاك و قيل ضرب بعظم من عظامها عن أبي العالية و قيل بالبضعة التي بين الكتفين عن السدي و قيل ضرب ببعض آرابها عن أبي زيد و هذه الأقاويل كلها محتملة الظاهر و المعلوم أن الله سبحانه و تعالى أمر أن يضرب القتيل ببعض البقرة ليحيا القتيل إذا فعلوا ذلك فيقول فلان قتلني ليزول الخلف و التدارؤ بين القوم
مجمع البيان ج : 1 ص : 278
و الصانع عز اسمه و إن كان قادرا على إحيائه من دون ذلك فإنما أمرهم بذلك لأنهم سألوا موسى أن يبين لهم حال القتيل و هم كانوا يعدون القربان من أعظم القربات و كانوا جعلوا له بيتا على حدة لا يدخله إلا خيارهم فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليما منه لكل من اعتاص عليه أمر من الأمور أن يقدم نوعا من القرب قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه ليكون أقرب إلى الإجابة و إنما أمرهم بضرب القتيل ببعضها بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء يهم ليعلموا أن الله سبحانه و تعالى قادر على إحياء الأموات في كل وقت من الأوقات و التقدير في الآية فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال سبحانه « اضرب بعصاك البحر فانفلق » تقديره فضرب فانفلق و قوله « كذلك يحيي الله الموتى » يحتمل أن يكون حكاية عن قول موسى (عليه السلام) لقومه أي اعلموا بما عاينتموه أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى للجزاء و يحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى لمشركي قريش و الإشارة وقعت إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة لأنه روي أنه قام حيا و أوداجه تشخب دما فقال قتلني فلان ابن عمي ثم قبض « و يريكم آياته » يعني المعجزات الباهرة الخارقة للعادة من إحياء ذلك الميت و غيره و قيل أراد الأعلام الظاهرة الدالة على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « لعلكم تعقلون » أي لكي تستعملوا عقولكم فإن من لم يستعمل عقله و لم يبصر رشده فهو كمن لا عقل له و قيل لكي تعقلوا ما يجب عليكم من أمور دينكم و احتج الله تعالى بهذه الآيات على مشركي العرب فيما استبعدوه من البعث و قيام الأموات بقولهم « أ إذا كنا عظاما و رفاتا أ إنا لمبعوثون خلقا جديدا » فأخبرهم سبحانه بأن الذي أنكروه و استبعدوه لا يتعذر في اتساع قدرته و نبههم على ذلك بذكر المقتول و إحيائه بعد خروجه من الحياة و أبطنوا خبر قتله و كيفيته و قيامه بعد القتل حيا مخاطبا باسم قتلته مؤذنا لهم أن إحياء جميع الأموات بعد أن صاروا عظاما باليات لا يصعب عليه و لا يتعذر بل يهون عنده و يتيسر و فيها دلالة على صدق نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث أخبرهم بغوامض أخبارهم التي لا يجوز أن يعلمها إلا من قرأ كتب الأولين أو أوحي إليه من عند رب العالمين و قد صدقه مخالفوه من اليهود فيما أخبر به من هذه الأقاصيص و قد علموا أنه أمي لم يقرأ كتابا و لم يرتابوا في ذلك و هذه آية صادعة و حجة ساطعة في تثبيت نبوته (صلى الله عليه وآله وسلّم) .

مجمع البيان ج : 1 ص : 279
ثُمَّ قَست قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك فَهِىَ كالحِْجَارَةِ أَوْ أَشدُّ قَسوَةً وَ إِنَّ مِنَ الحِْجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ وَ إِنَّ مِنهَا لَمَا يَشقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَ إِنَّ مِنهَا لَمَا يهْبِط مِنْ خَشيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)

القراءة

قرأ ابن كثير وحده هاهنا عما يعملون بالياء و الباقون بالتاء و اختلفوا في قوله تعالى « و ما الله بغافل عما تعملون » « و ما ربك بغافل عما تعملون » قرأهما أبو جعفر وحده بالتاء في كل القرآن إلا في الأنعام و قرأ ابن عامر بالياء في كل القرآن و قرأ حمزة و الكسائي الأول بالتاء و الثاني بالياء في كل القرآن و اختلف عن ابن كثير و نافع و عاصم و أبي عمرو .

الحجة

قال أبو علي القول في ذلك أن ما كان قبله خطاب جعل بالتاء ليكون الخطاب معطوفا على خطاب كقوله « ثم قست قلوبكم » ثم قال « عما تعملون » بالتاء و لو كان بالياء على لفظ الغيبة أي و ما الله بغافل عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون لكان حسنا و إن كان الذي قبله غيبة حسن أن يجعل على لفظ الغيبة و يجوز فيه الخطاب أيضا و وجه ذلك أن يجمع بين الغيبة و الخطاب فيغلب الخطاب على الغيبة كتغليب المذكر على المؤنث أ لا ترى أنهم قدموا الخطاب على الغيبة في باب الضمير و هو موضع ترد فيه الأشياء إلى أصولها نحو تك في نحو قوله ( فلا تك ما أسأل و لا أغاما ) فلما قدموا المخاطب على الغائب فقالوا أعطاكه و لم يقولوا أعطاهوك علم أنه أقدم في الرتبة فإذا كان الأمر على هذا فالخطاب في هذا النحو يعني به الغيب و المخاطبون فيغلب الخطاب على الغيبة و يجوز فيه وجه آخر و هو أن يراد به و قل لهم أيها النبي ما الله بغافل عما تعملون و الله أعلم .

اللغة

القسوة ذهاب اللين و الرحمة من القلب يقال قسا قلبه يقسو قسوا و قسوة و قساوة و القسوة الصلابة في كل شيء و نقيضه الرقة و الشدة القوة في الجسم و الشدة صعوبة الأمر و الشد العقد و النهر المجرى الواسع من مجاري الماء و الجدول و السري دون ذلك يقال نهر و نهر و الفتح أفصح قال سبحانه في جنات و نهر و جمعه نهر و أنهار و التفجر التفعل من فجر الماء و ذلك إذا أنزل خارجا من منبعه و كل سائل شخص خارجا من موضعه و مكانه فقد انفجر ماء كان أو دما أو غير ذلك قال عمر بن لجأ :
مجمع البيان ج : 1 ص : 280

و لما أن قرنت إلى جرير
أبى ذو بطنه إلا انفجارا أي خروجا و سيلانا و أصل يشقق يتشقق أدغمت التاء في الشين و هو أن ينقطع من غير أن يبين و الغفلة السهو عن الشيء و هو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره و يقال تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي .

المعنى و الإعراب

لما قدم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة و الأعلام الظاهرة بين ما فعلوا بعدها من العصيان و الطغيان فقال عز اسمه « ثم قست قلوبكم » أي غلظت و يبست و عتت و قشت « من بعد ذلك » أي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى (عليه السلام) و قيل أنه أراد بني أخي المقتول حين أنكروا قتله بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله تعالى إياه أنه قتله فلان عن ابن عباس فيكون ذلك إشارة إلى الإحياء أي من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة بعد أن تدارأتم فيه فأخبركم بقاتله و السبب الذي من أجله قتله و كان يجب ممن شاهد هذه الآية العجيبة و المعجزة الخارقة للعادة أن يخضع و يلين قلبه و يحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى الآيات الآخر التي تقدمت كمسخ القردة و الخنازير و رفع الجبل فوقهم و انبجاس الماء من الحجر و انفراق البحر و غير ذلك و إنما جاز أن يقول ذلك و أن كانوا جماعة و لم يقل ذلكم لأن الجماعة في معنى الجمع و الفريق فلفظ الخطاب مفرد في معنى الجمع و لو قال ذلكم لجاز و قوله « فهي كالحجارة » شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة و اليبس و الغلظ و الشدة و قد ورد الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب و إن أبعد الناس من الله القاسي القلب « أو أشد قسوة » أي أو هي أشد قسوة و يجوز أن يكون عطفا على موضع الكاف و كأنه قال فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة أي أشد صلابة لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته و العمل بالواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات و قيل في تأويل أو هاهنا وجوه ( أحدها ) ما ذكره الزجاج أن معناها الإباحة كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإن جالست أحدهما أو جمعت بينهما فأنت مصيب فيكون معنى الآية على هذا أن قلوبهم قاسية فإن شبهت قسوتها بالحجر أصبت و إن شبهتها بما هو أشد أصبت و إن شبهتها بهما جميعا أصبت كما مر نحو هذا في قوله سبحانه « أو كصيب من السماء » ( و ثانيها ) أن يكون أو دخلت للتفصيل و التمييز فيكون معنى الآية إن قلوبهم قاسية فبعضها كالحجارة و بعضها أشد قسوة من الحجارة و قد يحتمل قوله تعالى « أو كصيب من السماء »
مجمع البيان ج : 1 ص : 281
هذا الوجه أيضا ( و ثالثها ) أن يكون أو دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب و إن كان تعالى عالما بذلك غير شاك فيه فأخبر أن قسوة قلوب هؤلاء كالحجارة أو أشد قسوة و المعنى أنها كأحد هذين لا يخرج عنهما كما يقال أكلت بسرة أو تمرة و هو يعلم ما أكله على التفصيل إلا أنه أبهم على المخاطب و كما قال لبيد :
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
و هل أنا إلا من ربيعة أو مضر أراد و هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين فسبيلي أن أفنى كما فنيا و إنما حسن ذلك لأن غرضه الذي نحاه هو أن يخبر بكونه ممن يموت و يفنى و لم يخل بقصده الذي أجري إليه إجمال ما أجمل من كلامه فكذلك هنا الغرض الإخبار عن شدة قسوة قلوبهم و أنها مما لا يصغي إلى وعظ و لا يعرج على خير فسواء كانت كالحجارة أو أشد منها في أنه لا يحتاج إلى ذكر تفصيله ( و رابعها ) أن يكون أو بمعنى بل كما قال الله تعالى « و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » و معناه بل يزيدون و روي عن ابن عباس أنه قال كانوا مائة ألف و بعضا و أربعين ألف و أنشد الفراء :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
و صورتها أو أنت في العين أملح كما تكون أم المنقطعة في الاستفهام بمعنى بل يقول القائل أ ضربت عبد الله أم أنت متعنت أي بل أنت و قال الشاعر :
فو الله ما أدري أ سلمى تغولت
أم النوم أم كل إلى حبيب معناه بل كل و قد طعن على هذا الجواب فقيل كيف يجوز أن يخاطبنا الله عز اسمه بلفظة بل و هي تقتضي الاستدراك و النقض للكلام الماضي و الإضراب عنه و هذا غير سديد لأن الاستدراك أن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فلا يصح و إن أريد به الأخذ في الكلام الماضي و استئناف زيادة عليه فهو صحيح فالقائل إذا قال أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول و كيف ينقضه و الأول داخل في الثاني و إنما أراد عليه و إنما يكون ناقضا للثاني لو قال لقيت رجلا بل حمارا لأن الأول لا يدخل في الثاني على وجه و قوله تعالى « أو أشد قسوة » غير ناقض للأول لأنها لا تزيد على الحجارة إلا بأن يساويها و إنما تزيد عليها بعد المساواة ( و خامسها ) أن يكون بمعنى الواو كقوله تعالى « أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم » معناه و بيوت آبائكم قال جرير :
أ ثعلبة الفوارس أو رياحا
عدلت بهم طهية و الخشابا
مجمع البيان ج : 1 ص : 282
أراد و رياحا و قال أيضا :
نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر و قال توبة بن الحمير :
و قد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها فإن قيل كيف يكون أو في الآية بمعنى الواو و الواو للجمع و الشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها أجيب عنه بأنه ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حالة و أشد من الحجارة في حالة أخرى فيصح المعنى و لا يتنافى و فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء مع قساوتها ربما لانت بعض اللين و كادت تصغي إلى الحق فتكون في هذا الحال كالحجارة التي ربما لانت و تكون في حال أخرى في نهاية البعد عن الخير فتكون أشد من الحجارة .
و جواب آخر و هو أن قلوبهم لا تكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة لأن قولنا فلان أعلم من فلان إخبار بأنه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه فلا بد من الاشتراك ثم الزيادة فلا تنافي هاهنا ثم فضل سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال « و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار » معناه أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية فيتفجر منه أنهار الماء و استغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء و قيل المراد منه الحجر الذي كان ينفجر منه اثنتا عشرة عينا و قيل هو عام « و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء » يعني و من الحجارة ما يخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا أنهارا جارية حتى يكون مخالفا للأول و قال الحسين بن علي المغربي الحجارة الأولى حجارة الجبال منها تتفجر الأنهار و الثانية حجر موسى (عليه السلام) الذي كان يضربه فيخرج منه العيون فلا يكون تكرارا و قوله « و إن منها لما يهبط من خشية الله » الضمير في منها يرجع إلى الحجارة أي و من الحجارة ما يهبط من خشية الله و عليه أكثر أهل التفسير و قيل يرجع إلى القلوب أي و من القلوب ما يهبط من خشية الله أي تخشع و هي قلوب من آمن من أهل الكتاب فيكونون مستثنين من القاسية قلوبهم عن أبي مسلم و من قال إن الضمير يرجع إلى الحجارة فإنهم اختلفوا في تأويله على وجوه ( أحدها ) ما روي عن مجاهد و ابن جريج أن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله فمعناه أن الحجارة قد تصير إلى الحال التي ذكرها
مجمع البيان ج : 1 ص : 283
من خشية الله و قلوب اليهود لا تخشى و لا تخشع و لا تلين لأنهم عارفون بصدق محمد ثم لا يؤمنون به فقلوبهم أقسى من الحجارة ( و ثانيها ) ما قاله الزجاج إن الله تعالى أعطى بعض الجبال المعرفة فعقل طاعة الله نحو الجبل الذي تجلى الله عز و جل له حين كلم موسى فصار دكا و كما روي عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه قال إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية و إني لأعرفه الآن و هذا الوجه ضعيف لأن الجبل إذا كان جمادا فمحال أن يكون فيه معرفة الله و إن كان بنيته بنية الحي فإنه لا يكون جبلا و أما الخبر فإن صح فإن معناه أنه سبحانه أحياه فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم أعاده حجرا و يكون معجزا له (عليه السلام) ( و ثالثها ) أنه يدعو المتفكر فيه إلى خشية الله أو يوجب الخشية له بدلالته على صانعه لما يرى فيه من الدلالات و العجائب و أضاف الخشية إليه لأن التفكر فيه هو الداعي إلى الخشية كما قال جرير بن عطية :
و أعور من نبهان أما نهاره
فأعمى و أما ليلة فبصير فجعل الصفة لليل و النهار و هو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من أجل أنه كان فيهما على ما وصفه به ( و رابعها ) أنه إنما ذكر ذلك على سبيل ضرب المثل أي كأنه يخشى الله سبحانه في المثل لانقياده لأمره و وجد منه ما لو وجد من حي عاقل لكان دليلا على خشية كقوله سبحانه « فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض » أي كأنه يريد لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إرادته الانقضاض و مثله قوله « و إن من شيء إلا يسبح بحمده » و كما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر فجعل ما ظهر في الأكم من آثار الحوافر و قلة مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلد سجودا لها و لو كانت الأكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر لم يقل أنها تسجد للحوافر قال جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة و الجبال الخشع أي كأنها كذلك و قال جرير أيضا :
و الشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل و القمرا
مجمع البيان ج : 1 ص : 284
و كما قال سبحانه « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله » أي لو كانت الجبال مما يخشع لشيء ما لرأيته خاشعا و يؤيد هذا الوجه قوله سبحانه « و تلك الأمثال نضربها للناس » .
و ( خامسها ) أن هبط يجوز أن يكون متعديا قال الشاعر :
ما راعني إلا جناح هابطا
على البيوت قوطه العلابطا فاعمله بالقوط كما ترى و يكون على هبطت الشيء فهبط فمعناه يهبط غيره من خشية الله أي إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه إلا أنه حذف المفعول تخفيفا و لدلالة الكلام عليه و نسب الفعل إلى الحجر لأن طاعة رائية لخالقه سببها النظر إليه أي منها ما يهبط الناظر إليه أي يخضعه و يخشعه و قوله « و ما الله بغافل عما تعملون » أيها المكذبون ب آياته الجاحدون نبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قد ذكرناه قبل .
* أَ فَتَطمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسمَعُونَ كلَمَ اللَّهِ ثُمَّ يحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(75)

اللغة

الطمع تعليق النفس بما تظنه من النفع و نظيره الأمل و الرجاء و نقيضه اليأس و الفريق جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه و هو فعيل من التفرق كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب قال الأعشى بن ثعلبة :
أجدوا فلما خفت أن يتفرقوا
فريقين منهم مصعد و مصوب و التحريف في الكلام تغيير الكلمة عن معناها .

الإعراب

« أ فتطمعون » ألف استخبار تجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار إذا لم يكن معها نفي فإذا جاءت مع النفي فإنكار النفي تثبيت و يكون بمعنى الاستدعاء إلى الإقرار نحو أ ليس الله بكاف عبده فجوابه بلى كقوله « أ لم يأتكم نذير قالوا بلى » و جواب أ فتطمعون لا على ما ذكرناه .

مجمع البيان ج : 1 ص : 285

المعنى

هذا خطاب لأمة نبينا محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يقول « أ فتطمعون » أيها المؤمنون « أن يؤمنوا لكم » من طريق النظر و الاعتبار و الانقياد للحق بالاختيار « و قد كان فريق منهم » أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم « يسمعون كلام الله » و يعلمون أنه حق و يعاندون فيحرفونه و يتأولونه على غير تأويله و قيل إنهم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحلال حراما و الحرام حلالا اتباعا لأهوائهم و إعانة لمن يرشوهم عن مجاهد و السدي و قيل إنهم السبعون رجلا الذين اختارهم موسى من قومه فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره و حرفوا القول في إخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم عن ابن عباس و الربيع فيكون على هذا كلام الله معناه كلام الله لموسى وقت المناجاة و قيل المراد بكلام الله صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التوراة و قوله « ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه » قيل فيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون معناه أنهم غيروه من بعد ما فهموه فأنكروه عنادا « و هم يعلمون » أنهم يحرفونه أي يغيرونه ( و الثاني ) أن معناه من بعد ما تحققوه و هم يعلمون ما عليهم في تحريفه من العقاب و الأول أليق بمذهبنا في الموافاة و إنما أراد الله سبحانه بالآية أن هؤلاء اليهود الذين كانوا على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن لم يؤمنوا به و كذبوه و جحدوا نبوته فلهم ب آبائهم و أسلافهم الذين كانوا في زمان موسى (عليه السلام) أسوة إذا جروا على طريقتهم في الجحد و العناد و هؤلاء الذين عاندوا و حرفوا كانوا معدودين يجوز على مثلهم التواطؤ و الاتفاق في كتمان الحق و إن كان يمتنع ذلك على الجمع الكثير و الجم الغفير لأمر يرجع إلى اختلاف الدواعي و يبطل قول من قال إنهم كانوا كلهم عارفين معاندين لأن الله سبحانه إنما نسب فريقا منهم إلى المعاندة و إن كانوا بأجمعهم كافرين و في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع و هو عام في إظهار البدع في الفتاوى و القضايا و جميع أمور الدين .
وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَ إِذَا خَلا بَعْضهُمْ إِلى بَعْض قَالُوا أَ تحَدِّثُونهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ(76)
مجمع البيان ج : 1 ص : 286

اللغة

الحديث و الخبر و النبأ نظائر مشتق من الحدوث و كأنه إخبار عن حوادث الزمان و الفتح في الأصل فتح المغلق و قد يستعمل في مواضع كثيرة فمنها الحكم يقال اللهم افتح بيني و بين فلان أي احكم يقولون متى هذا الفتح أي متى هذا القضاء و يوم الفتح يوم القضاء و قال الشاعر :
أ لا أبلغ بني عصم رسولا
فإني عن فتاحتكم غني و يقال للقاضي الفتاح و منها التعليم يقال افتح علي هذا أي علمني ما عندك فيه و منها النصرة يقال استفتحه أي أطلب منه النصر و منه قوله إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح و يستعمل في فتح البلدان يقال فتح المسلمون أرض كذا و المحاجة و المجادلة و المناظرة نظائر فالمحاجة أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه و الحجة الوجه الذي به يكون الظفر عند الحجاج و يقال حاججته فحججته و في الحديث فحج آدم موسى أي غلبه في الحجة و أصله من القصد و منه الحج و هو القصد إلى بيت الله الحرام على وجه مخصوص فالحجة هي النكتة المقصودة في تصحيح الأمور .

النزول

روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد فنهاهم كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به عند ربكم فنزلت هذه الآية و قال مجاهد نزلت في بني قريظة لما قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا إخوة القردة و الخنازير قالوا من أخبر محمدا بهذا ما خرج إلا منكم و قال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به أسلافهم فقال بعضهم لبعض أ تحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به فيقولون نحن أكرم على الله منكم .

المعنى

ثم ذكر الله سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال « و » هم الذين « إذا لقوا الذين آمنوا » أي رأوهم « قالوا آمنا » أي صدقنا بمحمد أنه نبي صادق نجده في كتابنا بنعته و صفته و بما صدقتم به و أقررنا بذلك أخبر الله تعالى عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين و تحلوا بحليتهم و استنوا بسنتهم « و إذا خلا بعضهم إلى بعض » أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصفهم الله إلى بعض منهم فصاروا في خلاء و هو
 

<<        الفهرس        >>